|
(آلامو) بين الحقيقة التأريخية
والتوظيف الدعائي
جودت
جالي
بنى
الإسبان آلامو في مايعرف الآن بولاية تكساس كمقر لإرسالية
مسيحية تبشيرية على شكل كنيسة صغيرة من الجص عام 1714 مع
ثكنة على شكل (خانات) الطرق الخارجية المألوفة لدينا
تستخدم في أغلب الأحيان كمستودع للمؤن والذخيرة وتقع على
نهر سان آنتونيو ثم أخذ الناس يستقرون قربها في قرية صغيرة
سميت باسمه. حصلت المكسيك على استقلالها من إسبانيا عام
1821 وورثت عنها مساحات شاسعة تقع الآن ضمن الولايات
المتحدة، ولكنها أيضا ورثت مشاكل لاحصر لها فقد ظلت غارات
الهنود الحمر الكومانشي العنيفة لعقود تقلق حياة أهل تكساس
من أصل لاتيني (أطلق عليهم اسم التيخانو) والأمور
الاقتصادية تسير من سيئ الى أسوأ، وهناك أيضا مشكلة الجارة
الولايات المتحدة وهي أمة جديدة في طور التشكل تتمتع
بالحيوية والشراهة لمزيد من الأراضي ويبلغ عدد سكانها
آنذاك 10 ملايين نسمة يتحرك المزيد منهم يوميا نحو الغرب
والجنوب والشمال، وكانت لدى المكسيكيين مخاوف مشروعة من
أطماعهم في أرض تكساس الخصبة البكر قليلة السكان، مع ذلك
أجازت الحكومة المكسيكية اتفاقية وقعتها أسبانيا سابقا
تسمح لعدد محدود من الانجلوأمريكيين بإقامة مستعمرة في
تكساس وفق ضوابط وشروط وقد سمي هؤلاء (تكسانيون) تمييزا
لهم عن سكان تكساس الأصليين(التيخانو). نجحت خطة المستعمرة
ولكن برزت مشاكل ثقافية بين الوافدين الحكومة المكسيكية.
كان التكسانيون يرفضون الخضوع لقوانين المكسيك ويرغبون
بتبني أعراف أصلهم الاجتماعي وثقافتهم الأمريكية كالمحاكم
التي تعتمد مبدأ المحلفين مثلا ويعتبرون المكسيكيين أدنى
منهم عرقيا فيما كان هؤلاء يعدون الأمريكيين برابرة طامعين
لاأخلاق لهم يرفضون الايمان الكاثوليكي. كان الوضع السياسي
المكسيكي من جانب آخر يشهد صراعا بين الليبراليين الذين
يفضلون مزيدا من الحريات والإدارة الذاتية في الولايات
المكسيكية وبين المحافظين الذين يؤيدون الحكم المركزي على
الطراز الإسباني التقليدي. صدر عام 1830 قرار بتأييد من
المحافظين يمنع المزيد من تدفق المهاجرين الأمريكيين الى
تكساس فاستاء التكسانيون وتعاطف معهم التيخانو الذين كانوا
في أغلبهم ذوي ميول ليبرالية. كانت الآمال معقودة على
الجنرال الليبرالي سانتانا الذي يحظى بشعبية متزايدة ولكنه
ما أن أنتخب رئيسا عام 1832 حتى نزع ثوبه الليبرالي وأخذ
يبني نظاما ديكتاتوريا فألغى دستور البلاد وحل مجلس النواب
والتفت منذئذ الى مشكلة تكساس راغبا في طرد من سماهم (البرابرة
الدخلاء) الذين بدأ عددهم المتزايد (كان قرابة 30000) مع
ثبات عدد التيخانو (نحو 4000) يقلق حكومة المكسيك.
بالمقابل نضجت عند التكسانيين، مع تلاشي الأمل بسانتانا،
فكرة اعلان تكساس ولاية لها حكومة وجيش ولكن ضمن المكسيك
لكي لايثيروا حفيظة شركائهم التيخانو في المعركة
الليبرالية وكان هؤلاء فرسانا لايشق لهم غبار ومقاتلين
أشداء حاربوا مع التكسانيين فيما بعد في آلامو وغيرها من
أجل تكساس ليبرالية بل شاركوا في معارك من أجل مستقبل
الولايات المتحدة ولكن الأعمال الفنية الأولى (السينمائية
خصوصا) لم تنصفهم وأبرزت بطولة العرق الأنجلو أمريكي.
شكلوا كونغرساً وأنتخب هنري سميث حاكما و (سام هوستون)
قائدا أعلى لجيش نظامي كان يفتقر الى المقومات. كان
سانتانا يعد نفسه (نابليون الغرب) وهو القائل (حتى لو قيض
لي أن أصبح إلها لطمعت بالمزيد). لم يكن يوجد من خصال
نابليون في سانتانا غير الطموح. بدلا من تجهيز جيشه جيدا
وانتظار الربيع وحمله على السفن أختصارا للزمن والنزول على
الساحل عند أقرب نقطة للهدف قرر أن يسير به فورا مئات
الأميال برا (تعداد الجيش 6019 رجلا بضمنهم قوة الفرسان مع
21 مدفعا).
أما في الجانب الأمريكي فان (سام هوستون) الذي خدم في
الجيش النظامي سابقا ويمتلك حسا عسكريا فقد كان يعرف أن
اجتياح سانتانا لتكساس مسألة وقت لاأكثر، وبما أن جيشها
غير مكتمل فضل أسلوب التراجع أمام جيش سانتانا الى أن يقطع
خط امداداته وينهكه بالمناوشات قبل المعركة الحاسمة، وبهذا
فان معركة آلامو القادمة لم تكن ضمن حساباته الاستراتيجية
فأرسل جيمس بوي على رأس 20 رجلا لمساعدة 104 رجال في آلامو
على هدمها وأخلائها وسحب المدافع الى مكان آمن. كان
المهندسون الإسبان قبل انسحابهم من آلامو قد أجروا تحصينات
على الثكنة وبنوا مواضع للمدافع وقد راق عملهم الأمريكيين
وشرعوا باجراء المزيد من التحسينات وحين وصل بوي وافق على
أنها ستكون فكرة سديدة لو جعلوا آلامو موضع دفاع واشتباك
متقدم. كان جيمس بوي رجلا مغامرا ومقاتلا باسلا يجيد
استعمال السكين وقد صمم سكينا رهيبا يقاتل به ومازال هذا
التصميم يحمل أسمه. جمع ثروة طائلة وامتلك أراضي ولكن
سعادته لم تتم أذ ماتت زوجته وأطفاله بالكوليرا ودمر صحته
ادمان الخمر ولكنه كان لايزال ذلك الرجل الذي ُيهاب ويحترم.
كتب الى الحاكم سميث ((أن أنقاذ تكساس يتوقف على ابقاء
آلامو خارج سيطرة الأعداء)) فأرسل سميث، مخالفا هوستون،
للالتحاق بالموقع والدفاع عنه، 30 رجلا على رأسهم
الكولونيل وليام ترافيس وهو شاب متعطش للشهرة. نزل على
آلامو أيضا ضيوف غير متوقعين هم ديفيد كروكيت و12 من رجاله
الخيالة المتطوعين من تينيسي ببنادقهم الطويلة التي تصيب
هدفها بدقة على بعد 200 ياردة، وكروكيت مثل بوي أسطورة
تمشي على قدمين مشهور في شرق البلاد وغربها كجواب آفاق
مغامر في الغابات وراو بارع للحكايات وله نشاط سياسي أوصله
مرة الى الكونغرس، وهكذا أصبح أكيدا بالتئام شمل المغامرين
الثلاثة على أرض آلامو الصغيرة أن الغلبة ستكون لشعار (النصر
أو الموت). عزز كروكيت ورجاله الناحية الضعيفة من الدفاعات
بأشجار قطعوها وصفوها على طول الجهة الجنوبية وجردوا
أغصانها من الورق ودببوا أطرافها لتكون كل شجرة مجموعة
رماح مشرعة قاتلة.
وصل سانتانا الى مشارف سان أنتونيو يوم 23 شباط 1836.
أختلف المؤرخون في عدد المدافعين عن آلامو مابين 149 الى
250 بضمنهم 35 متطوعا وصلوا في أثناء الحصار تلبية لنداء
ترافيس فاخترقوا صفوف جيش سانتانا ودخلوا آلامو. رفع
المدافعون، بحكم الحاجة، القدرة التدميرية للمدافع ضد
الأفراد بأن وضعوا مع البارود كل ماتقع أيديهم عليه من قطع
حديدية صغيرة كالكريات والمسامير والشظايا واستمرت
المناوشات قرابة أسبوعين أحدثت مدفعية سانتانا خلالها
دمارا هائلا في الدفاعات وفي صفوف رجال آلامو الذين أجهدهم
العمل على التحصين أشهرا ولم يذوقوا طعم النوم خلال الحصار
فصاروا هياكل عظمية رثة الثياب، وبينما كان كروكيت يضع
أحيانا بندقيته جانبا ليروي الحكايات للرجال رفعا
للمعنويات أو يعزف لهم على كمانه كان ترافيس يرسل بين
الحين والآخر شابا صغيرا على حصان سريع يحمل نداء أستغاثة
الى (جميع الأحرار والأمريكيين في كل مكان) من دون طائل.
جاء اليوم الذي أمر فيه سانتانا بشن الهجوم أربع جهات ولم
تصمد آلامو طويلا الا أن الدفاع كان بطوليا مستميتا، قتل
ترافيس على المتاريس وتمزق جسد بوى طعنا بالحراب وهو مصاب
يعاني من الحمى على الفراش ويقال أن كروكيت كان آخر
المدافعين الأحياء مع ثلة تراجعوا الى الكنيسة غير أن
المكسيكيين فتحوا ثغرة عليهم بقذيفة مدفع فأسر كروكيت ومن
معه وأعدموا فورا أو بعد وقت قليل بأمر سانتانا الذي أمر
أيضا بجمع الجثث واشعال النار فيها ولم ينج من الموت سوى
15 من غير المقاتلين سمح لهم سانتانا بالمغادرة بينهم
أمرأة أمريكية وطفلتها وعبد صغير (شكلت مغادرتهم المشهد
الأخير من فيلم جون وين).
لم تدم فرحة سانتانا بانتصاره على عصبة آلامو فبينما كان
يسير بجيشه في أنحاء تكساس الشاسعة ليسقط معاقل التمرد سار
نحوه هوستون وسبقه الى موضع يسمى اليوم باسمه وشن هجوما
مباغتا برجاله قبيل الفجر على جيش سانتانا المنهك وهم
يصيحون (تذكروا آلامو !) وفتكوا بجنوده فتكا ذريعا حتى أن
صبيا طبالا توسل باكيا فأردوه صريعا برصاصة في الرأس. حين
أيقن سانتانا أنه مهزوم لامحالة قرر أن ينجو بجلده فنزع
بزة القائد وارتدى بدلة جندي عادي وهرب ولكنهم ألقوا القبض
عليه في اليوم التالي وهم يجهلون حقيقته ولم يتعرفوا عليه
الا حين سمعوا جنديا أسيرا يخاطبه باحترام (أيها الرئيس)
فأقتيد الى هوستون الذي كان نافذ البصيرة كعادته وساومه
على حياته مقابل توقيعه على أستقلال تكساس ففعل. أحتفظوا
به كضمان سنتين ثم أعيد الى المكسيك، وامتد العمر بسانتانا
ليصبح رئيسا ثلاث مرات أخرى !
لقد شكلت آلامو الرمز الأسطوري لبناء الأمريكا الجديدة
الواحدة ورمز الجود بالنفس من أجل الوطن ولم تتأخر السينما
في أستثمار هذا الرمز الفريد فمنذ نشأة السينما الأمريكية
ظهر فيلم (آلامو الخالدة) 1911 وبعد سنوات قليلة أخرج رائد
السينما غريفيث (شهداء آلامو) عام 1915 وخلال السنوات
الأربعين التالية ظهرت ستة أفلام لكن أيا منها لم يكن أثره
كأثر أنتاج والت ديزني التلفزيوني في الخمسينيات (ديفي
كروكيت) الذي كرس اسطورة كروكيت بتركيزه على هذه الشخصية
فقد ضربت شخصية الممثل الجنوبي فيس باركر الجذابة بعمق على
وتر الخيال الشعبي وقد ساعدت على ذلك وعمقت أثره وجعلته
ظاهرة قوة التلفزيون الانتشارية الجبارة فقد تسنى لملايين
الرجال والنساء والأطفال وهم جالسون في بيوتهم متابعة
القصة على الشاشة الصغيرة وصارت (أنشودة ديفي كروكيت) من
الفولكلور الشعبي يهيم بها الأطفال ولايملون سماعها. ربما
كان أشهر فيلم هو (آلامو) 1960 الذي أخرجه ومثل فيه دور
كروكيت الممثل جون وين وهو أسطورة أيضا ولكن في السينما
وقد كان هذا أول عمل أخراجي له أنجزه بكفاءة غير أنه لم
يتقيد بالوقائع التأريخية فقد جعل وفاة زوجة بوي وأطفاله
في أثناء الحصار بينما الحقيقة أن وفاتهم قبل ذلك بسنوات،
وظهر بوي رجلا ينزع قلبه الى الرقة أحيانا في حين أنه كان
تاجر عبيد عنيدا جلفا لايعرف الرحمة، وكان أسوأ جانب في
الفيلم هو الأحاديث الوطنية المطولة التي يلقيها وين. أن
فيلم (آلامو) عام 2004 هو آخر تجسيد للملحمة ومن أنتاج
ديزني أيضا، وهو يختلف عن كل انتاج سابق بأنه أول التفاصيل
التأريخية اهتماما بالغا فقد ظهر المكسيكيون في الفيلم وهم
يتكلمون اسبانية القرن التاسع عشر والهنود الحمر يتكلمون
لهجة الشيروكي الأصلية، وقد أعطيت مساهمة التيخانو في
الثورة حقها كما أن وجهة النظر غير الأمريكية الى القضية
كانت حاضرة، وظهر ديكور مدينة سان أنتونيو حسب الوصف
التأريخي وأكثر واقعية من ديكور جون وين الذي يشبه ديكور
أفلام رعاة البقر المألوف بينما أعاد فنيو فيلم 2004 بناء
المدينة كما كانت فعلا. ان مخرج الفيلم جون لي هانكوك (49
عاما) وهو من أبناء سان أنتونيو قد وضع نصب عينيه أن يجعل
ذكرى الرجال الذين قاتلوا من الجانبين نضرة الى الأبد في
ذاكرة الأجيال الجديدة وعلى ماكانوا عليه من إنسانية وعيوب
من دون رتوش.
|
