الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

طور الوعي الديني في المشرق القديم (1)

(2 - 4)

عبدالله خليفة

4- صعود التضاد بين الزراعة والرعي: إذا كانت الحرف والتجارة لا تستطيع أن تكون إلا داخل المدينة، فإن الرعي لابد أن يتشكل وينمو خارج المدينة . وفي البدء أيضاً كانت الزراعة هي أساس تشكل المدينة، فظهرت المهن الأخرى في أسواقها ومركزها. لكن الرعي امتلك خاصية تجاوز المدينة وحقولها، والنمو في البراري. وقد أعطت التطورات الإنتاجية خاصة، الرعي، إمكانية الانفصال المستمر عن المدينة والزراعة، دون القدرة على الانفكاك الكلي منهما. وعبر ظهور تقسيم العمل والتبادل راحت هذه الأقسام الاقتصادية بالنمو، كل حسب موقعه من علاقات الإنتاج. لقد تحرر الرعي من الهيمنة المباشرة للسلطة واستغلالها، على الرغم من عدم قدرته الكلية على الخروج من الاستغلال في عملية التبادل مع هذه المدن. ومنذ بداية تشكل الإرث الفكري الديني في المنطقة كان هناك استشعار لتشكل التناقض بين الرعي والزراعة، بين المنتج الرعوي الذي يبدأ باستنئناس الحيوان والعيش في البراري وصنع سلع خاصة، وبين المدينة ـ الدولة ذات المحيط الريفي الزراعي، والتي تغدو دائرة إنتاجية وسياسية متكاملة . إن  الرعاة يغدون خارجها باستمرار، تدفعهم عملية البحث عن المراعي إلى الانتشار في المناطق البعيدة، حيث تتوسع الرقع الزراعية وتنمو المدن ملقية إياهم أكثر فأكثر في الصحارى الكبرى. ويصبح النمو الطبيعي لهذين الفرعين من الاقتصاد الواحد تضاداً عميقاً، فالمدينة تقوم بالانتشار وتوسيع رقع سيطرتها، وهي في بداية تشكلها تجمع بين الزراعة والرعي، حينما تكون أقرب للقرية، ولكنها بعد ذلك تغدو متخصصة في إنتاجها، مما يجعلها بحاجة إلى الإنتاج الرعوي. إن التخصص يؤدي إلى نمو الإنتاج المتنوع، ولكن الرعاة يصيرون مشكلة عبر مستواهم الاجتماعي والفكري المختلف والمضاد للمدينة. والمدينة باعتبارها مركز التراكم المالي والثقافي، تغدو في مواجهة للأقسام الريفية والرعوية، التي تزداد انفصالا عنها. وإذا كانت المدينة هي قرية في البداية، ثم تنمو قدراتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، نافية الأقسام الرعوية، فإنها كذلك تعلو على أساسها الريفي، وبعدئذ تنفصل بشكل كبير عنه، عبر تكدس الفوائض المالية فيها. لكن القرية تظل في المحيط الحضري المسيطر عليه، في حين يفلت الرعي من هذه السيطرة، ويتخذ لنفسه مسارات مختلفة. وفي البدء نرى في الأساطير السومرية تنافساً غير دموي بين الآلهة الزراعية والآلهة الرعوية ف(الأسطورة السومرية، تحكي لنا أن الإله إنليل Enlil أراد أن يعمر الأرض، فخلق لذلك مخلوقين أخوين، (إيميش) للعناية بالحيوان، و(إيتين) وجعله فلاح الآلهة) .(11) .  إن المدينة السومرية التي لا تزال لا تعرف التضاد التناحري بين الزراعة والرعي، تشكل وحدة تناغمية بين الاقتصادين الوليدين، ولهذا فإن الإله أنليل ممثل دولة المدينة السومرية، يجعل للفلاحة إلهاً تابعاً له، بينما الآخر هو للعناية بالحيوان. ونجد الجانبين الزراعي والرعوي متداخلين بصورة كبيرة : فإينتين (جعل سمك البحر يلقي بيضه في المستنقعات والأهوار/وجعل من نتاج النخيل والأعناب الدبس والخمر/ وأكثر من ثمار الأشجار حيثما نبت الكلأ/ وجعل الحقول تكثر من غلاتها) في حين إن إيميش هو الذي (أوجد الشجر والحقول/ وجعل حظائر الماشية والأغنام كثيرة/ وأكثر من نتاج المزارع/ وجعل الكلأ يغطي الأرض/ وملأ البيوت بغلال الحصد/ وجعل الأهراء زاخرة ممتلئة)،(12). إن التداخل كبير بين الشخصين الرمزين، كالتداخل في المستويين الاقتصاديين، إلا أن الفلاحة هي التي لها الألوهية،  وفيما بعد سينمو التضاد وسيعلو الراعي في الأساطير. فالآلهة أنانا السومرية تعتزم اختيار زوج فيشير لها الإله أوتو إله الشمس باختيار الراعي المكتنز أشياء كثيرة والذي يزخر باللآلىء والأحجار الكريمة، لكنها تفضل الفلاح (أنكيميدو) ( الذي يكثر من إنتاج الزرع / الفلاح الذي يكثر من إنتاج الحبوب )، (13). وفي نهاية القصة تفضل أنانا الراعي. وتفضل التوراة كذلك الراعي على الفلاح، ( وكان هابيل راعياً للغنم وكان قايين عاملاً في الأرض . وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من ثمار الأرض قرباناً للرب، وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل  وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر) (تكوين 4 ـ 12). ولكن الحدث المساق عبر الرؤية التوارتية الرعوية هنا يحيل الفلاح إلى قاتل. إن ذلك يعبر عن المسارات التي تشكلت في المشرق (العربي) بتعمق الانقسام بين المزارعين والرعاة. إن المزارعين المستقرين في بيوتهم وفي مدينتهم المحصنة، أخذوا يتخوفون من القبائل غير المستقرة التي تعيش في الصحارى، والتي تواجه مواسم متباينة من نزول المطر أو عدمه، وتدفعها ظروف الفقر والمجاعات إلى الهجوم على المناطق الزراعية والمدنية. وتشكل المناطق الحضرية الجيوش لملاحقة وإبادة الجماعات (البربرية) و(الوحشية)، وتتشكل مناطق زراعية، ومناطق رعوية، وتنمو القبائل والجماعات و(الأمم) منقسمة بين التكوينين الكبيرين. ونجد كيف نظر المصريون القدماء وهم في واديهم الخصب إلى الأمم الرعوية كأجانب، ووضعوا الإله (أست) الشيطاني كرمز للرعاة ولعالم ما وراء النهر. ولم يحدث تداخل كبير بين العالم المصري الزراعي والرعاة إلا عبر الهكسوس وشعوب البحر الغازية، ولهذا لم تتفاقم القوى العسكرية والعنف في المجتمع المصري مثلما حدث في المجتمع العراقي، حيث التداخل الكبير بين المزارعين والرعاة. ولكنهم بعد طرد الهكسوس خرجوا إلى المشرق وكونوا الإمبراطورية، ثم اعتمدوا على القوى العسكرية المرتزقة فحدث انهيار عميق في الحضارة المصرية. ولكن لا بد من القول هنا إن الرعاة كانوا دائماً يعيشون على أطراف الوادي وفي سيناء. وإذا كان الجمهور الفقير أو الغني في دولة المدينة، أو المملكة، المحكوم بأجهزة القهر، أو بفائض المال، لا يستطيع تاريخياً أن يغير النظام الاجتماعي، حيث إن الدولة هيمنت عليه وقسمته، فإن الرعاة المنتشرين في الفيافي وهم الأحرار والمسلحون يستطيعون ذلك حين يمتلكون العناصر البشرية والمادية والفكرية التي تجعلهم في مستوى أقوى. ولهذا نجد أن (الأمم الزراعية) فقدت كثيراً من القدرة على التغيير الثوري الداخلي، في حين صار الحراك الاجتماعي في أغلبه من (الأمم الرعوية). إن ذلك يعود إلى أن الطبقة المنتجة الفلاحية مفككة في قراها الكثيرة المتباعدة، وليس لديها قدرات عسكرية كبيرة، في حين تستطيع الطبقات الحاكمة تخصيص جيش مُجهّز منفصل عن المزارعين، وهي تجده عادة في القبائل أو الأقسام غير العاملة في الزراعة وفي المرتزقة، ثم إنها تطبق العيش الإجباري في القرية وتمنع الخروج منها، فتجعل الفلاحين عبيداً في الأرض . وهذا هو النمط المسمى (العبودية المُعممة). وحين تأتي قوى غازية تكون غالباً من هذه القبائل المسلحة الحاكمة أو المنتشرة في الصحارى، أو إن المدن العبودية المسيطرة تستخدمها أو تستأجرها. لقد كانت الأقوام السامية الأولى كالبابليين والآشوريين والآراميين والعبريين، أو القوى الإقليمية الغازية فيما بعد كالفرس والمقدونيين والرومان، أو الأمة السامية الأخيرة وهي العرب، هم حلقات من الأندياحات الرعوية الكبيرة، وقد فطن إلى ذلك مؤرخنا ابن خلدون، (14). إن الفترات والمراحل التاريخية تعطي لكل حملة  رعوية طابعها ومداها وآثارها، وهي إذ ترتبط بمستوى تلاحم القبائل الفكري والعسكري، عبر المناطق الرعوية التي تكونت فيها، وبصلاتها وبتحولاتها و بمستوى إنتاجها وثقافتها، فإن سيطرتها وديمومتها تتحدد بمستوى مقاومة المزارعين كذلك، الذين لم يكونوا خارج التاريخ، على الرغم من إن الأمم المسيطرة ستجعل الأمر يبدو كذلك . 5 - صراع الرعاة والفلاحين على مستوى إقليمي: إن الأمم الغازية (الرعوية) قد مرت بمراحل وتطورات اجتماعية وفكرية كبيرة، ولا يمكن دمغها في تكوين مجرد كلي، ولهذا فإن علينا تتبع الخطوط العريضة لنموها، والمحصلة الأخيرة لتحولها إلى قوى غازية، ولماذا تعجز أفكارها الأكثر تطوراً ربما من وعي المشرق(العربي) أن تخترق نواته الصلبة. فالاخمينيون الإيرانيون، القبائل الرعوية الفارسية، والتي سيطرت على المناطق الإيرانية، وحدث التمايز بين إدارتها الملكية وجمهورها القبلي، اعتمدت على الفكرة المجوسية في الصراع بين إلهي النور والظلام، لكنها لم تتدخل في صياغة أديان المنطقة المستعبدة لها، تاركة الجمهور الشرقي في معتقداته، ولكنها استمرت في استغلال الشعوب بالطريقة القديمة، عبر ترك المناطق الزراعية في انفصالها، وإرسالها للضرائب أو الخراج، وكأنها عبر حفاظها على هذه الفسيفساء واختلافاتها، تضمن صراعاتها الجانبية وتبعيتها. وكان هذا بخلاف الأسلوب الآشوري المعتمد على الاستغلال البشع وفرض الإله واعتماد العنف كوسيلة وحيدة للسيطرة. لاشك إن للفرس الاخمينين  دوراً في تطور المنطقة الفكري على الرغم من هذا الاستعباد، ففكرة النور والظلام، و مسألة إله الخير والشر،  قامتا باختزال الشبكة المعقدة من آلهة الخير والشر، وبلورتها في الإله الواحد أو الشيطان، ولا شك إن هذا مثَّـل تقدماً روحياً على صعيد الوعي، مما يعبر عن تقدم المنطقة باتجاه الوحدة السياسية والثقافية. وقد وضع ذلك (الحدود) الفكرية بين إيران والعالم الخارجي، المعادي أو التابع، وجعلها جزءاً مهماً من المشرق. وتتشكل عبر هذا الوعي الصراعي بين النور والظلام اتجاهات الحركة الاجتماعية الإيرانية المختلفة، فحدود النور ودوره أو اختلاطه بالظلام وغير ذلك من المسائل الغيبية، تلعب دوراً هاما للوعي، الذي يحولها إلى فعل اجتماعي، وتتمكن هذه المسائل المجردة من إقامة التحالفات (النورانية ) ، حين يتسع الأفق الوطني الإيراني لشعوب مؤثرة أخرى. وعرفت تجربة الشعب الإيراني غنى خاصاً في بلورة سمات المشرق، فالزرادشتية مثلت المرحلة الأرستقراطية في الهيمنة المنفصلة عن الناس العاملين وتكوين الدولة (القومية)، ثم تشكلت المانوية كاتجاه صوفي غنوصي معبر عن فئات وسطى رافضة لاستبداد الملكية المطلقة وبذخها وحروبها، وتتوجت العملية الثورية الإيرانية بالمزدكية وهي التي جسدت نضال الفلاحين من أجل الأرض . لقد عبرت المسيحية عن الآهات العميقة للفلاحين، ولكنها  تراوحت  بين  الثالوث الإيراني، أي بين قوى الإشراف والفئات المتوسطة والفلاحين، فالأب، مثل آن أو أيل، الإله المفارق الذي يغدو غير مفارق، بالتحامه بالابن الذي هو مثل تموز وأدونيس، يختزل كل ديانات واحتفالات الربيع، فلا ينفك عن إرثه الأمومي، لكنه يعبر عن القوى السياسية والثقافية الفاعلة في خلق الصلات بين الأب (السلطة المطلقة المفارقة) والناس، وهم حينئذٍ الفلاحون الغامضون في المنظومة. إن حدوث التداخل بين المسيحية والمانوية أمر يشير إلى الطابع المعبر عن الفئات الوسطى حينئذٍ، خاصة لأولئك المثـقفين المكافحين بصورة سلمية، والذين يحاولون تشكيل علاقات مختلفة عن نظام العصر القديم، أي عن نظام الآلهة ـ الملوك، إلى نظام الآباء ـ الأبناء، وهو أمر يشير إلى الأضرار الفادحة ودمار ثروات المنطقة بالبذخ والحروب، فيغدو نموذج المتقشف والراهب الذي يعمر الصحراء بالزراعة مؤشراً لضرورة تجاوز نظام العبودية المعممة في المشرق . التفاصيل


في ذكرى رحيل المفكر هادي العلوي: بورتريه مختلف لرجل استعاد لذاته مكان الفقر الأُول

خالد سليمان

تعتبر شخصية المفكر العراقي الراحل هادي العلوي من بين الشخصيات الأكثر إشكاليةً في الثقافة العربية والإسلامية والأكثر اختلافاً في حقول المعرفة الفلسفية والدينية . وهذا ما دفع المستعرب الفرنسي (جاك بيرك) اعتباره واحداً من أخطر عشرة مفكرين في القرن العشرين ووضعه في موازاة سارتر، فوكو، هربرت ماركوز، كاسترياديس، برتراند راسل، سونغ لي، تروتسكي وأخيراً نوم تشومسكي. هذا الرجل الذي جمع بين الدين والفلسفة والمعرفة والسياسة في كتاباته وبحوثه الفكرية النقدية، دخل عالم الفكر والثقافة من مكان منسي وبيئة اجتماعية هامشية مرتبطة بفقر شديد وتخلف ثقافي كبير صنعه برأي العلوي العثمانيون.

حاولت في حواراتي الطويلة معه في أعوام 1997، 1998، 1999 التحدث إليه عن طفولته وتأثير المكان عليه بالإضافة إلى ذلك الفقر المدقع الذي كان تتميز به (كرادة مريم) مكان ولادته ، وهي ضاحية من ضواحي بغداد يقول عنها العلوي: (يصدق على أهلها بالضبط وصف أنجلز  فلاحين مستقرين لكنهم في حالة انحطاط). كان هذا الوصف المستعار اختصاراً لسرديات المكان أراد من خلاله العبور إلى ضفة أُخرى وهي ضفة (جميع الخلق) أو الكل المؤتلف في اختلافه وفي الفُقر الكُلي الذي أصبح فيه الفجل مصدراً للتجارة.  بذلك أراد العلوي الحديث عن عموم (الخَلق) حسب تعبيره والإبتعاد عن الأمور الذاتية التي كانت تشكل بالنسبة له نوعاً من النرجسية لدى الكاتب. رأيت هذا الوصف لتلك المرحلة، أي العقد الأخير من النصف الأول من القرن العشرين، باباً مناسباً للدخول إلى ذاكرته والعودة من خلالها إلى كرادة مريم لإظهار طفولته. سألته عن مستويات ذلك الانحطاط ومكوناته وأسبابه وكان جوابه كالآتي: شأنها  شأن المدن، فقد امتد التأثير العثماني إلى تلك الضاحية، ومسها حضارياً وحتى إنتاجياً . فرغم خصوبة التربة ووقوع الكرادة على ضفاف دجلة، فقد كانت مزارعها كالهشيم المحترق وبساتينها خفيفة متفرقة الشجر. وكانت القيم الموروثة في حالة (البلبلة) والفقر الشديد إلى حد أنهم اعتبروا (الفجّال) تاجراً وكانوا يسمون الفجل (أبو خوصة الذهب) (كانوا يشدّون باقة الفجل بالخوص) والكادح منهم يضع طبق الفجل على رأسه ويذهب إلى بغداد ليبيعه إلى أغنيائها. والفجل عند (البغادّة  شاويش العشا) أي عريف الطعام .

وحسب رواية العلوي فإن ما كان يأتي للفجّال من طبق الفجل هو رزق يومين وإذا تأخر عن البيع ثلاثة أيام لم يجد عياله طعاماً . وارتبط ذلك الفقر الشديد بانحطاط الوعي .

في عام 1932 وفي تلك البيئة الفقيرة اقتصادياً وحضارياً ولد هادي العلوي من عائلة متدينة وكبر مع البؤس والحرمان، عمل والده عاملاُ في البناء ومات جده المتفقه السيد سلمان عام 1937 أي بعد خمس سنوات من ولادته. تعرف في نعومة أظفاره على شيئان رئيسان وهما صورة الفقر القاسية في ملامح أُمه ومكتبة كبيرة ومليئة بأمهات المصادر الإسلامية  تركها له جده  . تظهر ملامح شخصية العلوي في سياق الصورة الأولى من خلال كلمات محدودة لم يضف إليها شيئاً في لقاءاتي معه وهي: (تأثرت طبقياً بوضعي العائلي، عانيت الفقر مع والدتي، مما غرس في وعيي الصغير كرهاً للأغنياء ولدولة الأغنياء). اختصر هذه المرة ايضاً السرد وتفاصيل حياة معذبو (كرادة مريم)  إلى جمل قصيرة ومكثفة وبدأ يتكلم عن الصورة الثانية المتمثلة في مكتبة السيد سلمان التي أوصلته إلى صدمة مبكرة في حياته وهي أن الإسلام يبيح التملك العام ويسمح بتقسيم الناس على مالك ومحروم وخادم ومخدوم.

العثور على صورة طفل في طفولة العلوي هو أصعب الأشياء في أي بحث عنه ، لأنه افتقد للطفولة أولاً وتجنب الحديث عنها إن وجدت ثانياً. فرغم كل محاولاتي المتكررة بالتحدث إليه حول ذات الموضوع، أي الطفولة وكرادة مريم ، فضل التكلم عن (العلوي) الكبير وأمكنته الكونية التي أصبحت مساحات للمعرفة لديه . وبسبب هذا النزوع الكوني إلى النظر للمكان لم يعتد الارتياد في حياته اليومية على الأماكن العامة وأسس لذاته بؤر مكانية افتراضية كـ (معرة نعمان) مثلاً. واختار في فترة شبابه مقهى (حسين الحمد) للقاء بالمثقف العراقي شاكر جابر في تلك الفترة، ولا نستغرب إن سألناه عن مقهى ما في حياته وهو لا يعرف سوى مقهى الكرادة (حسين الحمد) الذي تحدث عنه بأسطر قليلة بعد مشاكسات كثيرة مع ذاكرته وأسئلة مكررة:

ما يشدني إلى مقهى محلتنا التاريخي هي جلساتي مع شاكر جابر وأخي الكبير كاظم وكان بعيداً عن همومنا الثقافية بسبب نزوعه نحو علوم الطبيعة، ولكنه كان يحضر جلساتنا مكتفياً بالاستماع.

(حسين الحمد) مقهى للطرف أي لأبناء المحلة . هو مكانهم الذي يستريحون فيه من عناء العمل ويتسلون بلعب (الدومنة) والطاولة (النرد). لم أكن من رواد المقاهي وإنما أخذني إليها شاكر وكاظم . وهكذا فالمكان الذي هو المقهى يصبح عندي المدرسة المفتوحة . وعندئذ يفقد المكان المقهى مفهومه الجغرافي ليكتسب جوهرية أُخرى من علاقتي به .

بعد تعرفه على مكتبة جده الغنية بمصادر التراث الإسلامية  وبداية رحلة التعرف على عالم الكتب والقراءة يتعرف على شاكر جابر الذي يوجهه بدوره إلى طريق الثقافة العلمية. ويصف العلوي جابر صاحب رواية (الأيام المضيئة) و (الهارب) وأحد قادة الشيوعيين في الكرادة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، بموسوعة أدب وثقافة، وكان عنده مكتبة عامرة بالأمهات من الأصيل والمترجم قرأت أكثرها بتوجيه منه. وإلى جانب القراءة كانت لقاءاته شبه يومية معه في مقهى (حسين الحمد). ومن المفارقة أن يتوقف هذا الكاتب عن الإنتاج ، فلا يكتب غير (الأيام المضيئة) ثم رواية صغيرة عنوانها (الهارب) كما يذكر العلوي.

نفهم من هذه السيرة القاسية والمجردة من السرديات والتي تظهر في اللا مكان أحياناً، أن الطفولة في حياة العلوي كانت شيئاً مؤجلاً، ولا تظهر ملامحها إلاّ في سياق أحاديثه عن الدين والسلطة والناس (الخلق) . حكى لي مرة عن ضعف بنيته الجسدية عندما كان يافعاُ وما كان يستطيع التسلق بأشجار النخيل لقطف ثمارها كما كان يفعل أخوه (حسن العلوي) . هذا التمايز الجسدي انعكس فيما بعد في الفكر والسلوك أيضاً وصار لكل واحد منهما طريقا يختلف فيه عن الآخر، فـ (حسن) القوي جسدياً والذي كان يقطف التمر بسهولة اتجه نحو الأوساط المهيمنة في الثقافة والسياسة وأصبح واحداً من الرموز الصحافية البارزة في الصحافة العراقية السلطوية، أما هادي النحيف فاتجه نحو ضفة المعارضة لكل ما هو سلطوي ومألوف في الحياة الثقافية والسياسية وصنف ذاته في موقع المهمشين.

زرعت تلك البيئة الدينية التي عاشها العلوي داخل عائلته ومكتبة جده السيد سلمان طقوس وممارسات يومية كانت جزءاً من شخصيته واهتماماته، ومن هذه الأشياء كانت مسألة الطهارة التي كان يسميها النظافة. فبعد كل مرة يمسك فيها شيء من خارج المنزل كان يغسل يديه بالصابون ويطهرهما من النجاسة الخارجية. وكنت قد أعتدت خلال حواراتي معه لمدة عام أن أغسل يدي بعد وصولي إلى منزله مباشرة وكان يقول لي أنت آت من الخارج وقد لمست النقود كي تشتري وتدفع أجرة السيارة التي وصلتك إلى هنا فعليك بغسل اليدين . ولا أخفي أنني تأثرت بهذا السلوك الحذر من النقود ولا أستطيع تناول الأكل حتى الآن إذا لمست النقود. كان الحذر من الاتساخ - النجاسة ضمناً - جزءاً من إشكالاته السياسية والأيديولوجية وليست الجسدية فقط. لذلك قرر الابتعاد عن رجالات السلطة والدين والمال ، وكما يقول عنه فوزي كريم كان العلوي  (حزباً متطرفاً في داخله) في نظرته لهرميات الدولة والدين والمال .  لم يجمعه بالتالي لقاء مع الأغنياء ورجالات الدولة على طاولة واحدة وبقي منعزلاً داخل بيته المحصن ضد التفسخ السياسي. التفاصيل

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة