نجيب محفوظ

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

صورة موجزة لمحفوظ
 

ولد نجيب محفوظ في القاهرة عام 1911 وأمضى طفولته في حي الجمالية حيث ولد، ثم انتقل إلى العباسية والحسين والغوريه، وهي أحياء القاهرة القديمة التي أثارت اهتمامه في أعماله الأدبية وفي حياته الخاصة. حصل على إجازة في الفلسفة عام 1934 وفي أثناء إعداده رسالة الماجستير " وقع فريسة لصراع حاد" بين متابعة دراسة الفلسفة وميله إلى الأدب الذي نما في السنوات الأخيرة لتخصصه بعد قراءة العقاد وطه حسين. بدأ كتابة القصة القصيرة عام 1936. وانصرف إلى العمل الأدبي بصورة شبه دائمة بعد التحاقه في الوظيفة العامة.
عمل في عدد من الوظائف الرسمية، ونشر رواياته الأولى عن التاريخ الفرعوني. ولكن موهبته تتجلى في ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) التي انتهى من كتابتها عام 1952 ولم يتسن له نشرها قبل عام 1956 نظرا لضخامة حجمها. نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الطبقة المتوسطة في أحياء القاهرة، فعبر عن همومها وأحلامها، وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية. كما صور حياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في المجتمع. ولكن هذه الأعمال التي اتسمت بالواقعية الحية لم تلبث أن اتخذت طابعا رمزيا كما في رواياته " أولاد حارتنا" و "الحرافيش" و "رحلة ابن فطوطة". بين عامي 1952 و 1959 كتب عددا من السيناريوهات للسينما. ولم تكن هذه السيناريوهات تتصل بأعماله الروائية التي سيتحول عدد منها إلى الشاشة في فترة متأخرة.
ومن هذه الأعمال " بداية ونهاية" و " الثلاثية" و " ثرثرة فوق النيل" و" اللص والكلاب" و " الطريق ". صدر له ما يقارب الخمسين مؤلفا من الروايات والمجموعات القصصية.
ترجمت روايته " زقاق المدق" إلى الفرنسية عام 1970، ونقل عدد من أعماله البارزة إلى لغات متعددة، ولا سيما الفرنسية والإنكليزية، بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1988
.


نجيب محفوظ يبحث عن مكان
 

شاكر الأنباري
في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، تكاد كل مكتبة عراقية، وفي أي محافظة، ان تحتوي على مؤلفات لنجيب محفوظ، وكانت عبارة عن طبعات رخيصة ذات اغلفة ملونة، غير معتنى بتصميمها. طبعات شعبية، ورقها اصفر، وكلها تقريبا من القطع المتوسط. فما الذي جعل من نجيب محفوظ كاتبا شعبيا على هذه الشاكلة؟ وما سبب ذيوع كتاباته في الأوساط الشعبية؟ في بدايات تكوّن الفرد الثقافي، والفكري، يتجه عادة، عند القراءة، الى الأعمال السهلة الفهم، المثيرة للفضول، التي تستطيع ربطه الى الكتاب منذ صفحته الأولى. ربما لهذا السبب، تحديدا، اتجه الشباب، مثلنا، الى روايات جرجي زيدان وآرسين لوبين، وتغريبة بني هلال، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وفيكتور هيغو، وأيام طه حسين، وعبد الحليم عبدالله، ويوسف السباعي وأجاثا كرستي وغيرهم. تلك الكتب، وذلك النمط من التأليف، كان متوائما مع ذهنية القارئ العام، القارئ العربي الداخل الى اعطاف التحضر توا، ولم يكن على اطلاع على اساليب الكتابة الجديدة، ولم يقرأ ديستويفسكي وهمنغواي ومارسيل بروست وكافكا وفوكنر وفيرجينيا وولف، وآخرين من اساتذة الرواية العالمية.
كانت روايات نجيب محفوظ، عند قراءتها العفوية، تلبي فضول فرد عادي، فهي تجذبه الى شخصيات جديدة على بيئته، وتطلعه على اسرار عائلات وموظفين وحارات ووجهات نظر تفتح قليلا من افقه الضيق. الحديث لا يدور هنا عن النخب العربية، بل عن تلك الكتل المهملة، الأمية، التي بالكاد تفك الحرف، وغذاؤها الوحيد الثقافة الشفاهية. هل يمكن القول ان شخصية زيطة، في رواية محفوظ، زقاق المدق، تقترب كثيرا من السرد الشفاهي، المتوالد من حركة الشارع وأعماق المقاهي والحارات الضيقة؟ عند اول قراءة لرادوبيس، غلافها صورة امرأة تستلقي على بلاج او ضفة نهر، وهي تسترجع الزمن الفرعوني، يراصف القارئ بينها وبين احدى روايات جرجي زيدان، على سبيل المثال، التي ترجعه الى ايام العباسيين والفاطميين والمماليك، وذلك التاريخ الغامض الذي برع جرجي زيدان في الاتكاء عليه، وصياغة رواياته العجائبية المليئة بالمغامرات والمؤامرات والأجواء المخدعية، حيث النساء، شجرة الدر مثلا، هن اللواتي كن يسيّرن شؤون الأحداث والممالك والامبراطوريات.
نجيب محفوظ لم يكن جرجي زيدان، فهو دارس للفلسفة ومطلع على ابتكارات النثر الغربي، ومستوعب، بروح الموظف الدؤوب، لحياة جيله المصري والعربي. ظل يتمتع بالاستقرار في حارته، ومدينته، طوال خمسة عقود، ومن هنا تحديدا يطل على القص العربي ذلك التواصل، والنسج البارع لتيار الزمن، وهو يسري في الحارات المصرية، ويجعل من الشخصيات ذات تاريخ مستقر مكانيا.
التفت الى المجتمع الحديث، ليستل منه شخصياته وحاراته وتاريخه، كي يروي حكاية ملونة يمكن قراءتها في اكثر من مستوى. في فترات الصبا تلك، لم نكن نقرأ نجيب محفوظ الا من جانب التشويق والمغامرة والمتعة. وهذه من مستلزمات نجاح أي عمل ادبي، اليس هذا ما يشعر به القارئ لدى دخوله في ثلاثيته الشهيرة، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية؟ لكن توليد المتعة والتشوف الى الصفحة القادمة، وعزل الانسان عما يحيطه، عبر الكلمات وسحرها، يستلزم استذة، ومعلمية، في ترتيب الحدث، وترتيش الشخصيات، وبناء عقدة القص. يستلزم سعة افق لنقل الرائحة، واللون، والقدم، والمثل الشعبي، والنكتة، والقفشة، وبصمات الزمن في الوجوه، والواجهات، والقرى المتناثرة على النيل. ونجيب محفوظ، كان كل ذلك. وهو من دون شك، معلّم الرواية العربية بمفهومها المعاصر، كونه قارب ذلك كله، اجمع. وهو لحظة التأسيس، واضحة المعالم، بين نثرين، تقليدي لمّا يزل ينسج على النمط العثماني، وأدب الرسائل والاخوانيات والأدعية والمراثي، وآخر معاصر ينفتح على الحداثة الأوربية، وتنوير المفكرين العرب. استفاد من خبرات الرواية العالمية بدقة الوعي الفلسفي، وشفافية الأديب العازم على خلق بصمته الخاصة. جاء ذلك التأسيس الروائي عبر اكثر من مستوى، لعل تطويع اللغة العربية كي تتواءم مع نمط السرد الروائي، يعد الأبرز في ذلك التأسيس. لقد امسك محفوظ امكانيات اللغة العربية ليبني شخصيات تاريخية وأخرى معاصرة، شخصيات متعلمة وأخرى جاهلة، نبيلة وساقطة، وصولا الى الشخصيات المتصوفة التي تنطق باللغة العرفانية متعددة الأوجه، في قصصه ورواياته الأخيرة على وجه التحديد.
قرأت روايات نجيب محفوظ وقصصه منذ بداياتي الأدبية، والشيء الذي اعتبره مهما انني لم اشاهد تلك الروايات في السينما، فظلت في داخلي طازجة، وعميقة، لم تتعرض الى أي تسطيح او تحويل او فبركة. فكانت رادوبيس، والثلاثية العملاقة، وكانت السراب واللص والكلاب وأولاد حارتنا وألف ليلة، وغيرها الكثير، مما فتح لي عالما جديدا من النثر الحكائي، والهم العربي، والتساؤلات الروحية والاجتماعية والدينية. يمكن الاستدراك هنا ان الروايات الفذة والعظيمة يصعب تحويلها الى افلام، اذ دائما ما يأتي الفيلم شاحبا، والشخصيات سريعة وضبابية، وهذا ما جرى لرواية ايزابيل اللندي منزل الأرواح، اذ ظلت الرواية اكثر تألقا بكثير. وهذا ينطبق ايضا على رواية ديستويفسكي الجريمة والعقاب، ورواية قصة موت معلن لغاريسيا ماركيز ودكتور زيفاغو وغيرها من روايات، بدت الأفلام المأخوذة منها قليلة المتعة وسطحية.
يمكن قراءة نجيب محفوظ اذن من جوانب عديدة، كأن يكون الجانب السياسي او الديني او الاجتماعي او اللغوي، وهذا الامتياز وحده قمين بوضع ابداع محفوظ في مستوياته الرفيعة من الابداع البشري. حين عرفنا نجيب محفوظ في طفولتنا الأدبية لم نكن نفكر بتلك الجوانب ابدا، هذا ما جاء لاحقا، بعد ان ادركنا نقودا عن الروايات، ونظريات حول الأدب، وفلسفة الحوار في الروايات وأساليب الكتابة. وعرفنا ان هناك شتاينبك واستورياس وكافكا وريمارك وكازينتزاكيس ويشار كمال واكزوبري. ناتالي ساروت وسارتر وارسكين كالدويل وبورخس وبيكيت. في ثنايا كتاباته استطعت الاطلال على روح المجتمع المصري، وشخصياته الثرية والزاخرة بالتنوع والحياة، ووجدت في تلك الروايات مرآة لمصر التاريخ، ومصر الحضارة، ومصر القاع، مثلما وجدت ايضا هموم المجتمعات العربية الأخرى. اذ انه وباستخدام حيثيات الواقع المصري كمادة اولية، استطاع ببراعته الذهنية، وانفتاحه على الثقافة العربية والغربية، في الآن ذاته، ان يعكس هموم المجتمع العربي عامة، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن.
وواحدة من اجمل معالجاته للكبت الجنسي والاستمناء الجسدي والروحي، لمسناها في روايته السراب. التزمت الاجتماعي كان قضية ملحة لمجتمعات خرجت توا من ظلام العصور، حاملة امراضها الى حياة معاصرة، راحت تستفيق توا من غيبوبة التقاليد والتابوات. الشخص المأزوم جنسيا كيف له ان ينتصر في معاركه الكبرى؟ الشخصية منها والوطنية؟ هذا سؤال كبير يجد واحدة من اجاباته في عجز الفرد العربي جنسيا وخصائه الروحي امام ضغط الحداثة، وضغط الزمن. وفي كل خصاء روحي، لابد ان يجد المرء وراءه سلطة ما، وهزيمة ما.
في الثلاثية ايضا هناك رؤية فنية عميقة للكبت الجنسي داخل العائلة، وتصوير لاصطدام الحداثة مع آليات الجسد وأسواره. لحظة الاصطدام تلك قضت على عائلة، وطموحات ابنائها في الارتفاع قليلا على درجات السلم الاجتماعي. اكتشف الضابط الشاب ان اخته الخياطة لم تكن سوى عاهرة. عاهرة اوصلته الى مصاف النخب الحاكمة. ما كان يدهشني في هذا الروائي الفذ، قدرته على تسويغ اللهجة العامية في الحوار بين الشخصيات، والتمكن من لغة وسيطة لا هي بالمتحذلقة ولا بالركيكة، مع براعته في تشويق القارئ وشده كي يتابع أي رواية او قصة يكتبها. كان يذهب الى فكرته بروية وثبات، من دون الاتكاء على الانشاء، مرض العصر في واقعنا العربي. الحقيقة ان معظم الروايات العربية لم تتخلص من عقدة الانشاء، من اللف والدوران على الفكرة او الحدث، ومن اللعب لغويا مع واقع لا يحتمل سوى التعيين والدقة، وأحيانا المباشرة. أي ما يوصف في النظريات الغربية باللغة الكونكريتية. لغة ترتدي الفكرة مثلما ترتدي عارضة الأزياء ثوبها المبهر. تخلص محفوظ من الانشاء، والرمز، والتهويم، والضبابية، برغم انه قارب موضوعة الجنس والسياسة وعالم العاهرات والشحاذين واللصوص والسياسيين ورجال الدين. وهذا ان دل على شيء انما يدل على انسان يمتلك حرية مع الذات لا تحدها حدود. ويمتلك واقعية في تقييم تخلف الانسان الذي يكتب اليه. لم يعترض محفوظ على قرار الأزهر في منع روايته اولاد حارتنا، كونه يدرك شساعة ذلك التخلف، ومحدودية الفرد في الوقوف بوجهه. كما تقبل طعنه في الرقبة من قبل اصولي جاهل بروح متسامحة ورياضية، وهو يعرف جيدا ان ذلك المهووس لم يقرأ كتبه اطلاقا.
اصبح محفوظ هرما جديدا لمصر، وسيظل هرما شامخا امام الروائيين العرب، اذ من النادر اليوم ان نجد كاتبا يمتلك هذا الاصرار والتنوع والعمق الذي امتلكه. ومن النادر ان نجد في السنين القادمات اجماعا على الموهبة والعبقرية الروائية، كذلك الاجماع الذي حظي به بين القراء العرب. انه تجربة مكتملة. وصفه احد النقاد الدانماركيين، حين فاز بجائزة نوبل، بأنه بلزاك العرب. وهذا صحيح من جانب شموليته الفنية للاحاطة بعالم المدينة. والمدينة هي القاهرة. والمدينة هي المقهى والفندق والعبّارة والكورنيش والعمارة وبائعة الهوى والموظف والتاجر وصانع العاهات والضابط والمرشح للانتخابات. ونوبل كانت جديرة بمحفوظ، مع ان كثيرا من الأدباء العرب، حينها، اتكأ على نظرية المؤامرة لتبرير منحه الجائزة. قال البعض ان لجنة الجائزة، (القريبة) طبعا من الصهيونية، كافأته على موقفه من التطبيع مع اسرائيل أيام السادات. اما عشرات الروايات، ومئات القصص، فهي محض هراء اذا ما تم الاعتراف بها من قبل (اعدائنا) الغربيين. الذرائعية اياها التي تحاكم الابداع بمسطرة السياسي(الحريص) اكثر من غيره على المبادئ والوطنية والهموم العربية.
ان نجيب محفوظ تجربة مكتملة حقا. تطور تطورا طبيعيا، في طريقة كتابته وأسلوبه، ولغته، ووصل الى موضوعة الحكمة في الحياة. والحكمة قريبة من التصوف والخطاب العرفاني، وهذا ما صار واضحا في كتاباته الأخيرة في القصة والرواية. أي انه ابتدأ من القاع وانتهى الى نقطة النور، كما يقول المتصوفة. ولذلك اصبح من الصعب عليه الرجوع الى القاع مرة اخرى. ونحن نعرف ان القاع، قاع المدينة او القاع البشري، هو المادة الخام للرواية. وهذا عكس ما جرى لبطل قصة هيرمن هيسة في روايته لعبة الكريات الزجاجية. فبطل الرواية يغادر صومعة الفلسفة والحكمة لينزل الى قاع المدينة، لأنه ضاق ذرعا بلعبة الكريات الزجاجية المقيتة. وتلك هي المفارقة بين الشرق والغرب. كيف يلتقيان اذن؟


قهقهة محفوظ!
 

رياض قاسم
انها المرة الاولى التي ارى فيها حائزاً جائزة نوبل، كانت الصورة الماثلة يومها لنجيب محفوظ قد ازاحت كل ما عداها، لم يعد الحديث عن قيمة كتاباته.. رواياته.. قصصه القصيرة.. سيناريوهاته فتلك ثوابت تقع في مؤخرة الصورة لقد اصبح الحديث الآن عن طباعه.. عاداته.. انشغالاته.. صداقاته.. ولربما تحدث احدهم عن اوقات الكتابة عنده.. وما يحيطها من طقوس. هكذا اذن رأيت القاهرة ودوي حصول محفوظ على الجائزة يملأ كل مساحة فيها.. فذهبت مع نفسي إلى روح هذا المناخ..منغمراً فيه مستعرضاً مع المستعرضين معرفتي او (معلوماتي) عنه.
لقد انصب الاهتمام على الانسان وذلك امر يستهويني ولطالما استدللت من خلاله - وتلك قناعة خاصة - على معرفة البشر والكتاب خاصة. وضمن هذا المناخ عاينت يومه.. عدت إلى الدقة التي تسم يومه والجدية التي يتعامل بها مع الوقت. فحتى تبذيره بجزء منه عمل مدروس.. ومنضبط لذا انتظرته في وقت اعتاد على ان يخرج فيه من منزله ليذهب إلى مقهاه. لقد تابعته ماشياً فلقد اختار ذلك للوصول للمقهى الذي كان يرتاده وقتها - فثمة تنقلات عديدة بين اماكن على مدى سنوات يورد في احاديث صحفية اسباب تركها واختيار غيرها.
لقد تابعته.. مارس ما عرفت انه يمارس كل يوم. كومة الصحف والمجلات التي اخذها.. طريق سيره الثابت عابراً الكوبري الموصول إلى مقهاه. صورته عن بعد.. لا اعرف ان رمقني خلسة وتجاهل ذلك. حين وصل إلى مقهاه.. جاء فنجان القهوة في وقته المحدد.. قلب الصحف والمجلات.. واستقبل من اعتاد ان يجالسوه.. حين ازف الموعد الذي اخبرت عنه قام.. تماماً مثلما اخبروني. دفع ثمن ما شرب وغادر المقهى إلى البيت. كان ذلك مطابقاً لما قالوه.
في اليوم التالي التقيناه عدد من الادباء والصحفيين والدارسين لادبه من العالم والعواصم العربية.
فكان اكتشاف احطناه في (الاهرام) لقد دار الحديث بذكاء لماح وفطنة عالية صنع جواً اراده هو.. حين بدأوا جادين. اطلق قهقهة عالية. سكنت الغرفة وانقلب الجو دفعة واحدة، فصار حديث الادب حديث اصدقاء.. حديث معارف. وليس حديث حائز جائزة نوبل مع ابناء مهنته او مقاربها. لقد تجلت في تلك السويعات روح (محفوظ) وعرفت ساعتها كيف عبر انفاقاً وقفز فوق موانع وحصن نفسه تحصيناً هائلاً ضد كل ما يمنعه من ان يستمر كاتباً، لقد كانت (مصريته) درع مواجهة مصداً ضد كل اعاقة. لقد سعدت وكدت افسد تلقائية ما يجري بحماستي وضحكي المعبر عن ارتياحي.. لقد كان كيبل الضربات لكل ما هو ادنى من الذكاء وابعد عن الحصافة.. لقد كان محفوظ ابن البلد الذي لا يفوته شيء.. لقد كان يسخر من دون ان يجرح من تباهٍ او ادعاء من خلال تنطع او حذلقه.. لم يعد الحديث حديث ادب برغم انه لم يتخطاه.. كان سباق معرفة وحتى ان ملامح الطاهر بن جلون كانت تتغير كل لحظة وكنت ارى الاعجاب في عينيه يتصاعد. عند كل اجابة من محفوظ كلمات او قهقهات. لقد سحبنا جميعنا إلى مناخة ولم نعد ندور الا في فلكه وهو في ذلك يوحي بانه الابسط.. لقد كانت دكنة عدسات نظارته تحاول اخفاء ما يريد ان يخفيه ولكن كيف يمكن ذلك؟
لقد كنت ارى عيونه عبرهما، لا اظن ان ابتسامة تشفي لاحت بل ابتسامة من يعرف انه يعرف كيف يتصرف على الدوام بتلك الطريقة التي لازمته العمر كله..
لا اريد ان اعود إلى كتاباته الآن.. اريد ان اعود إلى الحبور الذي لازمني فترة طويلة واستعيده بلا ملل وانا اغادر مبنى الاهرام.
الذكاء.. ولربما قبل الموهبة هو الذي حل في قلبي توصيفا لنجيب اذا ما اردت ان اتغافل عن قهقهته.


حين يموت نجيب محفوظ .. نظرة في حياة كاتب
 

ببلوغه التسعين من العمر قال نجيب محفوظ : لقد تغير الزمن بشكل أفاد العالم والبشر مهما كان الشر الظاهر المرتبط بأشكال هذا التقدم على مختلف الصعد، أما على مستوى الإنسان الفرد فإن الحياة الطويلة تمنحه متعة من نوع خاص.ولعل متعة نجيب محفوظ الحالية هي التأمل والاستغراق فيه وهذا ما ظهر جلياً في أصداء السيرة الذاتية وهي من أواخر كتاباته كما أن الزمن لدى محفوظ قد احتل جانباً كبيراً من رواياته حيث عبّر عن حقب زمنية مختلفة وأجيال متتالية كما في رواية الثلاثية وحديث الصباح والمساء وغيرها،وهو نفسه يعد مثالاً حياً لعدة حقب متتالية .شبَّ محفوظ وكانت له حياته الخاصة التي تعتمد على التنظيم منذ صغره فهو كما يقول العديد من النقاد نوع من البشر يقدرون على تنظيم علاقاتهم بالعالم من خلال إيقاع خاص ينصتون له بمهارة فريدة، وهذا الإيقاع يستلزم مزيجاً من القدرات الذهنية والخبرات الحسية ويحتاج إلى إرادة تضبط لعبة الاحتياج والمتعة.
وكان نجيب محفوظ يخطط لأن يصبح فيلسوفاً على اعتبار أن مهنة الأدب لم تكن تقابل باحترام كبير في ذاك الوقت وأن الفكر هو صاحب القيمة الأكبر، والأدب كان هامشياً بالنسبة لكتّاب كبار وقتها مثل العقاد وطه حسين، ولكن كان الأدب قدره حين احتل رأسه صراعاً بين الفلسفة والأدب، ويؤكد محفوظ نفسه أنه لو وجدت توجيهاً سليماً من أحد لتغيير مسار حياتي، وكان الأدب هو قدره.عرف عن نجيب محفوظ ولعه بالأماكن والأحياء القديمة وكان يشعر أن بينه وبين هذه المناطق والآثار علاقة غريبة تثير بداخله عواطف حميمة ومشاعر غامضة، ويقول محفوظ إنه لم يكن ممكنا الراحة فيما بعد إلا بالكتابة عن هذه الأماكن.
ثم يتعرض بعد ذلك لطعنة سكين غادرة من يد لا تعي مغزى ومعنى الأدب أو قيمة وأهمية نجيب محفوظ ويترك الكتابة لفترة ثم يعاوده مرة ثانية بعد خمس سنوات ظل خلالها يتدرب على تحريك يده اليمنى نتيجة تأثرها بطعنة السكين، وكانت عودته تجاه الكتابة لها سعادة خاصة لأنه رفض أن تكون الكتابة عبر الإملاء وقد عبر عن ذلك بقوله لو كنت مثل طه حسين قد عودت على الإملاء لأمكنني أن أؤلف الآن من دون الحاجة إلى الكتابة لكنني لم أتعودها.
وقصة عودة محفوظ للكتابة تلخص شخصيته، فهو يستطيع الجمع بين رغباته وبين الالتزام والتواصل مع الإيقاع العام من حوله، ويعزف لحنه الداخلي من دون أن يخرج عن النغمة العمومية، له قدرة فائقة على إقامة الحواجز بين عوالمه الروائية المتعددة وإدارته لطريقة حياته بالتنظيم المتقيد الذي يعد كل شخصية من شخصياته الروائية ملفاً مستقلاً قائما بذاته.
مشوار وجوائز
حاز نجيب محفوظ العديد من الجوائز منذ نصوصه الأولى، أولها كانت جائزة قوت القلوب الدمرداشية عام 1940م، ثم تبعتها جائزة وزارة المعارف عام 1947م عن رواية خان الخليلي، ثم جائزة الدولة عام 1975م عن روايته قصر الشوق، ثم جائزة الدولة التقديرية عام 1968م عن الثلاثية، بعد ذلك نال الاعتراف العالمي بأحقيته في أرفع الجوائز في 13 تشرين الاول 1988م حين حصوله على جائزة نوبل.
وعلى مدار أعوامه التسعين أقام محفوظ قاعدة رصينة من الإبداع ارتكزت عليها الأجيال التالية حتى الآن فقد استطاع محفوظ أن ينقل الرواية العربية من مرحلة المقامة أو (الحدوتة) أو الحكاية الرومانسية إلى مرحلة البناء الروائي المحكم متكامل الأركان.


مقتطفات من حوار مع نجيب محفوظ .. يوم مع نجيب محفوظ
 

  • أطفأ الشمعة 94 ويطالب بتأسيس عاصمة جديدة وترك القاهرة للتاريخ
     

حمدي عابدين
الحوار مع محفوظ لم يكن أمرا سهلا لعدة اعتبارات، منها انه يرفض الحديث عن مفردات حياته الخاصة، كما انه ينفر من الكاميرا لأن «الفلاش» اصبح يرهق بصره، ثم انه وبحكم السن ضعف سمعه، واصبحت ردوده في الغالب الأعم موجزة وتلغرافية جدا، وتعكس أحيانا حالة من اللبس، حيث تتعدد أوجه تفسيراتها وما توحي به أو ترمز إليه.طلبنا من زوجة محفوظ وألححنا أن نعيش معه يوما كاملا، بالكاميرا، نتعرف خلاله على طقوسه وعاداته، لكنها رفضت واعتذرت بلباقة شديدة، متعللة بظروفه الصحية، وأنه لا يستقبل غرباء في بيته، وتلك إحدى عاداته التي ظل يحرص عليها حتى الآن. فكل حواراته يجريها في منتدياته الأسبوعية، لكن زوجته، مع ذلك، لمحت إلى بعض عادات محفوظ اليومية قائلة:
إنه يستيقظ في الثامنة صباحا ويتناول إفطارا خفيفا، عبارة عن خبز وجبن فلاحي، وبعدها يأتيه الحاج صبري السيد في العاشرة ليقرأ له الجرائد الصباحية (الأهرام) و(الأخبار) و(الوفد) و(نصف الدنيا).
نجيب محفوظ قال لي انه يقرأ الوفد من بين الجرائد الحزبية بسبب وفديته القديمة، وقال لي الحاج صبري انه يقرأ نصف الدنيا من بين المجلات المصرية، لأنها تنشر له أحلامه، أما الأهرام والأخبار فيتابع فيهما أخبار الصفحة الأولى والمقالات، ويقرأ التحقيقات والأخبار الثقافية وبريد القراء ورسوم الكاريكاتير وصفحات الوفيات، ويسميها الأديب نجيب محفوظ «صفحة الواجب»، عندما يستوقفه خبر رحيل أحد من محبيه وأصدقائه يجد من الضروري أداء واجب العزاء برقيا.
ـ قلت في المستشفى بعد حادث الاعتداء عليك انك سامحت من قاموا بذلك؟
* كنت قد عملت العملية، وسألوني بعد ما قبضوا عليهم، ماذا تقول لهم، أجبت: مسامحهم، وأنا لست قاضيا.
ـ الدكتور ميلاد حنا تراجع عن تصريحه الذي قال فيه إنه لو حكم الإخوان مصر سوف يهاجر، وقال انه كان كلاما عفوياً، وأنه لن يهجر بلده وسوف يموت هنا ويدفن في تراب مصر، كيف ترى ذلك؟
ـ أنا فهمت موقفه الإنساني، ولم افهمه على أنه يرفض وصول الإخوان للحكم ما دام الشعب المصري سوف يأتي بهم بطريق ديمقراطي أو يرفض تطبيق الشريعة الإسلامية.
ـ لماذا قلت للمسؤولين في «دار الشروق» إن عليهم أن يحصلوا على موافقة الأزهر لو رغبوا في طبع رواية «أولاد حارتنا»، وعرضها على الجمهور في مصر؟
* أنا اتفقت مع رقيب النشر أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على أن انشر «أولاد حارتنا» في الخارج على راحتي، قال لي «عايز تنشرها انشرها بره، لكن بلاش هنا علشان متزعلش الأزهر»، وهذه الاتفاقية أنا ماشٍ عليها وأحترمها وسوف التزم بها مدى حياتي.
.......
ـ وأنت تملي «أحلام فترة النقاهة» على الحاج صبري هل تدخل عليها تعديلات بعد ذلك؟
* لا، أنا لا أطلب منه أن يقرأ ما أمليته عليه مرة أخرى، النص يكون نهائيا بعدما أنتهي من إملائه.
ـ ماذا حدث بعد أن تركت الرقابة؟

* توليت بعدها مباشرة، مسؤولية مؤسسة دعم السينما، وهي مؤسسة خدمات، ثم خرج الدكتور ثروت عكاشة من الوزارة وجاء الدكتور عبد القادر حاتم، وحدث تأميم السينما. وأنا كنت مستشارا أدبيا لمؤسسة السينما بعد تأميمها.
ـ هل أنت راض عن الأفلام التي قدمت عن قصص لك؟
* الذين قدموا هذه الأفلام راعوا أن تكون جيدة، قدر المستطاع.
ـ طه حسين كان معجبا بفيلم «دعاء الكروان» بعد أن استمع إليه في عرض خاص؟
* طه حسين عمل روايات جيدة.
ـ هل أنت مع إلغاء الرقابة على المصنفات الفنية أو استمرارها؟
* إلغاؤها لا، لان الفن يعرض على الجمهور بمعناه الواسع، وهو يحتاج إلى نوع من الإرشاد والرقابة، عندما تقوم بهذا الدور لا تضر الفن أبدا، وإنما تحمي المنتج كما تحمي الفن.
.....
ـ بعض الناس يقولون إنك توقفت عن الكتابة بيدك وأنك أصبحت تبصم؟
* «كدابين». قالها بنبرة غضب وبعدها أخرج الأستاذ نجيب سيجارة من علبة «الكنت» بمعاونة أحد محبيه وأشعلها وراح يدخن بنهم حتى انتهى منها، وهذه السيجارة واحدة من اثنتين يدخنهما في اليوم: الأولى فور وصوله إلى المكان الذي يعقد فيه اللقاء، والثانية في الثامنة مساء.
ـ كيف ترى خلاصة تجربتك في رحلتك مع الأدب والحياة؟
* الإرادة والإيمان.
ـ ماذا تعني بهما.
* أن يكون لديك إيمان بما تكتب وإصرار على ذلك مهما كانت العقبات

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة