المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

في حادث البصرة استحضرت فهد الأسدي .. هل سيجد صاحب (عدن مضاع) و(طيور السماء) في العشيرة بديلاً؟
 

رشيد الخيُّون

كان حادث مقتل ابن عمي فيصل الخيُّون بالبصرة، أستاذ الرياضة ثم المتفرغ للمشيخة، وراء كثرة من الهواجس والمراجعات، وتلمس الاغتراب مابيني وبين زمن العراق الحاضر، وأنا أعيشه مثل الفاقد الوعي منذ نحو ثلاثة عقود. قد لا يتوقف الأمر عند قتل إنسان قريب فمشارح المستشفيات وثلاجاتها ملأى بالقتلى، وعلى حد عبارة فقيه البصرة الحسن البصري (ت110هـ)، وهو يلخص زمن الحجاج بن يوسف الثقفي (هلك 95هـ): "ليس العجب ممَنْ هلك كيف هلك! وإنما العجب ممَنْ نجا كيف نجا"(الشريف المرتضى، الأمالي)! وفي ظلال هذا الوصف الذي يتواءم مع زمننا أيضاً، لايطلب من العشيرة أن تأخذ بكلمة مثقف متعال عليها، فالماضي السحيق كما نرى ينبعث من جديد لكن بغرابيبه. وما حكاية طائر الفينيق أو العنقاء، الذي يحترق ثم يخرج من وسط الرماد أكثر تألقاً وجمالاً، إلا أسطرة للمأساة، وتكثيف سراب الأمل والشروق، وهي لا تقل حضوراً رداً على قتلة الحلاج وقتلة عبد الكريم قاسم، ذاك يبعث بعد حرقه راكباً حماراً، وهذا يظهر في قرص القمر!
تكاثرت الخواطر عبر إتصال تلفوني، بعد انقطاع ثلاثة عقود من الزمن، مع القريب والصديق فاروق الخيُّون، حتى تحشدت لتصل إلى زمن ماقبل الثقافة، والوعي. كان فاروق طائراً متقاعداً تحطمت به طائرة (السيخوي) الحربية (صيف 1972) في صحراء السماوة، وفي المنطقة التي طالما قطنها المنفيون السياسيون، ولما رمى بنفسه وهبط بمظلته على الأرض فقد الوعي، وقال عند استجوابه حول الحادث، وكنا نحيط به في المستشفى العسكري بالبصرة: اصطدمتُ بحمار! وكان انبعاثه إلى الحياة أمراً لا يقل عجباً من انبعاث طائر الفينيق!

عاد بي الهاتف إلى زمن كان يشرح فيه معلمنا فهد الأسدي أعضاء رأس الإنسان، على وسيلة إيضاح: جمجمة وجدها في مقابر أطراف المدينة المتناثرة، وهي عادة تكون لأطفال أو لغرباء قتلوا فتحول الماء في وسط الأهوار إلى قبر طائف، أو لأموات الصابئة المندائيين، وكم تبدو رحيمة قبور الماء إذا خلا من الوحوش! كانت منطقتنا زاخرة ومباركة بالمندائيين، وما نعرفه عنهم أنهم لا يكترثون بالأجسام كاكتراثنا بها، لم يؤسسوا أضرحة ومزارات، ذلك لفلسفة دينية مؤداها: أن المحافظة على القبر، وشاهده باقة من القصب، لاتتجاوز الخمسة والأربعين يوماً، وهي فترة التهيئة لعروج الروح إلى السماء في سفن استلوا منها شكل القارب (المشحوف)، فبعدها لم يبق للجسد معنى، فهو مجرد طين وتراب عاد إلى أصله مثلما عادت الروح إلى منزلها السماوي. أما مانسمع عنه اليوم من مقابر للصابئة فهو مجرد منافسة مع المحيط.
كانت الجمجمة التي يقدم عليها فهد الأسدي درسه داكنة اللون، يخزنها بعد الدرس في صندوق في مكتب الإدارة، وليس هناك مَنْ يعترض على وجودها. يدرك المحيطون بساطة المشهد، وأن دراسة علم الأحياء والتشريح في كليات الطب يتم عبر جثامين الأموات! لكن عندما تدخل السياسة حافزاً للإيذاء تتحول تلك الجمجمة إلى جريمة يسجن بسببها معلمنا، ناهيك عن مهرها بتهمة الشيوعية! ومن ذلك اليوم، ونحن طلبة الصف الثالث الإبتدائي لم نر الجمجمة، وقيل لنا أنها دفنت في طينة ما. وبقينا نمر على باب الموقف المشبك لنرى معلمنا مقرفصاً عنده ينتظر الفرج، وهو الذي حبب الينا جهة اليسار. بعد الجمجمة كان الأكثر أثراً من معلمنا حمامة السلام الكبيرة، المعروضة على عرض الميدان وسط قصبة المدينة، وأمام مركز الشرطة، الذي كان من قبل قصراً لمشيخة آل خيون. كان هيكل الحمامة من صنع فهد الأسدي، وهي بيضاء كبيرة الحجم، وكأن النبي نوح أطلقها تواً. أتذكر ثبات فهد أمام تظاهرة من الدهماء اجتاحت الطريق صوب دار عمي طارق الخيُّون، رئيس البلدية (الرجعي) والمحسوب على العهد الملكي، وهو يردهم وهم يصغون له ولشيوعيين حالوا دون تقدم تلك التظاهرة للفتك بشيخ العشيرة، ومع ذلك احتفظ الشيخ برئاسة البلدية، وقد استبدل العقال والكوفية، لأنه موظف حكومي لايفرض تقاليده العشائرية على الدولة، بالبذلة الأوروبية! لكن تراجع الزمن إلى اللادولة جعل غازي الياور يستبدل البذلة بالعقال والدشداشة.
ظل فهد، ونحن أيضاً، ملتصقين بماضينا، نساير الكبير دون إغفال تكريمه بكلمة عمي، ودون تناسي تقبيل يده إذا أقتضت الضرورة، وخاصة شخص مثل ابن سالم الخيُّون الشيخ ثعبان الخيُّون. ولم نكن أولئك الثوريين الممتمردين هوساً ولفت نظر. بل كانت الثورية تسري في عروقنا هادئة وبمناصفة مع مضاداتها، من دون تصادم مع مشاعر وأحاسيس الآخرين. كانت العشيرة تقيمنا من أفواهنا، ولايترددون في احترام أهل اليسار، مع وصفهم دائماً بعبارة (أهل ثقافة). ولا أرى مصادمة بين يساريتي وما كان يراه والدي في تبدل الأحوال. سمعته قال لجمع من بني أسد: مثلما تتبدل الدنيا يجب أن نتبدل! وعندما سأله أحد أصدقائي الكربلائيين، وكنا ببغداد، كيف ترى بغداد بعد فراق المنطقة أجابه: "ألسنا نحن بالعراق"؟ ولم يعترض على زواج أخي من فتاة سُنُّية من الدليم، لكنه اعترض ثم وافق، لأنه أراد له زوجة من الأسرة، ولا أتذكر أنه طرح قضية المذهب عائقاً. وكم شيخ عشيرة كانت يساراً، أحدهم كان الشيخ غانم الخيُّون، عم المغدور فيصل، وكانت عشائرية والد فيصل خريبط فالح الخيُّون، الضابط القاسمي، تجمع بين التأصل في العشيرة والميل لليسار. وقد اعتقل في 8 شباط 1963، وسُجن لأنه رفض شتم عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي. وربما شاركت عشائريته في هذا العناد، لأن الشتم بأمر مذلة كإعلان التوبة تحت السياط! ومثل هذا كان الشاعر الشعبي مجيد جاسم الخيُّون متكوراً على يساريته وملتصقاً بالحزب الشيوعي العراقي مع غزارة حضور دماء المشيخة والعشيرة في عروقه. إلا إن كل هؤلاء لا ينزلون إلى مستوى مخاصمة الدنيا، والتراجع إلى ما قبل حاضرهم. أراها مسايرة عجيبة حقاً.
وعندما كتب فهد الأسدي "غْرَيَّبة و..." حاول أحدهم الوشاية به إلى آل خيُّون بأنه يقصد الإساءة بقصته، ورأيته مستفزاً وخجلاً من العتاب، وقدم تبريراته، وهو اليساري ومن زعامات أنصار السلام في المنطقة، بأن تلك القصة لاتعني أي إساءة، بقدر ما هي قصة استوحاها من واقع عائلة زنجية لدى آل خيُّون. قدم هؤلاء الزنوج من البصرة، حتى أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من عائلة الشيوخ، ولا يخفى أنهم أتراب ابن بحر الجاحظ (ت 255هـ). كانوا أقوياء في زمن المشيخة، التي انتهت رسمياً كسلطة إدارية السنة 1924، بعد قصف بريطاني بواسطة طائرات الهانتر، وكان والدي أحد شهود العيان. قال: نزلت دانة (قنبلة) عملاقة على نخلة شأشاء فارعة وبلمحة بصر غاصت في باطن الأرض، ولم يبق منها غير أطراف السعف! وقيل كانت دسيسة من وزير الداخلية آنذاك عبد المحسن السعدون (انتحر 1928) ضد الشيخ سالم الخيُّون، قصفت المنطقة والشيخ أُخذ منفياً إلى الموصل.
بدأ فهد حياته الكتابية، على ما يذكره جيلي، بقصة دارت أحداثها حول شجرة سدر ألقاها على مسامع طلبته قُبيل درس الإنشاء. كانت شجرة مخيفة وقت الغروب. كيف لا! والأموات كانوا يُغسلون بورقها بعد مزجه بالكافور! ثم نقل أسطورة الهور، التي مازالت تحيرني وتحير الناشئين في تلك الأجواء، إلى عالم الأدب. كان أحفيظ حارس إيشان (تل في داخل الماء وقيل أنها مفردة سومرية)، يحرس دفائن وكنوزاً من الذهب والفضة، وأشجار الفاكهة، التي مثيلها ورد في آيات قرآنية. كان أحفيظ يشجر ناراً، نراها ويتهيأ لنا واقفاً مهيمناً على أطراف البردي والقصب. ترك فهد التعليم، بعد حين من حادث الجمجمة، إلى المحاماة، بعد نيل المرتبة الأولى في كلية الحقوق- الجامعة المستنصرية ببغداد.
ربما وضع حادث معركة عشيرة بني أسد الأخيرة مع محافظة البصرة، بعد قتل سبعة من أبناء شيوخها، فهد الأسدي أمام تساؤل وحيرة يبعثان فيه زمن حمامة السلام العملاقة، وخطاباته اليومية بمحبة الأطفال، وتدشين ناد أدبي، أو مركز ثقافي في دار عشيرته. وهو يعلم ما أن يصدر كتاب له إلا ووصل إلى مسقط رأسه الجبايش، ونظر له أفراد العشيرة نظرة إعجاب و(نوماس)، أن ولدها المتفوه شق طريقه وسط جهابذة الثقافة والأدب وكُتاب الأدب السينمائي ببغداد. لم تكتسح، ولم ترد أن تكتسح، تلك الأيام مشاعر الناس تجاه الإمام الحسين بن علي، ولم تخطط لوقف الحزن السنوي بعاشوراء. بل العكس، كان يجاور خطاب فهد الثقافي خطاب الشيخ أحمد بن الشيخ عبد اللطيف، وهو يقف أمام الموكب الحسيني المتوجه إلى كربلاء، ويقول بعد 14 تموز للإمام الحسين: "سيدي صرنه أحرار موش بحكم استعمار، حي ابن قاسم صار.. يا علي". ويعلو مع حمامة السلام صوت الهازجين باسم الحسين "يحسين إعدل سكان الدنيا ولو مالت بينهَ". وكانت الأهزوجة من وحي الأمر الواقع، حيث يجتمع المحتفون بالمناسبة على ظهر سفينة تمخر عباب شط الفرات جنوباً صوب القرنة، ثم من بعد ذلك يتوجه الجمع إلى كربلاء. وإلا لم يركب الحسين سفينة!
ما أحدثته دولة البعث في عقول العراقيين، من تعقيد لا ينتمي زمنه حتى إلى القرون الأكثر ظلاماً، جعل صاحب "عدن مضاع"، و"طيور السماء" و"الصليب" فهد الأسدي متوارياً ليس مشلول الجسد فقط، بل ومشلول الذاكرة، التي أحاول أن أحركها فيه بذكرى الجمجمة وحمامة السلام، وناديه الأدبي، واضطراره لمسايرة أحسن الأسماء، يوم قَدمَ على تغيير اسم والده (مدفون) إلى (محمود)، مثلما غيَّر صديق لطفولة وصبا أخي الأكبر حميد الخيُّون (أُعدم 1980) من عرنوص إلى اسم أقل غرابة، وللأسف نسيت الاسم الجديد، لا عطباً في ذاكرتي فقط بل لأنه كان منحولاً ومخلوقاً للمجاملة أيضاً. مع علمنا أن أجمل الأسماء هي المسماة من الأب والأم، فهما يعرفان الظروف في إطلاقها، مثل معرفة عبد الله بن عباس بأسباب نزول آيات القرآن وأسمائها.
بنو أسد وشيوخهم لم يشعروا بغربة تصرف من فهد الأسدي، ولا مَنْ شق طريق الثقافة والكتابة من أبنائهم ممَنْ حملوا اسم العشيرة ألقاباً لهم: المسرحي جواد الأسدي، والشاعر والصحافي: خليل الأسدي، والرسام كريم الأسدي، والشاعر كريم الأسدي، والأكاديمي سعيد الأسدي، والفنان رائد محسن الأسدي وغيرهم. فقد ظل هؤلاء في يسار مع واقعهم، فما زالت العشيرة تفتح عقلها للجديد، ولا تبدو متمسكة بداحس والغبراء، ولم تسع في تسيير البلاد بمفاهيمها، بقدر ما تجعل مفاهيمها جزءاً من الحل لا من المشكلة، فليس لهؤلاء مناكفتها أو التعالي عليها إلى حد الاستيحاش، فهي حصة من تاريخهم ونشأتهم الأولى.
لكن ما حصل أن يلقي المثقف بنفسه في أحضان طائفته أو عشيرته، أو أي عصبة أخرى من الأزمنة الغابرة. فلا أخفي حماستي لأبناء عمومتي، من الأسديين المذكورين بدافع ذكرى الأصول، وأنا البعيد عنهم لثلاثة عقود، وأحمل حقدي على دولة وجماعات شريرة اضطرتني إلى تلك الهاوية، ولو لومضة زمن لا أكثر. وجدت بلندن مَنْ ذكرني بها، عندما كان الشيخ سامي اعزارة المعجون يناديني بلقب شيخ، وأنا غير المستغرق فيه مثل استغراقه هو وممارسته للمشيخة داخل المعارضة. لا أجد حقاً أو عدلاً في ثلب العشيرة لذاتها في زمن لا يعيش العراقي فيه بلا عصبة، لهذا عذرت أبناء عمومتي فلا دولة يلوذون بها، ومحافظ البصرة جزء من المشكلة. كانت ذاكرة آل الخيُّون مع دولة البعث مدماة: جميل الخيُّون، أمين الخيُّون، محسن الخيُّون، حميد الخيُّون، مازن الخيُّون. ولاتبدو ذاكرتهم مع اللادولة بأقل دماً. فماذا يكون ردي على احتجاج ابن عمي فاروق ضد تهدئتي ومحاولتي لتقديم العقل على سواه من الأسلحة. قال: قتلوا منا سبعة وهم مستمرون، وتريد منا التعقل؟ أنقتل في بيوتنا؟ المحافظ يعرفهم ويحميهم!
هنا تذكرت ما قاله لي الأديب مير بصري، عندما ذهب يطالب محافظ بغداد خير الله طلفاح بشباب من يهود العراقيين، الذين خُطفوا من الشوارع! قال: لما قال لي طلفاح: لماذا تطلب مني البحث عنهم؟ قلت له: أنت محافظ بغداد ونحن سكان بغداد! عندها قال طلفاح: هذا منطق وأنا أحب المنطق! أنا محافظ بغداد وأنتم سكنة بغداد، ومن حقكم عليَّ المحافظة! وبحث عنهم وأحضرهم إلى بيوتهم سالمين. ما يطلبه العراقيون هذه الساعة، وفي زمن العبث، حتى ولو بقية من منطق خير الله طلفاح! لقد وصلنا إلى ما كنا نخشى منه، وهو المقايسة لا بين الفاضل والمفضول، أو بين الصالح والأصلح، بل بين الهابط والأهبط. هذا ما يحاصرنا جميعاً، ولامفر من قبول الأمر الواقع فليس هناك رماد يخرج منه طير الفينيق أكثر جمالاً.. وما على فهد الأسدي إلا الحلم بعدن مضاع، مبتهلاً أن لا تضيق مساحة الوطن إلى مضارب عشيرة وثقافته إلى مجرد تقاليد طائفة.


غونتر غراس الشجاع
 

فاضل السلطاني
أفرغ غونتر غراس " الحمل الكبير الذي لم يعد يطيقه"، وهو انتماؤه إلى القوات النازية الخاصة "أس. أس" حينما كان في السابعة عشرة من العمر. لم يكشف السر أحد. لقد تطوع الرجل، وهو في خريف عمره، أن يصفي حسابه مع ماضيه، ومع نفسه، حتى لو كانا ينتميان إلى مرحلة الحماقات.
لقد خاض" ضمير ألمانيا الأخلاقي"، وهي تسمية أطلقها عليه الألمان أنفسهم ويستحقها بجدارة، معارك ضارية، ليس داخل ألمانيا وحدها، وإنما في مناطق واسعة من هذا العالم الذي يتعرض فيه الضمير الإنساني إلى الانتهاك كل لحظة. لم يسكت غراس، كما فعل كثير من منتقديه الذين طالبوا بسحب جائزة نوبل عنه، عن اضطهاد الإنسان، مطلق الإنسان، لأن هذا السكوت ينسف أخلاقية المهنة من أساسها، ويسحب من الكاتب مبرر وظيفته أصلاً. وفي هذه الحالة، على الكاتب أن يتقاعد أو يختار مهنة أخرى، كما قال غراس نفسه مرة.
وعربياً، كلنا يذكر وقفته الشجاعة أمام الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، حين رفض أن يتسلم منه وساماً إلا بعد تعهده بالسماح بعودة أحد الكتاب اليمنيين المنفيين إلى بلاده، وهكذا كان.
غراس ينتمي، مع قلة قليلة، إلى اولئك المثقفين الذين "ابتلوا" بحسهم المهني الأخلاقي العالي، وهو جوهر أية عملية ثقافية حقيقية في كل زمان ومكان، منذ زولا الذي أطلق عبارته الشهيرة" إني أتهم"، في القرن التاسع عشر، احتجاجاً على محاكمة اليهودي دريفوس، مروراً بسارتر، منتصف القرن الماضي، الذي اعتبر المثقف مسؤولاً عن أية جريمة تحدث على سطح الأرض، ليس حرفياً بالطبع، بل رفع لدور المثقف، وتحميله مسؤولية كبيرة في كشف القبيح والشاذ، وكل ما يتناقض مع القيم الإنسانية الطبيعية في الحرية والأمن والحب في أي مكان فوق الأرض، وليس انتهاء بغراس في القرن الجديد.
الكتابات التي بقيت، والتي ستبقى، تدين ببقائها لجوهرها الإنساني ليس إلا، وهذا الجوهر لا ينفصل. لا يمكن أن تجليه في هذا المكان، وتهيل عليه التراب في مكان آخر، وإلا سيصيبنا الإنفصام الكامل الذي لا يمكن أن يخلق أية ثقافة حقيقية. فسرعان ما يطل هذا الإنفصال برأسه حين يضعف أو يتراجع حسنا الأخلاقي لهذا السبب أو ذاك، وخاصة أمام إغراء السلطة.
ولكن قبل ذلك، علينا كشف القبيح في دواخلنا وامام أنفسنا أولا وبأنفسنا، مهما كان الثمن، ومهما امتد الزمن. وهذا بالضبط ما فعله غراس الشجاع الذي لم يكن مسؤولاً تماماً عن فعلته في ذلك السن الطائش، حتى مسؤولية قانونية.
كم نحتاج إلى شجاعة غراس! كم يحتاج بعض المثقفين العراقيين والعرب(هل قلت بعضاً؟) إلى ذرة واحدة من ضمير غراس المهني والثقافي؟ هل يعلن احد من هؤلاء أنه أخطأ بالقبض من، أو بالإنتماء إلى، أو الصمت على جرائم هتلر العراقي، وغيره، و" أس. أس" العراقية، وغيرها؟


قصائد

دنى غالي


التفاحة
ثمةَ إمرأةٌ لم تقضمْ التفاحةَ بعدُ،
تسكُنُها الدهشةُ،
يُهَمْهِمُ قلبُه
هي صيدُه
وهو مطعونٌ،
يبكي إثمَهُ منذُ أَن أنزَلها الأرضَ
يدورُ حولَ السريرِ
يُنكِرُ فراشَ الخطيئةِ
المنقوشِ برسمِ الكهوف
يسمعُ صوتَها المتحشرج بـحُلوِ القَضْمة
يَتحسَّسُ الإيقاعَ الخفيّ لغناء أطرافِها
ثُمَّ الضوء، هذا الإنبهارُ في عينيها
كل ذلك يخفُتُ
ينطفيء
المللُ يتوإلى
على هذا السرير
الوحشةُ فيه وخارجه
صوتُ التفاحاتِ المقضومةِ
ترتطمُ بالأرضِ
تتدحرجُ،
تستقرُ أخيراً تحتَهُ
وتنهمرُ منها الأسئلة
لِمَ يظلُّ وجدُه يُضنيه
وتحتلُّها المعرفةْ؟
...
فيما نستغرق
- فيما أظن
لنغالب بعض لوم ضمير
أغرق مكاني
على جلد المقعد
ويلامس قعر زجاج الكأس
ما تحت طرف الكم
البشرة
مقطع بين الثنيات
لشريحة من الضجر
فيما
نظرتك
من خلف شاشة جهازك
توحي بابتسامة متأرجحة
- نحن معاً فيما أظن
بين خيار الحب أو الملل
كما يوحي لهب الشمعة الموقدة
...
الليلة
في المسافة بيننا
مسامات بالكاد تتنفس
شرايين تتثاءب
أعصاب لا توعز بخير
ودم
بين مد وجزر
- فيما جرح ثلاثة أطفال
فيما يظن
وقتل اثنان
وأشار متحدث
والساعة تتجاوز منتصف الليل
وماء الرغبة فينا
ينحسر إلى اقل منسوب له
فيماجنوح
سيجارته تناصب العداء لي
منحاه جديد؛ أن نجنح إلى التبسيط
في أرجاء البيت أعواد ثقاب تحرق ثوابت
دخان يبدد الهواء مغلف النقاء
رماد على شرشف السرير الأبيض
يلعقه بطرف لسانه
وهو ينظر لي بزاوية عينه
ضيقه ليس من ضيقي بحبه الليلة
أنفاسه في سرير الخروقات غريبة
تلوي ذراعا عنيدة
بمنطق يقترب.. هذه الليلة حصراً. من الرهان على الأقوى
وأنا أبحث عن ذراعي الأخرى
الضجرة
لا أجدها


الملحن طالب غالي..أحلام مؤجلة.. وآمال بعيدة المنال (2-2)
 

د: جمانة القروي

من بصرة الجاحظ والسياب، من بين افياء النخيل وأشجار البرتقال، ومن غرين دجلة والفرات يولد وينشأ المبدعون، هذا الثغر الذي انجب العديد من مبدعي العراق من ملحنين وشعراء ومطربين حيث لاتزال إلحانهم وأصواتهم العذبة الرومانسية الشجية، تملأ قلوبنا شوقا وحنينا إلى الوطن البعيد.
طالب غالي واحد من الملحنين العراقيين البارزين الذين ظهروا في نهاية الستينيات من القرن الماضي، صوت بصري ملون بنغمات آلام العراقيين وأنين عذاباتهم. أن أوتار عوده لم تضعف يوما، ولم تنكسر ريشته.. ومازالت أصابعه تداعب الأوتار بنفس الشغف والحنين الذي كان عندما كانت البصرة في أوج تألقها وبهائها، مدينته التي تسكن بين ثنايا روحه والتي لم يهجرها إلا مرغما. الآن وهو في غربته القاسية لم يتوقف يوما عن حبها، ولم يستطع تخطي الحنين إليها، يعيش على أمل اللقاء بها زاهية متألقة كما تركها منذ عقود مضت.

عجبا، لهذه الذاكرة التي لاتزال غضه طرية.. فبعد اكثر من ثلاثين عاما ولاتزال هذه الأبيات عالقة في ذهنه لحد الآن. كما لحن أغنية للمسرحية الغنائية " ليالي الحصاد" التي اداها الفنان المرحوم رياض أحمد وكانت من اخراج قصي البصري، كذلك لحن أغنية لمسرحية " المفتاح" من إخراج الفنان لطيف صالح، كما قام بتلحين بعض المقاطع الموسيقية والغنائية لمسرحية " مؤسسة الجنون" لمحمود درويش، كل ذلك كان عام 1973. تم تسجيل بعض الأغاني لفؤاد سالم منها أغنية "عمي يا بو مركب" من كلمات كريم العراقي، بعد ذلك لحن لسعدون جابر أغنية " هللّه هللّه يا سمه" و " أم راشد" من كلمات طاهر سلمان، كما غنت له الفنانة المعروفة مائدة نزهت أغنية " طاح النده ياكصيبة" وهي من كلمات الشاعر المبدع أبو سرحان.
عندما اشتدت الهجمة على القوى الوطنية والديموقراطية، المحبة لخير ورفاه وتقدم الشعب العراقي، ولم ينجُ مبدع أو فنان أو مثقف من بطش الدكتاتورية المقبورة، غادر الملحن طالب غالي مدينته الحبيبة التي كان لا يطيق فراقها، واضطر إلى الرحيل إلى المنافي فكانت دمشق أولى محطاته، لكنه آثر الرحيل إلى الكويت لقربها من البصرة!!
وما أن استقر في الكويت حتى بدأ مشواره المفعم بالإبداع والألحان الجميلة فكانت الكويت إحدى أهم المحطات المهمة في حياة الفنان الملحن طالب غالي حيث التعاون المشترك والمثمر مع الفنان المبدع فؤاد سالم، واستمرت رحلة الإبداع هذه لأعوام عديدة، لذلك توجب سؤاله عنها. ندت ضحكة قصيرة وحزينة قبل أن يقول: " لما غادرت البصرة الحبيبة حملتها في داخلي وبين طيات وثنايا جسدي، وفي الكويت شعرت باني أتنفس ذلك العبق الطيب الذي يفوح من ثرى مدينتي القريبة البعيدة، ورغم معاناتي الشديدة لبعد عائلتي عني في ظل نظام لا يرحم إلا أن هذه الفترة تعتبر من اخصب الفترات الفنية لي والتي استمرت منذ عام 1979 ولغاية 1985 حيث لحنت حوالي خمسٍ وعشرين أغنية للفنان فؤاد سالم على مدى تلك السنوات. أهم ما قدمناه سوية رائعة بدر شاكر السياب " غريب على الخليج،" التي تم توزيعها من قبل الفنان الراحل شعبان أبو السعد. كانت أبيات هذه القصيدة تعبر تماما عن حالتي لذلك أعتقد أني أعطيتها الإحساس الحقيقي وأنا اعتز بها كثيرا واعتبرها من أهم أعمالي، وكذلك قصيدة الجواهري الكبير " دجلة الخير".
بعد أن غادرفؤاد سالم الكويت افتقدته كثيرا حيث كنت اعرف أبعاد صوته وأتحسس مواقعه القوية، كما كنا نتبادل الرأي والخبرة في اختيار الكلمات والألحان، لذلك شعرت بفراغ كبير بعد رحيله. الحقيقة أن انتاجي لم يقتصر على تلحين الاغاني الفردية فحسب إنما خضت تجربة المسرح الغنائي للأطفال، إذ لحنت ثلاث مسرحيات غنائية للأطفال أهمها مسرحية "سندريلا " التي كتب كلمات أغانيها الأديب فلاح هاشم تضمنت ثلاثة عشر لحنا وحازت على جوائز لاحسن نص وإخراج والحان عام 1985، ثم مسرحية " الطنطل يضحك " التي كتب كلمات اغنياتها حيدر البطاط، والمسرحية الثالثة كانت باسم " سندس" كتب كلماتها فلاح هاشم. وتعتبر هذه المسرحيات باكورة الأعمال المسرحية الغنائية للأطفال في الكويت، حيث لم يعرف هذا الفن هناك سابقا. كما قدمت ألحانا عديدة ومتفرقة لبعض المطربين ومنهم قحطان العطار الذي ترك الكويت قبل أن يتسنى له غناءها. كما عملت مع مؤسسة " الإنتاج البرامجي " وقمت بتلحين المقدمات والنهايات الغنائية لما يزيد عن أربع مسلسلات منها على ما اذكر "الحوت الأبيض"، "جورجي" بصوت ابنتي لنا و " بومبو" بصوت ابنتي سنا.
في عام 1990 حلت كارثة الغزو العراقي للكويت، فغادر هو وعائلته حتى استقر أخيرا في الدانمارك. و ها هي العائلة الواحدة تتفرق كما هو حال آلاف العوائل العراقية التي يحمل أفرادها جنسيات مختلفة.. ويتكلم أولادها لغات متعددة... بعد أن شقوا طريقهم في الحياة ليستقر كل واحد منهم في بلد ما.
سألناه عن مرحلة استقراره وأعماله، في المنفى الأخير " الدانمارك". نظر إلى البعيد حيث أثارت هذه الحقيقة ألما وحزنا عميقين لم يستطع إخفاءهما قبل أن يقول: " نتيجة للرحلة المريرة تلك كان لابد من التأمل فترة من الزمن، لكني آمنت بالواقع وأذعنت مرغما له، وما أن شعرت بنوع من الاستقرار حتى استعدت نشاطي الموسيقي والشعري. بدأت بترجمة حبي وحنيني إلى الوطن وبعدي عنه بالحان موسيقية وكلمات كنت اكتبها أحيانا. لا أزال انزف لمغادرتي ربوع ذلك الوطن الحبيب وحرماني منه ظلما. لقد شعرت بغربتي الحقيقية يوم وصلت الدانمارك فكان كل شيء يختلف، اللغة وأسلوب الحياة والجو.. الكثير الكثير، حيث ترجمت معاناتي بشكل الحان واشعار، كانت بمثابة خزين من الألم والحنين ولوعة الفراق، وقد سكبت فيها كل معاناتي واغترابي عن وطني.." حاول تذكر إحدى أغانيه لكن الذاكرة خانته مرة أخرى، فالتفت إلى أم لنا رفيقة دربه وحياته، وحاولت هي الأخرى استرجاع اللحن.. ثم رويدا رويدا.. بدأت تدندن به وفجأة تذكر اللحن فلمعت عيناه بفرح طفولي، وطفح وجهه بالبشر واحتضن عوده وانطلق يغني بصوته الشجي وبنفس القوة التي تتمتع بها حنجرته " خل يجري دمع الحزن يذكرنا بالأحباب والوطن وآلامه"، و " الله يا وطني عليك كم ألتظي شوقا إليك"، ثم واصل حديثه الشيق قائلا: " في المنفى حيث لا مجال ولا قنوات لتقديم نتاجاتنا الجديدة والتي تحمل همومنا وتطلعاتنا للاهل والوطن وجدنا في الدعوات التي توجهها الجاليات العراقية في بلدان المنافي المتعددة بعضا من مجالات التعبير وتقديم الأغاني الجديدة، وإن لم تكن تفي بطموحاتنا. ففي الدنمارك انجزت ألحان العديد من القصائد لشعراء عراقيين سعدي يوسف، كريم كاصد، محمد سعيد الصكار، خلدون جاويد وغيرهم. من غرائب الأمور ان تمنع اغانينا في الإذاعة العراقية تحت نظام صدام وأن نجد إن الحكومة الحالية لم تلتفت إلينا ولم تنصفنا كذلك، وقد ساهمت من ضمن مجموعة ملحنين عراقيين موجودين في الخارج أيضا في صياغة نشيد وطني جديد للعراق والذي دعت إليه وزارة الثقافة العراقية قبل عامين، ولكن لم يتم اشعارنا بتسلم النشيد ولا حتى ذكر اسماء الذين شاركوا بالمسابقة. قاطعته مضطرة لأساله، ما هي حكاية قصيدة أنشودة المطر التي كنت قد لحنت مقاطع منها، لكنها لم تظهر للنور؟
" كما هو معروف أن قصيدة أنشودة المطر للسياب طويلة جدا فاخترت بعض المقاطع التي تصلح للتلحين وقد شرعت في تلحينها عام 1986 في الكويت، ولم يكن بالعمل اليسير وقد أنجزتها عام 1990 قبل غزو الكويت. وبعد الترحال والشتات، ثم الاستقرار في الدانمارك عدت إليها واعدت صياغة العديد من المقاطع الموسيقية التي كلفتني الكثير من الجهد والتعب، حيث إنها تتضمن " كورال أطفال " و" كورالاً نسائياً " ثم " كورالا رجاليا"، ما يميزها أنها ذات طابع أوبرالي فهي تتكون من سبعة مقاطع، كل منها يختلف عن الآخر إيقاعا ومقاما، سجلتها على حسابي الخاص في سوريا، وللأسف لم يكن التسجيل بالمستوي الذي كنت أحلم به لأسباب مادية. من الممكن أيضا أن تظهر على شكل لوحات راقصة مسرحية، ولكن هيهات، هذا حلم اعتقد انه بعيد المنال.!! " صمت قليلا وتناول عوده وأخذ يغني بعض ألحانه الجميلة المفعمة بالحنين والشوق والحب. وما أن توقف عن العزف وعاد إلى هدوئه حتى سألته؛- مادمنا بصدد الألحان والقصائد والأشعار هل أخبرتنا عن الفرق بين تلحين القصيدة الفصحى والقصيدة العامية، وأيهما أقرب إلى نفسك؟
" لعلاقتي الوثيقة والحميمة بالشعر العمودي والشعر الحر أجد أن القصائد من هذا النوع هي اقرب إلى نفسي، ربما لأني أنا أيضا أكتب الشعر وهذا ما يجعلني أفهم ما يريد الشاعر قوله من وراء السطور ومن خلال الأبيات التي يكتبها وهكذا تجدني أتلاقى، أتمازج مع الشعر الفصيح اكثر، برغم صعوبته في التلحين، بالإضافة إلى صوره المركزة والمكثفة وله تقنية خاصة، وهذا طبعا لا يتنافى مع وجود أشعار باللهجة العامية شديدة العذوبة والجمالية. القصيدة العامية مثل الحبيبة المألوفة التي تعرف أغوارها وخلجاتها، لكن القصيدة الفصحى هي كالحبيبة البعيدة المهيبة، التي يجب أن نكون مستعدين ومتهيئين لها إحساسا وشكلا، لذلك فأنها تفتح أمامي مجالاً أرحب وأوسع وخيالاً أستطيع التحليق به وأنتقل معه من نغم إلى آخر".
لقد لحن للعديد من الشعراء في البصرة أو في المنافي التي انتقل اليها أغاني لاتزال في الذاكرة. من اهم وأحلى محطات الفنان والشاعر المبدع طالب غالي الحياتية الحب الكبير الذي كان يترصده عندما ركب القطار متوجها إلى بغداد في رحلة طلابية عام 1959 حيث كانت تجلس سلمى زوجته ورفيقة حياته ودربه وام اولاده التي خطفت قلبه من أول وهلة، ولاتزال محتفظة به. فسألته عن تاثير هذا الحب على نتاجه الفني؟ مقتحمة هذا الجانب الذي ربما يكون له الكثير من الخصوصية، لكن الفنان طالب غالي وكعادته أجاب بصراحته المعهودة، وبكلمات واضحة وصوت صاف عميق، عمق الزمن الماضي وسنواته ورومانسيته التي لم ولن تغادره ابدا؛ " الحب بحد ذاته يعني العطاء والابداع، الاستمرارية في الحياة التفاؤل، العنفوان.. باعتقادي الحب هو السند القوي والمتين الذي يجعل للحياة معنى رغم كل المحن والانكسارات التي قد تصيب الانسان. كنت قد رسمت في ذهني صورة حبيبة العمر، وما ان التقيت" ام لنا" زوجتي حتى دفعني الحب نحوها، ومن اللقاء الاول احسست بشيء ما يشدني اليها. انها محرك حياتي ولها الفضل الكبير في كل ما كتبته ولحنته، فهي أول من يسمع ألحاني ويقرأ قصائدي، وبفضلها عبرنا المحن والصعاب الكبيرة التي واجهتنا. وأهم شيء في الحب الكبير الذي يربطنا هو انعكاسه على أولادنا فبصماته وآثاره واضحة عليهم جميعا، فعلاقتهم مع بعضهم شديدة الحميمية، وهذا أثمن وأجمل ما حققناه. مازلت وسأبقى ماحييت أعوم في بحر الرومانسية التي لا استطيع التخلي عنها ابدا، وهذه ايضا ألقت بظلالها على الاولاد الذين نشأوا يحبون الموسيقى والرسم والكتابة".
كيف لا ووالدهم من وضع الحانا عذبة تمس شغاف القلب وتحلق بنا إلى نخيل العراق وتحملنا لأرضنا الطيبة...
وبعد...الا يحق لمثل هكذا فنان مبدع، اعطى حياته.. وشبابه للموسيقى والشعر.. أن نحقق له حلمه المتواضع البسيط، بأن ترى قصائده والحانه النور؟


متابعة: مــن مـســـــرح الـبــصــرة مغزى الصعود الى الأسفل
 

حميد عبد المجيد مال الله

في لوحات قصار شبه تعبيرية، تشفر جملاً شعرية، تتصاعد في أزمات عبر تشكيلات حركية، انسانية وعنيفة، تحلق في عذابات روح في برزخ الابدية الغامض، رحلة "الورقاء" ذات التمنع المعاكسة عائدة الى الأعالي..
ما بين الافتتاح الملتبس وبين ستارة غير مسدلة، ثم الغلق وفتح الستارة، تتحرك الدالة بقماشة بيضاء الى منتصف اعلى المنصة لتستقر مشكلة حالة وسطى للاشتغال- كامل العرض- يختم في جو روحاني دالته (الأذان) يضفي على المجريات اطياف حلم وخيال.
عبر ذاكرة لا مألوفة تتوزع على حوارات واصوات وبانتوميم، مع غلبة الحركي، واقتصاد في العلامات الكلامية وتشطير (الذات) الى تشكيل خماسي أداه كل من (حسين فالح وحسن عبد الرزاق وعدنان الماجدي وعلاء مهدي وعباس عبد الستار) اكتفى بحدود (كون الشخصية) المسرحية كياناً من كلمات، وهو ما اجده مقاربة الى التعبيرية التخميس يقترح جملة معانٍ، منها المراحل العمرية للانسان، دالة بعضها علامات طقسية شعبية، الاناء الدائري "صينية" ونبات الآس وشموع موقدة، وترنيمة امومية عراقية "التنويمة" والإرث الروحي "تنغيمة مفردات الاذان" ومن المعاني: الحواس والتقاطاتها الظاهرية والباطنية الغامضة.. معززة بـ "مسرحة" متواصلة منها حوار بين مقنعين: قناع شاب وقناع فتاة- تميز القناعات بالبساطة والتصريح- وكذلك تعامل المؤدين التواصلي كأبدان مشفرة مع بعضهم، ومع تأثيثات فضاء السينوغرافيا بان ذلك في "سرير" الأبدية، والملاءات البيض، وكرسي العوق، وقفص الروح، الاخير استخدام بتنويع لكشف معاناة البدن والروح والمصير اضافة لى دالته الايقونية.. ويكشف صوت شبه مرنم بالآهات تساؤلات وجودية.
لم يخل عرض مسرحية الصعود الى الاسفل من زوائد حركية غامضة وخارجة، كذلك من وجود علامات لم يتعامل معها المؤدون، وهناك مفردات شكلت تناصا ذاتياً في عدة عروض للمخرج هشام شبر، منها "الكرسي" وحركات الاذرع. و(خطاب الموت) بالذات الذي أرى فيه إشارة الى واقعنا التراجيدي الذي يفوق الخيال! والذي يتساوق مع (العنوان) الذي نسج قصائد منتقاة من ديوان الشاعر الفنان الراحل (قصي الناصر) المعنون من (هم الى هم -2006) هذا المسرحي الذي انهى دراسته في معهد الفنون، وواصلها في كلية الفنون وعاجله الموت في حادث فاجع، اشار له (العرض) باطار سيارة معلق، وملابس مدماة مختلطة بأديم الأرض.
البردا
parda التي اختطتها عروض العامين الاخيرين- القليلة- والتي تميزت بتحديها فوضى الواقع المعيش، وتأكيد دور المسرح في زمن مضطرب: احتلال مقيت، وإرهاب مجنون، وجرائم همجية.. تبنى التحدي شباب المسرح، مكيفين اشتغالهم بعروض نهارية لنصوص قصيرة، بشخصيات قليلة، واختيار نصوص لا وجود لعنصر نسائي فيها!
والملاحظة المركزية فيها عوزها للمران الكافي، ونقص في الممارسة، ومحدودية طاقات كوادرها التي تنعكس على مستويات العروض، وافتقارها الى مشروع جديد متطور يواكب الحداثة، ومستجدات فن المسرح.
مسرحية (الصعود الى الاسفل) هي النتاج الثاني لـ (مؤسسة الغدير للثقافة والفنون الإسلامية) عرضت على مسرح قاعة عتبة بن غزوان في البصرة.


رسالة القاهرة: صرخة أهل الجمال.. ضد المجازر
 

علي الشجيري

رغم قرار وقف القتال مازالت المجازر الصهيونية التي ارتكبت على الارض اللبنانية.. تشعل مشاعر الغضب في قلوب كل عربي مما دفع الفنان ليعبر عن تضامنه مع الشعب العربي الشقيق ورفضه تلك الوحشية التي لم يسبق لها نظير.
قاعة 'بورتريه' بشبابها وقيادتها الواعية.. برئاسة د. 'رضا عبدالرحمن' نجحت في تجميع باقة مختارة من كبار فنانينا وشبابنا الواعد في معرض احتجاجي يمثل وثيقة ادانة ليس فقط للكيان الصهيوني بل ولكل من يؤيده ويحميه حتى من مجرد الادانة وامتدت انامل الفنان ايضا لتجسد ملاحم البطولة الفلسطينية التي يسطرها يوميا دفاعا عن الارض والوطن.
بلغ عدد المشاركين 25 فنانا.. تزعمهم الفنان مصطفى الزوار، وضم كلا من احمد نوار، محسن شعلان، احمد فؤاد سليم، صبحي جرجس، حلمي التوني، صلاح المليجي، حمدي عبدالله، رضا عبدالرحمن، محمد عبدالمنعم، اشرف الزمزمي، محمد طلعت 'هيثم نوار' ومن باريس حرص الفنان عبدالرازق ان يكون ممثلا في هذه التظاهرة بعمل جديد سيرسله من باريس.
إذا كان الهدف والموضوع واحداً والقضية مشتركة.. الا أن فنانينا قدموا بانوراما فنية متنوعة تتناول الحدث من جوانب ومعالجات متباينة وان اجتمعوا علي الصدق وتلقائية المشاعر وبساطة الخطوط وحداثة التشكيلات.
وظل اللون هو البطل تميز بالقوة والسخونة وبدرجاته الداكنة وإن ابقوا على اشعاعات ضوئية تعلو الوجوه المؤمنة وتتلألأ في العيون المتحدية الصامدة المبشرة بالنصر..المؤسف أن تختفي المرأة من مثل هذه اللقاءات باستثناء الفنانة د. 'نجلاء سمير'.
من أكثر الاعمال عمقا وتأثيرا.. لوحة لاتصالح بريشة الفنان 'أشرف الزمزمي' تتميز بقوة خطوطها وتشكيلاتها والوانها الساخنة ومغزاها العميق.. وهي تجسيد رائع لواحدة من أشهر وأهم أعمال الشاعر الراحل 'أمل دنقل' التي تحمل نفس العنوان.. وقد عالج لوحته بإسلوب تأثيري رمزي واستعان فيه بالعديد من الخامات والعناصر والحروف والكلمات مارسه على تعميق الإحساس بعمق المأساة وقوة واحقية المقاومة.
وتتتابع اللوحات والاعمال التي تعكس غضبة الفنان ورسالته الاحتجاجية.. بكل الادوات والاتجاهات في أول معرض جماعي يقام بالقاهرة ' وبهذه المناسبة قررت مجموعة بورتريه اصدار ملحق خاص من جريدتهم حول الاعمال المشاركة بجانب مجموعة من اشهر ابداعات الفنانين العالميين الذين تبنوا مثل هذه القضايا الانسانية والوطنية كما يؤكد رئيس تحرير المجلة أيمن شرف.
وبدورنا نأمل أن تطوف ابداعات هذا المعرض كل مدن ومحافظات مصر وأن يخرج من داخل القاعات المعلقة للعرض في الهواء الطلق .


عناق وأعماق.. سعودية بالقاهرة

علي الشجيري

بين العناق والاعماق غاصت ريشة الفنانة السعودية 'هدي العمر' لتقدم لنا في القاهرة 42 لوحة زيتية.. هي وليدة تفاعلها مع البيئة والمجتمع الذي عاشته على شواطئ جدة وبحرها الدافق بالحب والحياة.. وولعها بالتعبير عن بنات جنسها، همومها، احلامها وامالها. بأسلوب يفيض بالرقة والشفافية.
تطرقت الفنانة أيضا.. لقضايا المقهورين من أطفال الحجارة وانتفاضة الاقصي، العراق أو لبنان.. وإن لم يتضمنها معرضها المقام بالقاهرة في مركز النقد والابداع بعنوان 'همس ريشة وبوح قلم'.
لكنها حرصت علي ابراز تلك الموضوعات بتوزيع ديوانها الشعري والفني المشترك مع توأمتها في الابداع الراقي.. الشاعرة 'هداية درويش' لزوار معرضها.. فهو يضم 27 مقطوعة شعرية و 27 رسما.. الغوص فيها متعة للبصر والبصير ولكل عاشق للجمال حيث تتطرق للعديد من القضايا والمشاعر الانسانية العامة أذكر منها 'فلسطين يازهرة المدائن' حصار، صرخة حجر، وحدة وانتماء، صمود، العروس، الغرور، احلام وردية، وغيرها من الموضوعات التي تسير علي نفس خطى معروضات 'هدى' التي نراها اليوم في بلدها الثاني مصر.
المرأة والبحر.. هما بطلا كل لوحاتها والجمال سمة مشتركة في كل خطوطها والوانها المتعطشة للحب والحياة.. العاشقة للانطلاق والسباحة في عوالم لا نهائية.
ساعدها على توصيل افكارها استخدامها لباليه لونية واعية تعرف جيدا متى تصرخ ومتى تغني وإلى أين تسير.
الفنانة هدى العمر متعددة المواهب.. ونموذج للمرأة العربية المثقفة.. لها العديد من الانجازات والمشاركات الفنية والادبية.. وهي حاصلة على 88 درعا من بلادها .

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة