الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الوجدان الطريق

فائق بطي

17 تشرين الثاني 1971

دوّن في دفتره بعض المقتطفات من المقالات الافتتاحية لصحف الصباح على اثر اعلان بنود ميثاق العمل الوطني.

قالت (الجمهورية):

(...ان الميثاق الذي طرحه حزب البعث العربي الاشتراكي هو ميثاق مبادىء الى جانب كونه ميثاق عمل، وهذه المبادىء مشتركة لكل القوى التقدمية والوطنية وتعتبر بمثابة نقاط الالتقاء الرئيسة في طريق العمل المشترك... كما انها حصيلة مفاهيم وستراتيجية اطراف القوى الوطنية التي يشعر البعث بأن بألامكان السير معها في طريق العمل المشترك ضمن الاهداف المرحلية الواضحة المعالم، البعيدة كل البعد عن التناقضات الثانوية..)

وقالت جريدة (الثورة):

(...ان امام القوى الوطنية في هذا القطر فرصة تاريخية تفرضها الظروف الموضوعية التي تضعها في صف واحد، وتتطلبها شروط انماء هذه الثورة والطاقات والامكانات الزاخرة في هذا القطر المستعد للتضحية..)

اما جريدة(التآخي) لسان الحزب الديمقراطي الكردستاني الحليف، فقالت:

(...منذ صدور بيان 11 آذار التاريخي كان حزبنا يطالب بتوسيع هذا التحالف وتوسيع قاعدة الحكم وتحمل المسؤولية بحيث تستوعب جميع الاحزاب والقوى الوطنية التي كانت ولا تزال تلعب دورا مهما في الحياة السياسية والتي يهمها ضمان سير البلاد في طريق معاداة الاستعمار والرجعية والصهيونية، وانجاز مهام بناء المجتمع التقدمي وتعزيز الوحدة الوطنية...)

التفت اليه (يوسف عويد) وقال:

-ما رأيك الآن بعد اعلان الميثاق الوطني؟

-المهم النية الصافية الصادقة.. فعلى نياتكم ترزقون...

طرق يوسف يفكر ثواني، ثم تفتق ذهنه عن اطروحة مرتبكة غير موفق في طرحها او في واقعيتها، فأضاف:

-لربما يعيدون لثورة 14 تموز وطنيتها ومسيرتها الديمقراطية؟

-ماذا تقول يا يوسف؟

-هناك شبه في المسار وفي البرامج المطروحة.

راح يشرح ليوسف بديهيات البرامج السياسية الوطنية حين قال له:

-كان المفروض ان تتحقق مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ابان السنتين الاولى من نجاح ثورة  تموز.

-كيف؟

-بالتحديد، تصفية الوجود الاستعماري بجميع ركائزه الاقتصادية والسياسية وازالة القواعد العسكرية، وذلك بتحطيم النظام الملكي الرجعي وتشييد الجمهورية وخروج العراق من منطقة النفوذ الاسترليني، والخروج من حلف بغداد العسكري. فماذا حصل بعد ذلك؟ اغتالوا الثورة  بمخطط امريكي لانهاء الوضع الثوري آنذاك.

-ولكن المهم اننا حطمنا الاستعمار واحلافه العسكرية.

-هذا صحيح الى حد ما، ولكن الاستعمار يحاول الدخول من الشباك.

 

كادت حبات السبحة الكهرب  تهرب من بين اصابع يوسف وهو يجاهد لحبس بعضها وقال:

-وماذا حصل بعد السنتين؟

-ومن المهام الاخرى الهامة التي تحدد مسار الثورة،  تحطيم العلاقات الاقطاعية واجراء تحولات جذرية في الزراعة وحل المسألة الزراعية عن طريق الاصلاح الزراعي، ولكن نجح الاقطاعيون وايتام العهد الملكي الذين اصبحوا من قوى المعارضة القومية  في تجميد القانون، وان طبق بصورة جيدة في بداية الثورة، وانتزعت الاقطاعيات من يد حفنة من اعداء الشعب، الا ان الفلاح المعدم لم يستفد شيئا، وتحّول قسم منهم الى اداة طيعة بيد السراكيل (الديمقراطيين).

-يعني؟

-وجود طبقة اغنياء الفلاحين بدلا من الاقطاعيين.

ابتسم يوسف وهو يعرج على المسألة الكردية مستبشرا ببيان 11 آذار. رد عليه قائلا:

-اقرار الحقوق القومية للشعب الكردي يجب ان يخضع الى حل علمي للمسألة القومية يتوّج بحل ديمقراطي سلمي. وما جرى في آذار 1970. لم يكن مفاجأة، فقد سبق لعبد الكريم قاسم ومن بعده في انقلاب شباط وفي عهدي العارفين ان حصل اخواننا الاكراد على الوعود..

-يعني انك تشك بجدية البعث.. وماذا بشأن المهام الاخرى؟

-ثورة 14 تموز انتهجت سياسة التعايش السلمي بين الدول ونبذ سباق التسلح وناضل شعبنا من اجل صيانة السلم العالمي وذلك عن طريق تحشيد كبير في حركة انصار السلام منذ عشرات السنين. وهذا يعني ان تتخذ السلطة الجديدة مواقف حازمة ضد المصالح الامبريالية وليس برفع الشعارات. كما ان ثورة تموز سارعت الى بناء  صناعة وطنية وتنمية القوى المنتجة، فعاد حكام شباط وبعدهم، بعرقلة سياسة التصنيع وهذا بدوره ينعكس على مهمة رفع مستوى الشعب المادي والروحي.

ضاق يوسف ذرعا واراد ان يخرج بنتيجة تؤكد له توقعاته بقرب انفراج ازمة الحكم الجديد، فقال:

-ما من شك ان ميثاق العمل الوطني المطروح سوف يساعد على تشكيل الجبهة الوطنية والتي بدورها، اي الجبهة، ستعمل على اشاعة الديمقراطية في البلاد.

-اشاعة الديمقراطية في الحياة الاجتماعية يجب ان تقوم بمشاركة الجماهير في ادارة شؤون الدولة. فهل حزب البعث على استعداد لمثل تلك المهمة؟ وبالتالي، فمثل هذه الخطوة تستلزم اولا الشروع باصلاح مؤسسات الدولة وبناء جهازها بما يتناسب وتحقيق المهام الكبرى المطروحة امام الشعب.

-اي انك تريدها دولة ديمقراطية.

-الا تريدها انت كذلك يا ايها الديمقراطي؟

-ومن يحقق مثل تلك الدولة يا ترى؟

-قوى الشعب صاحبة المصلحة في التغيير الثورة ان اردنا ان تكون ثورة ديمقراطية.

                                                ***

كان عليه ان يتعظ بالحوادث والارقام لكل تلك التجارب التي رافقت محاولات التعاون مع العناصر البعثية بدءا بحادثة التزوير والدس على مقاله الجبهوي في الذكرى الاولى لحركة تموز، مرورا بعمله في جريدة (التآخي) ومن ثم محاضرته في قسم الاعلام، تلك المحاضرة التي تحولت الى تظاهرة صدامية مع كل من تجرأ على تحدي (البعث).. الا انه نزولا عند رغبة الاحباء، وافق على تحمل مسؤولية نائب رئيس تحرير جريدة (الطليعة) الصادرة عن الائتلاف الوطني  داخل نقابة الصحفيين.

صدر من الجريدة الاسبوعية المذكورة خمسة اعداد فقط. في العدد السادس، حدث التصادم الجديد. لم يكن يترك مطبعة (دار الحرية) التي تطبع فيها صحف دار الجماهير الا بعد ان يكون العدد مطبوعا، فيتأبط عدده كما هي عادته منذ ان كان مسؤولا في جريدة (البلاد)، ويذهب مطمئنا الى المهمة المؤتمن عليها.

كانت الساعة تشير الى الرابعة صباحا. وقع بصره على العمود الاول في الصفحة الاولى وهي مستقرة على (البليت) الجاهز للطبع. وما ان قرأ الفقرة الاولى من المقال، حتى هاج  وصرخ في

وجه سكرتير التحرير (ضياء حسن) الذي لا يفارقه ايضا لحظة وجوده في المطبعة:

-ما هذا الكلام يا ضياء؟

-اي كلام؟

-العمود الاول تحت عنوان (كلمة الطليعة)؟

-انه المقال الافتتاحي.

-اعرف انه المقال الافتتاحي.

-ماذا هناك؟

-لم اقرأه ضمن مواد العدد المتفق على نشرها.

-لقد ارسله سعد قاسم حمودي قبل خروجه من جريدة الجمهورية.

-لماذا لم يوقعه باسمه؟

-لا ادري.

-وماذا يظن؛ (الطليعة) ملحقا خاصا لجريدة (الجمهورية)؟

-والله يا ابا رافد المشرف المسؤول.

-والائتلاف الوطني، من يمثله في هيئة التحرير؟

-نحن الثلاثة بالطبع.

-اذن ما هذا الكلام وعلام يدل مثل هذا التصرف اللامسؤول؟

-ماذا تريد وما هو اقتراحك؟

استجمع قواه وقال لضياء بغضب وحدة:

-يجب تذييل المقال باسم كاتبه او شطب اسمي كنائب لرئيس التحرير.

صعق ضياء لمثل هذا التحدي، وحاول التخفيف من الصياغة، الا انه اصر على رأيه.

اتصل سكرتير التحرير في تلك الساعة المتأخرة من الليل بالمشرف النقيب (سعد قاسم حمودي) وبعد نقاش معه، عاد اليه ضياء  وابلغه بتذييل المقال باسم سعد.

في اجتماع مجلس النقابة اللاحق، سبق النقيب في جولة التحدي، وقدم استقالته من المسؤولية في الجريدة، وكان قد اتفق مع (فخري) حول هذا الموضوع، وهيأ نفسه للسفر في اول مهمة نقابية خارج الوطن منذ انتخابه في مجلس النقابة.

كانت المهمة تنحصر في حضور مؤتمر المحررين الزراعيين المتفرع  عن منظمة الصحفيين العالمية. وكانت نقابة الصحفيين العراقيين عضوا في المنظمة العالمية، وقد انتمت اليها منذ تشكيل الهيئة التحضيرية في اعقاب التمهيد للتعاون الجبهوي.. شاركه في الوفد، ممثلا عن البعثيين، ماجد احمد السامرائي، سكرتير تحرير جريدة (صوت الفلاح).

عقدت جلسات المؤتمر الاول المذكور في مدينة(فارنا) الجميلة في بلغاريا. وكانت الغاية منه، ايجاد افضل السبل للتعاون بين المحررين الزراعيين الاعضاء في المنظمة العالمية، وايلاء اهمية للنشر الاختصاصي الزراعي، الى جانب تشكيل النوادي  للصحفيين المتفرغين للعمل المختص في المؤسسات الفلاحية الصحفية.

كانا يتحدثان في اوقات الفراغ، او في المناسبات الاجتماعية التي تخللت جلسات المؤتمر، عن آفاق التعاون الجبهوي. كان حريصا على ان يتحدث معه بكل صراحة، ولكن ماجد، كأي بعثي، كان يتهرب من الاجابات الواضحة والصريحة. بل في كثير من المناقشات، كان يستشهد بفقرات من خطب صدام حسين وليس خطب رئيس الجمهورية. عند الاستفسار عن سبب ذلك، يقول:

-صدام حسين سياسي متمرس في المناورات السياسية..

-ولكن المناورات حصيلة مغامرات وبعيدة كل البعد عن الوعي السياسي.

-البعث حزب انقلابي يعتمد على القوة في فرض الآراء.

-والعمل الجبهوي؟

 

اهتز ماجد في مقعده  واجاب بشيء من الانفعال:

-        الجبهة نحن نقودها بالطبع، والحزب هو قائد الثورة.

-وماذا بشأن ستراتيج الثورة؟

-تحقيق الاشتراكية الى جانب السعي لتحقيق الوحدة العربية.

-تحقيق الاشتراكية يا ماجد؟

-اشتراكية البعث طريق امثل للمسيرة..

-هذا غير صحيح.. انكم لا تعرفون طريق الاشتراكية.

احتد ماجد وراح يبرر حجة بحجة ابعد بكثير عن الواقع. لم ينس ان يدس في طيات كلامه تلك المقولة التي يحلم بها كل البعثيين/ من ان الشعب كله يؤيد العملية الجارية في القطر، وانه على استعداد لقبول فكرة قيادة الثورة والعمل الجبهوي من منطلق بعثي.كلنا بعثيون وان لم ننتم!

اجابه:

-اذا كانت تلك الحركة في مسيرتها تتجه الى مشاركة واسعة من الجماهير.

-يعني انك تؤيد قيام الجبهة؟

-لقد كتبت عدة مقالات حول اهمية قيام جبهة وطنية عريضة تضم كل القوى الوطنية والتقدمية خاصة في هذه المرحلة الجديدة... اليست هي مرحلة انتقالية؟

ابتسم لماجد بعد هذه العبارة التطمينية.. نهض مستأذنا والتفت اليه قبل ان يترك غرفة الاستقبال في الفندق، وقال له:

-ماجد.. ترجموا الاقوال بالافعال، وبعدها نواصل الحديث.


. . هكذا تكلم فلوبير في (حق وجرأة)

د.محسن الرملي

مدريـد

عن دار إدهاسا في برشلونة صدر كتاب ( حق وجرأة ) في 160 صفحة. جمع فيه الكاتب الإسباني جوردي جوبيت عشرات الأقوال والآراء المهمة للكاتب الفرنسي المعروف غوستاف فلوبير (1821 ـ 1880) صاحب الرواية الخالدة (مدام بوفاري).

ونظراً لإحاطة جوردي الكبيرة بأدب فلوبير وسيرته، وباللغة الفرنسية فقد جعل من جهده هذا مصدراً لا غنى عنه في التعرف على فلوبير إنساناً وكاتباً، ومن خلاله، أيضاً، التعرف على ثقافة وكُتاب عصره. وقد ضم هذا الكتاب مقاطع منتقاة بعناية وقصدية من رسائله وأوراقه وأحاديثه وكتاباته التي تصف رؤية فلوبير وشخصيته بوضوح كبير. حيث نجد روح السخرية والانتقاد لأشياء كثيرة.. بما في ذلك فرنسا ذاتها.. وليست فرنسا كأرض وبلد وإنما كذهنية وحال في عصره. كما نجد عبرها وقوف فلوبير إلى جانب العِلم والحداثة من أجل تحطيم المبالغة والبرجوازية على الصعيد الاجتماعي وعلى الصعيد الثقافي، رافضاً لكل مظاهر التكلف والتقليدية وخصوصاً في الأدب الذي ينحاز فيه إلى الشعر والشعراء أكثر من انحيازه إلى كُتاب النثر.

إن هذا الكتاب يؤكد مرة أخرى على أن فلوبير قد كان كاتباً يشهد على عصره بامتياز، مثلما كان رائداً حقيقياً ومؤسساً للرواية الواقعية في العالم.. رغم قلة الأعمال التي كتبها ومن أهمها بالطبع:  (مدام بوفاري) و(التربية العاطفية) و(سالامبو).. وقلة ترحاله حيث سفرته الوحيدة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا ـ إلى مصر. لقد برع فلوبير، عِبر أسلوبه، على صعيد اللغة، الأمر الذي جعل من أعماله مرجعاً للغة الفرنسية وبرع في دقة وعمق وصفه لتفاصيل الدواخل الإنسانية من خلال عنايته برسم الشخصيات، مما جعل له تأثيراً كبيراً على صعيد الفن الروائي في القرن العشرين، وكذلك على صعيد تأثيره في التكوين الشخصي للمتلقي.

نجد في كتاب ( حق وجرأة ) أراء مدهشة وجرأة حقيقية وسخرية ذكية وصدقاً في طبيعة التعامل مع الكتابة. ولا تخلو أغلب المقاطع من غضب ورفض واضحين، وخاصة ما يتعلق منها بأحوال الكتابة والكُتاب.. وكذلك لا يخلو الأمر من تلمس بعض التناقضات التي هي من سمات شخصية مبدعة لها قلقها، ولكنها تحرص على صدقها دائماً، كما يمكن إدراك هذه التناقضات في الطرح كون الأقوال المدونة قد شملت مراحل مختلفة من حياة ومسيرة فلوبير.. وهنا ننقل بعض الفقرات:

*إن الزمن.. عصري الذي أعيشه يمللني بطريقة عجيبة.. فمن أية جهة أتيته لا أرى فيه أكثر من بؤس وكلمات.. كلمات.. وأية كلمات!!.

*مؤرخون، فلاسفة، علماء، مفسرون (أولئك الذين يُفرغون الكُتاب)، جامعوا الأنطلوجيات، علماء الرياضيات، نقاد.. إلخ. أحشرهم جميعاً في كيس وألقي بالكيس في المراحيض.. وليعش الشعراء.. ليعش هؤلاء الذين يواسوننا في الأيام المنحوسة. الذين يداعبوننا ويحتضنوننا، فثمة حقيقة أكبر في مشهد لشكسبير، في قصيدة لهوراثيو أو لهوغو.. حقيقة أكبر من كل أعمال ميتشيليت ومن كل مونتيسيكيو ومن كل روبرتسون.

*غالباً ما يراودني الشك فيما لو أنني سأصل إلى أن أطبع، ذات مرة، ولو سطر واحد أكثر مما طبعت. ألا يبدو لك ذلك فكرة ممتازة؟.. أي الفردانية الخاصة بحيث تصل إلى الخمسين عاماً دون أن تكون قد طبعت أي شيء، وفجأة في يوم ما، تنشر أعمالك الكاملة. ومن ثم لا تكتب بعدها أي شيء طوال حياتك؟.

*إنني أعيد قراءة (الدون كيخوته) في ترجمته الجديدة لداماس هينارد. إنني منبهر، إنني مريض بإسبانيا: يا لهذا الكتاب.. وأي فرح سوداوي يصوغه هذا الأدب..!.

*لقد مضى زمن الجمال.. فالفن سيصبح يوماً بعد يوم أكثر علمية، وبالطريقة نفسها سيعود العِلم يوماً بعد يوم أكثر فنية. وسوف يلتقي الاثنان في القمة بعد أن كانا متباعدين في القاع. ليس هناك أي تفكير إنساني باستطاعته أن يوجز - في هذه اللحظات ـ كل هذه الشموس الساطعة التي تفتح أعمال المستقبل. بينما غالباً ما نجد الممر مليئاً بالظل ونسير متلمسين في العتمة. تنقصنا عتلة رافعة، فالأرض تهتز تحت أقدامنا نحن الكُتاب.. إننا بحاجة إلى نقطة ارتكاز؛ كل الكُتاب والكتاتيب: ما فائدة كل هذا؟.. ما ضرورة كل هذا الركام من الكلمات؟.. ليس ثمة آصرة بيننا وبين هذه الكتلة.. إنه أمر سيئ للكتلة. بل هو أسوأ بالنسبة لنا، ولكن مثلما أن كل الأشياء لها الحق في الوجود، ومثل فنطازيا الجوع التي تبدو لي شيئاً مشروعاً ولها مكانها في العالم. فإنه شيء ضروري أن نعيش من أجل ميولنا ـ بغض النظر عن الإنسانية التي تشملنا ـ حيث نصعد إلى برجنا العاجي هناك، مثل راقصة وسط عطورها. نبقى وحيدين مع أحلامنا.

*في هذه اللحظات لا أحد يهتم بالفن.. الفن بحد ذاته. إننا نشوهه ونُلطخه بشكل رهيب بكل ما هو برجوازي. ولا يعجبني أن أرى القرن العشرين.. أما القرن الثلاثون فسوف يكون شيئاً آخر حتماً.

*إن مكتبة الكاتب يجب أن تتكون من خمسة أو ستة كتب، هي بمثابة المصادر التي تجب إعادة قراءتها كل يوم، أما فيما يتعلق بالكتب الأخرى فمن الجيد الاطلاع عليها لا غير.. وهناك طرق كثيرة للقراءة، فالقراءة المتمعنة تستلزم الكثير من النباهة والاحتكام.

*في عصرنا الراهن لدي انطباع بأن المفكر (وهل كل فنان أو مدع هو مفكر؟!) لا ينبغي له أن يمتلك لا يقيناً ولا وطناً ولا حتى ميول اجتماعية.

*إن الممتهنين للأدب هم كالمومسات اللاتي ينتهين إلى عدم القدرة على المواقعة. إنهم يتعاملون مع الفن كما تتعامل المموسات مع الزبائن؛ يبتسمن لهم قدر استطاعتهن ولكنهن لا يحبنهم. وكل ذلك ينطبق معاً على: الروح، الأسلوب.. الصدر والقلب..

*تعجبني الجُمل النظيفة تلك التي تكتفي بذاتها واقفة. ومع ذلك يحدث شيئ يبدو مستحيلاً. لقد وصل المثالي التقليدي من النثر درجة عالية من الصعوبات، وعليه فيجب تحريره من التعبيرات المستهلكة ومن الكلمات العامة.. يجب امتلاك الأفكار المعاصرة بلا تعابيرها الجاهزة.

*باستثناء القميء.. يموت أحدنا في التردد بين قيمه الخاصة وبين قيم الأعمال التي كتبها.

*إن النقد يتلاقى مع أوطأ المستويات من الأدب: من حيث الشكل دائماً، ومن حيث القيم الأخلاقية بطريقة تصعب الإجابة عليها أو توضيحها.

*إنني لا أُصنفها كقراءات جادة، تلك القراءات للكتب التي تتناول مواضيع عميقة جداً.. وإنما القراءات الجادة هي تلك التي تنكب على الكتب المصنوعة جيداً من حيث التقنية والأسلوب يرافقها

إطلاع على المناهج التي تم توظيفها.. لأننا روائيون ولسنا مزارعين.

*لقد قرفتُ من (مدام بوفاري) فالكل يطريني على هذا الكتاب، وكأنه لا وجود لشيء من كل هذا الذي كتبته بعدها. أُؤكد لك بأنني لو لم أكن في عوز وحاجة لعملتُ على أن لا تُطبَع مرة أخرى أبداً.

*اللعنة على ذلك اليوم الذي فكرتُ فيه بوضع اسمي على كتاب.. لو لم يكن بسبب أمي وبسبب بويلهت (أحد أفضل أصدقاء فلوبير) لما نشرتُ أبداً ولا حتى سطر واحد.. كم أنا نادم الآن على قيامي بفعل ذلك..!. أتمنى لو أنهم ينسوني.. أن يتركوني بسلام، أن لا يتم الحديث عني بعد ذلك أبداً.. لقد بدأت أكره شخصيتي.. كم أتمزق من أجل أن لا ينشغلوا بي أكثر من ذلك.

*ثمة مؤامرة عامة ودائمة في هذا العالم ضد شيئين وهما: معرفة الشِعر والحرية. الناس أصحاب الأمزجة يتولون إبادة الأول. والناس أصحاب السلطة يطاردون الثانية.

 


أما سمعت يا شيراك شكوانا!

رشيد الخيُّون

ما أن سمع الشاعر بدوي الجبل باحتلال ألمانيا الفاشية لباريس، أوان الحرب العالمية العظمى الثانية، حتى قال، لا شامتاً بل مذكراً باحتلال واستباحة باريس لدمشق بُعيد الحرب الأولى:

سمعتُ باريس تشكو زهو فاتحها

                                                  أما تذكرتِ يا باريس شكوانا

كان الكلام ببغداد في السبعينيات حول شيراك محرماً، فالجميع يتداول همساً ضخ الأموال لشيراك واليمين الفرنسي ككل ضد ميتران وحزبه، ووليمة المسكَوف بباريس التي رافق فيها شوّايو شواطئ دجلة وفد صدام حسين معلومة لدى الجميع، ومحل تندر المعارضين الساهرين في محلات أبي نواس حيث مشاوي السمك، بعد جلبه من الماء حياً.

نبأ اختطاف الصحفيين الفرنسيين واحد من أنباء العراق الأليمة، وواحد من نتائج اعتراضات شيراك ضد المساهمة في مساعدة الحكومة العراقية لتثبيت الأمن الداخلي، نتيجة من نتائج لاءات شيراك في مجلس الأمن لمنع وحجب أي عون دولي للعراق. يظهر شيراك بمظهر المعادي لأمريكا وبريطانيا لكنه عضو فعال في الحلف الأطلسي، وآخر الأمر يرضخ لما تريده واشنطن. لقد تعامل شيراك مع التغيير الحاصل بالعراق بعين الشامت، الذي يريد إشعار العراقيين بنِعم النظام السابق، فهو صاحب فضل عليه.

ظنَ أن مجاملته لقوى الإرهاب، وتخفيفه من هول ما أصاب العراق على يد صدام حسين وجلاوزته أنه سيبقى بعيداً من تبعات الإرهاب، وسيحتفظ بأبهة ومزايا الثوري الفرنسي حامل لواء حقوق الإنسان والعدالة الدولية، وتعاليم ثورته.

لا ذنب للصحفييّن الفرنسيين، ولا يتأخر أحد عن المطالبة باطلاق سراحهما، ولكن هل هم أول مَنْ أختطف بالعراق؟ أوهما أول مَنْ يهدد بالذبح بالعراق، فما علة بيان محطة الجزيرة الساخط ضد عملية الاختطاف مع أنها أهم شبكة ومنبر من شبكات ومنابر تسويق الإرهاب بالعراق، والكل يعلم أن قرار الحكومة العراقية في منعها جاء متأخراً، وأثلج صدور الملايين من العراقيين بعد ضيق بها.

 لم نسمع من محطة الجزيرة إدانة، حتى عندما قُتل مراسلها العراقي، ولم نسمع منها كلمة مواساة لقتل موظفي وزارة الثقافة العراقية وخطفهم. والله لو وضعنا نافخي السموم اليومية فوق أرض العراق من موظفي الجزيرة ما عادل شعرة من نجابة مثقفنا قاسم عبد الأمير عجام، وطيبة رئيس مجلس الحكم عبد الزهرة عثمان، وتضحية عضوة مجلس الحكم عقيلة الهاشمي، وإصرار وكلاء الوزارات، وأساتذة الجامعات الذين استشهدوا وهم يعاندون ما تبثه قناة الجزيرة من خبث في سمائنا. ألم يقف مندوبها الإخواني أحمد منصور مشجعاً للإرهاب، يصرخ وكأنه مشجع في ساحة كرة قدم، أومطارد ثيران هائجة؟ ألم تشتر الجزيرة وتوزع صورة صدام حسين في يوم محاكمته على أطفال وصبيان سامراء ليظهروا بمظهر المؤيد له؟

إن طرفاً تدافع عنه محطة مثل محطة الجزيرة، صاحبة الجرم الإعلامي الأكبر في تسويق أشباح الموت إلى العراق، يضع نفسه أمام تساؤل ذوي الضحايا من كوريين وأتراك ومصريين، ولا بد أن تدور حوله الشبهة. أما العراقييون فأمرهم أمر، فرقابهم ودماؤهم غدت غذاء الجزيرة اليومي. وهي باحتجاجها على خطف الفرنسيين، وتشجيعها لقتل غيرهم، أدخلت الريب لمن لا يراب بها، مثلما رابت ليلى الأخيلية توبة بن الحِمير، فقال فيها:

وكنتُ إذا ما جئت ليلى تبرقعت

فقد رابني منها الغداة سفورها

نعم، لا ذنب للصحفيين وخطفهما جريمة نكراء، لكن جاك شيراك الذي يحاول أن يظهر بمظهر العادل الدولي، والذي استفاد إعلامياً من حركته في دفع الحارس الإسرائيلي أمام كاميرات الفضائيات، يتحمل جزءاً من خطف مواطنيّه، لأنه لا يتأخر من الوقوف بوجه أي قرار دولي يحاول أن يدخل إلى قلوب العراقيين الأمن.

حاول جاك شيراك مثلما تفعل قوى الإرهاب الأخرى، ومثلما يفعل مرشد إيران ورفسنجانيها، نقل الخلاف مع الأمريكان إلى العراق، وبالتالي الضحية هو الشعب العراقي.

لا يقنعني أحد بمواقف شيراك أو فرنسا من قضية عربية أو هندية، أنا اليوم أمام محنتي فقط، هكذا علمني تضامن أهل القضايا المزمنة مع نظام البعث الجائر إلى حد قيام مجلس فاتحة على روحيي الذئبين الغابشين عدي وقصي، وتعليق صورتيهما خلف مكاتب شيوخ حماس. لقد فزز هذا المشهد في دواخلي  شعوراً مُفاده أن لا أنظر أكثر من حدود الخلاص من ألمي وفاجعتي! فلن يُنسي العراقيين تضامن شيراك العربي مساهمته في إيذائهم، وإظهار صدام حسين بمظهر الصديق. فمواقف جريدة قدسية مثل جريدة (القدس) ومغالاة رئيس تحريرها بجرحنا وإيلامنا، وما يظهر من أصوات من على شاشة الجزيرة المحناة بدمائنا كل هذا وغيره قد يدفعنا إلى الأسف لمسيرة احتجاج وضحايا خسرها العراقيون في عدوان 1956، أوفي حرب 1967، ونطمئن المتوغلين في تشجيع الإرهاب من اخواننا العرب أن العراقيين اليوم ليس لهم غير استذكار أبي العلاء المعري وقولته:

إذا نأت العراق بنا مطايا

فلا كنّا ولا كان المطي

فسروها بما شأتم، خيانة أم عجلة، أم تراجع ثوري، أم سوء فهم.

اللهم لا شماتة بما أقول: أما سمعت يا شيراك شكوانا!!

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة