الانسان والمجتمع

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي .. (من حمورابي إلى ماركس) _ (2-3)
 

فارس كمال نظمي
العدالة في الفكر الديني
تعدّ العدالة محور المعتقدات الأخلاقية في أي دين، فهي الحل التشريعي والنفسي الذي يقترحه ذلك الدين لمعضلة البشر الأزلية: صراع الخير مع الشر. وبالتالي، فأن جوهر أي دين يمكن اختزاله إلى أسلوب تناوله لموضوعة العدالة.
فقد عبرت البوذية
Buddhism بأفكارها عن احتجاج عامة الشعب على الديانة البراهماتية بسبب فوارقها القبلية المقدسة، إذ يخاطب (بوذا) (562-483) ق.م الظالمين قائلاً: (فيا من تقترفون المظالم، انتبهوا إلى أنفسكم، وانظروا الأشياء بأعيانها لا بظواهرها، ولا تستسلموا إلى عبودية الذات، فتقعوا في شر أعمالكم، واعلموا أنكم لا تجنون من العلقم عنباً).
أما الكونفوشيوسية
Confucianism، التي تنسب إلى(كونفوشيوس) (551-479)ق.م، فترى ان القاعدة الأخلاقية موجودة فينا ولا يمكن ان تنفصل عن أنفسنا. فالإنسان لا يفعل الشر عن علم بل عن جهل، ولكنه لو عرف الخير لاتجه اليه بشكل طبيعي. فالشر جهل والخير علم. اما سبب المصائب التي حلت بالإنسانية فهي المِلكية الخاصة، التي تؤدي إلى التطاحن والصراع.
وآمنت الديانة اليهودية، في الربع الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، بأن الله يحب العدالة، وقد شيّد عرشه عليها، وأن الإنسان لكي يحيا حياة الحق، عليه ان يتعامل بعدالة على الدوام مع الآخرين، إذ جاء في التوراة (العهد القديم): (كلامُ الربِّ مستقيمٌ /وكلُّ أفعاله حقٌ /يحبُّ العدلَ والأنصافَ،/ ومن رحمته تمتليء الأرضُ) (مزمور 33:4-5). أما كتاب (التلمود) الذي بدأ حاخامات اليهود بتأليفه للمرة الأولى بين العامين (190-200)م، مغيّرين من خلاله أحكام التوراة، فقد أباح الربا، وتقديم الأطفال قرباناً للإله (مولوخ)
Moloch، وكراهية الأجانب غير اليهود، وقدّم معياراً مزدوجاً للعدالة، إذ ما يباح من حقوق لليهود لا يباح لغيرهم من الأقوام والأديان.
وشددت المسيحية على أن كل الأحكام ينبغي أن تتخذ بعدالة. وعلى الإنسان أن يكون متيقظاً لكي لا يسقط في أحكام الشر. فالله عادل، وسيقاضي كل الناس بالعدل طبقاً لأفعاله. فجاء في الإنجيل (العهد الجديد): (أيها السادةُ عاملوا عبيدكم بالعدْلِ والمساواةِ عالمينَ أن لكم أنتم أيضاً سيداً في السماءِ) (كولوسي 4:1).
أما الإسلام، فعدّ العدالة مبدأً أساساً يجب تحقيقه في جميع مظاهر النشاط الانساني، إذ يؤكد القرآن الكريم كثيراً على إقامة العدل بوصفه هدفاً في كل مجتمع إسلامي، وقد وصف العدل بثلاث كلمات هي (العدل) و (القسط) و(الميزان)، كما تكررت مادة العدل بمشتقاتها ما يقرب من ثلاثين مرة فيه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة النحل: آية90).

وجاءت فريضة الزكاة إحقاقاً للعدالة الاجتماعية في الاسلام، بوصفها جوهر النظام الاقتصادي الإسلامي. وحكمتها هي رفض ان يتحكم فرد في مصائر الناس بحجب المال عنهم، لأن حجز المال فيه ظلم للمال والمجتمع، فيقول النبي محمد (ص): (من احتكرَ طعاماً أربعين يوماً فقد بريءَ من الله وبريءَ الله ُمنهُ). فالمال في الإسلام له وظيفة اجتماعية غير فردية، وهو لا يقصد لذاته وإنما لأداء خدمات اجتماعية تحقق المصلحة العامة. ويضمن الشرع الإسلامي والقضاء الإسلامي لكل فقير الحق في أن يرفع دعوى النفقة على الأغنياء من أقاربه. ويعني ضمان حد الكفاية هذا، أن الإسلام يكفل الحاجات الأولية للحياة الآدمية، إذ يخاطب الله (آدم) بعد أن طرد إبليس من الجنة: (إنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (سورة طه: آية 118-119).
وبنشوء الدولة العربية الإسلامية وتوسعها، أصبح القرآن المصدرَ الأساس لأبحاث الفلاسفة المسلمين في قضايا الأخلاق، فضلاً عن تأثرهم في الوقت ذاته بالتراث الفلسفي اليوناني، وخاصة بافلاطون وارسطو. فقد أصبح (العدل) أحد الأصول الخمسة لـ (المعتزلة) بوصفه الأصل الخاص بمبحث (الحرية والاختيار) بالنسبة للإنسان، و(التعديل والتجوير) بالنسبة للذات الإلهية.
وتأثر (الفارابي) (873-953)م بمفاهيم الأخلاق لدى الفلاسفة اليونان، فالعدالة لديه ليست عدالة مساواة، بل عدالة توزيعية، إذ يقول: (العدل أولاً يكون في قسمة الخيرات المشتركة التي لأهل المدينة على جميعهم
فأن لكل واحدٍ من أهل المدينة قسطا ًمن هذه الخيرات مساوياً لأستئهاله، فنقصه عن ذلك وزيادته جور). والأفراد والجماعات في مدينته الفاضلة هم طبقات تتغالب فيما بينها، فمن غلب وقهر كان هو الفائز السعيد. ولما كان الغلب جزءاً من الطبع الإنساني فهو عدل. فالعدل اذن هو التغالب عند الفارابي.
وحدد (ابن خلدون) (1332-1406)م ان الإنسان كائن مجبول على الخير والشر معاً، وعلى التعاون والعدوان. فالإنسان لديه مدني بالطبع ولا تستقيم أحواله الا بالعيش مع غيره من بني جنسه، غير ان فيه من جهة أخرى طبعاً عدوانياً هو آثار القوى الحيوانية فيه، يجعله يعتدي ويظلم أخاه الإنسان. ويستبعد ابن خلدون أن تصل المجتمعات إلى مرحلة المدينة الفاضلة، إذ يرى ان الأمل الذي يراود الناس من حين لآخر في ظهور منقذٍ يصحح الأوضاع ويقيم العدل ويعيد الأمور كما كانت عليه أيام الخلفاء الراشدين، ما هو إلا سراب خادع.
يتضح من هذا العرض، ان الأديان عامة، تتفق على عدّ الفعل الإلهي عادلاً بشكل مطلق، ومنزهاً عن الجور والتعسف. أما المظالم على الأرض فهي سيئات من صنع البشر، لابد من محاسبتها والتكفير عنها، فأن لم يحدث ذلك عاجلاً في الحياة الدنيا، فسيحدث بالتأكيد في الحياة الآخرة. فالأديان بهذا الوصف، تشجع على الاعتقاد بالعدالة النهائية للعالم، بوصفها (أي العدالة) الغاية الأخيرة من هذا الوجود، أما المظالم الآنية فما هي إلا خطايا وذنوب مؤقتة تنتظر العقاب أو التصحيح.

العدالة في الفكر الفلسفي
تبحث موضوعة العدالة في الفلسفة ضمن فرع (الأخلاق) Ethics، الذي يعنى بتحديد ما هو الصالح والطالح، وما هو الصائب والخاطيء من الناحية الأخلاقية.
وقد حاولت الفلسفة بمختلف مذاهبها، ومنذ بداياتها، أن تبحث في (ماهية)
Essenceالعدالة، بطرحها لعدد من الأسئلة الجوهرية: (هل ينطوي هذا العالم على العدالة ام الظلم؟)، (ما الموقف العادل؟ وما السلوك العادل؟ وما القانون العادل؟)، (هل العدالة قيمة مطلقة تعلو على الحركة الاجتماعية؟ أم إنها قيمة نسبية تلتحق بالوعي الاجتماعي وتتغير بتغيره؟)، (ما المعيار الذي تتحد بموجبه العدالة؟ أهو حاجات الناس؟ أم قدراتهم؟ أم جهودهم؟ أم الشرائع الدينية؟ أم قوانين السلطة؟).
وقد نبع الخلاف الرئيس بين المذاهب الفلسفية التي حاولت الإجابة عن الأسئلة أعلاه، من مشكلة تحديد أي الفكرتين لها الأسبقية على الأخرى في تحديد ماهية العدالة: فكرة (الحق)
Right أم فكرة (الخير) Good؟ وعلى أساس هذا الجدال حول فكرتي الحق والخير، يمكن تصنيف آراء الفلاسفة في ماهية العدالة ضمن ثلاثة منظورات رئيسة، بغض النظر عن التناقضات الجوهرية بين فلاسفة كل منظور حول مشكلات أصل الوجود وعلاقة المادة بالوعي:
(1)المنظور الوضعي
يرى هذا المنظور أن (القوي على حق)، فلا يعترف بشيء اسمه العدل أو عدم العدل، بل يؤمن بأن القانون الوضعي هو قانون عادل طالما أقرته الدولة، ويصبح غير عادل إذا لم يتفق مع آراء الدولة وأهدافها.
ويعد (السفسطائيون)
Sophists في الألف الأول قبل الميلاد، من أقدم مناصري هذا المنظور، بقولهم إن كل ما يؤدي إلى نفع الطبقة الحاكمة هو في مصلحة المحكومين. وبالتالي فأن منفعة الأقوى هي العدالة عينها.
أما (هوبز)
Hobbes (1588-1679)م فوضع مفهوماً محدداً للعدالة بقوله: (الظلم هو خرق القواعد العامة). فالعدالة هي الطاعة للقوي القادر على ان يجعل نفسه مطاعاً.

(2) المنظور الطبيعي
القانون الطبيعي هو ذلك القانون الأزلي الشامل الذي يضم مجموعة من القواعد السامية العامة الخالدة التي توحي بمقاييس مطلقة للحق والعدل. وهو ليس من خلق الإنسان، وإنما وليد قوة مهيمنة غير منظورة، يستطيع العقل الكشف عنه للاهتداء بمبادئه.
ويعد (افلاطون)
Plato (427-347)ق.م من أوائل المدافعين عن القانون الطبيعي للعدالة. فالكون في منظوره كلٌ منسجم تهيمن عليه (سماءٌ) من المثل الخالصة غير المخلوقة وغير القابلة للتغير. والفضيلة ما هي الا صورة المقاييس العلوية المتمركزة حول مثال (الخير)، التي ينظمها مثال (العدالة).
أما (روسو)
Rousseau (1712-1778)م فوجه نقداً قوياً للعلاقات الطبقية الإقطاعية والنظام الاستبدادي، وأيد الديمقراطية البرجوازية والحريات المدنية والمساواة بين الناس بصرف النظر عن أصلهم. واعتقد أنه في (الدولة الطبيعية) لا تنتفي فحسب الحرب التي يشنها كل إنسان ضد كل إنسان، بل تسود أيضاً الصداقة والانسجام بين الناس.
(3) المنظور النفعي
يؤمن هذا المنظور أن عدل الفكرة لا ينبع الا من النتائج التي تحققها الأفكار. وعلى هذا فأن عدالة الدولة تنبع من نتائج تطبيقها للقوانين. فاذا كانت القوانين تؤدي إلى أهدافها المطلوبة منها فهي عادلة، وإذا لم تحقق أهدافها فهي غير ذلك.
فقد دعا (بنثام)
Bentham (1748-1832) م زعيم القائلين بـ (مذهب المنفعة) Utilitrianism إلى الأخذ بقواعد القانون وإخضاعها لاختبار حساب المنفعة hedonic calculus بهدف زيادة سعادة الناس وإنقاص ما يعانونه.
وانتقد (ديوي)
Dewey (1859-1952) م، وهو من مطوري (الفلسفة الذرائعية) Pragmatism، الفكرة المثالية القائلة أن هذا العالم يعمل على معاونة الخير وتحقير الشر. وعدّ مفاهيم (العدل المطلق) أو (المساواة المطلقة) أو (الحرية المطلقة) تعبيراً عن عوالم وهمية مثالية. فالأخلاق في نظره لا تكمن في إدراك الحقيقة، ولكن في الاستعمال الذي ينتج عن إدراكها.
يستدل مما تقدم أن كلاً من المنظورات الفلسفية الثلاثة السابقة الذكر قد تبنى مفهوماً أخلاقياً مطلقاً للعدالة. فالمنظور الوضعي ينظر إلى العدالة بوصفها طاعة الأفراد لقوانين السلطة، بينما يعدّها المنظور الطبيعي جزءاً متأصلاً في طبيعة الإنسان ولا يحتاج لاكتشافها إلا لاستخدام العقل، ومن ثم تطبيقها بواسطة القوانين الوضعية المعززة لقواعد القانون الطبيعي. أما المنظور النفعي فيرى ان العدالة تتحقق عندما تؤدي القوانين أهدافها في تحقيق منفعة الناس وخيرهم. إن أياً من هذه المنظورات الثلاثة لم يقدم حلاً متكاملاً لمشكلة ماهية العدالة. فلتنظيم عملية تلبية الحقوق الطبيعية للأفراد، لابد من اللجوء إلى القوانين الوضعية، إذ أن هذه القوانين تسهم بدورها في صياغة محددات نوعية وكمية للحقوق الطبيعية، ومن غير ذلك تنتفي خاصية الاجتماع البشري. كما ان القوانين الوضعية ذاتها تتغير عبر التأريخ لتتلاءم مع تنامي حاجات البشر وتطور وعيهم الاجتماعي. وبالمقابل فأن المنظور النفعي هو محاولة لتحقيق الانسجام بين تلبية حاجات الفرد وتحقيق الصالح العام، لكنه (أي المنظور النفعي) لم يحدد المعنى الإجرائي لمفهوم الصالح العام، كما بالغ في عدّ (الحق) نتاجاً آنياً للمتطلبات المادية للمجتمع الصناعي، مجرداً اياه من بعض أبعاده الأخلاقية التي اكتسبها الناس في منظوماتهم القيمية بتأثير
الموروث الثقافي لحضاراتهم.


التعصب والتصلب في الرأي وعلاقتهما بالمرض النفسي
 

د. أسعد الإمارة
مما لا شك فيه ان مصطلح (التعصب) يترادف مع مصطلح (التصلب) في المعنى وفي الدلالة والمفهوم وفي السلوك. فإذا كان التعصب اتجاهاً نفسياً، فأن التصلب يحمل ذات المعنى بنفس الوقت وان اختلفت التطبيقات، ليس اختلافا نوعياً او كمياً بل اختلاف في التطبيق، وكلاهما يكمل الآخر اذا ما اطلقنا هذا الحكم دون مبالغة.
فالتعصب
Prejudice اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فردا معيناً او جماعة او موضوعاً معيناً ادراكاً ايجابياً محباً او سلبيا كارهاً، دون أن يكون لهذا الادراك أو ذاك ما يبرره من المنطق أو الاحداث او الخبرات الواقعية. ويقول علماء النفس ان تعصب ضيقي الأفق من المتدينين أو المتطرفين مذهبياً ضد اصحاب المذاهب والأديان الاخرى، أو تعصب قبيلة ضد قبيلة أخرى أو مناصرتها حتى في الباطل إنما هو تعصب أعمى عنيد؛ بينما التصلب اتجاه مكتسب نفسياً ايضاً ويتم عبر التعلم من الواقع ومن البيئة حتى يتميز بالثبات النسبي ويكون تأثيره على السلوك تأثيراً كبيراً، فيعرفه(د.فرج عبد القادر طه) في موسوعة علم النفس والتحليل النفسي بأنه عدم قدرة الفرد على تغيير افعاله أو اتجاهاته عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك. وقد يصيب التصلب الوظائف المعرفية وبخاصة الادراك، عندما يفتقد الفرد القدرة على ادراك تغير الاشياء عندما تتغير مواصفاتها أو شروطها الموضوعية. كما إن التصلب قد يكون وجدانياً، وهو ما نراه لدى اولئك أحاديي الرؤية بالنسبة لعواطفهم أو لدى الوسواسيين الحوازيين عندما يقع الكبت على تلك الصلة ما بين الفكرة(الموضوع)والوجدان وبين الشحنة المصاحبة.
تقول الدراسات النفسية المرضية أن كل مرض او انحراف سلوكي أو نزعات في السلوك مثل التطرف والتعصب، له جذوره التكوينية في مرحلة من مراحل النمو النفسي عبر مراحل حياة الفرد. فكما هو الاعتدال والمسالمة والتسامح وقبول الآخر هي من سمات السلوك السوي،نجد هناك من تتكون لدية نزعات مكتسبة من التطرف والتعصب والتصلب في الرأي. ويقول عالم النفس المصري الشهير الاستاذ الدكتور (مصطفى زيور): تدلنا مكتشفات التحليل النفسي على ان الانتصار على دوافع الكراهية نحو الأب،لا يعني فناءها، وعلى ان هزيمتها لا تدوم الا بدوام مناهضتها. ولما كان وجود فرد او جماعة لا يذعنون لما نذعن له، ولايعبدون ما نعبد، يقدم دليلاً على أن السلطان الذي أذعنا له غير مطلق، فإن هذه الجماعة تصبح أشبه بمحرض لدوافع الكراهية نحو التمرد. والنتيجة الطبيعية من ذلك، إنه لابد من محاربة الكافر بما نؤمن به، حتى لا يتاح لعوامل الكراهية الذاتية ان تتمرد.
وتشير الحقائق النفسية الأخرى أن التعصب يساير التصلب في الفعل والممارسة على المستوى العقلي النظري والتطبيقي. وهذان المفهومان يستخدمان في الغالب بالتبادل للاشارة إلى المعنى نفسه، رغم ان التعصب والاتجاهات التعصبية هي المفهوم الأعم والأشمل الذي يستوعب مفهوم التصلب. فعندما يتقوقع الفرد داخل بيئته النفسية وتكون اتصالاته بالواقع المادي شحيحة وقليلة، يكون تأثير العالم الخارجي بالنسبة لمجال الحياة ضئيل جداً، اذ أن التأثير متبادل بين مجال الحياة والعالم الخارجي، آنذاك فإن التصلب سينعكس سريعاً اذ يعزل الشخص عن بيئته بحائط سميك جداً. وهو الحال ذاته عند الموقف التعصبي الذي يصدر من الفرد المتعصب، فهو لا يتبادل مع الطرف الآخر الرأي والحوار، وإنما يجعل من الآخر عدواً لدوداً له فتنقطع صلات الاتصال معه. ويكون المتعصب دائما مصَفدْ الرؤية لا يقبل ان يستمع إلى الآخر ولا يتقبل وجهة نظره لأنها تخالفه وتتعاكس معه، وهو يرى نفسه الأصح دائماً، ويمتلك كل مقومات الحياة التي لا يرى وجودها في الآخر أو تنقص الآخر.
ولو تأملنا في تعريف العصاب النفسي (المرض النفسي) لوجدناه يشمل انواعاً من اضطرابات السلوك الناشئة عن فشل الافراد في التوافق مع انفسهم ومع البيئة المحيطة بهم. ونعني بهذا القول ليس هناك لغة تواصل بين العصابي (المريض نفسياً) ومع الآخرين، وهذا يدل بمعنى أدق على وجود مشكلات نفسية وانفعالية ومحاولات غير ناجحة للتوافق مع التوترات والصراعات الداخلية. ومن الملفت للنظر ان المتعصب والمتصلب في الرأي وفي المعتقد يتشابه سلوكه في العديد من النقاط مع مرضى العصاب (المرض النفسي). ففي رأي المتعصب والمتصلب ان كل من يخالفه في الرأي والفكر يحكم عليه بالفناء او الاقصاء او الإنهاء، أما المريض النفسي فتنتابه تخيلات تقوم لديه مقام الواقع، والنية تساوي الفعل، كما انه يقع فريسة لتوقع الشر المتربص به، فتوقع الشر هذا يظهر بقوة في المناسبات غير المعتادة التي تتضمن شيئاً جديداً غير متوقع أو غير مفهوم. هذه الهواجس تتملك المتعصب والعصابي دائماً فضلاً عن الريبة والشك في الآخر حتى وان كان يتشابه معه في الدين ولكن يختلف معه في المذهب، حتى يلجأ في الكثير من الاحيان إلى انهائه بالقتل.
اعتقد فرويد ان العصاب الحقيقي يظهر نتيجة حالات الانغماس الزائد عن اللزوم في الرأي والفكر، أو الزهد الزائد الذي يدفع صاحبه للابتعاد عن الحالة الإنسانية السوية والتعايش مع الواقع. وفي الواقع إن الإيمان التقليدي أو الاعتيادي بالدين لا يترك أثراً سلبياً على النفس أو على السلوك، بل يكون موضع فخر لصاحبه أمام الاخرين. أما الحماس الديني القائم على التعصب والتطرف والتصلب في الرأي فأنه يولد الاتجاهات التعصبية بمرور الزمن، ويترك الأثر السلبي في نفوس الاخرين حتى وإن لم يصدر منه ما يسيء، ولكنه يتعامل بخشونة واضحة وسلوك بعيد عن التسامح وهو ازاء ذلك يعادل ويساوي سلوك الاضطراب العصابي. فالتصلب نقيض للمرونة، والتعصب نقيض للانفتاح والتقبل، وهي السمات ذاتها لدى مرضى العصاب.
أما لو استعرضنا بعض معايير الصحة النفسية، لوجدنا أن أولها هو تقبل الفرد لنفسه وللآخرين، وثانيهما المرونة والقدرة على التكيف والتعديل والتغيير بما يتناسب مع ما يستجد من المواقف حتى يحقق التكيف. وقد يحدث التعديل نتيجة لتغيير في حاجات الفرد أو اهدافه أو بيئته. وهناك العديد من المعايير الاخرى مثل التوافق الاجتماعي والاتزان الانفعالي والقدرة على مواجهة الاحباط، فضلاً عن التكيف للمطالب أو الحاجات الداخلية والخارجية. إنها سمات واضحة المعالم تميز الاسوياء عن المرضى العصابيين ومرضى التعصب والتصلب والتطرف. وهكذا فاننا لا نجافي الحقيقة كثيراً إن قلنا أن هناك فروقاً موضوعية بين سلوك الاسوياء وسلوك المرضى بشقيه (العصاب النفسي، والتعصب والتصلب والتطرف): هذه الحقيقة يلمسها كل من يتعامل في الواقع مع هذه الشرائح من المجتمع.


انتهاكات حقوق الطفل العراقي: المظاهر والنتائج
 

د. عبد الله تركماني
تدل كل التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية الإنسانية والمهتمة بشؤون الأطفال العراقيين على تدهور أوضاعهم الصحية والتعليمية والبيئية عموماً. فقد أظهر أول مسح عن الأحوال المعيشية للأسرة في العراق، منذ احتلاله في العام 2003، أعلنت نتائجه في 12 مايو/أيار 2005 وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي العراقية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أوضاعا مأساوية يعيشها العراقيون وتدنياً كبيراً في مستوى الخدمات، إذ أظهرت النتائج أنّ (54%) فقط من الأسر تحصل علي مياه صالحة للشرب، وأنّ (37 %) منها فقط ترتبط مساكنها بشبكات صرف صحي مناسبة. وفي إطار المستوى التعليمي أظهرت نتائج المسح تراجعاً في معدلات التحاق الأطفال بالمدارس في مختلف مراحل الدراسة، فقد بلغت نسبة المتعلمين ممن هم في سن (15) عاماً فما فوق (65 %) فقط. كما أنّ (22 %) من الأشخاص لم يلتحقوا مطلقاً بالمدارس رغم إلزامية التعليم الأساسي في العراق. وأظهر المسح أنّ (8 %) من السكان مصابون بأمراض مزمنة، وأنّ (18 %) من الأطفال يعانون من سوء التغذية و(8%) من سوء التغذية الحاد و(23 %) من سوء تغذية مزمن.
إن أطفال العراق اليتامى هم الضحية المباشرة لبحر العنف والمعارك والاقتتال الدائر في البلاد. فقد اكدت تقارير دولية وجود (5.3) مليون طفل يتيم، وحوالي (900) ألف معاق، وأكثر من مليون ونصف المليون أرملة، إضافة إلى مئات الآلاف من المطلقات. وأغلب هؤلاء النساء يقمن بإعالة نحو (7) ملايين طفل، ويعشن في مستوى متردٍ دون الحد الأدنى للمستوى المعيشي، ويعانين من أمراض عديدة مزمنة وخطيرة.
كما انعكس تدهور الوضع الأمني والسياسي على المستوى التعليمي، حيث باتت أيام الغياب من المدارس تزيد على أيام الدوام والتعليم.
وفي الحادي والعشرين من يوليو/تموز 2003 نشرت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف) تقريراً يؤكد مصرع وإصابة أكثر من ألف طفل عراقي بسبب الألغام والذخائر غير المنفجرة، التي تنتشر في ربوع البلاد ولا يستطيع الصغار تجنبها أو الاحتراس منها لعدم درايتهم بمخاطرها. يومها لفتت المنظمة أنظار العالم إلى المخاطر التي تهدد أطفال العراق، وحذرت وقتها (كارول بلامي) المدير التنفيذي للمنظمة من كارثة خطيرة تهدد الصغار، وأنه ما لم توضع مسألة حمايتهم على رأس أولويات سلطات الاحتلال فإنّ الآلاف منهم سيموتون دون داعٍ. وحتى الآن لم يتم التخلص بعد من مخلفات الحرب، بل أنها تتزايد يوماً بعد يوم ما دامت نيران الحرب لم تخمد بعد.
واقتراناً بتردي الأوضاع الأمنية وترك المجرمين يعيثون فساداً، انتشرت ظواهر: خطف الأطفال، والابتزاز، والاغتصاب، إلى جانب السرقة، والسلب، والقتل، والتمثيل بالجثث، مما اضطر الكثير من الأسر العراقية المروّعة، بدافع الخوف على أفرادها والحفاظ عليهم، التزام بيوتها، والانطواء على نفسها، والامتناع عن إرسال أطفالها إلى المدارس ورياض الأطفال. وهكذا، تتزايد انتهاكات حقوق الطفل العراقي، بالرغم من قرار الجمعية العامة رقم (52/107) بشأن حقوق الطفل الصادر في 12 كانون الأول 1997، الذي يؤكد على حماية الأطفال المتأثرين بالنزاعات المسلحة.
وبناءاً على هذه الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال في العالم عموماً وفي العراق خصوصاً، نوصي بما يأتي:
* الطلب من جميع الدول وسائر الأطراف في النزاع المسلح أن تحترم احتراماً كاملاً أحكام اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 آب 1949وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977، مع مراعاة القرار (2) للمؤتمر الدولي السادس والعشرين للصليب الأحمر والهلال الأحمر، المعقود في جنيف في الفترة من 3 إلى 7 كانون الأول 1995، وأن تحترم أحكام اتفاقية حقوق الطفل التي تمنح الأطفال المتأثرين بالنزاع المسلح حماية ومعاملة خاصتين.
* الطلب إلى الدول وهيئات الأمم المتحدة ومنظماتها أن تعالج مسألة الأطفال في حالات النزاع وما بعد النزاع كشاغل له أولوية في الأنشطة المتصلة بحقوق الإنسان والأنشطة الإنسانية والإنمائية، بما فيها العمليات الميدانية والبرامج القطرية، وأن تعزز التنسيق والتعاون في جميع أنحاء منظومة الأمم المتحدة، وأن تكفل توفير الحماية الفعالة للأطفال المتأثرين بالنزاع المسلح.
* الاعراب عن القلق الشديد بسبب العدد الكبير من الأطفال الذين يعيشون و/أو يعملون في الشوارع، وبسبب الازدياد المستمر في عدد حالات تأثر هؤلاء الأطفال بالجرائم الخطيرة والاتجار بالمخدرات وإساءة استعمالها، والعنف والبغاء، وفي عدد التقارير التي تفيد ذلك، في جميع أرجاء العالم. والطلب إلى الحكومات أن تستمر بنشاط في التماس حلول شاملة لمشاكل هؤلاء الأطفال، عن طريق المساعدة في التخفيف من حدة الفقر لديهم، ولدى أسرهم أو الأوصياء عليهم، واتخاذ تدابير تكفل إعادة إدماجهم في المجتمع، والقيام، في جملة أمور، بتوفير التغذية والمأوى والرعاية الصحية والتعليم على نحو كافٍ، مع مراعاة أنّ هؤلاء الأطفال عرضة للخطر بشــكل بالغ لجمــيع أشكال العنــف وإساءة المعاملة والاســتغلال والإهمال.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة