الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

تطور الوعي الديني في الشرق القديم

(4-4)

عبد الله خليفه

13 ـ  تناقضات يهوه  هكذا رأينا الإله الرعوي محملاً بالبروق والرعود، أي بعناصر القوة الرمزية، وهو يخرج من مصر بتقاليدها الزراعية، داخلاً في منطقة زراعية أخرى، فلا يستطيع الإنفكاك من شريط العالم الأخضر بتقاليده الطقوسية، إلا عبر تكريس نفسه في العزلة، والعيش في الصحراء، واستثارة التقاليد الحربية حتى يقتحم الأرض (الموعودة). إن هذا الحراك الرعوي أنتج الإله شبه المجرد، على الرغم من إن المرحلة الفكرية للشعب(المختار) لم تكن قادرة على تجسيد الإله إلا بشكل حسي . فالرعاة مثلهم مثل الفلاحين، لا يستطيعون الوصول إلى التجريد، خاصة وإن الإله المجرد غير ممكن تشكيله في المرحلة الدينية الأولى في المشرق، حيث تتطلب العلاقة بين القائد السياسي(النبي ) والجمهور الأمي ترابطاً قوياً يتيح للقائد تحريك الجسم الرعوي، الذي يتم تدريبه وتوجيهه، لاحتلال المنطقة الزراعية المقصودة.ولهذا فإن تشكيل الإله المجرد أمر غير ممكن وغير مفيد، ومع هذا فإن هذا الإله لا بد أن يكون مختلفاً عن آلهة الأمم المجاورة، وهي الفضاء الفكري الوحيد المتاح.وهي كلها آلهة مجسدة ومنظورة.

إن المهمات السياسية المطلوبة من نمط الإله، والمستوى الفكري لحملته المدعوين لتنفيذ تلك المهمات، هي التي تجعل صورة الإله اليهودي تنوس بين التجريد والملموسية، بين أيل وبعل. إن هذه الانفصالية غير ممكنة للشعب العادي، وإذ تحدث العملية شبه التجريدية للإله فهي لا تدوم، سواء إذا غاب النبي لوقت وجيز، أو إذا أسس خلفاؤه مملكته.

إن الرعاة أنفسهم مرتبطون بالتقاليد الزراعية الأقوى حضوراً حتى ذلك الحين.وهم في الوقت نفسه مرتبطون بالفضاء الفكري للمنطقة، والمتسم بالتجسيم المادي للآلهة، والتجسيم ليس سوى تعددية للآلهة تعكس تعدد مستويات السلطات في العالم القديم المفكك اقتصادياً، سواء على مستوى المدن أم الأقاليم أم القبائل أم الأسر، وكل هذه تخلق آلهة، والآلهة المضادة كذلك وهي الشياطين والعفاريت، فالأبيض النوراني يخلق الأسود الشرير، وقد نشأت الدولة الاستبدادية في المشرق عبر تجاوز هذه التقسيمات وعبر السيطرة عليها، فآن أو أيل يهيمن بشكل علوي، ويترك شبكة الآلهة الأقل، أو السلطات المحلية المختلفة، تعمل وتستقل ذاتياً، وهذا ما يتيح الوحدة و التعددية والاختلافات والصراعات بين الآلهة، مما يشكل إمكانيات للدراما المسرحية والسياسية والفكرية، مثـل هذا المناخ يمكن أن يبرر الصدامات والتباينات في العالم الأرضي، الذي هو حسب الوعي السائد، لا يمتلك إمكانية تشكيل مصائره بنفسه، بل يعتمد على القدر الإلهي، وعلى خرق هذا القدر عبر مساعدة آلهة أخرى، فيمكن رد مختلف تباينات الوضع الإنساني، إلى اختلافات علوية ما.

إن ألواح القدر التي تكتب وتقدم في بدء موسم احتفالات الخصب في بابل، معبرة عن مقادير الإنتاج التي يقدمها الناس، هي التي تحدد مصائر السكان لسنة كاملة غير قابلة للنقض، وقد يكون في هذه الألواح طوفان أو هجوم أجنبي أو خير عميم، وفي الواقع فإن الأقدار لا تعرف إلا بعد حصولها، ومن ثم تكتب لاحقاً، ولكن هذه الطريقة توضح الحالات التجسيمية التعددية للوعي الديني، ولكن مع صعود الإله الواحد المسيطر بشكل مطلق على الوجود، تدريجياً أم دفعة واحدة، فإن هذه الإمكانيات للصراع والتباين الإلهي ـ البشري تزول، حيث يغدو الوجود من صنع إله واحد، ويحدث التساؤل في الوعي الديني التوحيدي عن أسباب الخلل والتناقض في الحياة المخلوقة من صنع إله واحد.

إن الضرورات السياسية في مصر في عهد إخناتون، حين أراد أن يجهز على سلطة الكهنوت ويمركز السلطة في يديه، وجهته نحو تعميم عبادة آمون، مثلما قادت الضرورة القبائل اليهودية إلى إله واحد مخصص لها، لم يصبح الإله الكوني الوحيد إلا بعد أن تفاقمت الهزائم والكوارث على هذا المشروع السياسي، فوجه الحاخامات الشعب اليهودي نحو الإله الواحد تجسيداً مطلقاً لحلم زال.

 لكن توجيه الأمور نحو ظهور إله واحد لا بد أن يعيد النظر في الإرث الديني التعددي والتجسيمي السابق، فيزيل كل عوامل الصراع الإلهي ـ السياسي، ويمركز السلطة في ذات وحيدة، في سلطة واحدة مطلقة.

إن الفلاسفة فيما بعد سوف يتصارعون بشدة حول هذا الإله الوحيد، الذي رأينا كيف تتجه صورته إلى التجريد أكثر فأكثر، نظراً لحاجات الشعوب للمركزة السياسية أو تكوين دولة جديدة، ولن يعرف هؤلاء الفلاسفة كيف يجمعون بين إله مجرد، وهو أيضاً ذو تدخل وملموسية وحضور مادي، عبر مناهجهم المجردة واللاتاريخية.

إن الحاجة تدفع لبروز الوعي بإله وحيد مجرد، لتذويب الوحدات السياسية ـ الاقتصادية المتباينة وتشكيل دولة موحدة، ولتجمع السلطات بين يديها، ولكن تجميع السلطات في لحظة تاريخية ما  لابد أن يقود في لحظة أخرى إلى تفكيك هذه السلطة المركزة، فتتراوح صورة الإله المجرد بين لحظتين متضادتين: التجريد الأقصى والوحدانية، وبين التعددية والملموسية المباشرة.

في التجريد الأقصى تقع صورة الإله في العزلة والنأي عن الوجود المادي ويستحيل معرفة كيف تتم العلاقة بين المجرد الكلي والأشياء، وفي  التعددية والملموسية، تقع صورة الإله في دائرة الامتداد والحركة والتجسيم.

إن الرعاة وهم يريدون تشكيل دولتهم يستعينون بفكرة الإله الوحيد، تعبيراً عن الرغبة في الدولة الموحَّدة، وحين يقتحمون البلاد الزراعية، يريدون الاحتفاظ بهذه الواحدية، التي يرفضها سكان المناطق الزراعية.

إن صورة الإله الوحيد المطلق تظهر إذن وهي لا تزال في دوائر التجسيم، لم   تصر شيئاً مجرداً، لكونها تمثـل تطوراً في نمو الأساطير، وليس نتاج الفكر المجرد. إن الأسطورة العبرية، وقد تشكلت من رغبة في تشكيل دولة وإله خاص مسلح، تحتك وتصارع أساطير أمم المشرق (العربي)، ثم يقوم مثـقفوها بالاستفادة من التراث الرافدي والمصري، ليغنوا صورة إلههم الفقير روحياً، والمنتزع من براكين البحر الأحمر، فيأخذون من هذا الإرث مسألة الخلق الأول لأبي البشر وقصة نوح وأيوب وغيرها من القصص والعناصر، وتلغى تعددية الآلهة بما يتوافق مع مركزية السلطة وواحدية الإله. ثم يعود هذا الإرث إلى فلسطين ليبدأ نزاع جديد.

لقد انتصر الإله الرعوي بإرث المناطق الحضارية، فعرف العبرانيون كيف يستغلون ثروة أمم المشرق الروحية والمادية، من دون أن تتشكل الدولة ـ الحلم.

ولكن حين جاء الإغريق ثم الرومان المحتـلون لم يستطع هذا الإله أن يكون أداة مقاومة، فهو لم يكن موجهاً للأمم الغريبة ( الأغيار )، وهو مع تواجده في منطقة الخصب الزراعي، وقف نائياً ورافضاً تقاليدها وطقوسها الاحتفالية الربيعية، وهي ذات المكانة المركزية في حياة الفلاحين، إن عداءه لأيل وبعل، كان يدفع أمم المشرق لإنتاج وعي جديد يتجاوز الديانات الوثنية من جهة، والديانة الرعوية الانعزالية اليهودية، من جهة أخرى.

إن نمو المسيحية من رحم اليهودية لم يحدث إلا بسبب إنتاج اليهودية   لصورة لإله غير وثـني، وهي التي ستكون تجاوزاً للتفتيت السياسي، ففيها حلم توحيد المشرق ( العربي ) عبر سلطة واحدة، هي نفي للماضي المتشرذم، وللهيمنة الأجنبية، وهي كذلك استعادة لآن وأيل ورع، وقد تخلصوا من ثيابهم الوطنية، ولكن المسيحية هي أيضاً تموز وبعل وأدونيس وأوزوريس، هي الابن الفادي، والإله الذبيح، أي هي أيضاً استمرار للاحتفالات الطقسية القديمة، إرث شعوب المشرق الزراعية الطويل. هكذا يغدو الأب والابن تجاوزاً للمسميات وتوحيداً لها في اسمين عائلين مجردين وعامين ومخصوصين. لكن المسيحية وقد اعتمدت اللاعنف، وتغلغلت بين الفلاحين وسكان المدن والعبيد، عجزت عن الوصول لتوحيد سكان المشرق العربي، مركز الفعل الحضاري في الشرق الأدنى، خاصة الأقسام الرعوية الواسعة، التي أصبحت تمتلك قدرات سكانية كبيرة. ثم دخلت المسيحية في انقسامات وتم استيعابها من قبل الإمبراطورية الرومانية، فلم تستطع القيام بمهمات توحيد المنطقة و"تحريرها". إن الأديان المشرقية : اليهودية والمسيحية والإسلام تمثـل إذن درجات المقاومة المتصاعدة من الحلقة الأقل حضوراً إلى الحلقة الأوسع والأقوى سكاناً.

 15 ـ التوحيد العربي

كانت هذه المهمة من نصيب القوم الرعاة وهم العرب، الذين أتاحت ظروف جزيرتهم العربية، المحكمة الإغلاق أن يتكاثروا فيها ويتطوروا، ولا توجد منطقة رعوية بها هذه الخصائص الفريدة، حيث القرب من المناطق الحضارية المركزية، واستيعاب منجزاتها، والنأي أيضاً عن سيطرتها .إن عشرة قرون من الاحتلالات الأجنبية للمشرق الذي أخذت تتشكل فيه جذور للعروبة، والتي تمتد من عمق الجزيرة حتى بوادي الشام، لم تظهر فيه قوة محلية قادرة على طرد الغزاة، وقد أصبحت السيطرتان الرومانية والفارسية عبئاً ثقيلاً على المنطقة، حيث تذهب الفوائض المالية إلى العاصمتين فتهدرانها في البذخ والحروب، ولهذا فإن المناطق الرعوية والريفية كانتا تعيشان أزمة اقتصادية . ومن المعروف كيف تدهورت حياة أسرة هاشم بن عبد مناف، وكيف تفاقمت الديون وحياة الفقر في مكة على سبيل المثال.

وقد أخذت الجزيرة العربية منذ زمن بعيد الإرث الثقافي للمشرق، خاصة للقبائل والشعوب السامية الشمالية، وقد كان الاحتكاك بين الجانبين كبيراً وعميقاً على مر التاريخ. ( يبدو أن مفهوم (آن) ـ (السيد) ظهر في التاريخ في حوض النهرين الأدنى قبل الألف الرابع ق .م. وظل كصفة للقوة والسلطة المطلقتين اللتين توحي بهما السماء (الله بمفهومنا) مترسخاً في الذهنية الحضارية السورية لأكثر من ألفي سنة. وفي العصور المتأخرة ساد هذا المفهوم أيضاً في العربيتين الشمالية والجنوبية).

ويذكر المؤلف في العديد من الصفحات الأماكن التي التصقت بآن وأيل في مختلف أنحاء المشرق كظهران وجيزان وغمران، أو سعد إيل وتيم إيل.

إن تحرك إيل أو آن نحو المناطق الأشد رعوية كان لا بد أن يؤدي إلى تغيرات في بنيته، فقد ظهر في عالم المدينة ـ الدولة ذات المحيط الزراعي، وداخل شبكة من الآلهة المتعددة، تعبيراً عن الوحدة الصراعية بين الدولة المتعالية والجسم الفلاحي. لم يحدث الانفكاك بين صورة الإله المجردة ومحيطه الزراعي إلا في لحظتين سياسيتين، هما لحظة الإله آتون ولحظة الإله يهوه، وكلتا اللحظتين تشيران إلى مشروعين سياسيين تحوليين هامين في المنطقة، فإخناتون حاول الإطاحة بتعددية السلطات الدينية والسياسية، وتركيزها في يديه، فواجه الكهنة ولكن لم يستطع أن ينتصر لأسباب تاريخية واجتماعية عميقة، فتكوين الإله المجرد المفارق كلياً للأرض الاجتماعية الزراعية التي تكون منها، وظل على علاقة صراعية متداخلة بها، أمر لم يحدث ولم يتشكل.

إن هذه الإمكانية ممكنة فقط في حالات مخاض العالم الرعوي عن مشروع تكوين سياسي جديد، ولعل ثمة علاقات بين إخناتون والعالم الرعوي، أي أن ثمة موادَّ مشرقية تغلغلت في الوعي المصري السائد وراحت تحفزه للتوحيد الاجتماعي وتذويب الوحدات الاقتصادية والسياسية والفكرية المفككة، في تكوين سياسي واحد وصلب . إلا إن هذا يحتاج إلى أساس اجتماعي مختلف، أي إلى تنام لعلاقات اقتصادية لا تسود فيها الحياة الزراعية. وكان هذا أمراً غير ممكن موضوعياً في مصر.

واللحظة الثانية، وقد أشرنا إليها سابقاً، وهي لحظة الإله يهوه، المنتزع من عالم غير زراعي، والتي أعطته فترته السياسية التكوينية، بين المشروع وتجسيده، إمكانية التجريد والعلو فوق العالم الزراعي وبنيته، من دون أن يتمكن من المفارقة والتجريد الحقيقي، فظل إلهاً ملموساً لقبائل تريد غزو أرض  زراعية، وحين حكمتها، لم تستطع إلا أن تتردد بين صورتي الإله المختـلفتين. ولم يصبح هذا الإله مجرداً ومنفصلاً عن البنية الزراعية إلا حين أصبحت الجماعات اليهودية مالية وتجارية، وانفصلت بشكل كبير عن فلسطين، وغدت قوة النقود واستغلال الأمم الأخرى هو ما يوحدها.

ونستطيع أن نلاحظ إن ثمة قوة مقاومة للاحتلال الروماني والفارسي عبر هذا الحراك الفكري الذي تشكل من المخاض الاجتماعي السياسي الطويل في المنطقة على مدى عشرة قرون، فإذا كان اليهود قد جمعوا فسيفساء الوعي الديني وأدلجوه لصالح تجربة القبائل اليهودية لتشكيل وطن أو للعودة إليه، فإنهم كذلك ناضلوا من أجل الإله الواحد الذي يحاول أن ينسحب من التقاليد الزراعية الوثنية التعددية، فيدعو للقوة وعسكرة القبائل، لكن المادة البشرية اليهودية المحدودة لم تكن مؤهلة لخلق الوحدة وطرد الغزاة.

في حين إن المسيحية التي كانت ابنة التطور الفكري والسياسي للمنطقة، استطاع مثقفون ينتمون للحضارة الإغريقية ـ الرومانية أن يحولوها إلى استجابة فكرية أيديولوجية لحاجات الإمبراطورية الرومانية في التوحيد والتجميع. ومن هنا تغلغلت المسيحية في العالم المسيطر والعالم المسيطر عليه، في البلد المهيمن والبلدان المهيمن عليها والمنهوبة. ولم يعد ثمة فرق بين من يستغل ويتلقى العذاب، ومن يقوم بالاستغلال والتعذيب، عبر مجموعة من الأفكار التي راحت تنمو وتتجير لصالح توليفة من الانسجام والتوفيق بين الأطراف المختلفة المتصارعة، سواء عبر أفكار تتجاوز اليهودية المحصورة،  أي عبر إلغاء (الخطيئة) الأصلية الذي يعني تجاوز اليهودية واستيعابها، ومن خلال نشر ثـقافة اللاعنف والتسامح، بحيث يتشكل مخرج تاريخي لنظام العبودية المتعدد الألوان بين الغرب والشرق، وتستعيد الزراعة دورها التاريخي ويتم تخفيف  العبودية الخ.

وهكذا فإن المسيحية عبر تطورها، الخاضع لهيمنة الثـقافة الإغريقية ـ الرومانية، انفصمت حينئذٍ عن الحاجات السياسية والاجتماعية الملحة للمشرق، وغدت وعياً سياسياً يتجه لتغيير بؤرة السلطة في العاصمة السياسية للإمبراطورية. وغدت تخفيفاً من الهدر الإلهي التعددي الوثني وتركيزاً له واختزالاً لبذخه، فصار انتصار التثـليث موظفاً للحاجات السياسية للإمبراطورية أكثر منه للشعوب، خاصة المشرقية ولشعوب شمال أفريقيا المستغلة كذلك، وسوف يكون تغلغل المسيحية في عالم الغرب الزراعي أكثر منه في عالم المشرق الزراعي ـ الرعوي.

وقد اسـتمر الغليان المسيحي  في المشرق، مركز إنتاج الفكر الديني، وظهرت حركات المعارضة المسيحية الكبيرة فيه، مما يعبر إن صراع المصالح، صراع الطبقات، لم توقفه المظلة التسامحية، وعبرت النسطورية عن مهاجمة قلب العقيدة الرسمية التي شكلتها الدولة، فألغت التثليث الإلهي، وهذا ما فعلته الفكرة الآريوسية بإنكار أن يكون المسيح إلهاً.

إن هذه الانشقاقات الفكرية كانت الشكل الفكري للاستقلال السياسي، ولكن كما أوضحنا أعلاه، كان المسيحيون العرب والمشرقيون بلا قوة عسكرية كبيرة، وكما قلنا  كذلك فإن التغيرات  الثورية الداخلية كانت شبه مستحيلة للسكان المزارعين والعامة المدنيين، ومثـلت المسيحية ذاتها شكلاً للتوافق والتصالح والمسالمة.

لقد أخذت الاتجاهات التوحيدية تنمو في الجزيرة العربية، بسبب المصالح المشتركة لقبائلها العربية، ولتنامي العلاقات الاقتصادية والفكرية بينها، وكانت العبادات الوثنية، التي عبرت عن مصالح مستقلة للقبائل والمناطق، لم تعد تستجيب لعلاقات التوحيد الاجتماعية والسياسية المتصاعدة.

إن شبكة الإلهة الوثنية عبرت عن مكانة مركزية منهارة للمرأة، فقد سيطرت الإلهات الأنثى : اللات والعزى ومناة، على القبيلة الإلهية، ولكن الإله الذكوري (هبل) كان يتمتع بمكانة خاصة، غير أن سيطرة الآلهات الأنثويات يمثل تناقضاً كبيراً مع تنامي العلاقات الأبوية الذكورية القوية، ولم يكن ثمة من المرحلة الأمومية سوى بقايا أسماء، وكانت جميع أسس الحضارة قد تشكلت بين القبائل المسماة عدنانية، وهي التي كانت ضاربة في البداوة ، بخلاف القبائل القحطانية التي استقرت في اليمن وكونت دولاً، غير إنها لم تستطع القيام بالتوحيد السياسي للمنطقة، لأسباب تتعلق كذلك بالبنية الزراعية المفككة، وقد ضعفت الزراعة مع انهيار سد مأرب، وعودة الكثير من القبائل اليمنية للارتحال والبداوة. إن هذا قد وضع كذلك أسساً للتقارب بين التجمعين العربيين الكبيرين، إلا أن التمايز القبلي سيظل لفترة طويلة.

لقد أدى هذا إلى المزيد من التدهور المعيشي لغالبية السكان، وازداد ذلك باستمرار الحروب، كما أشرنا، بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وكذلك الحروب الأهلية العربية.

لقد تضخم عدد القبائل الرعوية في الجزيرة، وأصبح العدنانيون (القيسيون) القوة الكبرى فيها، وتشكلت لهم مدن هامة، خاصة مكة التي أخذت تلعب دوراً توحيدياً تجميعياً، وكان موقعهم المتميز الواسع في الشمال والغرب قد جعلهم قادرين على توحيد الجزيرة وقبائلها.

كيف كانت استجابة الوعي الديني للعمليات الاقتصادية والاجتماعية التوحيدية؟

بطبيعة الحال كان العرب في وضع استقبال طويل للمؤثرات العربية الشمالية خاصة، حيث كان التداخل والتفاعل الطويل.

(في أوغاريت، ومنذ الألف الرابع قبل الميلاد، قام أتباع إيل وبشكل حاسم، بإلغاء كل حضور للأرباب من الطقوس الدينية للبلاد، فبعل أقوى الأرباب الأوغارتيين، صار الآن شيطاناً أكبر، وزعيماً للأبالسة، وكذلك عشتار التي أصبحت علة للانحلال الخلقي ومصدراً للإباحية الجنسية).

إن حصول الصراع بين أتباع أيل وبعل، بين الإله الممثل للسلطة العليا، وآلهة البنية الزراعية، هو ظاهرة أخذت تتنامى في المنطقة الشمالية من المشرق، بسبب تصاعد العمليات التوحيدية السياسية، وبسبب تدفق الرعاة المستمر، الذين أخذوا يجعلون المنطقة بدوية أكثر فأكثر. كذلك فإن مهمة توحيد المنطقة وطرد الغزاة، كانت تنمو عبر القرون. لكن هذا الصراع ظل مستمراً من دون حسم بسبب التداخل بين البنيتين الرعوية والزراعية، وعدم قدرة المؤسسات السياسية على الانفصال الكلي عن الجمهور.

لقد رأينا كيف توغلت الآلهة الشمالية في الجزيرة العربية، وكان اندغام اسمي أيل وآن بمناطقها ومدنها وأسماء البشر والآلهة فيها مؤشراً على الترابط والتلاحم بين الجزئين العربيين، ولكن تطور مكانة أيل خاصة، يعبر عن النفوذ الفكري المتزايد للشمال السوري مثلما أخذت البادية السورية تصبح امتداداً لتدفق الرعاة من الجنوب.

(لاحظ جورجي كنعان في كتابه ( تاريخ الله) أن النقوش التي عثر عليها في الإمارات الآرامية تتضمن إشارات واضحة إلى التطور الذي لحق باللفظ ( إيل ) منذ الألف الأول ق. م . من حيث البنية والمدلول، فمن حيث البنية ترددت في النقوش صيغ متعددة لـ(إيل) مثل (ال ه )، ( ال ها )، ( ال هه )، (ال هم)، ( اله ى ا ) . ومن حيث المدلول تحولت الصفة ( إيل ) عند العرب القدماء إلى لفظة (الله ) فكان من الطبيعي أن يدخلوه في تركيب أسمائهم مثل : ماء الله ـ سعد الله ـ الخ).

وفي اليمامة كانت عبادة (الرحمن) منتشرة، وهو اسم يجمع بين الرحم، وهو صلة القرابة المقدسة، والإله آن .

لا نستطيع أن نقول إن إيل قد تخلص من الآلهة الزراعية، وصار تجريداً كاملاً، فالبقع الزراعية قد شهدت الاحتفالات الطقوسية الاخصابية، وقد كانت جذور الحج الوثني إلى مكة تحمل سمات ذلك، عبر شرب الخمور ولبس ملابس قليلة وتقديم الذبائح إلى الأصنام.

لكن ضخامة الجسم العربي الرعوي، وضآلة المناطق الزراعية، وعملية التوحيد المستمرة في بنية الجزيرة العربية، والدور القيادي المكي في ذلك، جعلت عملية التجريد الواسعة تكبر في رمز الله، نفياً للإلهة الأنثى الملحقة به وهي (اللات)، تعبيراً عن الانفصال الحضاري الكامل عن المجتمع الأمومي لجميع  شبكة الآلهة المفتتة للجسم الاجتماعي، وتعبيراً عن تشكل المؤسسات السياسية الحاكمة وصعود الحاكم الفرد كذلك، والانتقال إلى الحضارة.

هنا حدثت عملية التجريد الثالثة من دون صعوبات هائلة كما حدث في عمليتي آمون ويهوه، بسبب محدودية الإرث الزراعي وطقوسه، والدور الكبير الذي تلعبه القبائل الرعوية، فغدت عملية التوحيد الدينية والسياسية عسكرة لهذا القبائل وتوجيهها نحو التوسع وتغيير طابع المنطقة وطرد القوى الأجنبية منها وإحداث عملية تقدم حضارية كبرى بها.

فصل من كتاب (الاتجاهات المثالية في الفلسفة) للباحث عبد الله خليفة الذي سيصدر قريباً عن دار (المدى) بدمشق.

 


 

 

(السلام القومي) و(المصالحة الوطنية) في العراق

 ميثم الجنابي

إن تصاعد وازدياد الدعوات المتكررة عما يسمى (بالسلام القومي) و(المصالحة الوطنية) في العراق بعد أربعة عقود من غيابهما الفعلي، هو بحد ذاته مؤشر على ارتقاء الوعي السياسي والاجتماعي صوب البحث عن مساومة تاريخية تطوي أحد أكثر واكبر الفصول درامية ودموية في تاريخه المعاصر. لكنها شأن كل فعل له علاقة جوهرية بالمستقبل، يفترض تأسيسا عقلانيا ووجدانيا له من اجل المساهمة في إرساء أسس السلام الحقيقي والمصالحة الوطنية الفعلية.

وإذا كان السلام هو النفي المباشر وغير المباشر للحرب، فان انتفاء الدكتاتورية والتوتاليتارية يشكل بحد ذاته أحد الشروط الجوهرية لتحقيق (السلام القومي) في العراق، بمعنى السلام بين القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد. وهي عملية لم تعد لها علاقة بالدكتاتورية، بقدر ما لها علاقة بمخلفاتها ونماذجها المحتملة والكامنة في القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد نفسها. بعبارة أخرى، إن الامتحان التاريخي للسلام القومي والمصالحة الوطنية في العراق اليوم هو المحك الفعلي لحقيقة ومستوى إدراك الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والفكرية الممثلة لهذه القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد.

كان (السلام القومي) سابقا رهينة (النخب السياسية) في السلطة والمعارضة، بينما الآن هو ميدان الفعل المباشر للأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والفكرية جميعا. وهو أمر يفترض بدوره الارتقاء إلى مستوى إدراك حقيقة (السلام القومي) في العراق على انه سلام اجتماعي أولا وقبل كل شئ. فالعراق لم يعرف من حيث الجوهر (حرب قوميات)، كما لم يعرف (حروبا دينية) و(طائفية). فقد كان (الصراع القومي) يدور أساسا بين السلطة الحاكمة وبين قوميات العراق جميعا.

فقد كانت السلطة الحاكمة وبسبب طابعها التوتاليتاري والدكتاتوري في صراع شامل مع الكل. وبزوالها زال الحاجز المباشر بين القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد، أي زال (القاسم المشترك) الذي كان (يوحدها) للحرب ضد السلطة. مما دفع بدوره وسوف يدفع قوى جديدة للاشتراك الفعال من اجل تجسيد رؤيتها (للسلام القومي) و(المصالحة الوطنية). وهو أمر طبيعي، كما أن من الطبيعي اختلاف وتعارض وتنافر (المشاريع) المحتملة بهذا الصدد. لاسيما وان التاريخ السياسي للعراق المعاصر لم يعرف تقاليد المساومة السياسية العقلانية ولا تقاليد الإجماع الديمقراطي. وليس غريبا أن نسمع عبارات مثل (دكتاتورية الأغلبية)، ومحاولة تأسيس البديل لها بممارسة (فيتو الأقلية) وما شابه ذلك من الظواهر التي تشير إلى تنامي الصراع الاجتماعي والسياسي والفكري والقومي من جهة، كما انها تعبر عن (صحوة) واندفاع طبيعي للروافد الصغيرة في مسارها المتعرج صوب الأنهر الكبيرة والبحار. الا انه لا جبرية في هذا المسار. بمعنى أن (الطبيعي) قادر أيضا على التخريب والتدمير كالفيضان المصاحب لاندفاع الروافد الصغيرة. مما يفترض بدوره بناء السدود الواقية من اجل تحويل القوى الهائجة صوب المنفعة لا المضرة. و"السلام القومي) هو النتاج الممكن لعقلنة الهيجان القومي من جانب (الاقليات) في العراق. لاسيما وأنها تتحسس وتعي أيضا كل ما جرى في العراق من زاوية قومية أو عرقية. وهي حالة أصابت وتصيب العرب أيضا كما نلاحظه في (مظاهر) الانقسام المفتعلة على أسس طائفية. كل ذلك يشير إلى المخاطر الكامنة في القومية الضيقة والعرقية العنصرية.

بعبارة أخرى، إن انحلال (القاسم المشترك) في صراع القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد الذي كان ساريا لفترة طويلة بينها وبين السلطة، مازال يحتمي في خبايا الوعي السياسي والنفسية الاجتماعية عند أوساط كبيرة. مما يجعل البحث عن مخارج لهذا الصراع الكامن من خلال بناء منظومة سياسية اجتماعية حقوقية للدولة الأسلوب الوحيد الفعلي للسلام القومي. بعبارة أخرى إن حقيقة (السلام القومي) في العراق هو السلام الاجتماعي والوطني. وذلك لان (السلام القومي) في حال إبقائه ضمن (القومية) هو عبارة أدبية وبالتالي خطابية وغير قادرة على إرساء أسس الرؤية العقلانية في الموقف من السلام الحقيقي في المجتمع والدولة. وهو أمر يدفع جملة من الأسئلة الضرورية بالنسبة لتحقيق السلام القومي في العراق مثل، هل هو سلام قوميات أم سلام وطني؟ وكيف يمكن تأسيسه سياسيا؟ وعلى أية علاقات اجتماعية اقتصادية يمكن إرساءه؟ وما هي حدوده المفترضة في الدولة والمجتمع؟ وما هي أسسه المؤقتة والدائمة؟ وما هي مرجعياته الكبرى؟ وهل يمكن تثبيت حدوده في قانون؟ وهي أسئلة يستحيل الحصول على أجوبة (جامعة مانعة) يتفق عليها الجميع بسبب تباين القوميات في العراق. ذلك يعني أن الإجابة الممكنة لا يمكن العثور عليها في الرؤية القومية الضيقة أو (الخالصة". مما يفترض بدوره البحث عن إجابة لها على مستوى يتجاوز الرؤية القومية الضيقة والعرقية. وليس هناك من مستوى آخر في ظروف العراق الحالية غير مستوى الرؤية الوطنية العراقية. بمعنى الرؤية المؤسسة على قاعدة ومفهوم الوحدة السياسية الثقافية للعراق. فهو المفهوم الوحيد القادر على بناء منظومة متجانسة من الناحية السياسية من خلال إرساء أسس الوحدة الاقتصادية والاجتماعية لمختلف القوميات والأعراق والطوائف مبنية على أساس حقوق المواطنة والعدالة أمام القانون. وهما أساسان يحتويان على تلوين وتمكين دائمين للمساومة والممازجة بين المؤقت والدائم في القانون والحق، حال بروز أي من الخلافات الممكنة على كافة الأصعدة والميادين. أما المرجعية النظرية الكبرى لذلك فتقوم فيما ادعوه بفكرة الاستعراق، بوصفها فلسفة الهوية الوطنية العراقية. وهي هوية ثقافية سياسية وليست قومية ضيقة أو عرقية. وذلك لان أية محاولة تقف بالضد أو خارج مكونات العراق التاريخية الثقافية تؤدي في نهاية المطاف إلى خلخلة أوزانه الداخلية. وهي أوزان ثقافية من حيث الجوهر. أي أن أية محاولة (قومية) أو (عرقية) أو (طائفية) أو (دينية) أو (عقائدية) في إعادة تقسيمه أو انتزاع جزء منه أو بناء نظامه السياسي عليها، تحت أية حجة كانت، سوف تؤدي بالضرورة إلى إثارة ردود فعل مشابهة من حيث مظاهرها (القومية) و(العرقية)  و(الطائفية) و(الدينية) و(العقائدية)، مع ما يترتب على ذلك من انحدار اتعس مما كان يميز الصيغة المتخلفة والدموية لصراع السلطة الحاكمة مع (الاقليات).  وهو أمر يتنافى مع مجمل الحكمة التاريخية للعراق. كما انه مؤشر على أن القوى القائمة وراء هذه التصورات والأعمال لا علاقة جوهرية لها بالعراق بوصفه كينونة تاريخية ثقافية.

إن إدراك هذه الحقيقة يؤدي أولا وقبل كل شئ إلى الانفتاح على النفس، ومن خلالها على الآخرين. وهو الأسلوب الوحيد القادر على بناء مؤسسات الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني.  ذلك يعني أن مضمون الاستعراق هنا يتطابق مع أيديولوجية الوطنية الكبرى، المبنية على أساس الوطنية الثقافية، القائلة، بان العراق ليس تجمع أعراق، بل وحدة تاريخية ثقافية. وهي وحدة لها أسسها الخاصة وممكنة التحقيق في ظروف العراق الحالية في حال وضعها ضمن المسار العام لما ادعوه بمعاصرة المستقبل. أي أن تكون مرجعياته مستمدة من الرؤية الثقافية البديلة، وليس من حثالات التاريخ المنقرض. وهي مرجعيات ممكنة التحقيق في حال تذليلها طموح الطابع الجزئي لمكونات وعناصر القومية والعرقية والمذهبية في الوعي السياسي والاجتماعي والقومي. مما يفترض في ظروف العراق الحالية التحرر من قواعد اللعبة السياسية واليات طموحها النفعي الضيق، كما نراه الآن عند اغلب الأحزاب السياسية العراقية الحالية، (القومية) منها و(الأممية)، الدينية والدنيوية. إذ عوضا عن أن يجري التعامل مع الأشكال المتنوعة للعمل السياسي من اتفاق واختلاف ومهادنة ومساومة على انها أساليب سياسية ضمن المسار العام الهادف لترسيخ قواعد الحياة الديمقراطية، فإنها تصبح جزءاً جوهريا في لعبة المؤامرة والمغامرة. فهي أساليب لا تؤدي في نهاية المطاف الا إلى تأجيج مختلف أنواع الصراعات اللاعقلانية والمخربة لبنية الحق والقانون والمواطنة. ومن ثم إلى الخروج على منطق الهوية الثقافية للعراق وعلى مكونات وجودها الجوهرية. أما النتيجة الحتمية لذلك، فإنها تؤدي إلى الخروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق، وبالتالي الخروج على القانون بالمعنى التاريخي والثقافي والحقوقي أيضا. وفي النهاية تفشل حتى في صنع (سلام قومي) بارد.

وهو الأمر الذي يجعل من الضروري ترسيخ أسس منظومة السلام الوطني في قانون هو الدستور عينه. فالدستور هو (قرآن) الدولة العصرية والنظام المدني. انه حصيلة الماضي والحاضر والمستقبل، وفيه تتراكم شروط وآفاق التطور الشامل للدولة والمجتمع. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية وحجم الانتهاك الهائل للحق والحقوق في التاريخ العراقي المعاصر، وانعكاسها المباشر وغير المباشر في العلاقة بين القوميات والأقوام والطوائف في العراق، سيتضح أيضا حجم وخصوصية الأهمية القصوى له.

مما يفترض بدوره صياغة دستور متزن وثابت في مبادئه العامة عن الدولة الشرعية وسيادة القانون والنظام الديمقراطي والحرية وحقوق الإنسان. بمعنى ارتكازه على أسس الوطنية الكبرى والمواطنة والعدالة والحق المتمثلة أيضا لتجارب للأمم المتقدمة بهذا المجال. وذلك لان الدستور هو مشروع كبير وعام وكلي، ولا مكان للقومية الضيقة والعرقية والطائفية والجهوية فيه بأي شكل كان من الأشكال. وذلك لأنها (قنابل موقوتة) قابلة للانفجار والتشظي الدائم على المستوى المحلي والعراقي العام. كما انه لا ينبغي أن يتضمن أي مشاعر أو رؤية (للأقلية) و(الأغلبية)، بل أن يكون متجانسا في تأسيس حقيقة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني.

إن هذه الأجوبة العامة على الإشكاليات القائمة أمام تحقيق (السلام القومي) هي المقدمة الضرورية لتجسيد (المصالحة الوطنية). فهي الأجوبة التي ينبغي أن تضع حدا للصيغ المشوهة في البحث عن (نسب واقعية) (للمكونات الأساسية) في العراق. ولعل خطاب الطالباني فيما يسمى بمؤتمر المصالحة الوطنية المنعقد في (26-27 آذار 2004) عما اسماه بالمكونات الأساسية للعراق وهي العرب الشيعة والعرب السنة وشعب كردستان، هو أحد النماذج (السياسية) لنفسية وذهنية (الأقلية". إذ ماذا يعني هذا (التقسيم"؟ ولماذا عرب سنة وعرب شيعة و(شعب كردستان) موحد؟ ومن هو (شعب كردستان)؟ الأكراد لحالهم؟ أم التركمان والآشوريين واليزيديين؟ ومن هو الذي يتكلم باسمهم؟ ومن هو الذي يتكلم باسم الشيعة والسنة في العراق؟ ؟ وما هو الهدف الفعلي من ورائها؟ مساواة (النسب) في العراق؟ بعبارة أخرى، إننا نعثر في هذه المواقف من (المصالحة الوطنية) على مغالطات وتقييم غير دقيق وتعميم يتعارض مع الواقع ومع حقيقة البحث عن بدائل عقلانية (للمصالحة الوطنية) من جانب القوى والأحزاب السياسية. والقضية هنا ليس فقط في مغالطة وضع (تجانس) الأكراد بالضد من (اختلاف) العرب في العراق، بل وبما فيها من تقييم يهدف بوعي أو بدون وعي إلى بناء فكرة (المصالحة الوطنية) على أسس (المحاصصة). وهو أسلوب لا يمكنه أن يرسي أسسا عقلانية للدولة والمجتمع والسلام والقومي والمصالحة الوطنية، لأنه ليس اكثر من (عقلنة) مزيفة لصيغة مشوهة  عن (النسب) القومية الطائفية. وفي حال تجاوز ما فيها عن دعوة واعية او غير واعية للتفرقة والتجزئة والتمييز بين الجميع، فإنها تعمل بالضرورة على بلورة عنصر ما يمكن دعوته بأيديولوجية الاحتيال القومي ومنهجية المراوغة. وهي أيديولوجية اكثر من جسدتها الدكتاتورية الصدامية في العراق. أما نتيجتها النهائية فهي ذهاب الجميع إلى المحرقة. بمعنى الانتفاء الذاتي للحركات السياسية الممثلة لهذا الاتجاه.

كل ذلك يضع أمام الفكر السياسي العراقي مهمة التأسيس العقلاني لفكرة السلام القومي والمصالحة الوطنية ضمن معايير الرؤية العقلانية عن الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. بمعنى النظر إلى مضمون السلام القومي والمصالحة الوطنية في العراق باعتبارها مهمة بناء جديد للدولة والمجتمع والنظام على أسس ومرجعيات كبرى تتجاوز ضيق الرؤية القومية والعرقية والطائفية والجهوية. وهو بديل ممكن على أساس منطق الرؤية الكلية، أي منطق الرؤية السياسية الثقافية.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة