الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

التجريب المسرحي المصطلح والتأسيس وآفاق الرؤية

اجرى الاستطلاع: عباس الخفاجي

ما زال الابهام والالتباس يكتنف مصطلح التجريب.. وما زال التجريب المسرحي قائماً ومستمراً في مشهد المسرح العراقي.. والسؤال، ما حدود المصطلح، وما هي أسس الانطلاق في عوالمه؟.. بل، ما هي علاقة التجريب بالحداثة والمنهجيات الحديثة؟.. هل التجريب، تقليعة أم موجة عابرة، ام ضرورة معرفية؟

حقاً، ان الوسط المسرحي في العراق، ما زال يقف من (التجريب) مفهوماً ومصطلحاً وتوجهاً، مواقف متباينة تصل حد التناقض، وكل مبدع له اجتهاده ورؤياه حول المسرح التجريبي الذي بدأ يأخذ حيزاً واسعاً في المشهد المسرحي العراقي. وكل هذه المواقف بحاجة إلى اضاءة أو استشراف أو تعريف.

حاولنا في هذا الاستطلاع، ان نضيء جوانب كثيرة وعديدة حول التجريب وآفاقه، من خلال محاورة عدد من ذوي الشأن من نقاد وممثلين ومخرجين وتقنيين، فكانت الحصيلة ما يلي.

 

التجريب فعل حادث في مختبر

حاورنا في البدء، الفنان المخرج محسن العزاوي الذي أجابنا عن سؤالنا.. كيف نفهم التجريب؟.. وما هي دلالاته؟.. وآفاقه في المشهد المسرحي العراقي..؟

ـ كلمة التجريب، تطلق عادة على الفعل الحادث في مختبر، لإثبات شيء ما خلال التجربة اما في المسرح، فهو عمل إبداعي ينتج إضافة نوعية تنطوي على الجدية لتحقيق اهداف آنية كما في العرض المسرحي.. ويمكن اعتبار العرض المسرحي المرتبط بالمنهج التجريبي عرضاً لنتائج التجربة أو مختبراً للقيام بها.

ومن مبادئه إنه ابداع.. والإبداع هو أهم ما يميز الفنان الحقيقي عن المشتغل في الفن، ولا نجاز هذا الابداع لابد من توفر شروط اساسية في شخصية التجريبي المبدع في المقدمة منها:

(الموهبة) والتي تعني امكانية وضع الفكرة في شكل ملموس وهو أمر لا يتحقق إلا بالخبرة والتوفر الدائم لمحفزات تنطوي عليها ذات المبدع، وثانيهما (الخيال اللا محدود)، في العثور دائماً على بدائل واحتمالات لتحقيق النتائج والشرط الثالث هو (الخبرة) المعبر عنها بالتراكم المعرفي المتأتي من مصادر عديدة كالقراءة والتفاعل مع الحياة والتعامل المتواصل والطويل المدى مع اختصاصه الغني، اما الشرط الرابع فهو (قدرة الذاكرة) أو الذهن على تنظيم الافكار في خلق الجديد بحيث يتمخض هذا التجريب على إضافة.. سواء كانت هذه الاضافة ابتكاراً أو اكتشافاً ولعل الصفة المميزة للنتاج التجريبي (عرضاً، واسلوباً) تكمن في عدم التزامه بقانون أو قاعدة أو طريقة، سبق وان استخدمت من قبل مسرحيين سابقين.. اذ ان اصالة التجربة إلا تكون تقليداً، أو مستنسخاً، ليس كعرف أو قانون أو تقليد مسرحي فقط وانما حتى لنتاج تجريبي آخر! لذا فأن للتجريب اسس علمية، وهو ليس ضبط عشوائي لكي يأتي كل من هب ودب لتبرير عجزه عن الابداع ومتذرعا بالتجريب لتحقيق غايات لا مشروعة.

 

مشاكسة المتلقي في انتاج المعنى

اما الكاتب والناقد المسرحي عباس لطيف فاوجز وجهة نظره قائلاً:

ـ ما زال الكثير من المصطلحات والتصورات المعرفية بحاجة إلى استكشاف ومعاينة نقدية وتنويرية، وفي مقدمة هذه المصطلحات مصطلح التجريب.. وستعتصر زاوية النظر اليه في اطار التجربة المسرحية.. في المسرح وبعد الانعطافات والمغايرات على مستوى الوقائع التاريخية (حروب/ سقوط ايدليوجيات/ما بعد الحداثة/العولمة) بدأت الرؤى الابداعية تطلق عنان مخيلتها ومجساتها لالتقاط عوالم جديدة والانفتاح على نقط تبئير جديدة تتساوق مع الاختلاف وايقاع العصر وخلو الاشكاليات الجديدة.

ويضيف: من هذا الاستهلال نريد توكيد حقيقة ان التجريب بوصفه تياراً ومنهجاً ورؤية جديدة ومغايرة للعالم جاء نتيجة حتمية ابداعية وليس بفعل حتمية مؤدلجة، أي ان المبدع ضاق بالاطر التقليدية والرؤى السلفية في عالم صاخب ومكتظ وملتبس على مستوى الحقيقة ونسبية المعرفة وانشطار وجهات النظر، فكان لابد من هدم البديهيات القديمة والبنى المحنطة للتحليق في عالم متمرد وازاحة القواعد الكلاسيكية ومغادرة نظرية التطهير الارسطية والستانسلافيكية ومسرح القسوة، ونبذ مسرح البوستر السياسي والواقعية الفوتوغرافية، والمباشرة نحو عالم يرتكز على تحسس والتقاط ما هو جمالي مطلق، بعيداً عن مفهوم المطلقية الغيبية، فالتجريب جاء بوصفه ضرورة، وليس مجرد ترف واذا كان التجريب لمجرد المغايرة ذاتها فانه يسقط في الشكلانية أو التجريب لذاته، ولا يعدو ان يكون مجرد لعبة وهم لا تنتج سوى عدمية المعنى والعبث وتشويه الارث.

هناك قاعدة أو قانون علمي في علم الدلالة (السيمانتيك) مفاده: انك اذا اردت ان تزيح نظاماً معيناً يجب ان تضع نظاماً جديداً لضرورة ملجئة، وان تكون الدلالة موازية في عمقها ودلالالتها ومعاكسة في قوة تضادها: وفي نظرة سريعة إلى تاريخ المسرح نجد ان كل المذاهب الثورية المتقدمة في المسرح من النيو كلاسيكية والتعبيرية والبريختية ومسرح العبث واللامعقول قد بدأت وهي تتقمص روح المغايرة والتجريب.. هذا ما فعله ستانسلافسكي ومايرهولد وشاينا وبريخت وبيتربروك وبيتر فايس ولم يقتصر التجريب في ايجاد وابتكار عوالم الصورة والسينوغرافية وكسر افق التوقع، بل امتد الامر إلى المدونات النصية بوصفها المكون الاولي للعملية الدرامية، بل ان بعض تيارات التجريب في المسرح بدأت تتحاشى أو تتجاوز مسرح الكلمة باتجاه فضاء الصورة، باعتبار المسرح معرفة أو كيان في عدة منظومات وخطوط سمعبصرية ولم يعد الحوار المسرحي سيد الموقف.

ان التجريب المسرحي باعتقادي يمثل اكثر من ضرورة في زمن لم يستقر فيه أي شيء ولم تتقدس فيه جميع جمهوريات أو يوتوبيات المثل الثابتة.. من هنا فان التجريب تحريك الدلالة لالتقاط الحقائق المغايرة ومشاكسة المتلقي وزجه في عملية انتاج المعنى وابعاده عن نمطية التلقي الاستهلاكي أي التلقي المجرد، لا سيما وان المنهجيات الحديثة تجعل من المتلقي البؤرة المركزية لانتاج المعنى. والتجريب باختراقاته وكشوفاته يفتح افق المعنى على مساحات شاسعة من التأويل والايحاد والبحث عن رؤى متقدمة بعيدا عن المسرح المدرسي والتعليمي أو مسرح الهتافات والوصايا واستلاب وعي المتلقي. لكننا لا نطرح مفهوم التجريب على عواهنه دون الارتكاز على اشتراطات جمالية وفكرية محددة.

 

التجريب ووعي الاختراق

وللدكتور جبار خماط حسن.. مخرج اكاديمي رأي آخر، اذ يقول:

ـ التجريب استحداث طرق جديدة في فهم الاصول المسرحية التي تغذي الفهم المسرحي اولاً.. الامر الذي سيؤدي إلى ايجاد تصور اساسي يعمل على انتاج العرض المسرحي، والاصول المسرحية بالمعنى الاكاديمي، حيث العناصر الحركية والسمعية والبصرية التي تتواخى مع رؤية المخرج بايجاد الصورة المسرحية المناسبة وما نعرفه عن التجريب في المسرح العراقي محض اجتهاد يتحرك على مستويين، اولهما ابداعي، وهو تمثيل مبتكر لتلك الاصول المسرحية فهماً ومعالجة وصولاً إلى دهشة التذوق الذي يعد اساس التواصل المسرحي، اما المستوى الثاني فيكون تنظيمياً، سيجمع ويؤلف بين تجارب وخبرات مسرحية سابقة مع ضمان عامل التأليف الجديد لها، وهذا النوع هو ما يكون حاضراً في التجارب العراقية مع فارق النوع والكيف لدى بعض المخرجين العراقيين. ان ما وجدناه من لغة للخطاب المسرحي العراقي التجريبي، يمثل وعياً للاختراق في زمن الصلابة الفكرية، وانفلاقها، من اجل منح المتلقي فسحة رحبة للانتقال إلى نمط مسرحي جديد، نطمح اليه جميعاً شرط ألا يكون فصامياً في نزعته الجمالية والابداعية، مما يضمن لنا هوية مسرحية لطالما اردنا لها باباً واسعاً من الفهم والقبول والحضور في دلالة الاثر في خارطة المسرح العراقي الجديد، انه طموح ينبغي ان يكون حقيقة، لان التجارب المسرحية العربية المعاصرة وهذا بعض ما شاهدته تتسم بوجود نزعة اساسية على ربط المحلي بالاقليمي وعلى نمو موضوعات مفتوحة في دلالاتها مثل الاسطورة والحكاية الشعبية، أو موضوعات تاريخية تكون مادة مسرحية أولى تستثمر ضمن صيغة المسرحية لتكون خطاباً جمالياً مغايراً، يعمل من المتلقي، تواصلاً متحققاً وهنا تكون ضرورة المسرح في ايجاد ثقافة المسرح بلغته الفائقة حيث لا يسمح للقارئ ان يكون اساسا، وهذا ما نريده من عراق يجمع مبدعيه من بعد شتات.

الدكتور شفيق المهدي، رئيس اتحاد المسرحيين العراقيين، له رأي مختلف، اذ يقول:

ـ لقد دفعنا بعروض التجريب من ثقب ابرة، كان هذا في الثمانينيات من القرن الماضي، ولما احست السلطة بانها تواجه قوة شديدة تدينها عبر هذه العروض، حاولت ان تمتص نسغ هذه العروض واندفاعها في التسعينيات. كان آخر عرض قدمته هو (الكأس) وكان ذلك قبل عشرة أعوام على وجه التقريب، فادركت تماماً بان سلطة بهذه الدموية لا يهمها (عرض تجريبي) بل توصلت إلى حقيقة: ان السلطة بدأت توظفنا لصالحها، ولصالح غسل العار عن وجهها القذر، المسرح في كل الاحوال غير قادر على اسقاط نظام مستبد بهذا العتو والدموية، ويواصل المهدي، حديثه، قائلاً: ربما كنت اشد الجميع في مقاطعة المسرح.. ربما هي خيبة.. ولهذا تحولت للعمل السياسي السري، وانتميت للمعارضة رسمياً وهذا ما شكل لي رعباً حقيقياً، خصوصاً وانني عزلت عن عائلتي خمسة أعوام متتالية.. وفي الوقت الذي كانت السلطة تتخبط، كنا نحن المسرحيون التجريبيون لا نعرف ماذا نفعل، خصوصاً وان الابواب قد اغلقت جميعاً، لا نستطيع تقديم عرض مسرحي.. صلاح القصب سافر، عقيل مهدي هاجر، عزيز خيون ترك البلاد، وانا هارب، أو شبه هارب، لكن علي ان انبه إلى ظهور جيل استطاع ان يعمل بجدية وصدق ولم تكشف اوراقه بعد للسلطة، منهم كاظم النصار، احمد حسن موسى، وهناك الكثير من الفنانين الذين استطاعوا ان يثبتوا ملامحاً واضحة في اعمالهم.. وفي وسط مجتمع وثقافة سلطة شديدة الحساسية امام أي جديد استطعنا ان نقدم عروضاً مسرحية ناجحة.. اما مستقبل التجريب في العراق فسيكون افضل واحسن من السابق.. والانفتاح امام الفنان العراقي.. اجل ثمة امكانية لقيام حوار فني وجمالي ليس فيه حدود ولا قضايا حاسمة.. اذ لا يوجد ما هو ثابت في الفن.. بالاضافة إلى امكانية التقاء الفنان العراقي مع زميله العربي أو غيره  في بلدان العالم بدون وجود رجال المخابرات، أو ممن يرفع التقارير عن ما دار من حوار في الفن والجمال ويفسر سياسياً ان روحاً جديدة تغمر حياتنا ولها افق عظيم، وعلينا ان نشغل الفرصة.. ورغم تعثر مؤسساتنا الفنية اليوم.. إلا ان الفنان العراقي يعمل، وقد عاد الكثير من الفنانين إلى العراق. غير ان الغد سيكون للمسرح وللتجريب قوة في ثقافتنا العراقية.

 

من هيكلية العلبة إلى هيمنة البيت البغدادي

وتحدث المخرج احمد حسن موسى عن التجريب، قائلاً:

ـ بدءاً، لا بد من اضاءة مصطلح (التجريب) على انه فعل واع.. واضح القصد.. مؤسس على رؤية فكرية ـ جمالية وخاضع لدراسات تحليلية متعددة. يعتمد فعل التجريب باعتقادي على انشاء ورش مسرحية غير محدودة بزمن معين.. بقدر تعلقها بآليات تقديم الافكار.. كونها تعرض جميع خلايا الفكر الإنساني إلى العمل الدؤوب للبحث عن فضاءات جديدة لاشتغال يبحث عن الجديد..

على ان يكون هذا الجديد ناتج عن البيئة الانسانية دون الجنوح إلى بعض التمردات الشكلية والتي لا تهدف إلا إلى مزيد من التعقيدات والتي ستزيد مساحات الفراق بين الجمور والمسرح..

فلم يكن التجريب يوماً إلا لاحداث تقارب بين المتلقي والمسرح ليرضي طموحات المتلقي في ايجاد الوان جديدة واساليب غير مكتشفة في تقديم الافكار الانسانية وعدم السقوط في اشكالية التكرار أو جمود الشكل أو ترهات الطرح..

وهذا ما لمسناه في تجارب مخرجينا المبدعين وأود ان أشخصُ هذه الظاهرة والتي اخذت دورها منذ تجارب حميد محمد جواد وبهنام ميخائيل عبر اجيال متلاحقة لا يسعنا طرح اسمائهم، إلا ان ظاهرة التجريب بشكل واضح ومؤثر أجدها خرجت من معطف (منتدى المسرح)، ذلك البيت العتيق الذي اخرج مسرحنا من هيكلية العلبة لينطلق إلى هيمنة (البيت البغدادي) والذي منح مخرجينا فضاءً جديداً خصباً للابتكار واعادة آلياتهم.. وفعلاً لقد خرجت الكثير من التجارب المهمة من معطف هذا البيت القديم.

 

اخذنا الصدى ولم نلتفت للصوت!

أما الآن فاعتقد ان هناك تقويضاً لهذه الظاهرة وذلك بفعل تحجيم الثقافة العراقية بقرار (الخصخصة) والذي يعني انعدام أي دعم إلى التجارب المسرحية كونها بحاجة إلى دعم مستمر وتجارب متعددة وتمرين مستمر. وهذه الشروط ستشكل عقماً في ولادة تجارب تبحث عن الجديد في الشكل والمضمون.

وللفنانة آلاء حسين رأي بمفهوم التجريب، مفاده:

ـ ان المسرح هو فن وصناعة وعلم، ما زالت له ضفاف نجهلها، كما ان له آفاقا وامكانات ما نزال بعيدين عنها. وبها كان هذا الفن اكبر وارحب واخطر من محاولاتنا الابداعية والتنظيرية، وهي محاولات متواضعة في اغلبها.

لقد أكد المسرح التجريبي في العراق، ان هذا الفن ما زال قابلاً ان يعطي اكثر، وان يتجدد بشكل اكبر وافضل، الشيء الذي يؤكد الحقيقة التالية: هي ان البديهيات والمسلمات لا وجود لها في الفن المسرحي، وان الخطاب المسرحي يملك دائماً حق تجديد ادواته وتقنياته، وذلك استجابة لتعبيرالبيئات المكانية، والزمانية، واختلاف طبيعة وذهنية اقطاب الخطاب. وبهذا وجب ان نعيد النظر، ليس في المسرح كمسرح، ولكن في الصيغة التي تسربت الينا وهي صيغة لا تخرج عن كونها مجرد اجتهاد فقط، وهو اجتهاد مرتبط ليس بنا نحن ولكن بالآخرين.

لماذا اخذنا صيغة أو صيغاً من المسرح ولم نأخذ المسرح؟ لماذا اخذنا الصدى ولم نلتفت للصوت؟ نعرف ان المسرح بالاساس خطاب، وان لهذا الخطاب اشكال مختلفة ومتنوعة بل ان هذا الاختلاف راجع بالاساس إلى التغاير الموجود في التكوين النفسي والفكري والحضاري في صيغته الكلامية والرومانسية والرمزية والواقعية. وعلينا الآن ان نبدع في تيار التجريب وترسيخ مصالحه الابداعية.

 

مؤسساتنا تفننت بقتل بذرة التجريب

وللفنان أنس عبد الصمد رأي آخر، حيث يقول:

ـ قبل الدخول في مصطلح التجريب أو دلالته لابد من فهم معنى التجريب هو صفة شمولية للكثير من المفاهيم الفنية. فالتجريب، هو استخدام افكار جديدة في مفهوم له دلالة، والتجريب في المسرح هو سلوك حداثوي، تعتمد حداثته من التجريب نفسه ولا يعتمد على الحداثة المفتعلة، بل هو تأسيس لمنهج جديد. والغريب ان التجريب ليس حكراً على الهفوات التاريخية الطرازية للعروض، فقد بدأ بالظهور بعد اسخيلوس مباشرة، فذهب المؤلفون والمخرجون يتبارون لخلق حياة جديدة على المسرح لبناء اطر جمالية من مهماتها خلق دهشة معرفية لها القدرة على الانسجام الفعال مع المتلقي.

والتجريب لا يتحقق دون عناصر مهمة، اولها المخرج المفكر أو الفيلسوف الذي له القدرة للدخول في المنطقة المحرمة على المتلقي وهناك طرق جديدة للتجريب قد لا يتصورها كل من يشاهدها وقد وصلت إلى اقصى درجاتها والغريب ان هناك قلة من المخرجين تفهم كلمة (حداثة/ جسد وعرض/ بانتومايم/ مسرح حديث/ مسرح راقص) فهذا كله هو المادة الاولية لصناعة التجريب في المسرح الذي اطلق رصاصة الرحمة على الحوار المسرحي في اغلب العروض. ولدينا مؤسسات تفننت بقتل بذرة التجريب لدى المخرجين، مثل كلية الفنون الجميلة، أو المعهد ودائرة السينما والمسرح ووزارة الثقافة والسبب لاننا نعمل بالصمام المؤسساتي القمعي ـ فهناك اساتذة وفنانون افكارهم قديمة عليهم ان يأخذوا العبر وتغيير مناهجهم البالية قبل ان تتغير هذه المناهج بطريقة قسرية كما يحدث في السياسة.

اتوقع هناك تغييرات نحو مسرح حقيقي يواكب المرحلة لانه مرآة الشعوب وانتصاراته الحقيقية.

 

بامكاننا كسوته وان نعطيه هويته الحقيقية

ويختم الفنان معتز عبد الكريم هذا الاستطلاع اختصاص تقنيات مسرح، يقول:

ـ التجريب على مستوى الشكل ـ هو استجابة وأمنية لتطور الفكر. فهل يمكن ان نجد مثل هذه العلاقة العضوية بين التجريب (الشكلي) والتطور الفكري؟ نعرف ان التجريب كمنهج علمي قد جاء في اعقاب الثورة الصناعية والفكرية والاجتماعية وبهذا كان متصلاً وملتحماًبها ولما كان هذا المسرح مسرحاً علاجياً بالاساس، فقد كان لابد ان يستخدم الوسائل الجديدة والمتطورة، والمسرح التجريبي. يهتم بالجماليات. فهو مسرح حسي إلى اقصى حد انه صور ترى وانغام وايقاعات واصوات. وكثيراً ما تكون هذه الجماليات مقصودة لذاتها ذلك لانها لا تعبر عن شيء، ولا نقول أي شيء، ولكنها موجودة فقط لانها تلقى استجابة من عين المتلقي.

من هنا تأتي ضرورة البحث عن المسرح التجريبي، حيث بامكاننا ان نكسوه لحماً وعظاماً. وان نعطيه هويته الحقيقية.


مؤيد نعمة  الكاريكاتير فن التلويح بالمعاني المكبوتة  اجرت الحوار: خالدة حامد

أجرت الحوار: خالدة حامد

مؤيد نعمة فنان يتمتع بحس فني مرهف، وعين دائمة التلفت عما حولها، عين ثاقبة الرؤية، فاحصة عميقة للواقع ومشكلاته، تلحظ انتماءه لفنه. تختلف رسوماته عن السائد، محملة بالذكاء والهم الاجتماعي والسياسي. رصد الكثير من ظواهر المجتمع بخطوطه الحادة في تحركاتها ولغتها وموضوعها. انه يواكب الاحداث المأساوية تحليلاً وشرحاً بمبضع جراح. يتبنى بمداده الاسود مواقف ناصعة وجريئة.

في هذا الحوار تحدث مؤيد نعمة عن الكاريكاتير ومشكلاته ودوره وهموم اخرى ذات صلة بعمله.

*كيف تعرف نفسك وتجربتك لشخص لم يتعرف عليك من قبل؟

- بدأت بداية حقيقية عام 1973 مع الصحيفة اليومية للحزب الشيوعي العراقي (طريق الشعب) حيث وفرت لي هذه التجربة الغنية بكل القياسات معيناً رائعا للتواصل اليومي مع القراء والصحافة كمطبوع ومهنة وكيف يكون للرسام مريدون ومنتقدون وهو ما

يحتاجه فنان الكاريكاتير في بداية عمله ؛ فالنقد الفني والسياسي والصحفي كان له الأثر البالغ في مسيرتي المتواضعة فكريا وفنياً . ولأجل ان أوسع من دائرة اهتمامي بالكاريكاتير بدأت بالمشاركات الدولية مع بينالة كابروفو ـ بلغاريا في وقت مبكر عام 1975 وكنت احرص على الإكثار من المشاركات الدولة لصعوبة المنافسة والتحدي أولاً والاطلاع على التجارب المتنوعة والمتطورة في الأساليب والأفكار ثانيا.

* على العكس من الفنون الأخرى التي أشبعت نقداً وتحليلاً وكتابة ، لا يزال الغموض يكتنف فن الكاريكاتير لماذا ؟

- الكاريكاتير ليس فناً سهلاً يمكن ان يتناول نقده وتقييمه، كما ان النماذج التي عرف بها هذا الفن لم تستهوِ النقاد لإشباعها نقداً وتحليلاً لابتعادها عن المعنى الشامل لفن الكاريكاتير ( وأرجو ان لا يُنظر إلى النماذج التي تدعي الكاريكاتير ظلماً وبهتاناً).

الكاريكاتير ينشد المزيد من الغرابة في الاسلوب والفكرة حيث كانت بداياته مع الصحافة مجردة من العمق ، وطافية على سطح الإضحاك والهزل . واعتقد ان ذلك متعلق بالوظيفة التي أنيطت بالكاريكاتير لكي يؤديها في تلك المرحلة . أما وقد وصل الكاريكاتير إلى آفاق الدهشة والمفارقة المذهلة والغموض في الافكار وهو ما اود الاشارة اليه من ان النقد الفني يستلزم ان يكون هناك ناقد يؤمن بأهمية هذا الفن وجدوى انجازاته . وهناك أسماء جديرة فعلاً قرأت لها على اعمدة صحفية في زمن العتمة السابق .

ان غموض فن الكاريكاتير اشارة واضحة لمدى توغله في حيثيات الانسان وبطريقة تجعله منفذاً لمجموعة الافكار المتقاطعة التي ترى النور على سطح الورقة .

* لما كانت بدايات فن الكاريكاتير أوربية أصلاً ، من أين انطلق هذا الفن في العراق وما خصوصية التجربة العراقية أو ما يعرف بإسم (المدرسة البغدادية) في فن الكاريكاتير ؟

- الكاريكاتير فن صحفي عرف وانتشر في اوربا وتم قياس تطوره مع تطور الصحافة الاوربية التي أفردت له حيزاً مهما عززّ استمراره ومواصلة انتشاره. اضافة إلى العديد من الرسوم المضحكة التي اراد بها ملوك وسلاطين التأريخ ان يسخروا من اعدائهم بالايعاز إلى النحاتين والرسامين بتضمين أعمالهم الفنية ذلك .

اما المدرسة البغدادية في فن التصوير والتي برع فيها الرسام الـــعراقي الواســطي  فــقد ضــمت الــكثير مـــن الـــمشاهد ( الكاريكاتورية) ، إن صح التعبير ، في العصر العباسي المتخم بالإحداث والإبداع الفني وفي رسم المنمنمات المعروفة .

وتيمناً بهذا الاسم الموروث الجميل اطلقنا اسم المدرسة البغدادية على مجموعة الاساليب الكاريكاتورية التي نضجت في السبعينيات من القرن الماضي ونهلت من مدرسة الواسطي وبالمناسبة ، فهي مدرسة متميزة بشهادة أبرز فناني الكاريكاتير لأنها اعتمدت على نقل الواقع بالأسلوب الحديث ، بمعنى آخر لم تعتمد النكتة الساذجة أو تسطيح الموقف الساخر وإنما تشتغل على العمق .

* ثمة علاقة حميمة بين الكاريكاتير والصحف ، هل هي علاقة طردية ، بمعنى آخر هل ينتهي هذا الفن بموت الصحيفة ؟

- الصحافة بدأت في البلاد العربية متأخرة ، ومع بداية ظهور الصحافة بدأ الكاريكاتير العربي . أما في بلدنا ، الصحافة ظهرت في بداية القرن العشرين ، لكن الكاريكاتير كوظيفة صحفية لم يظهر إلا في الثلاثينيات من ذلك القرن.

ومع أني أدرك صلته الوثيقة بالصحافة، لأنها ساحته الحقيقية، أؤكد أنه لم يعد الان حبيس اعمدة الصحافة بل انتقل إلى ساحات اخرى ( مع ارتباطه الوثيق بالصحافة ) ؛ خاض مغامرة ثانية حينما بدأ يصبح الكاريكاتير لوحة، وما عاد مقتصراً على الصحيفة ، وأتيحت له نوافذ عدة متمثلة بالانترنيت والمهرجانات الدولية والمعارض الفنية والنحت والكرافيك والسيراميك وتحتفي به اركان البيوت والقاعات كأعمال متميزة ..

* عايشتَ أهم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي عصفت بالعراق ومن بينها الحروب والحصار ، هل كان لذلك أثر في عزلك عن التطورات التي طرأت على فن الكاريكاتير في الخارج ، أم فتحت لك باب التجريب ؟ وما أثر الأحداث المأساوية التي يشهدها بلدنا اليوم ؟

- نعم كان للاحداث القمعية والحروب ومخلفاتها من حصار وويلات اثر كبير في تهميش دور الكاريكاتير في الصحافة العراقية وبالتالي غياب التواصل مع المستجدات الفكرية والفنية لهذا الفن طيلة ( 35 ) عاماً ، ولكِ أن تتخيلي مقدار الغبن الذي لحق بنا جراء ذلك . ومع ذلك حاولت عام 1975 اللحاق بركب التجارب الحديثة من خلال المشاركات الدولية والتشبث بوسائل الاتصال المتواضعة للحصول على عناوين  المهرجانات والمؤسسات التي تعنى بالكاريكاتير .

لقد مرّت السنوات العجاف في حياتي ( 1980 ـ 1989) لكنها تركت أثراً مؤلماً حيث كنت في سبات

فني عميق في جبهات القتال وبعد تعرضي للاعتقال من قبل اجهزة النظام الدموي عام 1979 لانتمائي الفكري وعملي في جريدة ( طريق الشعب ) وتكررت المأساة بعد عام 1990 لندخل في دوامة الحصار ثم حرب الخليج الثانية والثالثة .

وبعد سقوط النظام الديكتاتوري تنفسنا الصعداء على الرغم مما يشوب هذه المرحلة من غبار الارهاب والقتل المجاني الا انها حملت لنا نذر الخلاص .

* رسوماتك تخلو من التعليق ، هل مرد ذلك إلى أنك ترى لغة كاريكاتير البصرية أبلغ من اللغة المكتوبة؟ وهل تعد التعليق دليلاً على فقر الرسام وضعفه؟

- أهمية التعليق تكمن في ان يكون جزءاً مكملاً للفكرة وليس الجزء الاساسي كما ان اغلب الشخوص الذين ارسمهم داخل اللوحة لا يتحدثون فيما بينهم اما خوفاً او بخلاً بالكلام  ويكتفون بالإشارة او الإيماءة للتعبير عن مشاعرهم ومع ذلك اعمد احياناً إلى كتابة تعليق مكثف يشير إلى فكرة صغيرة وددت ان اثير الانتباه لها .كما أحاول أيضاً أن أشرك القارئ معي بأن لا أمنحه المعلومة الكاملة  أو أعطيه أفكاراً جاهزة من دون أن يعمل فكره معي، ولهذا تجديني أبتعد عن التعليق.

* تقول في إحدى المقابلات التي أجريت معك أن الكاريكاتيــر ( شامل لكل الفنون، هو فن المستقبل)  ألا ترى أن في هذه المقولة شيئاً من المبالغة ؟

- فن المستقبل .. هو فن التعاطي مع المشاعر .. فن التلويح بالمعاني المكبوتة …فن شامل لبقية الفنون ؛ فن المبالغة التي لا يدركها التصوير والرسم الاكاديمي او الرسم الحديث ( التجريدي ) فن الاحساس بالموسيقى التي تنساب بين الخطوط .. فن السحر والإلهام الذي يجسده رسام الكاريكاتور بخطوط والوان قد لا تسعف القواعد الأكاديمية في تنفيذها . وبذا فهو فن شامل بتخطيطه، ألوانه ، نحته ، كرافيكه ، موسيقاه ، شعره المفعم بالأحاسيس التي تظهر على رسوم الفنان.

ولابد من الالتفات إلى مسألة مهمة ، وهي أني أتحدث هنا عن فئة الكاريكاتور اللوحة والموقف وليس كاريكاتير النكتة السمجة والضحك المسطح البليد والشائع في الصحافة ..

خذي مثلاً رسام الكاريكاتير الروسي ( سميرنوف ) والتشكيلي (ادولف بورن ) صاحب الجوائز الكبرى في المهرجانات الدولية .. والفنان العراقي ( عبد الرحيم ياسر ) والفنان الألماني ( هنري بوتنر ) والفنان المصري ( محي الدين اللباد ) والفنان الكوبي ( رينيه ويلانويز ) والفنانين السوريين ( يوسف عبد مكي وعلي فرزات ) والفنان الامريكي الروماني الاصل ( سول شتاينبرك ) والفنان الروسي ( سيرجي تيونن ) والفنان الفرنسي ( فولون ) … وعشرات الأسماء المحلقة في سماء الكاريكاتير .

* للشأن السياسي في رسوماتك الآن حضور يطغى على الجوانب الأخرى ، كالاجتماعية مثلاً إذ توقفت عن زاويتيّ (طبق الأصل) و(نساء ورجال) اللتين تناولتهما في السبعينيات والثمانينيات ، ما السبب؟

- مما لاشك فيه أن الظروف التي مر بها بلدنا كان لها تأثير كبير على أبناء المجتمع ، ومنهم رسام الكاريكاتير قطعاً ، مما دفعني إلى أن أعكس المعاناة السياسية في رسوماتي . المعاناة كبيرة ولهذا شغلت حصة كبيرة من تفكيري . وكانت هناك أسباب موضوعية ومعروفة في تلك السنين لكي ارسم خلف عناوين (رجال ونساء ) و ( طِبْـق الأصل ) . وجاءت الأحداث الأخيرة بسقوط النظام الديكتاتوري لكي تفجر خزيناً هائلا من الأفكار المكبوتة والمؤجلة إلى حين .

لذلك تجدينني ارسم الان في صحيفتين يوميتين اتخذت في إحداهما عنوان (طبق الأصل) ليشمل المواضيع السياسية والاجتماعية .

* هل حقاً أن الكاريكاتير هو فن التحريض ؟

نعم الكاريكاتير فن التحريض ضد الظلم والتعسف والخطأ والشاذ والسيء ويمكن ملاحظة ذلك جلياً في اية لوحة تنتمي لفن الكاريكاتير وليس لفن التهريج .

* هل علاقة هذا الفن بالحكومات سيئة دائماً ؟ وهل تعرضت رسوماتك إلى المنع ؟

- علاقة الكاريكاتير بالحكومات متقاطعة غالباً وسبب ذلك يعود إلى طبيعة هذا الفن المنفلت من اية قيود حكومية او ديكتاتورية .. الكاريكاتير ينشد الخلاص من كل القيود ليتمكن من ان يكون مؤثراً ومتميزاً .

وفي طبيعة الحال فقد تعرضت بعض من رسومي إلى المنع في الثمانينيات بسبب ( المبالغة ) كما ادعى سكرتير التحرير في إحدى المجلات ، والتي كانت عن أسعار البيض تحديداً ، إذ ذكرت أن سعر طبقة البيض في تلك الفترة وصل إلى عشرين ديناراً ، والحقيقة أن سكرتير التحرير قال إنها بثمانية عشر ديناراً . تصوري ! وبعد أسبوع فقط قفزت الأسعار إلى خمسة وعشرين ديناراً و مائة دينار وهكذا !

كما تم تشويه احد الكاريكاتيرات التي رسمتها وذلك بواسطة الحبر الاسود لإخفاء شخصيتين داخل الكاريكاتير يرتديان الزي العربي ، وقد اخبرني المصمم بأن رئيس التحرير هو الذي طلب ذلك ( لحساسية الموقف) !

ـــ تبعاً لإحصائيات لجنة حماية رساميّ الكاريكاتير في العالم التي يرأسها روبرت راسيل فإن (43) رسام كاريكاتير في دول العالم الثالث صاروا ملاحقين بسبب رسومات لا تتقبلها بلدانهم ، ولا

تخفى عليك قصة اغتيال ناجي العلي ، هل يدفع ذلك برسام الكاريكاتير إلى الترميز والتشفير ؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تحجيم (رسالته ) ؟

- اصبح الترميز من اساسيات فكر الكاريكاتور في البلدان العربية لضرورة التحايل على مقص الرقيب أو الملاحقة الأمنية ، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى .. ففي مصر كان رسامو الكاريكاتير يتفننون في تمرير أفكارهم (المشاكسة) على مقص الرقيب لتنشر بعدها وتبدأ الجماهير بالغمز واللمز على هذا المسؤول او ذلك الوزير . وفي سوريا كذلك والعراق والجزائر وبمستويات مختلفة حسب هامش الحرية الممنوح للصحافة في كل بلد .

ويستدعي ذلك فطنة رسام الكاريكاتير واجتهاده وشجاعته في ايجاد التبرير المناسب عند استجوابه من قبل السلطات الأمنية ( وأنت وحظك ) .

وبالتأكيد يصبح (التشفير) عبئاً مضافاً على الرسام ويضعف من قدرته على ايصال كل ما يجول في مخيلته إلى المشاهد ويقلل من امكانية التوغل الاعمق في موضوعات قد تكون ملتهبة ومهمة لا يمكن للرسام تحت هذه الظروف ان تناولها.


من الضفة الأخرى  تفجيرات الحادي عشر من ايلول  في روايتين فرنسيتين

بقلم :  شاكر نوري

بعد مرور ثلاثة أعوام  على تفجيرات الحادي عشر من أيلول ظهر كاتبان فرنسيان  هما فردريك بيغبيدر ولوك لانغ بروايتين حول هذه التراجيديا التاريخية  . والسؤال المطروح نقديا  هو : كيف يمكن الكتابة عن حدث جسيم هيمن على جميع وسائل الإعلام  طيلة شهور إذا لم نقل طيلة عامين كاملين؟ بروايته (نوافذ على العالم) (يمزج فردريك بيغبيدر  المتخيل مع السيرة الذاتية والفكاهة بالخيبة والنقد بالسخرية. أنه يسرد علينا اللحظات الأخيرة لأب وولديه السجناء في المطعم الكائن على قمة أحد برجي التجارة  (وولد تريد سنتر) الذي تعرض للتفجير في صبيحة 11 أيلول من عام 2001. وهو يستعرض في الوقت ذاته سنوات طفولته الباريسية وإقامته في نيويورك وحب الأدب ونقد  الذات بقوله (كنت أتهم بالوصولية وعدم الاهتمام  إلا بذاتي) ... الخ . وهل يمكن أن يؤلف كاتب (نرجسي ) رواية عن  أحداث مثل  تفجيرات 11 أيلول ؟  لكن هذه الرواية بلغت  درجة من الأهمية بحيث خصص لها الكاتب الفرنسي الشهير فيليب سولرز ارفع جائزة أدبية فرنسية وهي (الغونكور)  . وهذا الكاتب المولود  في عام 1965 في ضاحية نويي سور سين الباريسية الراقية  بدا الكتابة في عمر الخامسة والعشرين . أصدر أول رواية له بعنوان (العطلة في الكوما ) 1994 وتبعها برواية ( الحب يدوم ثلاثة  أعوام )  1997 و ( 99 فرنكا ) 2000 وهو يشغل منصب المدير الأدبي في دار نشر فلاماريون الباريسية الشهيرة .

يذكر  الروائي فردريك بيغبيدر بأنه كان موجوداً في دار نشر (غراسيه ) الباريسية عندما سمع بنبأ التفجيرات وأول ما تبادر إلى ذهنه هو  السؤال عن ابنته التي تقيم في الولايات المتحدة . ( مزيج من الهلع والرعب أحدثته هذه التفجيرات).

وقد بدأ الكاتب بتأليف روايته  فور الحدث من خلال تدوين الملاحظات . كما بدأ بجمع المقالات التي كتبت حول الموضوع . ويقول الكاتب ( أنه أهم حدث تاريخي في حياتي منذ ولادتي عام 1965 ) . ويؤكد   بأنه لا يمكن أن يكتب رواية متخيلة خالصة عن تفجيرات 11 أيلول  على الرغم من أن النظرة الشخصية مهمة في هذا المجال . (وهناك بديل في روايتي عن المتخيل وهو اللحظات الأخيرة التي سيعيشها الأب وولداه في المطعم الكائن في قمة أحد البرجين وعلى الخصوص أنني كتبت هذه الرواية في المطعم الكائن في  برج مونبرناس  في الطابق الـ 56 ). وقام الروائي بالجمع بين مقالات الصحف والملحمة والسرد الروائي والمقالة  . أما البقية فكانت مسألة بناء الحدث الروائي . ويقول الكاتب ( لسنا أول من كتب عن تفجيرات 11 أيلول فهناك آلاف الكتب حول الموضوع . وجميعنا حاول الإجابة عن السؤال التالي: لماذا ؟ وقليل تساءل : كيف حدث ذلك ؟ حاولت أن أتخيل ما حدث). والمؤلف من المتأثرين بالسينما  والرواية الأميركيتين.  وقد ضاق المؤلف ذرعا بالمقولات التي تقول أن الأميركيين يستحقون ذلك والنزعة المعادية للأميركيين بصورة آلية . ويؤكد الكاتب الفرنسي بأنه يمكن أن ننتقد الرأسمالية دون أن ننتقد الأميركي) . وعن الأسباب التي دفعته إلى كتابة هذه الرواية ‘ يؤكد الكاتب أنها  الرغبة في الكتابة عن الممنوع  وللأدب الفرنسي تاريخ طويل في التمرد والعصيان على ما هو سائد . واليوم يجب  أن تذهب الكتب  إلى المكان الذي لا يصله  جهاز التلفزيون ‘ وطرح اللامرئي ‘ وللأدب رسالة مستحيلة .

*********

أما الكاتب لوك لانغ فقد كان موجوداً في ( مونتانا ) بلد الهنود وكان مدعوا عند أحد الهنود حيث اتصل به أحد أصدقائه ليخبره بأن ثمة أحداثا رهيبة وقعت في نيويورك . ويقول بأنه جاء  إلى هذه المنطقة لكي يتحدث إلى الهنود ولكن هذا الحدث الدرامي الهائل حجب عنه ذلك . يسلك  هذا  الكاتب طريقا  آخر في معالجة هذا الحدث الدرامي وهو طريق أكثر تعقيدا في روايته المعنونة ( 11 ايلول  ... حبيبي ) على نسق رواية مارغريت دوراس ( هيروشيما ... حبيبتي ) وهو يقود القارئ لرؤية مشاهد استثنائية في منطقة (مونتانا ) التي يقطنها الهنود حيث يكتشف نبأ  التفجيرات من هناك من خلال شاشة التلفزيون ويصاب بالكبت عندما يصبح عاجزا عن فهم تاريخ  الهنود . وهكذا  يعطي  لوك لانغ رؤيته الخاصة عن أميركا ويدين العنف السائد فيها . كما يكرم الضحايا عبر رسائلهم التي بعثوا بها إلى ذويهم وأقاربهم  من خلال خطاب غاضب ومخيب . ولد الكاتب لوك لانغ في عام 1956 في ضاحية سورين وأقام في كل من إيطاليا وأفريقيا واليابان .ويعمل  أستاذا  للجماليات في معهد الفنون الجميلة . أصدر رواية (رحلة على خط  الأفق ) و ( ليفربول .. بحر متلاطم ) و( غضب ) و (1600 بطن ) و (الهنود ) . ويقول الكاتب (أن فكرة الرواية خطرت  على  ذهنه بعد مرور شهرين   على الحدث) ومنذ ذلك الحين (بدا الكاتب بقراءة الصحف الأميركية التي أخذت تقارن بين بيرل هاربور وبين تفجيرات 11 من أيلول . وفي نظر الكاتب أن هذه المقارنة  تنبع من الهلوسة لأن هجوم  بيرل هاربور كان عملية عسكرية . والحديث عن اليابان يؤدي بنا)  كما يؤكد الكاتب (إلى الحديث عن الضحايا المدنيين . ولعل أول صورة تراءت للكاتب هي صورة ضحايا هيروشيما . ولهذا يقول  ( لم يكن أمامي من تسمية أخرى سوى  11 ايلول ... حبيبي) ولم يكن متوفرا أمامي سوى العنوان .

يقول الكاتب ( إن الصعوبة التي واجهتها هي الصور الجديدة التي عرضتها شاشات التلفزيون .  والتحدي الذي واجهته هو ( هل يمكن أن أعطي لتلك الصور ذات القوة عن طريق الكتابة ؟ ) . يضاف إلى ذلك ‘  تسجيلات أصوات الناس ‘ كما لو أنها كانت أصواتا قادمة من العالم الآخر ‘ التي تودع أهلها وأقاربها . ( لا أعتقد أنه من الممكن الحديث بدلا عن الناس الذين اختفوا) ويضيف (أنني أحيي  التلفزيونات الأميركية التي رفضت عرض صور الضحايا الذين يرمون أنفسهم من نوافذ برج التجارة العالمية  في حين عرضت التلفزيونات الأوروبية ذلك ) . وبالنسبة للكاتب فأن تاريخ هذا اليوم لم يتوقف بل هو تاريخ يتواصل .

********

لا يتفق الكاتب فردريك بيغبيدر مع الكاتب الآخر لوك لانغ باستخدام الأخير للكلمة التي تنتقص من الأميركــــــــــــــيين ( أمريلوك) التي يكررها في  الرواية ويطرح مفهوم (انقلاب جورج بوش) الذي يذكر بمكائيل مور . الكاتب يستعين بالشاعر والت ويتمان ‘ ويذكر بكلمات كورت كوبان سنوات قبل حادث الـ 11 من أيلول التي تردد (اقتلوا الروكفليين) . كما أن الكاتب لوك لانغ لا يتفق تماما مع رواية زميله فردريك لأنه يعتقد بأنه من المستحيل كتابة عمل  متخيل حول أحداث من نمط تفجيرات الـ 11 من أيلول . ولا يمكن أن نعبر عن أصوات الناس الذين ماتوا في هذا الحادث . ويقول الكاتب ( بأنه لا يتحامل على الأميركيين بقدر ما هو يتحامل على الإدارة الأميركية ) . وفي نهاية روايته يقول ( من حسن الحظ  يوجد أميركيون ) . ويذكر كتابا أمثال وليم  فولكنر ودوس باسوس  وغيرهما . ( عندما  أقرأ رواية فردريك اشعر بأنني أجد نفسي في استعراض كبير ‘ في مؤسسة إعلانية ) .  ويرد  فردريك بيغبيدر على زميله لوك لانغ بقوله ( إن عنوان كتابك  يتميز بمسحة إعلانية ‘ مثلما يمكن أن تقول ـــ صبرا وشاتيلا .. حبيبتي ــ أو ــ  سربرينيكا ...  عزيزتي ــ هناك أشياء لا اتفق معها ‘ على سبيل المثال عندما تقارن الأميركيين بالنازيين ) . ويرد عليه لوك لانغ قائلا ( لم أكتب ذلك  بل ذكرت أنه أبان احتلال اليابان في عام 1945 ‘ فرض الأميركيون رقابة صارمة بحيث لم يكن اليابانيون في مناطق معينة ما حدث في هيروشيما وناكازاكي من أهوال ) . ويرد عليه فردريك  بقوله ( وقارن بين  آرييل شارون والجنرال كوستر ؟ كما لو نضع على قدم المساواة إبادة الهنود الحمر بإبادة الفلسطينيين ‘   أليست  هذه مبالغة من طرفك ؟ )   ويرد عليه زميله لانغ  ( هذه  المسألة تشبه إرسال مدنيين من أجل  احتلال الأراضي ومن بعد ذلك خلق أزمة).

وعن تشابه  النقاط  بين الروايتين ‘ يقول فردريك ( هذا أمر منطقي لأننا توصلنا إلى ذات المصادر وذكرنا سوية البير كامي . والفكرة المشتركة بيننا هي ظهور العنف بهذا  الشكل في العالم المتحضر ) . ويضيف الكاتب ( بالنسبة لي ‘ تفجيرات الـ 11 من ايلول ما هي إلا بداية الكوارث).

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة