النظام النقدي العالمي بين نظام
بريتون وودز وسيادة التعويم والفوضى النقدية
عباس ابراهيم البغدادي
افرزت الحرب العالمية الثانية ضرورة قيام نظام نقدي جديد ليعالج الخراب
الذي ساد أوروبا وما صاحبه من انخفاض خطير في المعروض السلعي
خاصة في قطاع الغذاء اضافة الى البطالة الواسعة ودمار البناء
التحتي الذي يشكل دعامة النهوض الاقتصادي وصاحب ذلك تدهور
اسعار الصرف للعملات الاوروبية وموازين المدفوعات وحركة رأس
المال. واندفعت الدول الاوروبية في سباق للدخول في حرب
تجارية داخلية قائمة على التخفيضات المستمرة في عرضها للسلع
في سوق التجارة الدولي كوسيلة للتدخل لتحسين اوضاع الموازين
التجارية مع الدول الاخرى.
ورافق ذلك انفصال كثير من المستعمرات عن الارتباط بالدول المستعمرة فشكل
ذلك انحساراً في الوجود الدولي لبعض العملات الرئيسة كما حدث
للجنيه الاسترليني حيث بدأت رحلة تراجعية عن السيادة
العالمية.
وهذا الواقع اتاح فرصة للولايات المتحدة بالتقدم الاقتصادي على بريطانيا.
واستطاعت ان تتحول الى اكبر دولة دائنة في العالم. ومن هنا
استضافت الولايات المتحدة مؤتمر بريتون وودز عام 1944
والاوروبيين يتتطلعون الى المؤتمر ليساهم في إزالة الركود
الاقتصادي الذي يسود قارتهم. وكان هدف المؤتمر هو إقامة تظام
جديد يضمن حرية التجارة العالمية ويوفر للدول الاعضاء
سيولة نقدية كافية. (اللورد كينز) قدم مشاريع متعددة منها
(اتحاد المقاصة الدولي) ووضع افكار لتحديد القيم النسبية
للعملات ليحول دول العمل المنفرد والدخول في سياق تخفيض
العملات وانشاء انظمة لمعالجة الاختلال عند حدوثه. وكانت
افكاره في إعادة الطمأنينة لعالم مضطرب نقديا.
ولكن الخرائط السياسية المتبدلة بسرعة وظهور مراكز قوى عالمية جديدة، قيام
المعسكر الاشتراكي وخروج كثير من الدول من دائرة الاستعمار
أدى الى حدوث خلافات بين الولايات المتحدة وبريطانيا.
ومشاريع اللورد كينز كانت تهدف الى اعادة مكانة بريطانيا في
السيطرة النقدية والاقتصادية من خلال الدعوة لدورها الخاص في
اتحاد المقاصة الدولي الذي يشبه دور البنوك المركزية في
بلدانها.
مبادئ مؤتمر بريتون وودز
من اول المبادئ التي اقرها المؤتمر انشاء وتطوير حركة ائتمان واسعة حسب
ظروف الاعضاء. أما الذهب فنودي بأن المتطلبات النقدية
الواسعة لا يمكن تغطيتها بذهب كاف فتوجهت الدعوات لتحديد
النقد الدولي لا على اساس كمية الذهب الممكن استخراجه
والاحتياطي الموجودة منه، وانما على اساس حاجة التجارة
الدولية وفي ضوء هذه الحاجة يمكن للعالم ان يزيد او ينقص من
كمية النقود الدولية لمواجهة التضخم والانكماش. وساد التوجه
نحو إسقاط الذهب عن سيطرته في النظام النقدي العالمي. وقدمت
مشاريع كثيرة اخرى وخرج المؤتمر بوثيقة عام 1944 افرزت ظهور
صندوق النقد الدولي وسيطرة الولايات المتحدة وهيمنتها على
النظام النقدي العالمي.
ورغم معارضة الاتحاد السوفييتي السابق احتجاجاً على هذه الهيمنة لكنها اخذت
مجراها وتجاهل المؤتمر الاوضاع النقدية للبلدان النامية.
وجعل اوضاعها هامشياً ونظر قي وثائق المؤتمر الى صندوق النقد
حيث تم الاتفاق على ان القيمة التبادلية لعملة أي عضو سيعبر
عنها بالذهب كأساس مشترك او بالدولار الامريكي كما هي حالته
في اول تموز 1944، ثم اصدر المؤتمر قوائم بأسعار التبادل (Par
Values)
لعدد من الدول الاعضاء. وكان العراق من بين الدول الذي حدد
فيه للدينار العراقي بسعر تعادلي بالنسبة لصندوق النقد
الدولي:
اسم الدولة العملة/دينار وزن الذهب بالجرام
العراق 3.58134
سعر الدولار بالعملة المختصة سعر العملة بالسنت
الامريكي
0.248 403.000
وأطلق الصندوق الدولي لأعضائه امكانية الاستفادة منه عند حدوث عجز طارئ
وغير مزمن وحقق هذا الاتفاق شيئاً من الاستقرار النسبي في
الوضع النقدي العالمي ورغم انه حدثت عمليات تخفيض العملة
ونقصد هنا تخفيض قيمة العملة في سوق الصرف حيث تقرر الدولة
انقاص المحتوى الذهبي الممثل لوحدة النقد الوطنية او انقاص
ما تمثله من عدد الوحدات النقدية الاجنبية.
هكذا رسمت اتفاقية بريتون وودز خارطة الوضع النقدي العالمي وآليات العمل
واستمرت هذه الاتفاقية في العمل حتى عام 1971 حيث انهارت
الاتفاقية ومرت بثلاث مراحل انهت الاولى عام 1958 والثانية
عام 1965 والثالثة عام 1971. واستطاعت اوروبا ان تعيد بناءها
وتنهض من خرابها الذي خلفته الحرب العالمية وصاحب ذلك نهوض
عشرات الشعوب في حركة التحرر الوطني التي اتجهت الى
الاستقلال النقدي والخروج من المناطق النقدية والرقابة على
الصرف والتجارة الخارجية وتكوين بعض الاتحادات النقدية بين
الدول الحديثة الاستقلال كما حدث في غرب افريقيا حيث اصدرت
عملة جديدة للتداول.
وهكذا استفادت اوروبا من النظام النقدي الجديد وتحول الحال من ندرة الدولار
الى وفرته. ففي عام 1958 اكملت اوروبا مرحلة البناء. وغدت
التجارة الدولية تتم في أطر متعددة وبدأ الانتقال من الفترة
الانتقالية الاستثنائية الى اخرى جديدة يمكن تسميتها فترة
النهوض الاقتصادي.
وبدأت اوروبا تتخلص من الفائض الدولاري الى ذهب لإفراطها في حيازة هذه
العملة وبذلك نشأت بوادر ضعف الدولار الامريكي عالمياً
وبعملية التبديل هذه بدأت الولايات المتحدة تفقد كميات كبيرة
من الذهب.
وفي اعوام 1965-1971 هي اعوام انهيار اتفاقية بريتون وودز حيث احتدم الصراع
والتناقضات التي عجلت بموت هذا النظام لينتهي في عام 1971م
حيث اوقفت الولايات المتحدة قابلية تحويل الدولار الى ذهب
ويأتي وراء ذلك التطور اللامتوازي الذي يحكم النمو الرأسمالي
في العالم وظهرت كتل صناعية في غرب اوروبا واليابان وبرزت
عملات قوية وبدأت الثقة بالدولار تتراجع.
في 15 آب 1971 اعلن عن انهاء تحويل الدولار الى ذهب وبذلك انهت الاتفاقية
وساد الاضطراب اسواق الذهب والصرف وظهرت اتفاقية عام 1971
وسميت باتفاقية (سيمو ثو نيان)، وأقدمت الولايات المتحدة من
جانبها على الغاء ضريبة الوارادات وخفضت سعر الدولار بنسبة
7.89% بالنسبة للذهب. وسجل سعر الذهب ارتفاعاً من 35 الى 38
دولاراً للأوقية، وسمي السعر الجديد للدولار بالسعر المركزي
بدلاً من سعر التعادل الذي كان يربط الدولار بالذهب. وسمح
لإسعار الصرف الاخرى ان تنقلب بحدود 2.25% زيادة ونقصاناً
بعد ان كانت هذه الحدود محصورة في + 1% حسب اتفاقية بريتون
وودز. ولجأت الولايات المتحدة الى تخفيض سعر الدولار بنسبة
10% عام 1973 ومارست دول اوروبا الغربية عملية تعويم العملة
إزاء الدولار. واعقب ذلك ارتفاع سعر النفط العالمي مما ساعد
على اتباع اسلوب التعويم (Floating).
وذهب الدولار للجوء الى اساليب جديدة منها اختيار ما نشاء من
نظم الصرف بالنسبة للدول الاوروبية اضافة الى الغاء السعر
الرسمي للذهب أي خضوع ثمنه للعرض والطلب. ثم سادت الفوضى
النقدية بعد ذلك وسجلت الارباح ومعدلات الفائدة انخفاضاً
وظهر التضخم الركودي.
الاضطراب النقدي العالمي
ساد التعويم للعملات الرئيسة القوية كظاهرة عالمية في فترة الثمانينيات
وسبقه سقوط سعر الذهب الرسمي. واصبح خاضعاً للعرض والطلب كأي
سلعة اخرى وهي النهاية العملية لاتفاقية بريتون وودز وانعكس
الامر على النظام الراسمالي وهياكله. وأدت هذه الظاهرة الى
تراجع حجم الاستثمارات والنمو وانتشار البطالة والتضخم وقلة
نسبة الارباح. وبدأت مظاهر الاختلاف بين اوربا واليابان
والولايات المتحدة في درجات النمو المختلفة.
واصبحت البلدان النامية تتأثر بالاضطرابات النقدية العالمية وكانت مرحلة
الاستعمار هي الاوضح في تجسيد هذه الحالة حيث الاقتصاد
وهيكله قائم على اساس تسويق المواد الاولية للدول الصناعية
وهنا نشأت القاعدة التي حكمت هذه الدول (استهلاك ما لا تنتج
وانتاج ما لا تستهلك) وقد سببت الازمة النقدية العالمية جملة
امراض على اقتصاد البلدان النامية تراوحت بين تدهور اسعار
العملات الى العجز في ميزان المدفوعات وسيادة المديونية
الخارجية وزيادة وتائر التضخم.
ونشير هنا الى تدهور اسعار الصرف للعملات المحلية امام العملات الاجنبية،
والمداخلة هنا بأن سعر الصرف يتوقف على مستوى الطلب والعرض
للنقد الاجنبي في حالة تساويهما او زيادة احدهما على الاخر
وتعرض سعر الصرف لحالة الاختلال حيث الطلب الكبير على النقد
الاجنبي.
وتدخل الدولة امر وارد للمحافظة على سعر الصرف في السوق النقدية. وهنا تبرز
اهمية الانظمة العالمية للسيطرة على اسواق الصرف حفاظاً على
التوازن ولكن الذي حدث هو عجز هذه الانظمة في السيطرة على
تدني اسعار صرف العملات المحلية امام العملات الرئيسة بسبب
خلل هيكلي اقتصادي اجتماعي.
وإزاء هذه الحالة اتجهت البلدان النامية الى تعديل انظمة صرف العملات عن
طريق التعويم او ربط عملاتها المحلية بالعملات الرئيسة. ولكن
كل هذه الاجراءات لم تحقق الاستقرار لاسعار الصرف لعملات هذه
البلدان وساد الاضطراب احوال النقد واتبعت بعض دول العالم
الثالث سياسات انفتاحية مقللة من القيود التجارية ورفع يد
الدولة عن مراقبة اسعار الصرف مما تسبب في اضرار اقتصادية
خطيرة. اما البلدان التي تضع سعراً رسمياً للصرف فقد ظهرت
لديها ظاهرة السوق السوداء، باسعار منافسة للاسعار الرسمية
ونتيجة لاتساع حجم التضخم وانخفاض القدرة الشرائية للعملات
المحلية تبلورت مظاهر جديدة وهو تحويل النقد المحلي الى
عملات اجنبية وحيازتها اضافة الى تهريب هذه الاموال للخارج.
ان النظام النقدي الذي اعقب سقوط اتفاقية بريتون وودز وما صاحبه من فوضى
نقدية، اضطر البلدان النامية الى السعي للحصول على قروض من
المؤسسات المالية الرأسمالية التي تعاني الافلاس لعدم قدرة
المستدين على الايفاء بالديون. وحاولت الدول المختلفة ان
تخلق من بلدانها ممولاً لمشروعاتها وتشدد الرقابة على
الرأسمال الاجنبي.
|