(2-2)
سلمان عبد الواحد كيوش
جامعة بغداد
في الاسبوع الماضي،وفي الجزء الأول من هذا التحقيق تعرفنا على المنظور
الديني للعلاج النفسي.كان ذلك الشق الأول من مهمتي.ولكي
تكتمل الصورة،توجهت الى الأستاذ الدكتور (قاسم حسين صالح)
رئيس الجمعية النفسية العراقية،وسألته:
*هل تعد عملية الإيمان بالتأثيرات الناتجة عن الجن وما يمكنهم فعله
بالإنسان من الناحية النفسية نكوصاً علمياً؟وهل أن الإيمان
والتصديق بالنظريات العلاجية التقليدية في علم النفس يتقاطع
ويمنع الإيمان بغيرها؟
- نحن الاختصاصيين في الصحة النفسية نصنف الاضطرابات النفسية الى صنفين:
العصاب
Neurosis
والذهان
Psychosis
.الأول يعني كل سلوك حياتي يعوزه التكيف واللاواقعية في
تقييم المحيط وتجنب مواجهة الضغوط والمشكلات وايجاد الحلول
لها،وتضم مجموعة كبيرة من الاضطرابات،من بينها: القلق،
والرهاب، والوسواس القهري، والاكتئاب، والفزع، وغيرها.فيما
يعني الصنف الثاني كل اضطراب عقلي حاد يفقد فيه الفرد صلته
بالواقع مثل اضطراب الفصام (الشيزوفرينيا).والفرق الرئيس بين
هذين النوعين هو أن ادراك الذهاني للواقع الذي يعيش فيه يكون
مشوهاً بدرجة كبيرة، وقد يفقد اتصاله بالواقع.أما
العصابي،فإنه يبقى على اتصال بالواقع على الرغم من أنه يشعر
بالضعف والعجز وسوء التوافق مع نفسه والآخرين.فضلاًَ عن أن
الذهاني يكون تفكيره مضطرباً وسلوكه شاذاً وعلاقاته
الاجتماعية تكاد تكون معدومة.ونحن لا نتداول مفردة (الجنون)
Insanity
لأنها مصطلح قانوني أو شرعي وليس نفسياً يوصف صاحبه بأنه غير
مسؤول عن أفعاله الخاصة بما فيها السلوك الإجرامي،بل نتداول
مصطلح ((اضطراب عقلي))
Mental Disorder بدلاً عنه.
إن أسباب الجنون في المعتقدات الشعبية تعزى الى (الجن)،فيما نبتعد نحن عن
ذلك،وننظر الى الشيزوفرينيا على أنها اضطراب عقلي تعود
أسبابه اما الى (جينة وراثية) أو الى ضغوط أسرية واقتصادية
واجتماعية وسياسية حادة،أوالى استعداد تكويني تقدح زناده
ضغوط البيئة.
في اعتقادي،إن عزو ما يصيب الإنسان من اضطرابات عقلية حادة الى الجن لا
يعود لأسباب دينية،إنما الى معتقدات شعبية ترسخت في اللاشعور
الجمعي للناس عبر آلاف السنين.فالبابليون مثلاً،كانوا ينظرون
الى الإنسان الشاذ في سلوكه على أنه مبتلى بعفريت،وكانوا
يعتقدون أن الإنسان الممسوس هو شخص آثم،وأن علاجه يتطلب
اكتشاف الإثم.فيقوم منشد التعاويذ بقراءة جدول الآثام لعل
المريض اقترف بعضها عمداً أو سهواً.وما أن يشخص العراف ذلك
الإثم حتى يتمكن من قهر العفريت الذي استغل الذنب لكي يحل في
جسم المريض.أما اذا كانت الحالة معروفة فإن العفريت يعرف أنه
سيشخص بسرعة،وفي هذه الحالة تستعمل طريقة العلاج بالإقناع
التدريجي للعفريت.وكان البابليون يعتقدون أن هناك روحاً أو
عفريتاً لكل مرض،والمدهش أن هذا الاعتقاد كان موجوداً لدى
الصينيين والاغريق الذين عزوا الشذوذ في السلوك (الجنون) الى
أن الشخص تتملكه روح شريرة بعد أن يسحب الاله عنه حمايته
له.بل انهم كانوا يعتقدون أن الحيوانات أيضاً يمكن أن
تتملكها الأرواح أو الشياطين عندما تندفع بعنف لترمي نفسها
في البحر.وعليه فإني أرى أن اعتقاد البعض بأن (الجن) سبب
الاصابة بأمراض عقلية ليس نكوصاً علمياً لسببين: الأول هو أن
اللاوعي الشعبي للناس ترسبت فيه موضوعة (الجن)لآلاف من
السنين،وأن هذه الموضوعة تقفز الى الوعي عندما يمر هؤلاء
الناس بأزمات اقتصادية واجتماعية،لذلك تراهم يكثرون من زيارة
أضرحة الأولياء والرجال الصالحين والعرافين في أوقات الحروب
والكوارث وعندما يرون أن الواقع يعجز عن حلها كما حصل
للعراقيين في الحرب العراقية الإيرانية وسنوات
الحصار.والثاني،ان معظم الناس يبقون في حاجة الى العراف حتى
لو وصلوا الى مستويات ثقافية رفيعة،وأظن أننا سنبقى جميعاً
بحاجة نفسية الى العراف!!
نعم يتقاطع الإيمان بالنظريات النفسية العلاجية مع الإيمان بغيرها،اذا كان
الاعتقاد يصر على أن سبب (الجنون) يعود الى أن المريض تملكه
جني أو عفريت أو روح شريرة،فيما تعزوه النظريات النفسية الى
أسباب تكوينية (بايولوجية) أو أسرية أو اجتماعية أو
اقتصادية،ويتقاطع في علاج المريض أيضاً بين أن يكون علمياً
أو بدائياً يستخدم التعذيب لإخراج الجني من جسد المريض.
* كيف تفسر النجاحات التي يحققها بعض الشيوخ والسادة في نفوس مرضاهم
واعادتهم الى حياتهم الطبيعية؟
- كنت قد تعرفت الى (ملائي) محترم،كان ينجح في علاج الكثير من الحالات
النفسية.وقد دفعني فضولي العلمي لزيارة امرأة (علوية) في
إحدى مدن الجنوب ذاع صيتها،حتى أن قاصديها ما كانوا من
العراقيين فقط،بل ومن أقطار الخليج أيضاً.ولقد خرجت بنتيجة
أن عدداً من هؤلاء السادة أو الشيوخ أو الملالي أو العرافين
كانوا ينجحون في علاج حالات نفسية تقع ضمن صنف (الأمراض
العصابية)،غير أنهم يفشلون تماماً في علاج (الأمراض
الذهانية)، بل انهم يسيئون علاج هذه الأمراض باستعمالهم
الضرب وأساليب بدائية أخرى لاعتقادهم أن الجني أو العفريت
سيخاف ويخرج من جسد المريض ويولي هارباً.أما لماذا ينجحون في
علاج عدد من الحالات النفسية (العصابية) فإن ذلك يعود الى أن
المريض لديه ايمان واعتقاد بهذا (السيد) أكثر من ايمانه
بالطبيب،وأن كل ما يحتاج اليه هو كلام طيب ومنطق رصين وشخصية
مؤثرة،تعمل هذه العوامل جميعاً على إعادة ترتيب أفكاره
الخاطئة وتعيد له طريقة إدراكه للأمور بشكل صحيح.وهذا ما
نفعله نحن النفسانيون المتخصصون بنوع من العلاج يسمى (العلاج
المعرفي).
* ما هو موقفكم حضرة الدكتور من العلاج الديني إن صحت التسمية؟
- لقد دعوت منذ زمن طويل الى احتضان هؤلاء ورعايتهم وإجراء حوار علمي معهم
يهدف الى توضيح المدى الذي يذهبون اليه في علاج الحالات
النفسية،والخط الأحمر الذي يجب أن يتوقفوا عنده،وأن يتدربوا
من خلال محاضرات وحوارات لكي يكونوا مؤهلين لممارسة نوع من
العلاج النفسي هو العلاج الروحي الذي نريد له أن يكون
أسلوباً علمياً.وإننا بوصفنا (الجمعية النفسية العراقية)
نجدد الدعوة ونبدي كامل استعدادنا لتبني هذا المشروع الذي
سيعلي من شأن العلاج الروحي وسيقضي على الدجالين المتاجرين
باسم الدين.
* هل ترون أننا على أعتاب تأسيس نظرية اسلامية في العلاج النفسي؟أو هل يعد
ممكناً هذا التأسيس الآن أو في المستقبل القريب؟إذا كانت
الإجابة بالإيجاب،هل ترون أن روادها سيكونون علماء نفس
مسلمين أم رجال دين روحانيين؟
- نعم،من خلال تعاون الأكاديميين الاختصاصيين بعلم النفس والطب النفسي مع
رجال الدين المهتمين بالأمور النفسية،وهذا التعاون يمكن أن
يفضي الى نظرية اسلامية في علم النفس لاسيما اننا نمتلك
تراثاً زاخراً في هذا النوع من المعرفة،ولدينا أعلام في هذا
الميدان كابن سينا وابن عربي والرازي والاصبهاني والبلخي
وأبي حيان التوحيدي وأبي القاسم المالقي والكرماني وابن قيم
الجوزية،وقائمة طويلة من العلماء والمفكرين الأفذاذ.غير أن
هذه المعرفة مشتتة ومتناثرة وفيها ما يناقض بعضها
بعضاً،والكثير من المفاهيم الغيبية،فيما النظرية العلمية
تعني مجموعة من المفاهيم المترابطة القائمة على المنطق
والاختبار الموضوعي.هذا ما نطمح إلى أن يكون واحداً من
مشاريعنا المستقبلية.
قاربت بين نصفي الصورة،فلم أر إلا ظلالاً لا تكاد تفصح عن سبيل السواء.
يبدو أن سقراط كان على صواب كبير،برغم ما يفصلنا عنه من
صحارى السنين،حين قال: ((اعرفْ نفسك بنفسك)).
|