د. فاطمة بدر
((الخيال في يهيئه الواقع ليصبح فناً)) ماركيز
أصبحت الواقعية السحرية إنموذجاً شائعاً لدى الكثير من الكتاب، لاسيما
الكتاب العرب، فقد استمد هؤلاء الكتاب رؤاهم من روايات
أمريكا اللاتينية، التي امتازت بفضاءات سحرية عجيبة وأجواء
خيالية خرافية غريبة، إذ يرسم الكاتب قصته في غاية البساطة
متخذاً تفاصيل الحياة مادته، ثم يدعمها بكل ما هو غريب
ومستحيل، وهو بهذا لا يستنسخ الواقع إنما يخلق واقعاً خاصاً
به، يقوم على مبدأ التوليف بين المتضادات، لذا نجد الفوضى مع
النظام، والاستقرار مع الاضطراب، والأمل مع البؤس، والنفس
الممزقة والمعذبة مع صفاء الروح وخلودها، والمطلق مع النسبي،
والخلود مع الفناء، فضلاً عن التأكيد على الالتباس، وأثيرية
الزمن، والقلق الميتافيزيقي، والإحساس باللايقين - وانعدام
المعايير الثابتة للقيم، عالم مليء بالمناقضات، يريد الكاتب
من خلاله البرهنة على فرضية معينة وهو بهذا لا يرسم سحرية
للامتاع فقط، إنما يريد الإيحاء بفكرة فلسفية، أو مجموعة
أفكار منها العالم الذي نراه مالوفاً.
تعمل عملية تقطيع الأحداث بالانتقال من مشهد واقعي إلى مشهد متخيل فنطازي،
على تأجيل الحدث فوق الطبيعي، وتعايش المشهدين المتنافرين
المتضادين المتلاحمين جنباً إلى جنب لتبدو الرواية أكثر
إدهاشاً وبراعة سواء في موضوعتها أم في صياغتها السردية،
وتعمل هذه العملية أيضاً على رد فعل القارئ وشده إلى
الأحداث، فضلاً عن خلق جمالية في السرد من خلال التنويع في
الصور والإيحاء والحركة؛ وهذه الإشارات تجرنا إلى القول
برواية تبغي (هدم الحكاية) لأن السرد فيها يضم مجموعة من
الحكايات المتقطعة، إذ لا يثبت النص على حالة إنما يتكسر
المحكي بتلاقح من استرجاع واستباق تجنباً لخطيه تنامي الحدث،
وإلغاء التنامي الزمني والمنطقي المعتاد في الرواية
التقليدية، وبذلك جاوزت هذه الرواية الحبكة التقليدية،
وتميزت بخصائص تجريبية على مستوى السرد لأن سمة هذه الروايات
تنصب على تهشيم العلاقات بكسر منطق التماسك واستبداله بمنطق
التفكيك والتهشيم والتشتيت؛ فضلاً عن ذوبان الحدود الفاصلة
بين الضمائر، وانتقال الراوي من ضمير الغائب إلى ضمير
المتكلم وبالعكس؛ وتعمل هذه الخلخلة على تعليق ذهن المتلقي
وشغله، إذ يتبدل أفق توقع القارئ بين الحين والآخر لبناء أفق
جديد يكتمل المعنى؛ كما أن التنقلات بين ضميري الغيبة
والمتكلم يخضع للاحتياجات الدلالية، ولشد القارئ إلى ساحة
إنتاج المعنى، وهذا يعمل أيضاً إلى (دفع المتلقي إلى حركة
إيحائية توازي حركة المبدع).
وقد عد جينيت أقوى أنواع الخرق هو (الخرق المتجسد في تبديل ضمير الشخص
النحوي للدلالة على الشخصية نفسها).
إن تبادل الضمائر ليست عملية تقنع فحسب، إنما هو انعطافة أسلوبية تمنح النص
تدفقاً دلالياً لاسيما عند تبادل الملفوظ على صعيد المرجع،
أي الانتقال من مرجع إلى آخر، وهذا ما يضفي إلى النص جمالية
شكلية؛ كما أن تهجين الملفوظ يولد ظهور أصواته في مستوى
يوازي صوت الراوي يجعلنا نجهل لمن القول: هل هو للمؤلف، أم
للراوي أم للشخصية؟
لقد أصبحت هذه الموضوعات أثيرة لدى الكتاب، كما أن لغة القص وأدواتها تحولت
هي الأخرى نحو الفنطازية، إذ اعتمدت هذه الروايات على مدونة
لغوية ذات شحنات شعرية وصفية إيحائية لا حد لها؛ تعمل على
توصيف الشيء المحكي بلغة يسودها التساؤل في اغلب الأحيان؛
وعدم الاكتراث بالترابط الداخلي بين الجمل وهذا يؤدي إلى
ارتباك في السياق، فضلاً عن تكرار عبارات معينة مؤكدة على
ألفاظ غريبة وأحياناً مبتذلة تترجم سلوك تلك الشخصيات،
والاستعانة بذاكرة حسية شمية لصياغة نمط خاص بها؛ أما
تكرارية المشهد الموصوف أو ما يطلق عليه بـ(البناء الهارموني
- السيمفوني) الذي يفيد التأكيد والترسيخ والثبات في الزمن،
إذ تظهر حركة الزمن في حركة دائرية مغلقة على ذاتها يتم
تكسير زمن الواقعة محدثاً في ذلك دلالة تغيب الزمن وتبعثره
وأحياناً تلاشيه (محو الحدود الفاصلة بين الأزمة) وهذا ما
يجعلنا نحس أننا إزاء زمن واحد مطلق؛ ويعد الموت في روايات
بحثنا (اللحن الدوار السيمفوني) الذي يتردد في كل فصل من
فصول الرواية وهذا يعني توقف جريان الزمن وينتج عن هذا فقدان
تدرج الحدث، وبالتالي فقدان التشويق، وسيادة طابع المملل،
كما أن تدمير الزمن يؤدي إلى انفجار زمن القصة المتخيلة كما
يقول ريكاردو.
وأخيراً (نفي الإيهام) وهذا يعني عطب الذاكرة والالتباس والتصدع، وعدم
اليقين، إذ يشعرنا الراوي بأنه يعرف ثم ما يلبث أن يعلن أنه
لا يعرف، إن التأكيد على هذه المسألة نجدها في مواضع كثيرة
من روايات بحثنا، ويطلق على هذا النفي بـ(الإيهام باليقين)
ويعمل هذا على: (التشكيك في قدرة الكلام، أو في قدرة المتخيل
الحكائي على أن يكون حقيقياً بذاته، أو بعلاقته مع الواقعي،
أو مع معنى واحد يسمى هو في حكايته سوى وجه قابل للتعدد
وتعدد المرايا والرواة).
يجب التنويه أولاً إلى إن رواية (خريف البطريرك) حازت على جائزة نوبل في
الآداب لعام 1982، وقد طبعت أكثر من ست طبعات، اعتمدت في
تركيب أحداثها على مبدأ التوليف كما أشرنا سابقاً؛ وثانياً
صدرت رواية (رحلة غاندي الصغير) للياس خوري عام 1989، وقد
تحدثت عن اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982.
وثالثاً: حازت رواية (سيد العتمة) لربيع جابر على جائزة الناقد لعام 1992
التي تحكي عن قرية لبنانية إبان الاحتلال التركي، أما رواية
(مواء) لطه حامد شبيب فقد كتبها عام 2001 هي الأخرى تحكي عن
الموت.
ثمة تساؤل يجول في خاطري لماذا يقلد الكتاب (ماركيز) أهي الرغبة في
التقليد؟ أم قصور في التخييل؟ أم هناك قوة خفية سحرية تؤثر
في هؤلاء الكتاب؟ لأنهم عدوا (ماركيز) إنموذجاً للثقافة
فعمدوا إلى محاكاته، لأنه خلق أدباً عميقاً وجميلاً استطاع
من خلال رواياته أن يعري الواقع وما فيه من قبح وتفاهة.
وبشاعة، وأنانية، وحروب، وقتل، ودمار، وخراب، وقمع، واستهتار بحقوق البشر،
واضطهاد الحرية؟
كل هذه المسائل الآنفة الذكر من الممكن أن تكون هي الدافع الذي وجه الكتاب
إلى مثل هذه الكتابة؛ فضلاً عن تأثر ماركيز بسحر الشرق
لاسيما حكايات ألف ليلة وليلة، وعمل هذا على تفجير طاقاته
الخيالية عن هذا السحر، وهذا يعني إن السحر كان عندنا ولم
نره لأننا لا نرى بعيوننا إنما نرى بعيون الآخرين.
إن تذويب أجزاء من خطاب ماركيز (خريف البطريرك) داخل خطاب هذه الروايات يتم
بوعي وقصدية من الكتّاب، لقد قام هؤلاء الكتاب بمحو حدود
النص القديم مضيفين على خطاب الآخر نغمته وتعبيره، وأسلوبه
الخاص، لذا نجد أنفسنا أمام أعمال تتماثل فيما بينها في
الإطار والنسق والعلاقات؛ ويطلق على هذا النوع من المحاكاة
أو التناص بـ(التناص الظاهر غير المستتر)، وأن كان غير مصرح
به، إلا أنه يتم بوعي وقصدية من الكاتب مشعراً القارئ بأنه
إزاء نص تم إنتاجه من تذويب النص الآخر، ومحوه وإعادة خلقه
بالكامل، بحيث لا يعود أكثر من ذكرى بعيدة أو مصدر إلهام لنص
من مصادر أخرى.
يمكن أن نحصي النقاط التي توصل إليها البحث للكشف عن كيفية امتصاص رواية
(خريف البطريرك وإعادة خلقها في هذه النصوص الثلاثة:
1- تحاكي الروايات الثلاث النمط الماركيزي كما أشرنا، إذ تستنتج الروايات
على وفق مبدأ الميتات الزائفة، وتعد هذه اللازمة المتكررة
سيمفونية، أو لحناً هارمونياً يتردد في كل فصل في كل روايات
بحثنا، ثم نكتشف وعلى لسان الرواة أنه حي.
في رواية خريف البطريرك يقول: (كان ذلك بالضبط بعد ميتته الزائفة) ويقول:
(صار موته شبيهاً بميتات أخرى ماضية).
وفي سيد العتمة تتكرر ميتة البيك الغريبة والخادعة، غذ يظهر البيك،
وأحياناً يختفي يقول: (كانت تلك الميتات المعلن عنها في أضخم
المناسبات والأعراس خدعة هائلة لتجريده من المؤيدين وجعلهم
أعداء له). ويقول: (إن المفتاح الوحيد لقلعة الميتات الغريبة
كان قد ظهر ليلة موت أمه).
|