التجربة
- 6 -
فائق بطي
لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية عبر نصف قرن من
تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي أن تنشر بين وقت
وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن (المدى) بدمشق
قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم من نشوء
الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك السياسي، واثر
التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما رافقه من أحداث
وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف أسراراً وحلقات مؤثرة
من تاريخ العراق السياسي والثقافي.
(المدى الثقافي)
الفصل الرابع
المخاض
17 تموز 1968
الرصاص يلعلع للمرة الرابعة في سماء بغداد مع تباشير الفجر التموزي.. شاهد
كأي مواطن كان شاهدا على ما يجري في الوطن الذي اغتالوه
للمرة الثالثة في غضون خمس سنوات، وسرقوا قوت شعبه بالقوة
والقهر الارهابي في اكثر من مناسبة. شاهد اولاد الجيران
يلعبون لعبة الصبايا وهم يبحلقون في السماء لعلهم يظفرون
بمنظر الطائرات وهي تنقض على اهدافها، لا يكترثون طالما هم
لا يعون او يدركون ما يجري، ولكنهم كانوا يمرحون.
من على سطوح المنازل، جرى تبادل الحديث، حين نادى على الجار (مجيد الحاج
حمود) وسأله:
- من هم الانقلابيون هذه المرة؟
- اعتقد انهم نفس تشكيلة الانقلابات السابقة.
نزل من سطح الدار مسرعا وتناول جهاز الراديو الذي بدأ يذيع فقرات البيان
رقم (1) الصادرعن (مجلس قيادة الثورة).. العبارات متشابهة
فارغة جوفاء لا تختلف عن عبارات انقلابيي شباط وتشرين
الناقرة على الطبول.. برقيات التأييد صادرة من جحور المصفقين
لكل انقلاب. الأسماء نفسها تتردد من جديد لابطال المهزلة،
يضاف اليها اسم (عبد الرزاق النايف) وشريكه (ابراهيم احمد
الداوود).
سألت الوالدة عن (حماد شهاب) و(سعدون غيدان) و(صالح مهدي عماش)، فقال لها
أنهم جماعة شباط الاسود. ترددت قليلا قبل ان تستفسر عن هوية
الراكبين قطار الانقلاب الجديد، ثم انفرجت اساريرها عن
ابتسامة عريضة، وقالت:
- هل تعرف من هما النايف والداوود؟
- اراك تبحثين عن الهويات هذه المرة يا اماه؟
تحولت ابتسامتها الى ضحكة مجلجلة مدحرجة عباراتها بسرعة:
- الم يعترفوا بأن السابقين كانوا قد اتوا الى الحكم بقطار امريكي؟
اومأ برأسه بالايجاب، فرآها تنهض وتتجه صوب المطبخ وهي تمضغ عباراتها تحت
اسنانها الذهبية بنغمة موسيقية وبطقطقة من اللبان الهارب من
بين اضراسها مرددة: تجونا لو نجيكم، هالمرة جيناكم بقطار
انكليزي يا هواي.
قهقه بدوره بصوت ونغمة ترامت الى اذنها صيحة ، فصرخت من المطبخ:
- ماذا تقول يا ولدي؟
- لا شيء يا اماه، فقد خطرت ببالي نكتة الموسم.
عادت (ام بديع) وصينية القهوة في يديها والاكواب تتراقص فوقها، وهي تواصل
الدندنة. وضعتها على الطاولة بجانب كرسيها المخصص لها منذ
سنوات. قدمت له فنجان القهوة وقالت:
- من فمك ادينك يا نايف يا عبد الرزاق.
- عبد الرزاق النايف يا امي.
نظر اليها باستغراب، وقد عقدت الدهشة لسانه حين سمعها تحكي من خلال دوران
الفنجان الذي تمسك به تماما كما تمسكه قارئة البخت بمهارة
ودقة، وراحت تداعبه وهي تقول:
رسالة من بعيد.. اكيد من ابني بديع.
تسمعين خبر مزعج.
اضطرابات في اسفل الفنجان.
قهر .. قهر .. قهر
الله يستر.
قاطعها قبل ان تكمل كشف اسرار الفنجان :
- هل اذهب الى المطبعة؟
- سدك امين ابني، اطمئن، لا خطورة عليك في الوقت الحاضر.
اتضحت الصورة السياسية بعد اذاعة البيانات: عبد الرزاق النايف، مدير
الاستخبارات العسكرية، وابراهيم الداوود وحماد شهاب وسعدون
غيدان، من آمري الحرس الجمهوري، واصدقاء رئيس الجمهورية عبد
الرحمن عارف، يساعدهم من المدنيين، صلاح عمر العلي، جعفر
قاسم حمودي، وصدام التكريتي، قاموا بالسيطرة على القصر
الجمهوري واذاعة بغداد، وطلبوا من رئيس الجمهورية التنازل عن
الرئاسة مقابل ارساله الى تركيا. اذاع الانقلابيون البيان
رقم (1) دون اية مقاومة، بينما راح المذيع الجديد (ضياء
البياتي) يذيع برقيات التهنئة من مصادر عسكرية ومدنية. بعد
لحظات على نجاح (الانقلاب الأبيض) كما اسماه (المؤرخون)
آنذاك، اعلن البياتي نبأ اسناد رئاسة الجمهورية الى (احمد
حسن البكر). سيطر الانقلابيون الجدد دون (عناء) على امور
البلاد. بدأت الصحف تمهد الطريق لتبييض وجههم المعروف في
انقلاب شباط الدموي، لعل الشعب يعفي عنهم. ذهب (سعد قاسم
حمودي) وسيطر على جريدة (الجمهورية). وركض (كريم شنتاف)
لاستلام جريدة (الثورة) وطرد رئيس تحريرها (حازم مشتاق).
هذه هي ببساطة وقائع (الثورة الرائدة والعظيمة) كما يحلو لحزب البعث ان
يسجلها بأسمه..
بدأ يحدث نفسه بعد ان اقتنع برأي الوالدة، وترك البيت في طريقه الى مطبعة
(التقدم)، متسائلا: ما هوية الانقلاب الحقيقية بجانب حزب
البعث.. هل هم القوميون؟ كلا، ان القوميين حكموا بهويتهم
الوحدوية، وان لم يحققوها رغم وجود تنظيم (الاتحاد
الاشتراكي) الشبيه بتنظيم مصر. ماذا يمثل عبد الرحمن البزاز؟
وما دور (ناصر الحاني) في التشكيلة الجديدة؟
في الطريق، لمح (ابراهيم اليتيم) يلوّح له. دلف الى السيارة، فبادره بسؤال:
- ما رأيك بما حدث؟
- وما رأيك انت؟
سكت الاثنان، لربما كتما الجواب لمعرفتهما المشتركة بما حدث. راح يرقب
الطريق الطويل ما بين عرصات الهندية في الكرادة الشرقية
وساحة العلوية، حيث اشار عليه ابراهيم بالتوقف. قبل ان يترجل
من السيارة، التفت اليه وقال:
- الوعود سهلة. لا تتعجل الأمور، بل دع الايام تحكي ما سيتمخض عنه البديل.
مع الترقب والانتظار.. حدث الانقلاب الجديد في 30 تموز دون اطلاقات
المدافع، بل بفصل مسرحي تلفزيوني اشترك فيه (البكر) وعلى
يمينه (صدام حسين)، وهما يخبران جمهور المشاهدين بأن بطل
المسرحية (نايف) قد خان المخرج، ولذا اقتضت مصلحة النص، ان
يتولى البطولة اكثر من ممثل.
كان الوقت الذي استغرقته المسرحية 13 يوما، بينما التحضيرات والبروفة
استغرقت 13 شهرا!
***
اطلقت حركة 30 تموز سراح الموقوفين السياسيين واعادت المفصولين الى وظائفهم
الادارية. قالت صحف الانقلاب بأن الحركة تفتح صفحة جديدة
بعلاقاتها بالقوى الوطنية على اساس ستراتيجي لا مرحلي.
حاول ان يجرب حظه مع الصحافة لتبيان ما ينوون، وللمستقبل ما يبيتون. كتب
مقالا مسهبا عن ضرورة انبثاق الجبهة الوطنية كطريق تاريخي
لمرحلة اي تغيير يحقق مصالح الطبقات الاجتماعية المعادية
للاستعمار ونحو تبدلات جذرية في بنية العلاقات الاجتماعية
الجديدة. كان المقال استعراضا لما حققته جبهة الاتحاد الوطني
لعام 1957 في اندلاع ثورة 14 تموز الوطنية الديمقراطية، وما
يجب ان تكون عليه في الوقت الحاضر انطلاقا من اهمية
التحالفات الوطنية في مرحلة الصراع الوطني ضد اعداء الشعب
القدامى والجدد.
تأبط المقال وذهب به الى ادارة جريدة (الثورة) في منطقة الصرافية. كان هناك
في غرفة السكرتير، (طارق عزيز) الذي عاد من سوريا بعد نجاح
الانقلاب وبدأ في كتابة سلسلة من المقالات التي مهدت له
الطريق في العودة الى صفوف حزب البعث لاحقا. لم يكن رئيس
التحرير موجودا، فسلم المقال الى سكرتير التحرير (نديم احمد
الياسين).
كان متأكدا من ان المقال المذكور سوف ينشر في القريب العاجل لسبب بسيط:
ان الحكام الجدد بحاجة الى اثبات هوية وطنية عن طريق طرح مثل
تلك الطروحات والاستفادة من الاسماء المعروفة التي تمثل
تيارات سياسية وطنية لها تاريخ طويل في الساحة السياسية
الوطنية. انهم بحاجة الى (تزكية) ولو مؤقتة لاثبات حسن
النية.
لم يكن تقديره بما فكر به خطأ، فقد نشرالمقال في اليوم التالي بمكان بارز
واحتل اسم الكاتب مربعا كبيرا كدليل على اهمية الموضوع.
وتمر الايام على النشر الاول للمقال، الحقه بمقالات عديدة تدعو الى الاهداف
الوطنية المنشودة، دون ان يحذف منها اي سطر. كانت دعوته الى
قيام جبهة وطنية، دعوة صادقة. الم يطرحوا ميثاق العمل الوطني
على الشخصيات والوجوه الاجتماعية الوطنية البارزة؟
سارع الى ابداء رأيه، ولم يكن هو السباق الى ذلك الطرح، بل هكذا ارادوا هم
من استطلاعاتهم. نشروا رأيه كاملا دون تحوير او تغيير، لكنهم
بصموا بالاربعة داخل المقال في مربع مؤطر، بأنهم (لا يتفقون
مع صاحب الرأي حول تسمية السلطة بسلطة حزب البعث العربي
الاشتراكي، بل ان الحزب هو حزب الثورة العربية والسلطة هي
سلطة ثورية..)
استغلت محطة اذاعة (الاحواز) العربية ذلك التعليق المؤطر وراحت تشن حملة
قوية على النظام القائم محذرة ابناء الشعب العراقي من عواقب
تأييد واسناد البعث، مستشهدين بالنموذج المنشور في صحفهم على
ايمان الانقلابيين بالحرية (على الطريقة البعثية).
كانت له تجربة اخرى مع صحافةالانقلاب.
في الذكرى الاولى لحركة البعث، كتب مقالا مطولا اكد فيه ضرورة السير في
اشراك كل القوى الوطنية لتسيير دفة الحكم ولتحقيق اهداف
المرحلة الوطنية وذلك على طريق انبثاق الجبهة الوطنية
العريضة لتعميق المسيرة اللاحقة للتغيير الثوري الحاصل قبل
عام.
كان ذلك المقال محكا للخلاف بين حزب البعث والاحزاب الوطنية وفي مقدمتها
الحزب الشيوعي العراقي. لقد دأبت وسائل الاعلام البعثية على
تسمية الحركة التموزية بالثورة الرائدة، بينما الصحيح كون
حركة البعث حركة تغيير في اعقاب مرحلة حكم مائع لم تتضح
هويته آنذاك، مؤكدة ومنطلقة - اي الحركة الديمقراطية -
بالتحليل على مستلزمات قيام حكم وطني يعتمد بالأساس على قوى
الشعب وذلك بتوفير الحريات الديمقراطية لطبقات الشعب صاحبة
المصلحة الحقيقية في عملية التغيير الثوري.. حريات ديمقراطية
كاملة غير منقوصة.
فوجىء في اليوم التالي بما لم يكن بالحسبان.. فقد نشرت جريدة (الثورة)
المقال المعني بعناوين بارزة وباخراج صحفي لبق حقق الهدف
المنشود في النشر التوجيهي والدعائي، من وجهة نظر (البعث) لا
من وجهة نظر كاتب المقال، حين طرح مسؤول الجريدة مقدمة دالة
في صدر المقال خالية من التوقيع او التذييل المقصود، اوحت
بدورها للقارىء بضربة صحفية (لئيمة) بأنها - اي المقدمة -
جزء من المقال بل المدخل الاساسي للموضوع.
كتب (طارق عزيز) الذي تسلم رئاسة تحرير الجريدة من سلفه (كريم شنتاف) مقدمة
للمقال جاء فيه: تمر اليوم الذكرى الاولى لثورة 17-3. تموز
الرائدة وهي تواصل العطاء ...
لم يكن ذلك التشويه، او بالصراحة، من باب الخيانة الصحفية فحسب، بل كان
تعمدا مقصودا و(مكشوفا) اريد من ورائه احراج كاتب المقال
والجهة السياسية التي يمثلها وزجهما في اتون الصراع الدائر
من اجل استحصال تزكية وطنية تسبق الزمن قبل ان تتضح هوية
الحكم - ان كانت هناك هوية وطنية - لمرحلة ما قبل الادانة
التاريخية للخيانة الوطنية.
دلف الى ادارة المطبعة دون موعد مسبق، (فخري كريم) وهو يرتجف غيظا ومتألما،
وبسط امامه عدد الجريدة، وبنبرة حادة يشوبها العتب والقلق،
قال:
- ما هذا الكلام الذي تقوله في مقدمة المقال؟
- اي كلام يا رفيقي؟
- المقدمة؟
- ....
- منذ متى نسمي الانقلابات والمغامرات ثورة؟
لحظات صمت بددها بالصدفة ذلك العامل القادم دون ميعاد مسبق ايضا. دخل (علي
عزاوي) الى المطبعة وهو يلتفت الى الوراء ودس في يده قصاصة
ورق واسرع الخطى الى الخارج. ان علي هو احد عمال جريدة
البلاد في السابق، ويعمل في الوقت الحاضر عامل تنضيد في
جريدة (الثورة).
فض القصاصة، وسلمها الى فخري وهو يبتسم مقنعا نفسه بأنها الجواب الذي كان
ينتظره فخري وكل الاصدقاء امانة للتاريخ، وصمام امان ان كان
هناك اي انحراف عن الطريق الصحيح الذي اختطه منذ ان بات
سياسيا. راح فخري يقرأ مقدمة المقال المخطوطة بحبر احمر،
بينما استغل هو الموقف، فوخز رفيقه باصبعه وداعبه بالقول:
- هل قلت انا شخصيا بأن الحركة ثورة رائدة، هل تعقل ذلك؟
سكت ابو نبيل وهو يبتسم. طوى عدد الجريدة ودس في جيب سرواله قصاصة
(الارشيف) للذكرى. وضع نظارته السوداء فوق انفه كلما اراد ان
يبتعد ويتخفى عن عيون الرقباء الذين لا يرحمون، وتسلل الى
الشارع.
بعد دقائق، وجد نفسه في غرفة (نديم احمد الياسين) المطلة على نهر دجلة في
شارع ابي نؤاس، والقريبة من المطبعة وفندق بغداد، في لقاء
غضب وعتاب. قال لسكرتير التحرير والشر يتطاير من عينيه:
- من كتب مقدمة المقال يا أخ نديم؟
اجاب بصوت خافت دون ان يجرأ النظر اليه:
- وماذا بشأنها؟
- هل انا الذي كتبتها؟
- ...
- هذا تزوير واجحاف وعدم امانة.
ارتجفت العبارات المستكينة في رد نديم حينما حاول تبرير ما بدأوه بالامس،
فقال:
- وما الخطأ في هذا القول؟
- خطأ كبير جملة وتفصيلا.
انتفض (الصحفي) البعثي من مكانه وبدا الارتباك واضحا على حركاته حين اراد
ان يفتح نافذة غرفته، وكانت مفتوحة بالفعل، فقال والحيرة
واضحة على وجهه:
- هل ترفض ان تسمي ثورتنا، ثورة؟
- انا احتفظ برأيي، ويظهر انك او رئيس التحرير، لم تطلعا على ما تقوله
وسائل اعلام القوى الوطنية؟
وقبل ان يواصل الاحتجاج، رن الهاتف فوق منضدة سكرتير التحرير الانيقة. كان
المتحدث على الخط، (طارق عزيز).
غادر الجريدة وهو يسب هذا الفريق وذاك من فصائل صبيان السياسة.
***
قصة
في يوم تموزي لاهب
طالب عبدالأمير
كانت شمس تموز الحمراء اللاهبة، قد استقامت فوق بغداد للتو فأفردت أجنحتها
على شوارع المدينة الشبه الصامتة في مثل أوقات الظهيرة تلك
من ايام صيف عام 1975، مذيبة الاسفلت لتحوله الى فقاعات تغلي
بسائل أسود. كنت أسير في الجانب الايسر من ساحة الجندي
المجهول قادماً من منطقة القصر الابيض، حيث أنجزت معاملة
الفيزة واجراءات السفر الاخرى. كنت استعد، حينها، للسفر الى
اوروبا لمواصلة الدراسة، بعدما أوصدت الجامعات والمعاهد في
بلدي أبوابها أمامي. لم أترك جامعة، كلية أومعهداً الا وطرقت
أبوابه، ولكن دون جدوى فهذه الكليات مغلقة لمن لديهم صك
الانتماء للحزب القائد وتلك تطلب شروطاً صعبة التحقيق
بالنسبة لي. لم يكن لي نصيب من إكمال الدراسة في بلدي، فلابد
اذا من الرحيل مرغماً. أجتزت نصب الجندي المجهول وأنا واثق
من أن جيبي مازال يحتفظ بقطعة من فئة المئة فلس، بعد أن دفعت
رسوم الفيزة التي أصرت الموظفة الجميلة أن أنقدها إياها
مقدماً، وهو أمر ماخطر ببالي حين تركت المبلغ الذي جلبته معي
من الاهل لتغطية تكاليف السفرة من الناصرية الى بغداد ورسوم
المعاملات المطلوبة، تركته في بيت صديقي وابن مدينتي الطالب
في الجامعة والذي أعارني سريراً فيه. كنت حريصاً جداً على أن
أحافظ على الفلوس من السرقة وأحمل معي مايكفيني لتغطية
الحاجات اليومية فقط. كانت والدتي الطيبة الذكر قد خاطت لي
بنفسها جيباً ذا سحّاب في لباسي الداخلي القصير (حد الركبة)
لأصر به على الفلوس التي قدر الاهل أنها تكفيني لمدة أسبوع
أو عشرة أيام، وهي الفترة الكافية لاجراءات معاملة السفر الى
الخارج. كنت قد حسبت بأن قطعة النقود التي بقيت في جيبي
تكفيني لأكلة (فلافل) بخمسين فلساً والخمسين الأخرى لأجرة
النقل في سيارة (الفورد) التي يتقاسمها عدة أنفار، توصلني
الى بيت صديقي. شعرت بالجوع والعطش فذهبت الى أقرب محل لبيع
(الفلافل)، كرعت كأس ماء وطلبت (فلافل) ويدي اليمنى تمتد في
جيبي لأخرج النقود وأدفع ثمنها. لكنني سحبت يدي من جيب
البطلون بشكل مفاجئ فقد التقت أصابعي بثقب صغير فيه. دسست
يدي اليسري في الجيب الأيسر، فتشت في جيوبي الاخرى فلم تخرج
بشيء سوى وريقات صغيرة مطوية وورق (كلينكس) مستعمل، ولا أثر
للمئة فلس. تطلعت في وجه عامل المطعم الذي تكهن، بعد أن رآني
أفتش في جيوب تصفر، بأنني زبون غير نافع.
- ها، ما عندك فلوس ؟ سألني.
- لا عندي، ولكني لا أدري أين وضعتها.
- فتش هنا. قال لي وأشار الى المحفظة الصغيرة التي كنت أحملها تحت أبطي.
كنت وضعت فيها جواز السفر، قبل أن أسلمه الى السفارة وبعض
أوراق ومعاملات وكتاب ودفتر مليء بقصائد شعر وخواطر
و(شخابيط) وملاحظات عابرة وعدة أقلام حبر وجاف. فتحت المحفظة
وأخذت أبحث فيها بين الاوراق وصفحات الكتاب والدفتر، ولكن
دون جدوى. لاأثر لقطعة النقود المبجلة. إعتذرت للعامل وخرجت
من المطعم آسفاً لأني لم أستطع التمتع بأكلة الفلافل
اللذيذة، خصوصاً أن أمعائي كانت تعزف من الجوع. عدت الى
الجندي المجهول أتطلع الى القوس الرمادي الكبير. شعرت بأنني
مقبل على مغامرة لامفر منها. لابد لي اذاً من السير على
الاقدام في نار جهنم اللاهبة مسافة طويلة من الكيلومترات،
فرأس الحواش حيث تقع الشقة التي أسكن فيها، منطقة تقع في
الطرف الآخر من المدينة الكبيرة. وضعت المحفظة الصغيرة
السوداء على رأسي وبدأت الرحلة. قطعت ساحة السعدون، عبر (أبو
نواس) ومن ثم التحرير، فأحسست بأن رجلي لن تستطيعا حملي،
وشعرت بثقل جسمي الذي أصبح كتلة من الماءاً. ماعدت أحس
بالجوع ولكن بالعطش. دخلت أقرب مقهى صادفني وطلبت من صبي
المقهى ماء. لاأدري كم كوب ماء شربت ولكني شعرت بالارتواء
وإنتعش جسدي قليلاً، ثم جلست لأستريح في ظل شجرة، في ركن
أرقب منه خالدة جواد سليم البرونزية، لكن سرعان ما أصطدمت
عيناي بالثقوب التي رصعت الجدارية. كنت قد مررت سابقا مرات
كثيرة من تحت هذا النصب العملاق، لكن تلك كانت المرة الاولى
التي إنشد فيها بصري الى الثقوب فخلتها اصبحت جزءا من مضمون
النصب، اذ ان الحرية التي جسدها سليم في هذه الجدارية ظلت
شامخة تزين صدر المدينة، رغم محاولة الذين ناصبوها العداء
واطلقوا عليها النار في مجزرة عام 1963. إسترسلت في النظر
الى الجدارية أتتبع مسار شعورٍ حزين انتابني ونقلني الى عالم
آخر بعيد كاد ينسيني حالتي لولا أن يدي إمتدت صدفة الى جيبي.
لربما كنت أبحث عن منديل ورقي أجفف فيه قطرات العرق التي
تصببت على جبهتي. تلمست، من جديد، الثقب في جيب بنطلوني
الايمن وندبت الحظ العاثر. ثم نهضت متوكلاً على الله وواصلت
المسيرة مخترقاً شارع الرشيد. لا أدري كم مضى من الوقت وأنا
أقطع كل هذه الكيلومترات حينما لاحت لي منطقة رأس الحواش.
وقفت لأتأكد من أنني في الطريق الصحيح، ولما تيقنت من ذلك
ركضت باتجاه البناية التي وجدت بابها مفتوحاً فدخلته مسرعاً
وأخذت أنقل قدمي بين سلالمه العريضة الى الطابق الثالث.
توقفت أمام الباب لحظة لأسحب نفساً طويلاً، قبل أن أضع أصبعي
على الجرس. قرعت الجرس عدة مرات فلم أسمع جواباً، بدا لي أن
صاحبي قد خرج ونسي أن يترك لي المفتاح، إذ مددت يدي تحت قطعة
الحصير أمام الباب في أمل على أن أجد المفتاح فلم أعثر عليه.
(كملت السبحة، كانت عايزه التمت. شسوي؟) تلوت ذلك همساً
وقررت مواصلة قرع الجرس، فلاخيار لي سوى أن أحاول، أو أخيم
أمام الباب منتظراً صديقي. استرقت السمع الى حركةٍ وراء
الباب فتشجعت لقرع الجرس ثانية. لحظات وسمعت صرير المفتاح
يئز وإنفرج الباب بصاحبي وهو يفرك عينيه، لقد كان الاخ يغط
في نوم عميق بعدما كرع عدة زجاجات من الـ(لاكر). دخلت الشقة
منهكاً، نزعت قميصي المبتل غير مبالٍ بأزراره التي تقطعت
ورميته على الكرسي. ثم فتحت أزرار البنطلون بتثاقل وسحبته
الى الاسفل. وحينما حررته من قدمي ورميته على الكرسي هو
الاخر سمعت رنة قطعة معدنية قفزت من البنطلون وأرتطمت
بالحائط. ولما بحلقت بها اكتشفت المأساة. كانت هي المائة فلس
ذاتها التي سببت لي كل هذا الارهاق والتعب وكذلك الجوع. فقد
كانت مختبئة في كفة البنطلون. تمالكت على الارض أحامل نفسي
على الضحك حتى غلبني النعاس.
ستوكهولم 1996
|