من الضفة الاخرى

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ما بعد الكولونيالية في القصص الأفريقي المعاصر

آندي غرينفالد

ترجمة: نجاح الجبيلي
إن الجانب المشكوك به في مصطلح " ما بعد الكولونيالية " هو البادئة " مابعد" وكي تكون هناك فترة مابعد كولونيالية فإن الكولونيالية يجب أن تواجه موتاً محدداً في نطاق المستعمرة. وعلى الرغم من الاعتراف الرسمي بالاستقلال الوطني في البلدان الأصل إلا أن الكتب التي قرأناها توحي بكولونيالية مستمرة منتشرة وتفاعل مطول بين المجتمعات البريطانية والأفريقية. وكما أوضح جنوا آشبي في كتابه " القارئ ما بعد الكولونيالي ":" كنا نعيش عند مفترق طرق الثقافات" ومع ذلك فإن هذه الرؤية بالنسبة له هي طريقة إيجابية جداً للنظر إلى الأمور لأن " مفترق الطرق ذو فعالية خطرة؛ بسبب أن الإنسان قد يهلك هناك وهو يصارع الأرواح ذات الرؤوس المزدوجة.. ويمكن أن يكون محظوظاً ويرجع إلى شعبه بهبة الرؤيا النبوية". وبالنسبة لآشبي فإن احتشاد الثقافات يخلق ثقافة جديدة سامية تتقدم بطريقة ما على أجزائها كنبوءة. والوجه الأسوأ للتهجين وفق ما جاء في كلماته المقتبسة سيكون مجرد الاضطراب. وهذه نقطة ناقشها بشدة كتاب مثل " أميشيتا" التي تلسع نصوصها الخراب الناتج عن التأثير الكولونيالي والقمع الواقع على ثقافة شعبها. ومع ذلك فأميشيتا نفسها هي مؤلفة ذات ثقافة غربية و تكتب الروايات من إنكلترا، الحقيقة التي تتناقض مع أي قراءة ذات جانب أحادي لروايتها. على أن المرء يجب أن لا يسيء فهم التوفيق المتناسق بين الثقافات من أجل نوع من الحل أو التسوية المثالية. يقيناً أن أغلب كتاب ما بعد الكولونيالية حاولوا من خلال عملهم أن يتعاملوا مع مصطلح ما بعد الكولونيالية كفعل وكأنهم يظهرون المستعمرات السابقة بجانب جديد من الوجود من خلال الكتابة. إن النص ما بعد الكولونيالي هو بالضرورة نص معقد فيه تتصارع الرؤى المثالية للماضي والحاضر مع التغيرات المحتومة وغير المرحب بها أصلاً والتي يخلقها الحكم الكولونيالي. إن فقرة آشبي بعيدة عن الكمال على الرغم من أنه نقح أوجها منها في كتاباته اللاحقة، غير أن انتشار تهجين ثقافي جديد سواء أكان مثالياً أم لا، ساري المفعول بشكل واضح ومحاولات مقاربته والتفاعل معه هو منظور من خلال نصوص مختلفة.
إن الوصف الأشد صراحة للطفولة المهجنة ثقافياً يتمثل في السيرة الذاتية الرقيقة التي كتبها وول سوينكا بعنوان " آكا". بالنسبة لوول الصغير تعد آكا مشهداً خصباً للقصص كلها. توصف زنبقة الكانا كونها تحمل علامات حمراً من أجل دم المسيح بينما البقع البيض غير موضحة لهذا فإن وول يوضحها بنفسه. إن الرمان يحمل أسراراً وقصصاً للأطفال فلا بد من أن يكون هو التفاح في جنة عدن، وبالنسبة لوول كان يعني أكثر من ذلك. كان الرمان أيضاً:
"ملكة سبأ، متمردون وحروب، ألم سالومي، حصار طروادة، إطراء الجمال في نشيد سليمان.. إنه يفتح قبو علي بابا، ينتزع الجني من مصباح علاء الدين وينقر على أوتار القيثارة التي يستعيد بها داود عقله ويشطر مياه النيل ويملأ بيت الكاهن بالبخور من معبد أورشليم المعتم".
على الرغم من أن نيجيريا لا تزال تحت السيطرة البريطانية خلال الفترة التي دوّن بها السرد إلا أن وول كان طفلاً ما بعد كولونيالي. أيامه ولياليه ملأتها " الأرواح المزدوجة الرؤوس" في مقالة آشبي، لكن وسط بيت كاهن آكا الأمين فإنها لا تهدد بل توحي وتخلق فقط.
غير أن أسئلة مختلفة تسمح للقارئ أن يقترب من نغمة إيجابية غير مبررة يقدمها النص بدرجة قوية من الشك. من الواضح أن طفولة سوينكا هي من النوع الثري
فكل من أبيه (المدير) وأمه (صاحبة متجر بارزة) يحتلان مركزين محترمين مهمين في المدينة. ورغبته في التعليم شجعتها عائلته ولم تشجعها الحاجة الإنسانية الأساسية (الجوع، الفقر..الخ). ويجب الأخذ بالاعتبار أن الكتاب ابتكر عدة سنوات أزيلت من الطفولة التي يصفها. لا يهم كم كان سوينكا ملتزماً بفرضيته الخاصة (أي عدم التعليق على ذكريات طفل شاب)، فإن القارئ لا يزال واعياً بموقعه الفعلي في النص وأحياناً يشير إليه في مركز السرد – " أمر مؤذ حدث لبيت الكاهن آك". وبسبب طفولته الثرية كان سوينكا قادراً على استيعاب وجهي كلا الحضارتين بطريقة إيجابية. إن تصور الكتاب هو الذي جعله قادراً على إن يدخل فقرات تبدو سلبية أو في الأقل مشكوكاً بها من قبل القراء إذ يتركها ولا يعلّق عليها. ومن موقع متقدم كان سوينكا قادراً على الثقة بإنجازاته في الحياة لاشتمالها تماماً على الأفضل من بين العالمين.
من خلال قراءة روايتين من زيمبابوي هما " نهاندا" لفيرا و " عظام " لهوف تظهران كونهما أشد اهتماماً بفهرسة الشرور التي ارتكبتها السيطرة الكولونيالية ولا تظهر كونها مهتمة بصورة شديدة بالأمل في المستقبل وهي تتعامل أكثر مع المقاومة المسلحة ضد تسلل الرجل الأبيض ومن خلال أسلوبهما الشعري وإشاراتهما المعقدة المتكررة إلى الشعائر والروحية وهي توحي أحياناً بمناقشة (فرانز فانون) لطور الحضارة القومية والحاجة لتمجيد الثقافة ما قبل الكولونيالية المفقودة.ومع ذلك فإن هذه النصوص، مثل آكا، المكتوبة حول الماضي نابضة بالحياة لأنها تدور حول المواجهة الحادة بين المستعمَر والمستعمِر.إنها من الأهمية بمكان بحيث أنّ رواية " نهاندا" تركز على الصدام الحضاري هذا: وبطلتها التي تشبه الرواة في رواية " عظام" تشير مراراً إلى الأسلاف والشعائر المتهدمة و بصورة رئيسة بعودتها ومولدها من جديد. وقصدها واضح: فالثقافة ما قبل الكولونيالية لا يمكن أن تستأصل فيجب أن تصر على بقاء شعبها. إن رواية " نهاندا" تحذر من قبول الأعراف الجديدة لكن الروائية "فيرا" تعقد نصها ما وراء ذلك بجعل بطلها يصارع ذلك التغيير بإعطاء البنادق لشعبها.
يصر هوف على أن عظام الأسلاف سوف " ترتفع بتلك القوة التي لن تحتويها القبور الصغيرة " ما إن يكف الأطفال عن مشاركة الغرباء في إنشاد أغاني قدرهم".ومع ذلك فإن صورة العظام هي من النوع الغريب. فالعظام توحي بالقوة و الجدارة، شيء ما تميل إليه وتستمد الإلهام منه. ومع ذلك فهي تعوزها الحياة وعقيمة حين تكون لوحدها. وبالنسبة لي يوحي هذا الموتيف بقراءة أكثر مرونة لنص هوف. وهما مقاتلان في توقيرهما للأسلاف ومع ذلك توحي المشاكل المتعلقة بكتابتهما بالحاجة إلى شيء ما أكبر. والروايتان تنظران إلى الماضي كونه مصدراً ضرورياً لقوة المستقبل. ولا ينكر النص التغييرات التي يحدثها صدام الحضارات وكلاهما يلقي بنفسه مباشرة في نقاط التماس ويظهر أنه يثير الأسئلة أكثر مما يجيب عليها.
على الرغم من أن روايتي " الجارية" لأميشيتا و " غابة الأزهار" لسارو ويوا تدوران في زمنين مختلفين إلا أن كلاً منهما يستعمل السرد المباشر في استكشافهما لحظات معينة في الصدام وآثار التهجين التي خلفتها في إثرها. إن أوبجبيتا بطلة أميشيتا تصور كونها لديها القوة والميزة على الرغم من استعبادها لأنها خلافاً لبقية الفتيات اللاتي في خدمة "ما بالاجادا" ما زالت واعية بشعبها التي أتت منه. و تجارة الرقيق التي بيعت خلالها توضع في سياقها التاريخي في النص كونها بقية من النفوذ البرتغالي وقد بيعت من قبل أخيها لرغبته في الحصول على الباونات الإنكليزية لهذا تظهر رواية " الجارية " منذ البداية حافلة بالإدانات ضد الكولونيالية. ومع ذلك فهذه الاستجابة السهلة تقطعها أميشيتا في النص:
كان عليها أن تغطي فمها كي تمنع نفسها من صيحة الفرح. كنّ حقاً على وشك أن يبدون كسيدات أوربيات حقيقيات! بالنسبة لأوجبيتا
كان يمر وقت بحيث أنها شعرت بالإقرار بالجميل لـ"ما بالاغادا" الذي اشتراها..
لا شك في أنها ما زالت تشتاق باستمرار للعودة للبيت، لأن إيبوزا كانت أشبه بشيء يجري في دمك.. لكن في أوقات مثل هذه كانت بالكاد تهتم فيما إذا كانت تعود إلى البيت أم لا".إن الميزة الإجمالية لحياة أوبجبيتا تتحسن بواسطة الرق بسبب الأفكار الغربية عن الملبس والمسيحية التي يفرضها "ما بالاجادا". وحتى قوة " أوبجبيتا" المستمدة من معرفة تراث إيبوزا يقطعها التفاقم التدريجي لحياتها واستعباد جديد عند العودة إلى البيت: " كأن بريطانيا برزت من الحرب أكثر انتصاراً وطالبت بوقف الرق الذي ساعدت على انتشاره في مستعمرات السود، فأوجيبيتا التي هي امرأة في الخامسة والثلاثين غيرت سادتها". لهذا بينما يكون ثمة نقد واضح نحو الصيغ الكولونيالية في القمع ضمن رواية " الجارية" إلا أن نص أميشيتا يتجاوز هذا بالتعليق القاسي على الأعراف السابقة في القمع والتعصب ضمن حضارة إيبوزا. وفي نثر إميشيتا التشاؤمي المعتم لا تبدو أي من الحضارتين كاملة أو مثالية بأي حال.
إن القصص التي اشتهرت بها مجموعة كين سارو ويوا " غابة الأزهار" مليئة بالصور الساخرة لعواقب الكولونيالية على الحضارة المحلية في نيجيريا وهي توحي بتهجين غير شرعي وغير واف للإثنتين. ففي قصة " زيارة المفتش" تصور زيارة موظف صحي كونها تهديداً مباشراً للحياة التقليدية في قرية دوكانا. وفي الفقرة التالية يلقي سارو ويوا الضوء على استعمال الطرق القديمة والحديثة في التأثير على رحلة البحث وإفسادها للمحافظة على الحالة الراهنة: "سيطرت الأرواح على دراجته النارية ووجهته نحو بيت الرئيس حيث أطعمه " بيرابي" بأطايب الحياة وأعطاه وعاء ممتلئا تعرف ما يحتويه وتأكد أنه شرب الخمر حتى انتعش قلبه. ثم قادته الأرواح في الممر نفسه الذي أتى منه.. ورجعت دوكانا مرة أخرى إلى هدوئها المألوف، نعاس، هدوء، وساخة، سعادة ".
هناك مشاهد ضخمة أخرى لهذا العجز القاسي عن التقدم: الناس المتعلمون في الغرب في قصة " رحلة الليل" الذين تغلب عليهم مشاكلهم الشخصية وتصيبهم البيروقراطية بالإحباط فيعجزون عن تقديم أي مساعدة ذات مغزى إلى قرى مثل " دوكانا" وفي قصة " بيت جميل" يسمى الباص المحطم
مصدر الفخر- بطبيعة الحال " التقدم". ومع ذلك فإن سارو ويوا ليس متشائماً بما فعله صدام الحضارات، وهناك تلميحات بأن هذه الحضارة المهجنة تستطيع بالفعل أن تحسن نفسها. في قصة " النجوم السفلى" هناك عامل مكتب مثقف يدعى " إيزي" يمارس بعد نهار مفعم بالإحباط بصيرة الأمل بالمستقبل وبعد إدراك ذلك " كان الأجداد يغرقون في الفساد وعدم الكفاءة والشباب ليست لديهم ثقة بأنفسهم وقابليتهم فانقلبوا إلى الثقة العمياء بالمادية فخلفهم الزمن وراءه، ويهشم إيزي الساعة ويجدّ في طلب الحرية في هواء الليل. وما أن يكون هناك حتى يرى حشداً كبيراً من الناس و " كان يعرف حينئذ أنه كان مجرد واحد من هذا الحشد الذي يواصل التقدم إلى هدف واحد وكان من الضروري أن يؤكد بأنهم كلهم وصلوا هناك بأمان الشحاذ، المقعد، الأصم، الأبكم، الضعيف والقوي على حد سواء. إن المشكلة التي يوحي بها سارو ويوا و يبرهن عليها بهذا الأمل في الحل، هو النقص المستمر لأي حوار حقيقي بين الحضارتين. وبعد عقود من التعايش الهرمي فمن المتوقع من الحضارتين أن تتعايشا الآن سوية متوافقتين. وقصة " روبرت والكلب" تحديداً هي تمرين قاس مدهش في سوء التفاهم الحضاري الأساسي.إن رؤية سارو- ويوا للتهجين هي رؤية محبطة. وفي ذهنه ستبدو إن العصر ما بعد الكولونيالي لا يمكن أن يبدأ حقاً دون حوار مفتوح أو في الأقل الاعتراف بأن التفاعلات التي تبحث عن الكولونيالية لا تزال فعالة.
وبعد القراءات المعتبرة لعدد من النصوص الأفريقية المابعد كولونيالية الأخرى تصبح سيرة سوينكا " آكا" أقل بساطة في رؤيتها المتوافقة مما قد يبدو لأول وهلة. فالشاب وول أحياناً أكثر سعادة بتحويله للأشياء (الرمان إلى تفاح، يونان.. الخ) مما بالتعريفات الأوربية الرسمية.
وهو أيضاً على الرغم من النغمات المألوفة للطفولة الغربية، إلا أنه عضو في حضارة " يوروبا"، التي يجبر " وول " على تذكرها من قبل جده، الذي يضحي بشكل مؤلم بكاحله ومعصمه. وقراءته، مثل ندوبه، توسم وول
فهو يحمل علامة حضارتين موسومة بكلا العالمين. وهو قلق منهما، لهذا، تستطيع أن تلمح من النص بأنه لا بدّ من أن يتخذ طريقه الخاص.
إن فكرة الانطلاقة الجديدة تذكّر من بعض الوجوه برواية آشبي " كثيب نمل السافانا". في تلك الرواية يكون كريس أوريكو في بداية القصة أسمى من زملائه الريفيين بسبب ثقافته الغربية وموقعه في الحكومة. لكن رسالة الرواية واضحة
لا بد من أن يسقط وينضم ثانية إلى شعبه وأخيراً يموت ميتة وضيعة وهو يدافع عن شخص وفي نهاية الرواية وما أن تسقط " القنينة الخضراء الأخيرة " لا محالة حتى يكون شيء ما جديد قادراً على أخذ مكانها. وتنتهي الرواية برؤية صريحة مفعمة بالأمل. ربما مع دخول النساء والتكييف الضروري للحضارة للسماح لها بالبقاء، فالذي يجري خلقه سيكون أكبر عندئذ من مجموع أجزائه. ليست كل الكتب تنتهي بملاحظة إيجابية تماماً لكن التعريف المتأصل لما بعد الكولونيالية كونها حاجة مسلماً بها للتقدم يبدو واضحاً. والسؤال الذي لم تجر الإجابة عليه هو: هل بلغت ما بعد الكولونيالية هدفها؟ لكن كل الروايات تجاهد من أجل مستوى معين من الحضارات المهجنة. التغيير الحضاري لا بدّ منه لكن بالنسبة لهؤلاء الكتاب فإن التطور الحضاري هو الأمل الحقيقي لمستقبل مابعد كولونيالي.


من الذي لا يعرف هاينريش بول؟

ترجمة/ سلمى حربة - (كولونيا- المانيا)

في ذكرى وفاة الروائي الالماني هاينريش بول أفردت جريدة (كولنر شتات أنتسايكر) إحدى صفــحاتها احتفالا بهذه المــناسبة، ضمت فضــلا عن التحــقيق الصحافي الذي قــام به المحرر الأدبــي مع بعـض الذين كان لهم آنذاك الحظ في التعرف إليه عن قرب في قرية " ميرتن "القريبة من مديــنة كولن، لقــاء مـع رئيـس بلدية القـرية و سيرته الذاتـية التي اعتــنت بأهــم الإنجــازات التي تحقـقت في حيــاته، و هذه ترجــمة لمــا جــاء في الصـــــفحة: في السادس عشر من تموز |يوليو عام 1985 توفي هاينـريش بول، الحائز على جائـزة نوبل للآداب، كان في وداعه آنــذاك كثيــرون، ربما كان على رأسهم رئيس ألمانيا الاتحــادية آنذاك، يتذكــر فلفريد بالاو، و هو واحـد من جيرانه، كيــف قدم عام 1982 الى قرية ميــرتن بعد أن ترك مدينة كـولن، و كيف كان الاحتـفال الجنائـزي الذي شارك فيه الكثـير من الكتاب و الفنانين و السياسيين المعروفين، كذلك معارفه و محبيه و كيف رافقت الجموع في الموكب الى مقبرة " آول كاسه "في مدينة ميرتن عدة فرق موسيقية غجرية تعزف الألحان التي كان يحبها، فقد كانت له علاقة متميزة معهم في حياته و كان يعطيهم قيمة خاصة، و يدعم مطالبهم و حقوقهم، و عندما داهمه المرض كان هؤلاء القوم يتناوبون السهر عليه، وإعطاءه الدواء في وقته، يتذكر بالاو كيف أن قبره البسيط لم يكن تقليديا عندما زين بالتصميمات الحديثة التي لم يرها أحد على شاهدة قبر آخر، قام بإنجاز ذلك كله ابن أخ هاينريش بول و اسمه " رينيه " و قد استوحى ذلك من رسومات كتاب " الأمير الصغير " لسانت أكزوبري وبشكل خاص ذلك الشهاب الذي يتبعه شريط من نوره الوهاج مع عشرين شعاعا تحيط بالقمر، مع مذنبات صغيرة تناثرت في الأرجاء،تحيط باسمه هاينريش بول 1917-1985 مع توقيعه محفورا على الحجر.
كثيرا ما يأتي الناس لزيارة القبر، ولا تستغرب أن ترى بين أولئك طلاب مدارس قدموا في رحلة مدرسية لزيارة قبر شخص مشهور، و ربمـا الأكثر من ذلك بالنسبة لهم أنه يشكل جزءا من تاريخهم، و ربما كان ظن الكثير منهم قد خاب وهو ينظر الى القبر لما فيه من بساطة، قد لا تتناسب مع هذا الرجل المشهور.
تقول كارين و هي تسكن قرية ميرتن، أنه صادف أن أهدت الكاتب باقــة ورد في واحـد من أعياد ميلاده فكان أن أهدى لي أحد كتبه بعد أن وضع عليه توقـيـعه.
كل من يعيش في قرية ميرتن، كبيرهم وصغيرهم يعرف ذلك الشخص الذي كان يقوم بجولته اليومــية المعتادة، و لو سألت أحدهــم عنه لأجابك " ومن لا يعرف هاينريش بول "، الرجل الذي له مكانة كبيرة في التاريخ المعاصر.
وعن الذي حدث لمنزل الكاتب الواقع في شارع مارتين رقم 13 تحدث بيتر شفارتز أن ابنه باع المنزل بعد وفاة والدته عام 2004 و السـؤال الذي طالما ردّد هو لماذا لم تشتـر بلدية ميـرتن المنــزل الذي كتب فيه بول كتــاباته الأخيرة، ليحول الى متــحف كامل كمــا هو حاصل للكثــير من الكتاب و الفنــانين؟
حفل تذكاري
بمناسبة ذكرى الوفاة هذه أقامت بلدية قرية ميرتن احتفــالا تذكــاريا حضره الكثير من محبي الكــاتب، بعد ذلك توجـه الجميع لزيارة قبره، ثم افتتــح ابن أخيه معرضا لصور الكاتب الشخصية ضم حوالي 40 صورة فوتوغرافية، ضم أيضا الكثير من الرسائل التي كان يحتــفظ بها أو تلك التي كان يكتبها لأصدقائه، كذلك ضم المعــرض كتبه ومقتــطفات من حياته وبعض صفحات الجرائد التي نشر فيها بعضا من كتاباته، وبعد ذلك شاهد الجــمهور فيلم "مشهد المهرج " المقتبس عن رواية له بالاسم نفسه.
في ذكرى هاينريش بول
التقى محرر الجريدة مع رئيس بلدية ميرتن " فولفكانك هنسلر " الذي قابل الكــاتب مرارا أثناء تجــواله اليومي، وبعد وفاته سعى الى تسمية أحد شوارع ميرتن باسمه و قد تحــقق له ذلك أسوة بالكثـير من الشوارع التي تسمى بأسماء الكتاب و المفكرين في ألمانيا بعد أن يكــونوا قد فارقوا الحياة.
*قبل أكثر من سنة من الآن اشترت إحدى العائلات منزل هاينريش بول بعد أن عرض للبيع، السؤال: لماذا لم تشتر دار البلدية البيت لتحوله الى متحف له؟
هنسلر:بالطبع بيعه بهذه الطريقة خسارة كبيرة لنا، فالوضع المالي لإدارة المدينــة كان سيئا جدا وكان ذلك غير ممــكن بطبيعة الحال.
*في هذا العـام تحتفلون للمرة الأولى بذكرى وفاته ؟
هنسلر:في العشرين سنة الماضية لم نعمل الشيء الكثير لذكراه.
*ما الدافع لإقامة مثل هذا الاحتفال ؟
هنسلر: لكي يبقى هاينريش بول حيا في ذاكرتنا، و أيضا أن قسما من الناس الذين ينتمون الى الأجيال الجديدة لا يعرفونه جيدا، هذه فرصة لكي يتعرفوا إليه.
*هل حقق المكان الذي أقيم فيه الاحتفال غايته ؟
هنسلر: أعتــقد أن ذلك حقـق نجــاحا، الناس في " ميرتن " عرفوه عن قرب وبعضـهم قادر على إعطاء معـلومات عنه، ثــم أن زيارة المقـبرة والوقــوف عند قبـره ذلك كلــه يجعل المشارك في الاحــتفال يشعر أنه بصــدد زيارة شخــص عزيز عليه كان قد فقده،سنحاول أن نجعل من ذلك تقليــدا سنويا.
*أي رواية لهاينريش بول الأحب الى نفسك ؟
هنسلر:(مشهد المهرج) كذلك (صورة جماعية مع السيدة).


فيليب لاركن .. ابرز الشعراء الانكليز في القرن العشرين

ابتسام عبد الله
يقول د. محمد مصطفى بدوي ان ت.س. اليوت يعتبر الشاعر الانكليزي الاشهر لدى العرب وفي العالم ويعود ذلك لاسباب عدة منها ما هو فني خاص وما هو حضاري ثقافي عام.
وقد توفي جيل اليوت وتلاه جيلان من الشعراء البارزين، ينتمي و.هـ. اودن، الى الجيل الثاني منهم، وبرز من الجيل الثالث فيليب لاركن (1925-1985)، الذي يتناول هذا الكتاب نبذة عن حياته ومختارات من قصائده.

ولد فيليب لاركن في مدينة كوفنتري ونشا في بيت يزخر بالكتب لاسيما في الادب الانكليزي الحديث، اذ كان والده مولعاً بقراءة الكتب واقتنائها.
وباقباله على القراءة، عقد لاركن عزمه ومنذ صباه الباكر على هدف معين وهو ان يصبح كاتباً مرموقا. وعلى الرغم من تشجيع والده فانه كان يشعر بان الجو العائلي الذي نشأ فيه يعوزه الدفء والحنان
الشيء الذي نفره من فكرة الزواج كلياً. ويذكر لاركن، انه كان يشعر بالعزلة في طفولته وعزا بعض الدارسين ذلك الى ضعف بصره والى آفة التلعثم التي لازمته حتى حوالي سن الخامسة والثلاثين، مثلما عزا البعض احساسه بالعزلة في اواخر ايامه الى صممه المتزايد.
بعد تخرجه في جامعة اكسفورد، بدأ لاركن النشر في مقتبل شبابه، ومن اعماله الشعرية: "سفينة الشمال
– 1945، روايتان في العامين التاليين وهما: "جيل" و"فتاة في العشرين"، وهذه الاصدارات لم تلفت انتباه النقاد اليها إلا بعد مضي سنوات وذلك عندما واتته الشهرة لاحقا مع صدور ديوانه "الاقل انخداعاً – 1955" و"افراح عيد العنصرة – 1964" و"نوافذ عالية – 1974".
يعتبر فيليب لاركن شاعراً مقلاً، ويرى معظم النقاد ان شعره من اجود ما انتجه القرن العشرون، وقد نشر لاركن اضافة الى اعماله تلك، كتاباً عن موسيقى الجاز - 1970، وآخر في النقد الادبي – 1983، وهو يعترف بانه كان في بداية حياته شديد التأثر بوليم بتلرييتس وبالذات بنتاجه الرمزي الرومانتيكي.
وظل طوال مراحل تطوره يهتم بموسيقى الشعر عامة، وان كانت الموسيقى الحالمة التي تميز نتاجه المبكر بل كان يشوبها من النشار المقصود. اما في ديوانه، "الاقل انخداعاً -1955"، فنجد اختفاء الاسى والحزن ليحل محلهما عالم واقعى بالغ التحديد واقرب في دقائقه الى الحياة اليومية في انكلترا وباسلوب تعبير شديد التركيز ومحاولة لمجابهة الحياة بما فيها من قسوة والم ونزاهة وصدق وبدون اللجوء الى الاوهام والخداع، والسبب في ذلك تأثره الكبير بالشاعر توماس هاردي.
لم يكن لاركن يحس بالفشل نتيجة احساسه المبكر بعدم تقدير الجمهور لانتاجه الادبي المبكر فحسب، وانما كان يشعر بالفشل في علاقته بالنساء، والاحباط، في شعره، هو سمة العمر كله: حاضره، مستقبله وماضيه، وهو يلمح بذلك الى وعيه بمشاكله السيكولوجية نتيجة لقراءاته لفرويد وغيره.
والخوف من اقامة علاقة عاطفية تؤدي الى زواج، ناجم عن احساسه في الطفولة بافتقاره الى الحنان، وهذا الخوف من مجابهة الحياة او السعادة رافقه اقبال على الحياة والمجتمع. فهو ينشد الوحدة او العزلة ويخشاهما ايضاً.
ان مأساة لاركن هي مأساة الانسان الحديث الذي فقد الايمان وخلع عن نفسه جميع الاوهام، فلم يجد في حريته ما يعطى معنى لحياته ولا للحياة عامة، لا في تحرره من الدين ولا في حريته في علاقاته مع النساء، ويظل يبحث عن اليقين وهو يعلم ان لا يقين، وتكمن عبقرية لاركن، في التمكن من التعبير عن كل هذا في شعر محكم يستمد جزئياته من واقع الحياة اليومية بين العاطفة الجياشة والانضباط الفني بين البساطة والصدق بعيداً عن الزيف والتعقيد المتعمد.

مختارات من شعره
البدر مكتمل هذه الليلة
البدر مكتمل هذه الليلة
يؤذي منظره العيون
اذ هو شديد السطوع بالغ التحديد
اتظنه سحب كل ما هنالك من طمأنينة وهدوء ويقين ذي بال ليملأ بها كأسه
وليسك بها قمراً آخر وفردوساً؟
لانها جميعاً قد اختفت من الارض
****
فحم في المدفأة
انكش الفحم في المدفاة ودع اللهب ينطلق
ليطرد ظلمه الظلال
اطل من الحديث بهذه الذريعة او تلك
حتى يسكن الليل
ويدق جرس ناقوس من كل الساعة الثانية
ولكن بعد ان يخطو الضيف خارجاً
الى الشارع حيث تعصف الرياح ويذهب
من ذا الذي يقوى على ان يجابه
عذاب الوحدة الذي يحل فوراً
او ان يشاهد النمو الخزين عبر الذهن
لذلك النبات الخصيب
الفراغ الاخرس
****
لا طريق
منذ ان اتفقنا على ان نهجر الطريق الذي يصل بيننا
وسددنا بابي حديقتينا بالقرميد
وزرعنا اشجاراً لتحجب احدنا عن الآخر
واطلقنا من عقالها جميع عوامل تعرية الزمن
الصمت والفضاء والغرباء
لم يكن لاهمالنا الطريق اثر يذكر
حقاً ربما كانت اوراق الشجر الجافة قد تراكمت
جين لم تكنسها
والنجيل قد طال دون ان نقصه
ولكن لا شيء غير ذلك قد تغير
فالطريق لا يزال ماثلا واضحا لم تكتسحه الحشائش
ولن يبدو غريباً ان مشيت فيه هذه الليلة
فلا يزال ذلك مسموحاً به
****
القصر الشتوي
معظم الناس يزدادون علما كلما تقدموا في السن
اما انا فارفض هذا الهراء
****
لقد قضيت الربع الثاني من قرني
محاولا ان انسى ما تعلمته في الجامعة
وما حدث بعد ذلك رفضت ان افهمه
بحيث اصبحت الان لا اعرف ايا في الاسماء
التي ترد في المنشورات العامة
وبدأت اجرح شعور الناس بنسياني وجوههم
وبقسمي باني لم ازر ابدا اماكن بالذات
واذا امكنني ان امحو من ذاكرتي
ذلك الشيء الذي يسبب الاذى
كان ذلك مكسباً لي
عندئذ لا اعوذ اعلم شيئاً
وينغلق ذهني على نفسه مثل الحقول، مثل الثلج.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة