فؤاد طه محمد
نقلنا في القسم الاول من هذا الموضوع صور شخصيات ذهبت، وأماكن اندثرت،
ومناسبات بغدادية ضاعت بمضي الايام، ونحن نستكمل توصيف هذه
الصور في هذا القسم.
26ـ الزفة: انقرضت الزفة الشعبية أو كادت في احياء بغداد، وضاع ما كان
يصنعه الناس من تشابيه (حسن خيون) ولعابة الزرع وغيرهما
واختفت تقريباً صورة السراديج وهم يحيطون بالعريس ما بين
الجامع بعد صلاة العشاء وبيت الزوجية السعيد، اما بالنسبة
لحسن خيون فهو مظلوم،
لقد
ثار على السلطة العثمانية فعمل منه
البغداديون لعابة يرقصونها في الافراح والليالي الملاح.
قالوا: مثل الحرش البلزفة،
وزفة ام سلاح، ومبارك عرسك
كال الليلة ادخل، وسمعوا
العريس كالت الخنفسانة زفوني.
27ـ الزورخانة: اختفت وذهبت معها اصوات
المنشدين حول الجفرة من امثال عباس كبير ومهدي المرشد وآخر
زورخانة في الكرخ كانت لبيت ايوب اليتيم في محلة الشيخ بشار
وانقطع اثرها وخبرها كاصحابها.
28ـ الساعي: وكان يعرف بالقطر: وهم سعاة على الاقدام من بقايا التتار في
العراق عرفوا بسعة الخطوات وسرعة العدو كانوا يتقاسمون الطرق
بين المدن إلى مراحل واشتهرت بهم محلة الطاطران. قيل فيهم:
طش الخبر، جوي طَطَرْ، أي متتابعين سراعاً.
29 السقاء: بعد تعميم مشاريع إسالة الماء لم تعد هناك حاجة للسقاء لقد كان
يحمل قربته ويدور بها على البيوت من الصباح إلى المساء يملأ
حباب الماء ويسد حاجتها إليه. وكان بعضهم يستخدم الحمير
لذلك، وفي بغداد دربونة السقاقي وعقد السقاقي، يجري الحساب
بينهم وبين أهل البيت بالخرز أو الحصى، قالت الامثال: كالوله
للسقا رشها البغداد، غركها.
أبرد من ط.. السقا
دقة بدقة وان زدنا زاد السقا
30 ـ السيساني: هو العطار الجوال، يحمل متاعه على ظهر حماره ومهنته
من المهن التي لا يحبذها ابناء العشائر لذلك يفرضون تزويج
بناتهم منه
لتفاهة
عمله وفق العرف الاقطاعي البائد.
31ـ شلغم الطمة: ويتم شيه
برماد الطمة في الآتون بعد وضعه جانباً حيث يسهر صاحبه على
مراقبته ثم يعمد إلى جمعه وحمله في سلة مغطاة بغطاء
سميك، قيل فيه: لو فاتك الشلغم اتمرغل بترابه أو يتمرغل برماد الطمة.
32ـ صندوق الولايات: مع انتشار الاذاعة والصور المرئية والسينما اختفى
صندوق الدنيا ولم يعد الناس يسمعون صوت صاحبه: باوع
بعينك
يا سلام
عنتر
وعبله للامام
فها هو يحمله على ظهره وينصبه
على منصة من خشب ويدير صوره بيده والصغار يحصرون اعينهم
باعين الصندوق ليتمتعوا بتلك الصور الروائع لقاء فلاسين
معدودة.
33ـ طماس البير: كان يتجول بالاطراف رافعاً صوته بين البيوت فيدعوه اهل هذا
البيت أو ذاك ليستخرج لهم ما سقط واستقر في قاع البئر من قدر
أو أناء أو طاسة أو غيرها، وهو يعمد إلى الكلاليب التي
يحملها معه لهذا الغرض، اما إذا كان الشيء الساقط ثقيلاً فهو
مضطر إلى استخدام (شيخ الجناكيل) لاخراجه وتسليمه إلى اهل
البيت، وكثيراً ما كانت تسقط
القطط
في الآبار.
34ـ الفوّالة: أو ام الطش: تدور متغنية بصوتها الاغن
طشة
خرزة.. خيرة تصيب.. يا بنات هذا النصيب.
خبرة تصدك ما تخيب. فتدوعها البنت التي بارت وكسدت بضاعتها لحل عقدتها
وتدعوها الضرة لوضع حد لاندفاع زوجها نحو ضرتها وتدعوها
العمة التي لا تعرف كيف الخلاص من
كنتها.. وصورتها تمثل الجهل وانحسار المد الثقافي آنذاك.
35ـ القرداني (ابو الشواذي): كان يتجول
في
الدروب الفسيحة ومن خلفه قرده الذي رباه وعلمه اداء الحركات
فهو يدق له بالدنبك
ويراقصه ويعلمه كيف تنام العروس وكيف تصحو العجوز وعن طريقه
يلتطق ما في جيوب الناس من عانات وعشرات وهو فرحون.
36ـ القضخون: اختفى اثر القضخون
وانطمرت معه عشرات القصص والحكايات من اسمار بغداد
وسهرات البغداديين في المقاهي أو المجالس المعروفة أو حول
نار الشتاء أو على السطوح في الصيف. آخر القصخونيه
(قمبور) وهو رزوقي الاسكافي رحمه الله. كان للقفف
37 - القفجي:بين
شرائع الماء في الكرخ والرصافة أثر بعيد في حياة بغداد
الاجتماعية قالوا:
طلع من زنبيل وكع بكفه
كفه وليل ومطر، لاجتماع أسباب المتاعب.
38 ـ الكجاوة: هي الهودج، ينصب على سنام البعير فيشكل غرفة صغيرة تستظل
بها ربات الخدور من الهاجرة، وكان الهودج يشاهد في بغداد في
كهاوي عكيل ثم انقرض قالوا:
جتي الكجاوة من بعيد
ومبركعه بخام الجديد
39ـ الكروان: هو ركب المسافرين على الدواب وكان في بغداد عدة
أماكن
لهذا الغرض منها محلة المجارية في الرصافة ومركب الحميد في
الكرخ، سوق الجديد، وكان هذا اسوق خانات قديمة ازيلت فبني
على انفاقها سوق عرف بالجديد، ولم يعد للكروان وجود بعد
انتشار وسائل النقل الحديثة.
40 ـ كسار الخشب: اختفى هو وساطوره وفأسه ولا أثر له اليوم، كان يتجول في
الدروب صائحاً بصوته الاجش (كسار خشب.. كسّار خشب) فيخرج هذا
أو ذاك إليه يكر
لهم ما يريدون من الخشب الضخم المتراكم لديهم، فهذا للتنور
وذاك للمنقلة، وآخر للطبخ، وفيه قالوا:
كسّار الخشب وين الطبر وينه؟
وكان لهم ملتقى عند
شريعة القمرية وسوق الجديد والسجة.
41ـ اللالة: وله دور المربي، يجمع الصبيان ويأخذهم إلى أماكن قريبة في الهواء
الطلق ويعيدهم إلى ذويهم لقاء مشاهدة بسيطة اضافة إلى
مشاركته إياهم بأكلهم ومتاعهم، وفي الرصافة دربونة
عرفت بدربونة اللالات. منهم لالة حمادي ولالة ابراهيم ولالة
هراتي، وفي الاستفهام الانكاري قالوا:
شتريد اصير لك لالة!
32ـ اللمبجي: كان دوره تنظيف الفوانيس
وتعبئتها بالنفط وايقادها أول
حلول
الظلام ومتابعة ادامتها لقاء اجر يتسلمه من امانة العاصمة،
وكان الصبيان العابثون يعمدون إلى اطفائها احياناً ليعود إلى
ايقادها، واقدم من الفوانيس كانت
تستخدم السُرُج
وفيها قالوا:
لو بسراجين، لو بالظلمة، وجاءت الاغنية
لتقول: فانوسكم
ع الدرب هو العمى عيوني.
43 ـ الماشطة: وهي امرأة تقوم على تصنيع العروس وتزيينها وتكون ذكية لبقة
شاطرة لذلك فهي تحاول استرضاء اهل العروس وكسب ود أهل
العريس، وفي ذلك قالوا:
يطلع ويا الماشطة، ويطب ويا ام العروس وهو الشخص حين يكون
انتهازياً
للفرص مستفيداً من كافة الظروف وجميع الاطراف.
44ـ المدار: وهو قطعتان من صخر اسمر تعلو الواحدة على الاخرى فتدور
الفوقانية على التي تحتها وتكون هذه ثابتة ويقوم بعملية
ادارتها حمار معصوب العين، فيلقى بالحبوب بين الصخرتين فيجري
طحنها، وآخر مدار كان منصوباً في بيت المرحوم (محمد سعيد
افندي) في طرف الزيبك وهو البيت الذي آل إلى المرحوم فاضل ثم
إلى ولده حسون صاحب مقهى البيروتي. يقولون في الحائر الذي
شرد فكره فلا يعرف أين يتوجه:
صاير مثل زمال المدار، يدور يدور وهو بمكانه.
45ـ المشعلجي: وهو الوقاد القائم على اشعال النار في
آتون
الحمام بما يتجمع لديه من خرق وازبال وفضلات، ولقد اختفى
اثره بعد استخدام الوقود الحديثة في الحمامات.
46ـ الملا: وهو فقيه الكتاب يعلم الصبيان قراءة القرآن الكريم، وربما دعي
إلى البيوت للالتزام بختمه على روح هذا وذاك لقاء اجر معين،
ويساعده في ادارة الكتاب (الخلفة) ومن الملالي من يدعى
للتعزيم وطرد الشرور وكتابة الحجب وتعويذ الصغار من الفزة
والكبار من الوسواس الخناس. واشتهرت في بغداد من اغاني
الاطفال انشودة
(طلعت الشمسية على قبر عيشة)
ففيها وصف لحياة الصناع في الملا والملا يتضايق من بعض صناعه
فيقول (كل مُلا، عنده عله) وفيه قالوا:
كل يوم يا ملا وجهك اصفر، ولكن الاهل يقولون لابنهم حين يشكو من قسوة ملائه:
يا بني ان عصا الملا من اشجار الجنة.
47ـ الممجد: كان التمجيد يقع قبل اذان العشاء من يوم الخميس وقبل اذان
الظهر من يوم الجمعة، وكان هناك تمجيد آخر وذلك عند الاعلان
عن وفاة شخص حيث يدعى الممجد إلى الجامع أو إلى سطح بيت
المتوفى فيتجمع الناس على صوته، وآخر الممجدين الذين
ادركناهم المرحوم الملا مجيد ابراهيم والمرحوم مرعي
السامرائي الأول في صندل والثاني في حنان.
48ـ النخاس: وهو بائع العبيد، كان يعرضهم للبيع
في
بيته وهم ما بين ذكور وأناث يجلبون من بلاد السودان حسب
تسمية البغداديين وكان آخر بيت للنخاسة هو الذي ذكرناه في
فقرة سابقة (بيت محمد سعيد افندي) وما زال قائماً وقد تساقطت
بعض اركانه، وقد انتهى دور النخاسة لأن الاسلام شرع التحرير
والعتق ولم يشرع الرق.
49ـ النكار: ما زالت تلك الدربونة في الكرخ تعرف باسم بيت النكار وهم من
السادة الوافدين من مدينة حماه، تعاطى جدهم السيد احمد
النكار هذه المهنة واستمر عليها ردماً من الزمن ومثله السيد يحيى الهاشمي وكان عمله ينصب على
إعادة تخريم وجه الرحال التي تآكلت بفعل الطحن المستمر ـ
ومنهم من كان يعمل ذلك قربة لله تعالى.
الوتي: لم تكن له صورة إلا في اذهان الناس ومخيلاتهم فهو الذي يمهد للص ويكتنه
الطريق ويعرف خبايا البيوت وخفاياها ويدل اللصوص على الذخائر
والكنوز فيها، قالوا فيه:
الزم الوتي وخلي الحرامي
لو ما الوتي الحرامي ما باك
وبهذا القدر اليسير نختتم هذه الصور التي اختفت من
على الخارطة البغدادية وبإمكان الكتاب التراثيين تدوين ما
لديهم حولها لتكون سجلاً فولكلورياً للاجيال القادمة، به
يعرفون كيف كانت بغداد قبل مائة عام أو تزيد، وبه يعرفون كيف
حلت الحضارة محل التخلف ليكون لهم من وراء ذلك سبيل لدراسة
خلفية البيئة البغدادية في بساطتها وصورها المختفية في
ذاكرة الاجيال.
|