الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

اعطني. اعطني ماء القلب

يثير الشعر السومري كثيراً من الملاحظات الفنية والفكرية، ولعل اهم تلك الملاحظات اقتراحه تأسيس النمط الفني لأنماط الكتابة الشعرية التي عرفتها الحضارات الشرقية القديمة. لا بل امتدت تلك الاقتراحات الفنية الى كل شعوب العالم. في لحظة تشكل ثقافتها البرية الاولى، ومعلنة عنها عبر ممارسات طقسية وسحرية، مصاحبة بالتراتيل والمرويات. هذا الحماس الواضح للشعر السومري، متأتٍ من كونه يمثل الينابيع الاولى في تاريخ حضارات الشرق الادنى القديم.

ولعب دوراً مهماً ومهيمناً في ارساء الشكل الفني الذي لم تستطع الحضارات الاخرى خرقه وتفكيكه واضافة سمات فنية جديدة عليه. لقد ظلت عناصره ثابتة كرستها العقائد (الطقوس) والشعائر السحرية. لأن الدين لا يتبدى الامن خلال الشعر في الفجر الانساني للحضارات القديمة، والتي لم تعرف النثر في الاتصال والتبادل اليومي المتنوع، وذلك لأن الشعوب القديمة - كما قال هيغل - حصنت نفسها بالشعر لتحمي ثقافتها من النثر. وهذا يعني أن الشعر هو الشكل الفني الوحيد السائد والذي ارتضته الحضارات معطى لتقدمها الثقافي، واختارته وسيلتها اليومية حتى في التفاصيل البسيطة او الدقيقة. واعتقد بأن للدين دوراً مركزياً في سيادة الشعر وذلك متأت من كون الاسطورة مكرسة للدين وعناصره العديدة، وتمثل (الاسطورة) مدونة نهائية للعقائد والطقوس وبما ان المزاولات ذات وظيفة دينية، فلم تجد  افضل من الشعر للصوغ والتبادل الشفاهي. وتسللت خاصيات مشتركة الى الشعر في الاسطورة، وهي المعروفة بالعناصر الفنية التي ميزت الشعر عن النثر مضافاً إلى ذلك، الدور الذي لعبته الذاكرة في الحفاظ على التبادل الثقافي خلال الطقوس والاعياد والمناسبات الخاصة بموت الالهة وانبعاثها وتجدد حياتها مرة ثانية هذه الذاكرة، هي التي اختزنت نتاج تصوراتها المخيالية، بديلاً للتدوين الذي لم يكن معروفاًَ في المراحل الحضارية المبكرة، بسبب تأخر اختراع اللغة، والاعتماد حصراً على اللغة الصورية، العلامات، وهي لغة قادرة على التبادل، لكنه تبادل محدود، يفضي الى تلبية متطلبات محدودة تماماً، ولذا تميزت الذاكرة بمركزية طاغية في الممارسات الثقافية. وحتى تظل الذاكرة بحيويتها (الذاكرة الجمعية) اقترحت بعضاً من التوصيفات الشكلانية لمحفوظاتها (الشعر) حتى تتمكن أكثر من الابقاء عليه مختزناً، وقابلاً للاستعادة في اللحظة التي تحين فيها الضرورة الدينية لاسطورة ما، أو ملحمة من الملاحم. وربما تبدو المهمة سهلة وبسيطة في التعامل مع النصوص الاسطورية القصيرة، لكنها صعبة/ ومعقدة مع النصوص الطويلة جداً، والاخرى الملحمية، حيث تتطلب ذاكرة متميزة ومدربة على الخزن والاستعادة والاضافة إذا اقتضت الضرورة ومن غير اخلالات بالوحدة الأساسية للنصز وتظل نصوص الانبعاث وملاحم الخلق والتكوين أكثر النصوص الاسطورية اثارة للمتاعب/، والمخاوف بسبب حجمها الطويل وازدحامها بعدد غير قليل من الالهة وتعدد الوحدات الفنية/ الداخلية، المكونة للنص حيث يفترض هذا نوعاً من الاستعادة وكنوع درجتها، وكيفية التعامل مع التطورات المتحكمة بالنص من الداخل. ولكني اعتقد بان اساطر الجنس/الانبعاث (ترجمها قاسم الشواف تحت عنوان: اعطني. اعطني ماء القلب) وملاحم الخلق والتكوين تراوغ اندثارات الذاكرة وتبقى يقظة/ حية بسبب مشاركة الحشود الغفيرة في ترتيلها وتقديمها ممسرحة في مناسبات دينية محددة. واشتراك هذا العدد الكبير جداً، في مشاهد مسرحية/ دينية ـ وهي طقس سحري/ ديني ـ يضفي عليها شكلاً من اشكال التدوين والاختزان وتقلص فرصضياعها بسبب النسيان أو الموت، لذا تظل تلك النصوص مرتجلة، وخاضعة من جديد إلى ذاكرات جديدة تمسك بها، كما ان لطلاب المعابد دورا واضحا في حفظ تلك النصوص وترديدها يومياً وفي فترات متعددة من النهار/والليل، في المعابد وغرف المدارس الملحقة بها، وفي البيوت، وعند مدورات الالهة الخاصة بكل عائلة من العوائل. واعتقد بان نصوص (اعطني. إعطني ماء القلب) أكثر النصوص تردداً في الحياة الدينية/والاجتماعية/ والسياسية، لانها ذات صلة مباشرة، أو دقيقة للغاية بالوفرة في الحياة وديمومة الاخصاب وتوقع الانبثاق الآني وترقب الانبعاث، هذه المعطيات لا تتبدى إلا من خلال أساطير الحب والجنس، أو ما يسمى بطقوس الزواج الالهي. ولذا فانها أكثر التصاقاً بالناس وارتباطاً مع عقائدهم المعنية بالوفرة والخصوبة. ولمن يريد حيازة هذ المعطيات وتحققها، لابد ان يمارس ترتيل تلك النصوص كوظيفة دينية، وهو من خلال ممارسته يؤدي طقساً/سحرياً دينياً، مثلما يساهم بتكرس العقائد الدينية والخصائص الاجتماعية المميزة لدويلة من دويلات المدن، وايضاً نظامها السياسي، لان نصوص الجنس المقدسة معنية بتفاصيل الحياة كلها، وليس في مجال الخصب البايولوجي مثلاً. والانسان الذي يتمكن من تحقيق وفرته البايولوجية، يمارس ذات الدور الدين/والسياسة/ والاقتصاد، لان الجنس يمثل ومن خلال جوهره، هو علاقة كونية مستمرة تتبدى استمرارية الحياة وتخطي الكائن الفردية كما تبدي بقدرته على استيعاب شوق الإنسان وحنينه وقلقه  وجميع المشاعر الغامضة البواعث التي تنتابه كما قال الاستاذ يوسف حوراني.

أيها الرجل ـ العسل! الفاتن الذي يغمرني بالحلاوة إلى الابد!

أيها الإله الأكثر سحراً بين الآلهة

يا حبيب أمه، أنت لي

أنت ذو اليدين الناعمتين والرجلين الجميلتي الشكل:

إغمرني بحنوّك إلى الابد

أنت الذي بحيوية وإقدام، سحرت لي

سُرتي، أيا حبيب ـ أمه، أنت لي

أي.. ذو حلقات الشعر الجميلة: الخشنة التي تنمو قرب الماء!

وتكشف اساطير الجنس المقدس عن خصائص جديدة لم تكن موجودة في الالهة المناب عنها بكاهنة من كاهنات المعبد لان ممارسة الكاهنة لطقس الزواج الالهي، يعني حصول تحول كامل في عناصرها الحياتية ووظائفها الدينية.

وأول ما يتبدى هذا التحول في تغير إسمها وحيازتها على كنية ذات دلالة واضحة، تفضي نحو المعنى المرتبط مباشرة مع الطقس. وأشار الاستاذ يوسف حوراني مؤكداً هذا التحول، حيث اشار إلى ان دخول عشتار إلى مخدعها الزوجي يتغير اسمها إلى (عشارا) أي الآلهة التي يكون اختصاصها في المخدع

عندما يقام الزواج

يقودون عشتار إلى بيت والد زوجها

ليكون هناك فرح طوال تسعة أيام

وهم يدعون عشتار عشارا.

وتتضح الشحنة المخيالية في أساطير الحب والإخصاب، من أجل بقاء وظيفتها السحرية/ والدينية متداولة، وموفرة أيضاً مما يساعدها على البقاء في الذاكرة ومتجددة باستمرار، وبعد كل طقس من الطقوس والشعائر. ولم يكن التخييل منفلتاً وانما مؤطراً بموقف لاهوتي، له صلة مباشرة بالعالم والكون وحركة الفصول وتناولتها، كل هذه تتمظهر في نصوص الحب (اعطني. اعطني ماء القلب) وتضيء العالم باعتباره عالماً بهياً وناصعاً، نظيفاً وملبياً الحاجة الحسية ضمن وظائف مقدسة، كي يحقق الإنسان نسلّيته، ويعلن عن التجدد والبقاء ودوام الانبعاث.

أن هي مسّت السماء: فهذا هو الفيض

إذ تنسكب من الأعالي الأمطار الغزيرة!

ولئن مسّت الارض: فهذا هو الرخاء فمن الاسفل تطفح الثروات!

كلمتك هي النباتات! كلمتك هي الحب!

كلمتك هي الفيض: حياة البلاد جمعاء!

وتتميز النصوص الاسطورية الخاصة بالجنس المقدس وطقوسه بوفرة الرموز وتنوعها واختلاف الفضاءات الدلالية لها. لان الشعر السومري يؤسس معناه من خلال الوحدة الكامنة بين مفردات السياق النصي، ويكون لها كذلك تعدداً، وخصوصاً تلك المعنية بالاخصاب لانها تفضي إلى مساحات مختلفة وكثيرة.. والطاقة التعبيرية الكامنة في الاسطورة عالية جداً، تمنحها فرصة الافضاء/والتنوع، وشمولية الدلالة. مثلما للمجاز فيها مركز فعال للغاية. ومثل هذه النصوص متعالية بالمجازات التي فيها، والاستعارات، والرموز لذا تنفتح بشفافية، ويتسع معناها، وتقود القراءة إلى تأويل يُفعل التلقي وينمي جمالية التجاوب.

كان حبيبي قد قدم للقائي:

فبلغ معي لذته وكنا سعيدين معاً!

كان أخي قد قادني إلى داره

وجعلني أتمدد على فراشه الناعم المضمخ بالعطر!

وعند ذلك تمدد حبيبي العذب فوق قلبي

بعد ان اشبع شهوته، حبيبي العذب (قال لي)

دعيني اذهب يا أختاه، دعيني أذهب

يضيء هذا النص العلاقة الثنائية الدينية/ والبايولوجية بين الإله والآلهة، ومن خلال الملك والكاهنة، كما انه  ـ النص ـ يكشف عن الوحدة القائمة بين الزوج والزوجة بوصفهما قطبي الحياة. لكن لابد من الاشارة إلى مركزية الآلهة انانا/عشتار في هذا النص الاسطوري، لانها هي مالكة النداء والهاتف العلني والدعوة حتى تتحقق الوفرة والديمومة. وقال: الطيب تيزيني: ان انانا/ عشتار ـ في الشعر السومري ـ مجسدة للحب/ الخصب/ الجنس، والتي تعود إلى عالم الحب/ الخصب والجنس بعد غيبة طويلة مأساوية، تعاود عملها الخلاق على نحو يعيد للكون رواءه وحيويته. وهذا ما جعل منها محور الفعل الجنسي ضمن دورات كونية (زراعية).. ومع مظاهر الكون الطبيعية والنباتية والحيوانية والانسانية، وربما يصح، هنا، النظر إليها بمثابتها سيدة البغايا المقدسات اللواتي يقدمن أنفسهن هبات للخص والحب وحثاً عليها من قبل الطبيعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نصوص الشعر السومري مستلة من ديوان سومر وأكد وآشور الكتاب/الأول اعطني. ماء القلب/ ترجمة قاسم الشوّاق.

 


الوجدان - 12 - الامتحان

فائق بطي

لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن (المدى) بدمشق قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما رافقه من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.

مطلع عام 1977

الحياة العامة اصبحت مملة. الاوضاع السياسية باتت مقرفة. العهر السياسي بدأ يطفح على السطح في كافة المجالات. الروتين في الجريدة بدأ يضغط على اعصابه. عشقه للصحافة بدأ ينتابه الملل. غرامه بالكتابة وبقدسية الكلمة بدأ ايضا يذبل وهو حبيس ارادة واهواء اكثر من رفيق رقيب على تحركات وآراء المحررين في اقسام الجريدة. فرئيس التحرير، عبد الرزاق الصافي، عضو المكتب السياسي للحزب، يحاول جاهدا ان يوفق بين متطلبات العمل المهني في ظل تحالف سياسي كسيح مع حزب البعث، وبين ضغوطات الرفاق في الخارج وداخل الجريدة، المستهجنة للوضع الذي يعايشونه مع الحلفاء الاعداء داخل خيمة ما اسموه بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية. مدير التحرير، فخري كريم، الغاضب علىالاوضاع، يريد شيئا آخر، تعاضده في ذلك غالبية المحررين. اعضاء المكتب السياسي يتقدمهم صاحب الامتياز والمشرف الجديد على الجريدة، ثابت حبيب العاني، يريدون الحفاظ على ما تبقى من مظاهر التحالف خوفا على ضياع كل شيء.

بدأ يومه في الذهاب الى الجريدة يشكل كابوسا يثقل كاهله. ان الدوام في اروقة المكان القريب من نصب الجندي المجهول في منطقة العلوية، بات اجباريا بعد ان كان بالنسبة له خيارا مفضلا، واستجابة لرغبة فخري كريم، الذي طلب منه الالتحاق بالجريدة منذ صدور عددها الأول.

لم ينفرد بهذا الشعور، بل كان واثقا من ان الكثير من المحررين يشاطرونه هذا الاحساس، حتى اولئك الرفاق الذين جاؤا من جنوب العراق بتنسيبات حزبية، بدأوا يتركون العمل ويتسربون الى خارج بغداد، ومنهم من غادر الى الخارج، او الذين سفروا لاسباب باتت معروفة،يتقدمهم شمران الياسري (ابو كاطع).

حاول ان يقضي اوقاته خارج الجريدة، وهو يعد الايام التي بدأت تتسارع في جو محفوف بالمخاطر. كان يقوم مع صديقه يوسف الصائغ بزيارات الى مطبعة الاديب حيث يلتقي هناك بالذين يعرفهم من العمال والزائرين، ثم يغادران المطبعة الى جريدة الجمهورية للقاء محمد كامل عارف ومنير رزوق وسلوى زكو.

قبل العودة الى الجريدة ثانية يعرجان الى بارات ابي نؤاس او درابين العلوية ليحتسيا البيرة قبل ان تبدأ المرحلة الثانية من الصراع الدائر بين الحقيقة والواقع المفروض عليهما، وعلى كل اولئك الملتزمين الذين يحاول عدد محدود (من القادة) تجريدهم من قناعاتهم والاصطفاف في الطابور المتجه نحو المجهول المعلوم للجميع.

 

كان الذهاب عصر كل يوم الى مقر نقابة الصحفيين، لا يقل ازعاجا عن البقاء في الجريدة.ان عيون الرقيب في سيارات (الفولكس واكن) ذات الشريط الاسود تلاحقه منذ ان يترك الدار حتى مقر النقابة وبالعكس.

في كل مساء عدا يوم الجمعة، كانت شرفة الشقة التي يسكن فيها في منطقة رخيته - كرادة داخل تشهد حوارات ساخنة، يؤججها يوسف الصائغ امام فخري كريم، بينما كان هو يلح في تساؤلاته عن اسباب بقاء الجبهة، وقد جاوز الفاشيون المدى في اعتداءاتهم واعداماتهم هذا عدا عن خطف الرفاق من البيوت والشوارع وتنفيذ سياسة الاسقاط السياسي، فينهض فخري ويتبعه يوسف، وتبقى الاسئلة تجوب في ذهنه باحثة عن الجواب.

يعود ثانية الى الشرفة ليكمل السهرة الحزينة، وقد باتت لياليه كلها حزينة، فالزوجة والاولاد نائمون. يحتسي ما تبقى من الكحول حتى يذهب الى فراشه متعثرا بخطواته ومستسلما للكوابيس التي تزوره دون ميعاد.

                                                      ***

ينهض صباحا بتثاقل كالمعتاد، ليجد نفسه وحيدا، فالزوجة قد غادرت الى عملها في شارع البنوك، ورافد ولهيب قد ذهبا الى مدرستهما في العلوية. يبدأ هو مسيرته اليومية بالذهاب الى الجريدة.

في الغرفة الاولى التي يفتتح فيها يومه، تجلس فاطمة المحسن، وهي غارقة بين اكوام الاوراق المتناثرة على منضدتها دون نظام، يبادرها بالتحية مستفسرا عن مشروعها الجديد في الكتابة. تسقط القلم من بين اناملها، وتعدل في جلستها لتقول:

- ما عدت اقوى على تصوير هموم الناس في صفحة(حياة الشعب) اذا كانت همومي وحيرتي حبيستين. لم اعد اطيق هذا العمل.

فاطمة المحسن، الفتاة السمراء القادمة من جنوب العراق، ولجت عالم الصحافة كفتاة يحدوها الامل في ان تكون صحافة الحزب مدرستها المثلى، كما كانت مدرسة للعشرات من المثقفين العراقيين والعرب، الذين تخرجوا من : العصبة،الاساس، الثقافة الجديدة، اتحاد الشعب ومن ثم طريق الشعب. كانت تصدر في تلك الفترة عن الحزب الشيوعي العراقي جريدة (الفكر الجديد) الاسبوعية لصاحب الامتياز احمد قاسم العزيز، ومدير تحريرها فخري كريم يساعده محمد فتح الله.

التحقت فاطمة بالفكر الجديد محررة متدربة وهي تحلم، وفي احلامها، ينمو ويكبر الامل، في ان تكون يوما ما صحفية وكاتبة. التحقت في جريدة طريق الشعب اليومية في اعقاب توقيع الجبهة مع حزب البعث، وكانت من اوائل المحررين الذين دفعوا ثمن الالتزام الفكري والسياسي عندما صمدت في سجون الحلفاء وصارعت الموت في اضرابها عن الطعام متحدية زمن الهبوط والسقوط. اطلقوا سراحها بعد حملة ادانة عالمية وغادرت العراق الى الخارج لتواصل مسيرة العطاء الثقافي، ورفضت ان تتحدث عن ممارسات التعذيب التي تعرضت لها في السجون، في الندوات والنشاطات التي اقيمت خصيصا لفضح اساليب التعذيب التي تفنن بها نظام البعث الدموي اللاانساني.

في الطرف الثاني من الغرفة، يحتل الشاعر الحالم فاضل السلطاني مقعده، الشاعر الرقيق والهادىء، الساكت عن الكلام المباح، الحالم به سرا، وهو يبحث عن جديد، الجديد الذي يشاطره في ذلك شاعراخر هو مخلص خليل.

شاعران واعدان لجيل جديد من مثقفي الحزب.

ترك الغرفة الاولى واتجه الى غرفة الارشيف. انهما اثنان فقط يرفدان كل اقسام الجريدة بالقصاصات والمتابعات والصور وكل مادة ارشيفية يحتاجها او يطلبها المحرر المعني. أموري عطية، الشيوعي الطيب الذي احبه كل العاملين في الجريدة. لا يعرف الحزن ابدا، ولا تراه او تلتقي به في الممرات او في الحديقة الا وهو يبتسم لكل رفيق او محرر مهموم.  ومعه في القسم، تشاطره المهام، سهام الظاهر، الفتاة الشيوعية القادمة من طويريج في جنوب العراق، لا تعرف الجلوس على المقعد في الغرفة، بل تراها   نشطة وحركة  وهي تتنقل بين غرف الجريدة لتوزع المواد والصور والقصاصات على من طلبها سابقا. فالمحررون لا يملون الطلب طالما هم لا يملون الكتابة. سهام وأموري نجحا في تحويل الغرفة الواسعة في الطابق الارضي والملاصقة لحديقة المبنى، الى قسم واسع  ضم في رفوفه ومكتباته العشرات من الاضابير والمجلدات  والادراج الحديدية. هذا الكم الهائل من العناوين والقصاصات  والمواد المؤرشفة في مختلف الاختصاصات وفي فترة زمنية قياسية لمثل هذا العمل الذي لاتستغني عنه اية مطبوعة في عالم النشر.

في الغرفة الاخيرة في اسفل السلم، يلقي سلامه ويداعب مدير الادارة، عادل علي، ولا يتركه الا بعد ان يحصل منه على ضحكة ونكتة بلهجة عربية- كردية، يبقى يرددها وهو يتسلق السلالم الى الطابق الثاني، حيث يعرج على قسم الشؤون العربية والدولية، ويرى امامه على باب الغرفة، حميد بخش (ابو زكي) الذي حل مكان ماجد عبد الرضا في ادارة شؤون القسم، وعضوا في مجلس تحرير الجريدة (هتج).

ان ابا زكي، رفيق لا تفارقه روح الدعابة حتى اثناء حديثه الجدي او مناقشاته مع رفاقه في تحرير الصفحة او في الاعداد لنشرة (مناضل الحزب) وهو كثير الكلام والاعتزاز في مفردات عن (العمل والتنظيم الشيوعي).

ابو زكي، الشيوعي الثوري، تجنت عليه صحف الردة عندما كان يتصدى للعملاء في المسيب، ابان ثورة 14 تموز 1958، فآثر الابتعاد عن المسرح، ليواصل العمل السري في جنوب وشمال البلاد سنوات طويلة، ثم تضطره الظروف الصحية الى السفر خارج العراق، الى بلغاريا ، والبقاء هناك فترة، حتى تسنت له العودة الى بغداد قبيل الهجمة على الحزب في اواخر السبعينيات.

يترك حميد بخش واقفا على الباب ويدلف الى الداخل، ليرى امامه شلة من الاصدقاء والرفاق المحررين في هذا القسم، منكبين على العمل بهمة ونشاط.على الجهة اليسرى من الباب، يجلس فالح عبد الجبار، الكاتب الذي لا يمل او يكل من الكتابة متى ما طلب منه التحدث او الكتابة عن قضايا دولية او عربية ملتهبة، او ترجمة اى موضوع قد يختاره هو او هيئة التحرير، بدءا من ثورة نيكاراغوا حتى حرب تحرير الصحراء في شمال افريقيا (البوليساريو).

 

يشارك فالح في اجتهاداته السياسية في القسم، ابراهيم الحريري، الكاتب الساخر والشفاف الذي تربى في صحافة الحزب الشيوعي في عهدها العلني ابان حكم عبد الكريم قاسم (اتحاد الشعب).

وفي الجانب الايسر من الغرفة، يحتل المقعد الاول، الشاعر والكاتب رشدي العامل (ابو علي) الذي دوّخ الحكام في عهدي العارفين، عبد السلام وعبد الرحمن عارف، وفي ظل حكم (الجبهة) مع البعث. ابو علي، يعتبر من المع كتاب العمود الصحفي في العراق، برز في جريدة (التآخي)  وفي جريدة (طريق الشعب) بعد صدورها العلني عام 1973 والى جانب رشدي العامل، يجلس حميد الكعبي (ابو مازن)، وعبد الآله النعيمي، ورجاء الزنبوري، الثلاثي النشط في عالم الترجمة، الذين رفدوا المكتبة العربية  بتراجم تعد من انجح الكتب في مجالات السياسة والاقتصاد، وباتت اسماؤهم تحتل الصدارة في قائمة الكتب الصادرة عن دور النشر، كالفارابي والطريق والطليعة والمدى في بيروت ودمشق ولندن.

يجلس عبد الآله هادئا منكبا على الكتابة، يجول بنظره بين طيات الكتب والصحف، يقلب صفحات جريدة التايمس اللندنية ونيويورك تايمس الامريكية ومبعثرا اوراق وكالات الانباء العالمية وما اكثرها، وانامله تداعب خصلات شعره، وهو لا يكف عن نتف البعض منها كلما هربت منه او صعبت عليه عبارة دلالة لما يريد التعبير عنه، يجلس ولا يعير انتباها للوافدين الى القسم او المتحدثين من زملائه المحررين، ولا يترك مكانه الا ما ندر. عبودي، يفضل دائما البقاء وراء منضدته، يوزع احلامه  ويطيل النظر الى المحررين في وقت هو لا ينظر اليهم بقدر ما هو يسرح لالتقاط فكرة او جملة من هنا وهناك.

من غرفة القسم السياسي، يدلف الى موقع (حياة الشعب)، ليجد زهير الجزائري وهو يسرع الخطى كعادته ليحتل مقعده امام عبد السلام الناصري (ابو نصير) رئيس القسم. ويعرف عن زهير انه كثير النسيان وبطيء الحركة، ويتناسى عن قصد ان اراد ان يتخلص من مقلب ا وان يداري  وضعه الخاص او التخلص من واجباته او تكليفات الحزب له، وقد كثرت الحكايات عن ظاهرة نسيانه ما بين  بيروت ودمشق، ولاحقا في لندن، المنافي التي عاش فيها في السنوات اللاحقة.  زهير اذ دخل الصحافة من بوابة الحزب في مطلع السبعينيات، فقد بات بعد سنوات مبدعا في الرواية والمقال والنقد، وهو رغم ابداعه ووفرة نتاجاته،  لم ينس الحزب الذي وضعه على اولى السلالم في حياته الفكرية.

الى جانب مكتب زهير، يبقى مكان شمران الياسري (ابو كاطع) شاغرا، لا يجرؤ احد على اخذه منذ ان اجبره الحزب على ترك العراق وتسفيره الى العاصمة التشيكية، براغ، حفاظا على حياته من غدر (الحلفاء - الاعداء) الذين توعدوه وخططوا لاسكات صوته الصارخ عبر عموده اليومي (بصراحة) وهو يحذر وينذر ويتجرأ على الانتقاد بأسلوب لاذع لبق، ويتنبأ بما ستحمله الايام الحبلى بالتناقضات من احداث ومآسٍ، ستجر على البلاد الويلات ان واصل الحكام البعثيون سياستهم لتنفيذ ما هو مرسوم في سجلات خاصة اعدها صدام حسين ونفر من عبيده  في مكتب العلاقات العامة الذي تحول الى دائرة المخابرات العراقية لاحقا.

ومع زهير، يسرع الخطى ايضا كل صباح، عدنان حسين، في القدوم المسرع والخروج المبكر للقاء صحفي مع مسؤول او كتابة اسئلة لريبورتاج يحتاج فيه الى لقاءات مع مواطنين بؤساء يشكلون العمود الفقري لمادته الصحفية التي يتوخى منها الصدق والصراحة عن حالات بائسة تكتنفها (حياة الشعب) اليومية.

عدنان حسين، لا يزال طالبا في قسم الصحافة بجامعة بغداد. انه يحب مهنة البحث عن المصاعب، الا ان متاعبه كانت تزداد كلما قدم مادته التي اجاد في كتابتها واخراجها، الى رئيس القسم، عبد السلام الناصري، قبل ان ترى النور. ان قلم الرقيب  في الجريدة لا يرحم، خصوصا ان هناك اكثر من رقيب، يعبثون بالمادة ويأخذون راحتهم في الشطب والتشذيب كي لا ينزعج او يزعل الحلفاء في جبهة الاعداء الاصدقاء القابعين في خندق واحد لا خندقين، هو خندق البعث.

كان عدنان، شأنه شأن الرفاق الآخرين، حريصا على الجريدة وعلى الحزب، ولكنه كان مؤمنا بأن السكوت على الظواهر السلبية في مسيرة محفوفة بالمخاطر، اثرت على عمله وتطلعاته، بل وعلى حياة المحررين والرفاق، وتشكل عاملا من عوامل تهديم وتقويض اركان ما بناه الحزب في السنوات العشر منذ صحوته وتعافيه من مجزرة شباط 1963، خصوصا وأن المسيرة الجماهيرية التي نظمت بمناسبة انبثاق الجبهة من جانب الحزب الشيوعي، كانت مخيفة للحلفاء من حيث عدد المشاركين فيها وتنظيمها واحتضان الناس الذين كانوا يحرسونها منذ انطلاقتها من مدينة الغدير حتى ملعب الشعب بجوار مدينة الضباط التي بناها قائد ثورة 14 تموز الزعيم عبد الكريم قاسم. ان هذا الحرص من رفاق عدنان كان الانذار الاول لقادة الحزب من ان التحالف لا يعني ابدا التغاضي عما يجري باسم الجبهة، وان الخندق الواحد الذي اسماه صدام حسين لتحالف الشيوعيين مع البعثيين، بات يضيق الخناق على الشيوعيين .. فلم يسمع القادة او لم يحاولوا الاستماع الى صرخات واعتراضات الرفاق في القاعدة في تلك الايام السوداء من عمر التحالف الذي ولد كسيحا.

ترك قسم (حياة الشعب) واتجه الى غرفة واسعة تعج   بالمحررين، وكأنهم في جلسة عائلية وليس في جريدة كبقية غرف التحرير. ان الغرفة الواسعة هي مخصصة لقسمي الثقافة والمنوعات (الصفحة الآخيرة). يتصدر القاعة، مصطفى عبود، وكان يقود اجتماعا مشتركا لمحرري الصفحتين. انه تقليد دأب عليه مصطفى منذ ان انيطت به المسؤولية، ويحضره كل من: حميد الخاقاني، نبيل ياسين، صادق الصائغ، سعاد الجزائري، حميد عبد الحسين ومؤيد نعمة.

ان مصطفى عبود، الكاتب الهادىء والانسان الطيب، كان حريصا اشد الحرص على تقديم الافضل والجديد وهو يوزع ويتابع تنفيذ العمل في تلك الاجتماعات، ولا ينسى  ان يقترح العناوين للبعض، ورغم شفافيته في التعامل مع الآخرين، الا انه كان في بعض الاوقات عصبيا وجديا، تتقلص عضلات وجهه، وترتجف شفتاه ان غضب وشكا من تقاعس البعض في تنفيذ جدول العمل. لا يعرف الحزن والألم رغم ما يشكوه من امراض،و يكتم الألم والحزن في نفسه ارضاء للمتحدثين او المحررين معه ليرضي ضميره في تقديم الاحسن والافضل من المادة للقارىء.

يشاطر مصطفى عبود في القسم الثقافي، الشاعر حميد الخاقاني الذي كان صديقا لنبيل ياسين اكثر من صداقته لصادق الصائغ، والثلاثة يجتمعون لبرمجة نشر القصائد  في الجريدة، في وقت يترك رشدي العامل بقية الشعراء ويدلف الى غرفة عبد الرزاق الصافي، فيسلمه قصيدة جديدة، تجد طريقها للنشر في الصفحة الثقافية في اليوم الثاني دون سؤال او جواب. ان قصائد رشدي لا تقبل التأجيل ولا تدخل في البرمجة الخاقانية او الصائغين، صادق ويوسف.

يترك صادق الصائغ قسم المنوعات ليلحق بسعاد الجزائري، الفتاة الدافئة ذات الشعر الاسود الطويل، هوت الصحافة وكتابة القصة القصيرة، وجاءت تنهل من الدورة الصحفية التي اقيمت في الجريدة، ما يعينها ويؤهلها لولوج عالم الصحافة والمهنة المحببة الى نفسها. سعاد الجزائري اعجب بها المحررون لخفة دمها ودماثة خلقها، ولكن صادق الصائغ، الشاعر والفنان الوسيم، كان الاسرع والسباق الى قلبها.

والى جانب كل هؤلاء الرفاق والاصدقاء، يبقى اعضاء سكرتارية التحرير، هو ويوسف الصائغ ورضا الظاهر، جنودا مجهولين في هذا الدرب الطويل، ومعهم، يبقى جندي آخر متطوع، يأتي ويخرج من الجريدة كل مساء دون ان يحس بقدومه او خروجه احد من العاملين.انه يحتل غرفة صغيرة جدا في اعلى السلالم ثم ينزل بهدوء و يدخل غرفة السكرتارية، ليسلم الصفحات المخصصة للطلبة والشبيبة والمعلمين والاقتصادية، حتى وان خلت الغرفة من الثلاثة. انه الكاتب غانم حمدون.

                                                     ***

 


 

قصة قصيرة كيف تحولت خديجة إلى أولتيكا بوردسكي

نعيم عبد مهلهل

حمل الرجل المؤمن أدي - باد تميمته التي هي عبارة عن لوح من الفخار مدون عليها تعاليم تهدي الروح البشرية إلى طريق الآلهة وحكم دونها من فم أبيه الذي أدركه يوم كان عمره مائتي عام. وثمة متفرقات تحدث عنها اللوح بدت غير منسجمة مع التراث الذي دون في قطعة الفخار، ولكنها كتبت بعناية شغلت مكاناً لا بأس به في نهاية المدونة، وهي عبارة عن شرح واف عنوانه (كيف تقضي الليل مع امرأة؟).

كان صباح من صباحات صيف أور، حيث اعتاد أهل المدينة أن يتأخروا في نومهم، بسبب بهجة الليل وحاناته التي يقرأ فيها الجميع رغبات النهار. الشاعر يقول، والمغني ينشد، والحكواتي يقص آخر الأحزان التي واجهت جلجامش، امرأة تغمز بعينيها لجنود ثملين فلا أحد ينتبه إليها. إصغاء بعض المتطفلين إلى ملك وراء أسوار قصره يعزف موسيقى نحيب لحرب ستقع بعد أيام. كان أدي - باد قد حذر منها. فقرر قائد الجند رجمه بالحجارة أن جاهر مرة أخرى برؤاه وتحدث عما سيحصل. ولأنه فقد زوجته منذ خمسين عاماً وابناءه جميعهم أرادوا المهجر وطناً، ركب دابته العجوز وهمس لها مثلما يهمس عشيق لعشيقته: لنكمل الطريق سوية. واينما مللت مني، أتركيني وحدي وأذهبي.

هزت رأسها موافقة. وسارت ببطء يشبه تماماً البطء الذي ارتداه قطار أور يوم فكر مرة أخرى أن يحمل كتبه ويهاجر رغبة منه باكتشاف مدن الضوء. ولأنه مل مضايقات الجوع أكثر من ملله من ساعات التوقيف في مخفر الخيالة. عندما قالت وزارة الداخلية: هاتوا كل يساري. أو حتى لو يمسك كتاباً لسارتر. وعندما مسكوه آخر مرة لم يكن يمسك كتاباً يثير الشك. كانت في يده مذكرات لورنس العرب وعندما قال لضابط المخفر أنها يوميات صديقكم البريطاني الذي نال من فحولة الضابط العثماني شيئاً ما؟ رد عليه الضابط: لأجل هذا نعتقلك، لأنك تعيرنا بصديق لنا من بريطانيا العظمى.

وهكذا تكون الغربة في أحيانها الكثيرة اضطراراً تصنعه المخافر القاسية أو الشبهات المجازية، غير أن أدي - باد كان في سفره يعي فكرة السفر: إنها اتضاح الرؤيا لما يكون وسيكون بعد أن أدرك أن ايام سومر لم تكن سوى ايام الأنفاس الأخيرة. ولأنه مرة قرأ في كتب الأجداد ما قالوه في الحروب عندما تأتي فهم المغزى الذي بدأ الشعراء يبثوه في قصائدهم، من أن الوجع الكوني بخاصرة سومر هو نبوءة كهل جاء ومضى. بعضهم قال: إنها نبوءة نبي. آخرون قالوا ما سيحدث هو من تلك اللا أبالية التي يتعامل بها الملك إزاء التصرفات الماجنة للأمراء وجشع التجار وتدخلات الندماء وكاتمي السر. أقاويل كثيرة. لكنها لم تكن سبباً قاهراً لما نويت عليه أنا. فأنا زلت شاباً ولست مثل أدي - باد أمسك أطراف العمر بملقط. فأنا عندما ركبت القطار كنت أمسك رغبة التغير كما يمسك الثائر بندقيته. وعندما أردت أن افعلها وأخبئ عاصفتي في عمق الأهوار توسلت أمي بكبرياء دموعها وقالت: لا تفعلها وحدك. فسوف ينساك التاريخ مثلما نسي جدك أدي باد يوم أخذ معه سكون الصباح المبكر وذهب بلا عودة. ومعه اختفى لوح الأناشيد والرؤي الذي كان المفروض أن نرثه نحن لنعيش وجودنا الذي قدرته لنا الأرباب التي صنعت فينا حلم هذا الريف وتلك الحقول وهذا المعول.

وبرغم هذا نسيب أمي تلتف بعباءة حزنها في القرية وهي لا تدرك أبداً أنني سأغادر سرير القسم الداخلي وأودع المدينة التي كلما اشتهيت منها وردة، حال لون الطين الذي سكن أجفاني دون ذلك. ومرة قلت لواحدة جمعني بها حفل حزب يساري: أن لعينبك بريق عشتار.. قالت ضاحكة باشتهاء لا يقاوم: لو قلت بريق عيون مونليزا لاخترتك!

الآن اقف أمام مونليزا تماماً في متحف اللوفر. اكتشفت في هذه اللحظة فقط، إن علي في تلك الليلة أن أقول لتلك المندائية التي بدا صفاء عينيها مثل صفاء مرايا قصور فرساي: أن لعينيك بريق عيون المونليزا. فلربما كانت معي الآن تتدثر بفراش الود بعد ان تشهر أسلامها. لكن صديقي المندائي ماجد جمعة مريرش الذي وجدته صدفة في استوكهولم أخبرني: أن البارونة هيام وكنت أطلق عليها ذلك اللقب، ظلت من دون دافنشي يرسم ذلك الصفاء الفراتي الذي لا مثيل له إلى أن لفظ أنفاسه تحت مسننات التعذيب في مديرية الأمن ببغداد.

مشت دابة ايدي - باد ببطء. فكانت تقطع كل فرسخ بيوم. كان الكهل يقتل الزمن بتأمل حاجة الروح إلى صفاء الطريق وعندما تتعب رقبته من التوجه صوب الزرقة المفتوحة مثل جناحي نورس، يستل اللوح من كيس القماش بعناية، ويبدأ من جديد مع سطور تتحدث عن بهجة العالم لذائقة من نوع خاص. تراجم عن معرفيات البدء للذي صنع العالم أولاً. أنليل الذي مسك الماء والحجر بيديه ونطق برؤى الطريق إلى الأرض وغادر كرسيه النوراني ليخلق المجتمعات الأولى وينفخ في صدرها شهوة الشجار والحكم.

على طول مسافة الطريق الذي يتحرك مثل نملة، حرك الشيخ المسافر أجفانه وراح يدخل في دهاليز المفردات يشكل في ذاكرته أوصاف الحروف ورقة المعاني فيجد الوجود أمامه متسعاً للحقيقة الغائبة: كيف نعيش الحياة وفيها من يتقن القسوة ويجني على هدوء المتأمل ويقهقه ساخراً من جلسة الظل التي كان يطيل بقاءه فيها أمام المعبد حد الذي أطلقوا عليه لقب أقدم المتسولين لكنه برغم ثيابه الرثة ونظراته الغائبة في البعيد الذي لا يرى لفت انتباه الأميرة الساحرة نرين - سين وكانت تراه في عودتها المسائية من المعبد وقد رسم الذهول في عينيه رغبات عن علم أو فلسفة ما أرادت أن تكتسبها ما دامت هي عكس أخواتها اللاهيات تهتم بما تريده الألواح وتقوله. وعندما أتوا به أمامها أصاب عينيه سحر بريق عيون الأميرة فخر مغشياً عليه، في ظن منها أن هذا الشيخ كان مرعوباً وهو يدخل القصر الملكي لأول مرة في حياته. وعندا رشوا عليه ماء الورد وأفاق. كان وجهها الجميل يطبع على شيخوخته ذكريات صبا لاه بين حقول الرز وقهقهات بنات الهور حيث ولد أدي - باد في قرية تسمى قرية السمك الفضي. وحين هاجر إلى أور لأول مرة رغبة من ابيه لينذره في خدمة المعبد رفض الكاهن الأكبر هذه الهدية الريفية وأرسله ساقي ماء في المدرسة التي يتعلم بها أبناء أور الموسيقى بعد أن أمر شولكي بجعل الموسيقى درساً إجبارياً في المدارس الابتدائية. ربما هي ذاتها الموسيقى، ولكنها بثقافة جديدة. حيث استمع إليها الآن في قاعة البولشوي. وأمامي مثل فراشة عمرها يومان، وبساقين مثل ساقي الزنبق ترقص أولتيكا بروسكي. تلك المونليزا التي تشع بضوء الثلج وهي تهتف في فراشي بشعارات الم الفحولة التي فاقت ألف مرة فحولة ذلك الضابط العثماني وهو يولج غضب سلطان الأستانة في جوف لورنس الذي كان سبباً في اعتقالي أول مرة ومغادرتي حقول الرز بذات الدابة التي سافر عليها أدي - باد لأول مرة.

وكان سفره قد شكل في رغبة الرجل بحثاً عن مدن أخرى تود أن تقيم مجداً للفقراء دون الخضوع إلى رعب العسس الذين دربتهم سومر لأجل ان يفرضوا نظام الاصطفاف والخشوع عندما يمر موكب الملك ليقدم ولاءه المادي والروحي للآلهة التي نزلت اليوم إلى أرض أور بعربات تجرها خيول بيض وبجانبها يسير الغمام الشفاف الذي ما أن يلامس الأرض حتى يتحول إلى قمصان بيض ترتديها أميرات سومر وهن يقمن بخدمة تقديم الشراب إلى الآلهة التي ضيفها الملك في قصره الصيفي فيما رفضت نرين - سن أن تذهب وتمنح بكارتها لآنو الذي تقول عنه الألواح أنه أشد آلهة سومر حباً بالنساء.

ولأن أدي - باد ساقي الماء في مدرسة الموسيقى يخشى من أن ينال الغضب أميرته التي حنت عليه واقامت معه فصولاً من علاقة حميمة تبدأ من الإنصات لملاحظات الشيخ بعزفها الساحر إلى مداولات الكلام حول وجودنا في ظل مزاج عشرات الآلهة.

قالت أولتيكا وهي تفرش ساقيها على ذلك الشرشف الجميل الذي أتت به والدته إليه يوم كان موقوفاً في سجن الخيالة، ويتذكر أن أمه يوم أخاطته قد طرزت وسطه شمساً ووسطها طفلاً يحمل مشعلاً. وعندما سألها الشرطي الذي يفتش الأغراض الداخلة للسجن عن معنى الرسم المطرز إجابته كمن يثق بنفسه: إنها الحرية يا ولدي.

- ما دامت الحرية هنا فلا يحق لها أن تدخل سجن ما دامت هي بالسجن أصلاً.

انتفضت أمي بغضب. وقالت سأدخلها رغماً على شاربك. وإذا كانت في السجن حرية واحدة فأنا في بيتي أستطيع أن أطرز ألف حرية كل يوم.

قال الشرطي بوقاحة: لو كان عندنا نساء سجينات بعمرك لرميتك الآن معهن.

قالت أمي: أن فعلتها ساشج رأسك بهذه الحصاة يا ابن..! عرف الشرطي جدية أمي. ورأى استهزاء زملائه بطروحاته التافهة مع أمرأة عجوز فصمت. وأمامه دخلت أمي وهي تفتح الشرشف لتري الجميع الحرية الثانية التي جلبتها إلي ومعها كتاب خبأته في طيات ثيابها هو (مذكرات جيفارا).

لقد حرصت على أن يكون هذا الشرشف معي في كل ترحال. وها هي أولتيكا تمتد مثل مجرى نبع نحيف على الشمس التي رسمتها أمي رحمها الله. وشيئاً فشيئاً بدأ الدفء يسكن المكان فيما كانت بحيرة البجع تطلق للريح موسيقى السحر السومري الذي سكن بهجة أميرات سومر وهن يتمنين أن يصبحن بجعات كي يطيرن بعيداً عن ثمالة أولئك المصنوعين أصلاً من طين الضفاف الفراتي.

لا أدري لماذا لا أريد الذهاب بعيداً في المشهدين لأن هذه القصة لن تنتهي.. لو حكيتها كلها لصار طولها ألف ذراع. ويبدو أن نهاياتها قد حسمت. آدي - باد سرقت تميمته من المتحف يوم دخول بغداد أنا كنت أتخيل لأنني لم أشاهد باريس وموسكو بحياتي. وأولتيكا ربما هي خديجة زوجتي.. وداعاً.

 

 


 

روح النظام المباد

خالد مطلك

اختطاف ضيوف العراق وحجزهم كرهائن ممارسة صدامية ابتدعها الدكتاتور عام 1990 وأضحك الناس عليه مرتين، مرة عندما اعتقلهم ومرة عندما أطلق سراحهم كمكرمة منه لشخصيات سياسية كان يريد شراء مواقفها.

تشكيل ميليشيا تهتف باسم القائد وتطلق - الهوسات - ضد الولايات المتحدة وتقطع السنة معارضيها هي الأخرى اختراع صدامي شكل جزءاً من الحياة المروعة التي عاشها الناس أيام حكمه المباد.

طبع الصور بالملايين وتعليقها على الجدران وأعمدة الكهرباء ورفعها في التظاهرات ممارسة تفوق بها صدام على كل دكتاتوريات العالم وعبر التاريخ التلويح بحرق آبار النفط وتنفيذ هذا التهديد الجبان سابقة صدامية لا قبل لأعتى الإرهابيين سواه إدعاؤها.

التمترس خلف أرواح البسطاء وإطلاق التهديدات الرنانة كلفت العراقيين الملايين من خيرة أبنائهم وهي سمة جبانة اختارها صدام عنواناً لمواجهة العالم.

تسييد الأميين والمصفقين والهتافين والمطبلين على الأكاديميين والعلماء أسلوب صدامي للمطاولة والبقاء في الحكم وإشاعة التفاهة.

هذه السوابق الصدامية وسواها هي ما تشكل ما نطلق عليه النظام المباد والتعلق بها عبر إحيائها مجدداً هو تعلق بروح هذا النظام وإن كنا نبكي مرارة أيامه النظلمة.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة