تقارير المدى

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

إعادة التوطين الصعبة للقرى الكردية بعد حملة الانفال
 

دهوك /اف ب
انا مزارع بلا ارض وبلا عمل..اعيش على مساعدة ابنائي، بهذه الكلمات يروي خالد محمد اسماعيل الذي كان يرتدي الملابس الكردية التقليدية ويجلس على طاولة في احد مقاهي وسط مدينة دهوك حكايته، وهو واحد من 141 الف كردي تم تهجيرهم خلال حملة الانفال ابان حكم صدام.
وفي كردستان هناك نوعان من المهجرين، نوع مثل المزارع خالد تقع قراهم بالقرب من مدينة الموصل وقد تم تعريبها من قبل النظام السابق وليس بالامكان العودة اليها اليوم طالما لم يتم الوصول الى اتفاق مع السكان الذين حلوا فيها.
وهناك نوع آخر من المهجرين مثل لقمان خالد ويسي الذي تقع قريته شمال شرق دهوك حيث ثم محوها خلال حملة الانفال القمعية في كردستان والتي ادت الى استشهاد نحو 180 الف شخص للفترة من 1987 ـ 1988والتي يحاكم صدام حسين وستة من كبار اعوانه في اطارها منذ يوم الاثنين.
وجميع هؤلاء النازحين يعيشون حاليا مجبرين في المدن في ظل ظروف صعبة.
ويقول موسى علي بكر ويشغل حاليا منصب مدير مكتب النازحين واللاجئين في دهوك ان مشكلة النازحين ليست في اعدادهم لان صدام حسين قام بعملية تدمير مدروسة لكردستان.
واضاف ان "صدام قام بتهجير السكان ومسح قراهم وتدمير نسيجها الاقتصادي بالاضافة الى الاواصر العائلية وشروط لاي عودة ممكنة.
واوضح ان المنظمات الدولية المانحة لا تفهم سوى جزء يسير من المشكلة. يجب ان نعيد توطين هؤلاء الناس في قراهم لكن هذا ليس بالامر السهل لانه يجب علينا تأمين الظروف الحياتية من الامن ووقف القتال ونزع نحو 20 مليون لغم.
وتابع يجب علينا ايضا اعادة تأهيل الطرق المؤدية الى تلك القرى واعادة بناء منازلهم.
ويضيف بكر "يجب علينا ايضا توفير الخدمات الموجودة في المدينة من كهرباء وماء ومدارس وحياة اجتماعية كبناء مركز ثقافي او ملعب لكرة القدم والا فان الناس الذين تعودوا على حياة المدينة لن يكون باستطاعتهم العودة الى قراهم.
واوضح ان هناك حقيقة وهي ان الارض نفسها التي كانت تؤمن القوت لعشرة اشخاص لم تعد اليوم قادرة على تأمين القوت لعشرين شخصا فالعوائل توسعت لذلك علينا بناء مؤسسات صغيرة ممكن توفر العمل للسكان من غير القرويين وتوفر سوقا لمحاصيل الفلاحين.
ويرى بكر انه في حال لم نوفر هذه الظروف فأننا سنستمر في صرف الاموال عبثا دون ان يكون باستطاعتنا ان نغير في المشكلة شيئا.
لكن هذه الافكار تبقى بعيدة عن التطبيق وبعد ان كانت حملة الانفال مأساة انسانية فهي في طريقها للتحول الى كارثة اجتماعية.
وتعيش عائلة لقمان خالد ويسي اليوم في قلعة نزاركي السجن الذي كانت محتجزة فيه خلال حملة الانفال لان قريتهم ما زالت الى يومنا هذا بقايا هياكل مدمرة.
وبالنسبة لخالد محمد اسماعيل فأنه في حال كانت لديه القدرة على التوجه الى احدى الهيئات كي يطلب استعادة ممتلكاته واراضيه فأنه تنقصه الارادة السياسية كي يعود الى اراضِ تقع في الجنوب واصبحت اليوم خارج حدود كردستان يتقاسم السلطة فيها اناس من مختلف الاثنيات والاديان.
وفي منطقة مام شفان الواقعة على بعد 20 كلم من دهوك عادت عائلة واحدة الى قريتها التي كانت تسكنها مئات العوائل قبل حملة الانفال.
ويأتي اعضاء في منظمة كونسيرن فور كيدس الانسانية الاميركية غير الحكومية كل اسبوع من اجل تنقية مياه القرية غير الصالح للشرب لان شبكة المياه تبعد كيلومترين عن هذه القرية.

ويقول موسى علي ساخرا سيستغرقنا الامر 60 عاما من اجل اعادة بناء ما دمر خلال 30 عاما.


محافظ نينوى: الوضع الامني تحت سيطرة قوات الامن العراقية .. إحباط مخطط إرهابي للهجوم على المحافظة والشرطة
 

الموصل / باسل طاقة
قال محافظ نينوى دريد محمد كشمولة ان الوضع الامني في مدينة الموصل تحت سيطرة قوات الامن العراقية التي تمكنت من فرض سيطرتها على جميع المناطق بالمدينة وضواحيها.
واضاف خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد الخميس الماضي بديوان المحافظة بحضور قائدي الشرطة والفرقة الثانية للجيش العراقي بأن السلطات الادارية والامنية بالمحافظة وضعت الخطط المناسبة للتعامل مع جميع الخروقات الامنية التي قد تحصل موضحا بان الاحداث التي وقعت خلال الايام الماضية في عدد من المناطق بمدينة الموصل كانت ضمن مخطط يرمي الى احداث حالة من الفوضى وعدم الاستقرار واشاد كشمولة بحسن اداء الاجهزة الامنية التي استطاعت فرض سيطرتها المحكمة على المدينة اضافة الى تمكنها من ايقاع خسائر كبيرة بافراد الجماعات المسلحة فضلا عن القاء القبض على عدد آخر منهم
واوضح محافظ نينوى ان غلق الطرق والجسور الذي يحدث في بعض الاوقات بالمدينة يعد اجراءا احترازيا الهدف منه حماية المواطنين موضحا بان عمليات الغلق تتم بعد توفر المعلومات الاستخبارية الدقيقة عن الوضع الامني من قيادتي الشرطة والجيش بالمحافظة وكشف كشمولة عن تمكن الاجهزة الامنية من احباط مخطط لسلسلة من الهجمات الانتحارية بسيارات مفخخة كانت تستهدف مبنى المحافظة وقيادة الشرطة في وسط مدينة الموصل
من جهته قال قائد شرطة نينوى اللواء واثق الحمداني بأن ما جرى من خروقات امنية ومواجهات مسلحة في مدينة الموصل خلال الاسابيع القليلة الماضية لم يكن مفاجئا لنا وانما كان ضمن توقعات الاجهزة الامنية التي توفرت لها معلومات دقيقة ومفصلة عن ذلك واوضح بأن هناك تعاونا كبيرا بين قيادتي الشرطة والفرقة الثانية بالجيش العراقي من النواحي العملياتية والاستخبارية كما اشاد الحمداني بالتعاون الرائع الذي ابداه عدد كبير من المواطنين بمدينة الموصل خصوصا خلال الاحداث الاخيرة التي شهدتها المدينة مما مكن الاجهزة الامنية من تنفيذ واجباتها على احسن ما يرام
كما بيّن قائد الشرطة بان قوات الامن العراقية وبفضل حسن اعدادها وتسليحها انتقلت من مرحلة الدفاع الى مرحلة الهجوم للقضاء على المجاميع المسلحة والقاء القبض على جميع الخارجين على القانون بمحافظة نينوى موضحا بان الجماعات المسلحة لم تعد تتمكن من مواجهة قوات الامن العراقية التي اثبتت قدرتها وفاعليتها وردة فعلها السريع على مواجهة تلك الجماعات والقضاء عليها
اما قائد الفرقة الثانية بالجيش العراقي اللواء الركن جمال خالد فأثنى على التعاون الوثيق بين الاجهزة الامنية كافة والسلطات الادارية بالمحافظة واضاف بان قيادة الفرقة الثانية لديها خطة واضحة تم وضعها بالتنسيق مع قيادة الشرطة موضحا بان مسؤولية قطعات الفرقة تتضمن نصب الكمائن ونشر الدوريات الليلية في عدد من المناطق بمدينة الموصل ومداخلها اضافة الى اسناد قوات الشرطة عند الحاجة وعن الملف الامني قال قائد الفرقة الثانية بان قواته تسلمت الملف الامني من دون ان تمتلك السلطة الامنية التي ما زالت بيد قوات التحالف وتوقع بان السلطة الامنية بمحافظة نينوى ستنتقل للقوات العراقية خلال اسابيع قليلة بعد توفر عدد من المتطلبات التي لم يفصح عنها.


غصن الزيتون في قبضة حديدية

محمود التحافي
صرح الناطق باسم الحكومة، أمس الأول، بموقف جديد يتميز بالحزم اقره مجلس الوزراء بشأن قضية التحريض على العداء الطائفي. جاء ذلك بصيغة تحذير حكومي للذين يستغلون أماكن العبادة لأغراض غير دينية. وأعلن الناطق عن ملاحقات قانونية وإسقاط الحرمة عن تلك الاماكن كرد على أي بادرة عنف موجهة.
هذا الموقف وان جاء في الإطار الشكلي لقانون مكافحة الإرهاب ألا انه يعد الأشد جرأة منذ إطلاق مبادرة المصارحة الوطنية وأيضا الأكثر وضوحا منذ بدء العمل بخطة امن بغداد.
حمل غصن الزيتون بيد حديدية هو توازن مطلوب في المرحلة الحالية والحكومة مطالبة بإظهار الجدية في قضية مصيرية كهذه وذلك باستكمال العناصر المطلوبة للمواجهة: القلب الطيب، العقل الحكيم، القوة الرادعة.
ان نجاح الحكومة يرتكز على استثمار معطيات الخطة الأمنية ودفع مشروع المصالحة نحو خطوات ايجابية وحل قضايا الخدمات وتفعيل القضاء ومكافحة الفساد وهي معالجة تتوفر لها فرص النجاح لوجود رؤية واضحة وقدرة على فرض القانون بالقوة فحكومة المالكي هي الاوفر حظا في تحقيق هذا. ورغم حالة التراخي التي عمت اداء الحكومة في الاشهر الماضية وعدم القدرة على فرض القانون وتطبيق القرارات الخاصة بمكافحة الارهاب والفساد وتفاقم الازمات واتساع دائرة العنف الا ان الدعم الخارجي الذي تلقته الحكومة وبالتحديد الدعم العسكري ورفع القدرة التسليحية والعددية للجيش العراقي وانفتاح هذا الجيش على العناصر التي خدمت في الجيش السابق ادى الى تحقيق التفوق في ميادين عدة كما ان النجاح النسبي الذي حققته خطة امن بغداد عزز الثقة بالمرحلة الجديدة واعطى مؤشرات على تصاعد وتيرة التحسن بشكل تدريجي.
الحكومة عانت كثيرا لترسيخ نفسها واظهار معالم جدارتها وسط فوضى عارمة يتحمل الجميع افرازاتها الصعبة كما ان هذه الحكومة واجهت تعقيدا متفجرا وكان عليها تحمل المسؤولية ومعالجة الاخطاء السابقة الامر الذي يدعوها دوما الى ان تكون اكثر شدة وان لا تغرق في دوامة الآراء المتضاربة وضغوطات الكتل السياسية.
لقد منحتنا التجربة السابقة قدرة على التشخيص وهذا يتطلب منح الحكومة القدر الكافي من الحرية وتوفير سبل استثمار القدرة لمواجهة الظرف الراهن بما يمليه اعتقادها وتراه الانسب سواء كان ذلك بالحل السياسي او العسكري وايضا على الجميع تجاوز المصالح الشخصية ومحو الخطوط الحمر مهما كانت درجة حساسيتها وعدم لف الاسلاك الشائكة حول رقبة الحكومة لان ذلك معناه المزيد من العقد والاشكالات والمزيد من الازمات.


تتمة المنشور على ص(1) .. ومضة ذاكرة  .. بحجة عمران!
 

في الأيام الأخيرة من الحرب الأخيرة قصفت اسرائيل مجموعة جسور، وقد ظهرت في التلفاز آثار هذا القصف مع قطعة دلالة مرورية كتب عليها (غزير). ها هي ذي، أنا لم أخطئ ولم أتخيل مدينة بهذا الاسم. دعني أرك: تنزل غزير الكسروانية مع انحدار جانبي للجبل دون أن تصل الى واديه الذي لم يكن عميقا على أية حال. وهي صغيرة جدا الى حد أن انطون سائق المارسيدس الأزعر يقطعها بثوان، ثم يواصل النزول ليلف كوعا حادا صنع بانحناء الجبل أو من التقائه بجبل آخر، وبكفخة واحدة من قدمه على دواسة البنزين تطفر السيارة كيلومترا واحدا بدقيقة، فتمرق كالسهم على يمين قصر دكتور نسيت اسمه كان أبي يدرّس ولديه، وتجتاز دكان بقالة ومركز
بدالة وهي تخفف من سرعتها قليلا لتتوقف قرب العين على بعد مئتي متر. بيتنا لصق الدكان تماما، بيت يكاد يشبه مركز شرطة صغير من الطراز التركي اللبناني يعلوه سقف قرميدي أحمر . كنت وأنا في البيت أسمع فرنسيس صاحب الدكان يدير ذراع بدالة قرية الجورة، أو هذا ما أظن أنه اسمها، ويصيح مناديا: آلو بيروت! آلو بيروت! كنت أسمعه أيضا يشتم أنطون التي كنست سيارته المسرعة تراب الشارع وقذفته الى دكانه.
عام 1969 جئت الى لبنان مع زوجتي لقضاء شهر العسل، وكم تمنيت أن يأخذني عمران الى جونيه ومنها الى غزير والجورة، مرورا بقلب الجبل الماروني الساحر، لكن عمران كان في تلك الأيام منشغلا بحرب المقاومة، فأخذني في صباح ربيعي رائق الى كفر شوبا عند الحدود اللبنانية الاسرائيلية مع زوجتي وصحفية المانية لعلي ما زلت أتذكر اسمها عرفت في ما بعد انها ماتت.
بوساطة عمران تعرفت على الكثير من قرى العرقوب والبقاع الأوسط. ما زلت أتذكر طرقها الصامتة والموحشة التي لم تثر عندي احساسا بأنني في حضن الطبيعة. كنا نزداد صمتا وغرابة كلما اقتربنا من الحدود الاسرائيلية. لقد خبرت منذ أن كنت صغيرا الحالة التي تتداعى فيها أجمل الأمكنة وأسعد اللحظات وتتبدد. ما هو سياسي في هذه المنطقة من العالم له امتياز خاص، سلطة عمياء للحكم غير قابل للنقاش، وهو من القوة والنذالة والأجنبية بحيث يحوّل جغرافية كاملة الأبعاد الى هواجس نفسية، إننا لن نرى ما نراه، فالسياسة تصنع جغرافية نكتشفها، من دون أن نراها حقا، على وقع الأحداث والمخاوف، جغرافيا ملؤها التهديد والوعيد. المناظر الجليلة هي الأكثر مدعاة للخوف، فأنت ازاءها تشعر بسرعة زمنك النفسي الذي لا يجعلك واثقا متثبتا من سعادة هذه اللحظة. ستفكر بينما عليك أن تستسلم، وستتوقع بينما عليك أن تتوقف. في بعض انعطافات الطريق المكشوفة لاحظت أننا رحنا نتحدث بصوت مرتفع لكي نبدد صمتا كان يسمع. لقد شعرت بأن جارحا ما كان يحلق فوقنا ويراقب تغلغلنا في المكان بحذر.
صمت. صمت أيام الجمعة. صمت أيام العطلات. صمت صباح 8 شباط الذي صادف يوم جمعة. ما كنت في ذلك اليوم أسمع قصف الطائرات المغيرة على وزارة الدفاع ولا رشقات الرشاشات، بل صمت يوم الجمعة وقد مزقه الانقلاب وحوله الى ما يشبه الارتطام بعجلة مسرعة تبعه صوت مكتوم لنواح وغمغمة دم. في اليوم نفسه جاءني عمران باحثا عن ملجأ. في اليوم الثاني بينما كنت أرى من نافذة غرفتي في الطابق الثاني الحرس القومي يدهمون أحد البيوت وصف عمران ما يحدث بالمأساة الوطنية. قلت له: بعد أيام لن يكون كذلك.. سيكون تراجيديا أفراد! حدّق بي ورآني أدخل الى حالتي التراجيدية الفردية. لم نعد لا أنا ولا هو وجميع الذين كانوا يبحثون عن ملاذ آمن، ولا الموقوفون ولا المقتولون ولا الذين كانوا يتعرضون للتعذيب في هذه اللحظة غير أفراد معزولين. أجساد. عضلات. كميات من أجهزة مخيفة ولحم مهدد. منذ الآن سنتخيل بصمت ما ستفعله الفاشية بنا، وسنكون وحدنا، في مشاهد ومواقف لا خطأ فيها، وستكون المرة الوحيدة التي تتطابق فيه مخيلاتنا مع الواقع، وسيكون الأخير، في قوته أو خوره، حقيقتنا القادمة ومستقبلنا، سيكون سياسة كاملة في الهزائم والفرار والتنازل والاسقاط النفسي والاعترافات المخزية والتعاون مع السلطات والدناءة والواقعية. الطارئ سيصبح قدراً. السيئ سيتناسل. لا مناص.
صمت آخر، صمت صباح 6 كانون الثاني 1963 الذي يصادف عطلة عيد الجيش. مات أبي في هذا اليوم. فتحت غرفته ونظرت اليه، كان كأنه ما زال يهز قدميه كعادته عندما يستيقظ من النوم. قبلت جبينه: كان لا يزال دافئا. خاطبته لائما: لماذا.. لماذا الآن؟ كنا قد أصبحنا أصدقاء واتفقنا على بعض المشاريع المشتركة. غادرت البيت متحججا برغبتي ابلاغ أصدقائه. هل كان لديه أصدقاء؟ كان الصمت يطوف في الشوارع. كنت أحبس اجهاشة بكاء. شعرت بوجود اسفنج حامض في معدتي. لعلها غمامة سوداء حامضية . كيف دخل اسفنج وغمامة في معدتي؟ ظل هذا الاحساس ينتابني طوال شهر ويومين، أي حتى يوم 8 شباط، عندها شعرت أنني انما كنت أخفي شبحاً يرتدي عباءة سوداء. على نحو ما شعرت أن موت أبي جاء في أوانه، ولعله قدم التحليل الماركسي الصحيح والوحيد فغادر الحياة قبل أن يهان أو يعدم.
في اليوم الثاني على وفاته جاءني عمران الى البيت وأخرجني منه عنوة. في الليل تحدثنا عن ضرورة أن نغادر العراق بلا رجعة. فضلت أنا كندا لوجود أنهر جبلية مسرعة وأسماك مرحة تقفز منها، ولست أدري على أي فلم سينمائي بنيت مثل هذا التقدير.، أما هو فلم يرفض السفر الى أفريقيا. أخبرته أن أبي مات لأنني تناولت قبل يوم وجبة حواصل دجاج. طلب مني أن لا أتناول حواصل الدجاج أبدا. ولم أتناولها حتى اليوم!
في كفر شوبا ألزم السكان أنفسهم بالصمت واللامبالاة كلما راح المقاومون الفلسطينيون يستعرضون عضلاتهم ورشاشاتهم بهدف معقول أو غير معقول، كان العديد منهم أولادا أو أشبه بالأطفال من حيث السلوك، أما قادتهم الميدانيون الذين يحملون أسماء مخيفة فتدريبهم السياسي قاصر على الشعارات العريضة والتفاخر وتمرير أهداف القادة السياسيين على أرض لبنان، والأخيرون مختلفون وأصحاب مصالح ومشاريع ومراجعهم السياسية تتراوح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.
لا أتذكر من كل مشاهداتي في موقع للجبهة الشعبية هناك غير أحاسيسي المتلاطمة التي تتراوح ما بين النقد الشديد والتضامن مع القضية العادلة للشعب الفلسطيني. ما من وجه احتفظت به ذاكرتي غير وجه قروية عجوز قطعت علينا طريقاً جبلياً ضيقاً وأعطتني وزوجتي بضع قطع من تين يابس. لقد بدت وهي تبتسم في وجهي كأنها ميزت غربتي وعلمت بحالي. ومثلما أكدت بهديتها الفقيرة ما عرفته أنا من كرم أهل الجبل، حدست من وجهها المتعب المليء بالغضون مأزق اللبنانيين الذي تقاسمه السياسيون الغاضبون من دون رأفة ببعضهم البعض الآخر، مما جعلهم يخسرون جميعا، ويحطمون لبنانهم الجميل.
لم أخف عن عمران آرائي وامتعاضي مما شاهدت. لا يكفي أن تؤمن بقضية عادلة وتدافع عنها. تحتاج الى مهارة سياسية ومعرفة بالمجتمع وحس بالنزاهة والمرح وعادات في التعاون مع الآخرين والاعتراف بالاختلاف. ما شاهدته كان أنموذجا للجهل وروح الجد وعدم الانضباط. منذ ذلك الحين توقعت حصول كارثة في لبنان. وقد تأكد لي ذلك في زيارة أخرى للبنان بعد نحو سنتين، ففي مقر منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان يقع في كورنيش المزرعة دفعني عمران الى صالة صغيرة للاجتماعات وأقفل خلفي الباب. رأيت في زحمة دهشتي وحرجي أنني في حضرة اجتماع بين قادة المنظمة وعدد من قادة الحركة الوطنية اللبنانية ومجموعة صغيرة من المستمعين. كان هناك- ويا للغرابة- جميع القادة الفلسطينيين التي توصلت اسرائيل الى اغتيالهم الواحد بعد الآخر: أبو أياد، زهير محسن، كمال عدوان، كمال ناصر. ومن اللبنانيين محسن ابراهيم وجورج حاوي( المغدور عام 2005 )
كان الوضع السياسي مأزوما، والحركة الوطنية تستشعر مخاطر آتية لا ريب فيها، والفلسطينيون يجسون نبض بعض اللبنانيين معتقدين أنهم محاطون بحب ورعاية اللبنانيين جميعا. كانت علنيتهم المخبولة واستعراضيتهم التي تغري أعداءهم المتكاثرين وتدخلهم بشؤون مجتمع له توازناته الخاصة سببت لهم كارثة في الأردن، ومن الغريب أنهم لم يتعلموا شيئا من هذه التجربة، وأكثر من هذا لم يتعلموا الحفاظ على حياتهم وحياة مواطنيهم والقريبين منهم بقدر ما تعلموا كيف يموتون مثل الجراد. ما زلت حتى هذه الساعة أتساءل: ألم ينتبهوا الى وجودي- وجود شخص لا يعرفونه يستمع الى معلومات وخطط مشتركة وتحليلات خاصة محددة بشأن مخاطر تخطت مرحلة الهواجس والتخمينات؟ لقد أثرت هذه القضية وقضايا أخرى مع فلسطينيين ممتازين عرفتهم فخرجت بنتيجة واحدة وهي أن غريزة الموت قبضت على الفلسطينيين، فكيف ستراهم يصدقون بعض حلفائهم ممن قبضت عليهم غريزة الحياة؟ والى أي حد يمكن لانسان غارق في حياته اليومية أن يلائم ما بين إيمانه بعدالة قضية الفلسطينيين وتوقعه إخفاقهم بسبب فوضويتهم وسلوكهم الانتحاري؟
كان لوالدي الذي عاش في لبنان منذ عام 1948 لاصابته بالسل ثم بقائه مرغما فيه لأسباب سياسية ضرب من الأحكام الانطولوجية التي تكيفت الى السياسة، وكان يرميها على نحو عرضي من دون رغبة في الدفاع عنها، الا أنني شاهدته في عدد من المرات يرميها كأنه يرمي حجرا في وجوه أولئك الذين قبض عليهم متلبسين بسلوك ينم عن انعدام الأدب وسوء السلوك. كان يرى أن العراقيين أكثر من بدو، فهم أقرب الى الهمج القساة الذين يجيدون التستر خلف العقل بحضور سلطة أو مرجع مهاب أو خلف الحياة عندما تكون هادئة. قال لي مرة وهو يصفني بالنوري( الغجري) بسبب وساختي: ما أن تحك جلد العراقي حتى يظهر إما عشائرياً أو طائفياً أو مريضا نفسياً أو شخصا يستطيع أن يقترف جرائم مهولة باسم الشرف والأخلاق والدين. وكان يرى أن اللبنانيين هم بين بين.. بين المتمدنين وأدعياء التمدن، وحدهم الفلسطينيون متمدنون وانشائيون. قال أيضا أن من أدخل مسك الدفاتر الحسابية الى لبنان هم الفلسطينيون مع أشياء أخرى. وعلى الرغم من احتراس والدي من مدّ ملاحظاته الى استنتاجات متطرفة، إلا أنه أوحى لي مرة أن الغرب دمر بفلسطين لحظة تركيبية من طبيعة حضارية، لا يستطيع العرب في المستقبل أن يجدوا نظيرا لها في بلد عربي آخر، وأن هذه الخسارة التي قد تكون مدروسة هي الوجه
الآخر لقيام دولة اسرائيل الكولنيالية. وعندما سألته عن مصر الناصرية أشار الى أنها بحاجة الى الديمقراطية، وأن استبداديتها القديمة ترجحها لاقتراف كوارث على الطريق.
بعض الأحكام من هذا النوع محيّرة، وهي تسود في بعض الأزمنة كأنها جائحة من الجوائح، ولا تختفي الا بعد أن تدور دورة كاملة وتتلاشى على حدود جائحة أخرى، لكنها قد تعاود الظهور بسبب تجارب جديدة مرّة . لست أدري إن كان والدي سيتوقع أن اللبنانيين سيورطون أنفسهم بحرب أهلية استمرت 15 عاما من دون هدف، وسيمارسون القتل على الهوية دون تردد؟ لكنني ما زلت أذكر حادثا يبدو عرضيا وغريبا لكنه مثقل بدلالة خاصة.
لعله كان عام 1956، حين رأيت من بيتنا في الشويفات مطار خلدة يتمايل وكتلة البحر التي غطاها الليل من ورائه تنفلت للحظة خاطفة من خط أفقها المعتاد. إنه زلزال.. وساد الرعب. لقد خرج الجميع الى الأزقة والحدائق والفضاءات خوفا من سقوط دورهم على رؤوسهم، لكن الكثيرين، وأظنهم اولئك القبضايات الذين يشكلون دروع الطوائف وزعرانها وأرباب البيوت القوية والجماعات العشائرية هدّأوا مخاوفهم وأبعدوا الموت عنهم باطلاق رصاص عشوائي من رشاشاتهم وبنادقهم ومسدساتهم ، عندها طلب أبي الدخول الى البيت خوفا من هذا الطيش غير المتوقع قائلا: بالزلزال ولا بيد زعران لبنان!
لم أشعر باستغراب من كمية الرصاص الذي أطلق في حالة غير مناسبة ، فأحد زملائي في كلية ايفانوف بالشويفات من بيت ريشاني ، أطلعني في يوم من الأيام على كهف في الجبل احتوى على أسلحة عشيرته أو عائلته، وكان بينها مدافع رشاشة. كان النظام اللبناني هو شيء من طيش التاريخ ومصادفاته، وجلجلة الحياة التي اعتاد اللبنانيون المباهاة بها من دون الاخلاص لها دائما، وواقعية السياسيين المستفيدين وحيلهم.
لكن ماذا أقول عن مواطنيي العراقيين الذين يتسلون بذبح بعضهم البعض هذه الأيام؟ وماذا أرجو من سياسيين ثعالب يخفون إرهابييهم وغداراتهم وميليشياتهم خلف صورهم الصحفية؟
كيف حدث ما حدث ؟ الفلسطينيون يتفسخون، والعراق يجسد ما أخبرني به أبي ويقوده الى مواقع مخيفة وينتحر ، ولبنان تحت قصف الطائرات الاسرائيلية!
لكن ليس هذا ما أردت الحديث عنه حقا. أردت أن أحدثكم عن لحظاتي السعيدة في لبنان. إنها حياة كاملة ومجلجلة، ولسوف أختزلها الى ما جرى لي عند كنيسة الجورة الصغيرة التي تغطيها شجرة زعرور بري هائلة. لقد منحني الخوري وهو يعرف أنني مسلم شرف دق جرس الكنيسة في الأعياد وفي مناسبات الموت. في الاولى كان الجرس يحملني الى الأعلى ويرجعني الى الأرض وأنا أصيح من النشوة. وفي الثانية كان عليّ أن أتحلى بالكثير من الانضباط ، فأشد الحبل على جسمي الذي أدفع بثقله الى الأرض ثم أسحب الجرس سحبات جنائزية موزونة ولا أدعه يأخذني اليه: طن.. طن.. طن.. بهدوء وروية كنت أفقد طيش شبابي.
طن..طن.. طن.. رأسي الى الأرض وأنا أردد كمسلم حقيقي: "ولا تمش في الأرض مرحاً"!
كنت أحوّل حياتي الى منطقة لقاء تجمع مشارب الناس وأهواءهم وأساطيرهم.
كنت أتعلم قبل الأوان أن أصغي الى نداء غريب لحياة اختفت خلف أفق بعيد.
هذا ما تعلمته من لبنان وأنا شاكر.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة