الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

من أجل تطوير التعليم العالي في العراق

د. أحمد محمود عبد اللطيف

أستاذ مساعد/ كلية العلوم / جامعة بابل

يمر التعليم العالي في العراق بأزمة حادة وهي انعكاس طبيعي للظروف القاهرة التي مر بها بلدنا من حروب وحصار وأزمة اقتصادية وتخبط في السياسات التعليمية. وتتجلى مظاهر هذه الأزمة وأسبابها في أركان التعليم العالي الثلاثة، وهي الطالب والأستاذ والنظام التعليمي ومستلزماته. فالطالب الجامعي يفتقر أصلاً إلى التأهيل المناسب نتيجة للتدهور الذي أصاب التعليم الابتدائي والثانوي، وهو يتسم بضعف الحافز للتحصيل الدراسي نتيجة للآفاق المستقبلية المحدودة في توفر فرص عمل مناسبة وعدم وجود خطة منهجية لاستيعاب أعداد الخريجين المتزايدة. أما الأستاذ الجامعي فقد انخفض أداؤه بشكل ملحوظ بسبب الظروف المعيشية البالغة الصعوبة وافتقاره إلى فرص تطوير المهارات المتمثلة بالبعثات والدورات التدريبية والمشاركة في الندوات والمؤتمرات الدولية. أما النظام التعليمي فقد أصيب هو الآخر بتدهور شمل كل مفاصله من قوانين وتعليمات مرتجلة، إلى قيادات علمية تفتقر في معظم الأحيان إلى الكفاءة، وإلى فقر في المستلزمات الدراسية من مختبرات ومكتبات وأبنية جامعية وأقسام داخلية ملائمة. وبناءً على مؤشرات هذه الأزمة فإننا نقدم في هذه المقالة جملة من الرؤى والمقترحات للنهوض بالتعليم العالي في عراقنا والارتقاء بمستواه بما يعزز دوره الفاعل في خطط التنمية وخدمة المجتمع، وبما يساعد على تجسير الهوة العلمية والتكنولوجية مع البلدان المتقدمة، وبما يعيد للجامعات والمعاهد العليا دورها الريادي في بناء مجتمع علمي يحاكي آخر المستجدات في ميادين العلم والتكنولوجيا المختلفة ويسهم في إبداعها.

المقدمة

أصبح من المسلم به أننا نعيش حالياً ما يسمى بعصر المعلوماتية والثورة التكنولوجية المتسارعة، ومن مؤشرات ذلك هو الكم الهائل من المعلومات والإنجازات العلمية التي أصبحت ممكنة التداول وسريعته بفضل وسائل الاتصالات الحديثة من شبكة انترنت وقنوات فضائية والاتصالات بالأقمار الصناعية. والسمة الأبرز لعصرنا هي دخول منجزات العلم والتكنولوجيا في كل مفصل من مفاصل الحياة لدرجة أصبح فيها مقياس تقدم الأمم هو مقدار تعاطيها المنجزات العلمية والتكنولوجية، والأهم من ذلك هو مقدار إنتاجها تلك المنجزات. إن ذلك أدى إلى تنامي دور الجامعات في المجتمعات الحديثة ليس باعتبارها مراكز إشعاع فكري وعلمي فحسب بل لكونها مراكز للخلق والإبداع والمساهمة في التنمية الاقتصادية والإنسانية والارتقاء بالمجتمع من خلال توظيف أمثل للموارد الطبيعية والبشرية. ونحن في عراقنا الحبيب، ونتيجة للظروف العصيبة التي مررنا بها متمثلة بثلاث حروب كارثية وأكثر من 12 سنة حصار ومن ثم ظروف الاحتلال، فأن البنى التحتية تعرضت إلى دمار شامل وتخريب مروع تركت آثاراً سلبية هائلة على البنى الفوقية لمجتمعنا متمثلة بمراكز الثقافة والعلم والإبداع وعلى رأسها الجامعات ومعاهد التعليم العالي باعتبارها قمة الهرم الفوقي. وفي مقالتي هذه سأحاول، من خلال تجربتي التي امتدت لحوالي 24 سنة طالباً و تدريسياً، أن أسجل بعض الملاحظات عن واقع التعليم العالي في العراق، وأقدم بناءً على ذلك بعض الرؤى والمقترحات من أجل النهوض والارتقاء به. وأود أن أنوه هنا إلى أن ذكر السلبيات والمعوقات، وهي كثيرة بهذا الصدد، لا يهدف إلى إشاعة نظرة قاتمة متشائمة تثبط العزائم وتنكر على أناس مخلصين جهودهم الخيرة التي حافظوا من خلالها على المسيرة العلمية في بلدنا من الانهيار التام بفعل الظروف القاهرة التي مررنا بها ومازلنا نمر، بل أنها تنطلق من رغبة صادقة لتشخيص السلبيات والمعوقات باعتبار ذلك هو نقطة البداية لانطلاق عملية النهوض والتطوير التي نحن بأمس الحاجة إليها.

استراتجيات التعليم العالي في العراق

ضمن هذا المحور يمكن إدراج الملاحظات الآتية:

1. العلاقة بين التربية والتعليم العالي: من البديهي القول أن تعليماً عالياً رصيناً يرتكز بالأساس على طالب معد بشكل لائق من الناحية التربوية والعلمية، وهذا يتم في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية. ولكن للأسف فأن الدراسة في هاتين المرحلتين أصابها تدهور شديد خلال الخمس وعشرين سنة ماضية بسبب مجمل الظرف العام الذي خلق بيئة غير صحية للتعليم وبسبب السياسات الارتجالية في هذا المضمار والتي أثرت بدورها سلباً على التعليم العالي.

2. خطة البحث العلمي: أود أن أقول هنا وبكل صراحة أننا لم نلمس ما يشير إلى أن البحث العلمي عندنا يخضع إلى تخطيط ومنهجية مدروسة من أجل معالجة مشاكل تهم المجتمع وتنميته ومواكبة التوجهات الحديثة في العلم والتكنولوجيا. وفي ما عدا بعض الاستثناءات، فأن البحوث هي ذات طابع روتيني كونها وسيلة للترقية العلمية فحسب.

3. القوانين والتعليمات: من المعروف أن أي نظام تعليمي راقٍ يستلزم أطراً وقوانين مدروسة ومستقرة تنظم العلاقة بين أركان هذا النظام وهي الأدارة والطالب والتدريسي، وتضع الضوابط لضمان ارتقاء المسيرة التعليمية والبحثية.. وقد عانينا كثيراً خلال ربع القرن الأخير من قوانين وقرارات ارتجالية سببت إرباكاً شديداً للتعليم العالي عندنا. واذكر بهذا الخصوص، على سبيل المثال لا الحصر، القرار المفاجئ لوزير التعليم العالي السيد عبد الرزاق الهاشمي بتحويل الدراسة من نظام المقررات إلى النظام السنوي للعام الدراسي 1983- 1984، وقرار وزير التعليم العالي السيد سمير محمد عبد الوهاب الشيخلي عام 1986 بإلغاء اشتراك الجامعات العراقية بالدوريات العلمية وتقنين البعثات الدراسية للخارج وإلغاء الأقسام الداخلية بحجة توفير أموال للمجهود الحربي. والعلة هنا هي عدم أهلية القيادات العلمية وافتقار الوزير أو المسؤول إلى الاستقلالية بل الخضوع إلى مركزية مقيتة. وليس آخر الأمثلة في هذا المجال قرار توحيد المناهج الدراسية في الجامعات والمعاهد العراقية ابتداءً من العام الدراسي 1998- 1999، بشكل أدى إلى تحول الجامعات إلى ثانويات!

4. التدريب والتأهيل: يشكو تعليمنا العالي من نقص واضح في تدريب الطلبة من أجل إكسابهم المهارات التي تؤهلهم للانخراط في مؤسسات الدولة والإسهام الفاعل في التنمية. فقد تقلصت إلى حد كبير دورات التدريب الصيفي للطلبة في مؤسسات الدولة، وحتى في الحالات التي يتم فيها ذلك فأن العملية لا تعدو كونها إجراء شكلياً يتضامن فيها الطلبة والمسؤولون في إفراغ عملية التدريب من محتواها وغايتها.

5. اللياقة البدنية والنشاطات اللاصفية: شهدت النشاطات اللاصفية بكل أوجهها الفنية والرياضية والثقافية انحساراً واضحاً خلال العقدين الأخيرين في مؤسسات التعليم العالي ببلدنا، وهذا يحد من كفاءة هذه المؤسسات في الإعداد الروحي والبدني لقادة مجتمعنا المستقبليين.

6. استقلالية الجامعات: من المعروف أن الجامعة بمفهومها العالمي هي كيان علمي وإداري مستقل تستمد فاعليتها وديمومتها من خلال تفاعلها مع المجتمع الذي ينشأ فيها ورفده بالمنجزات العلمية والتقنية التي تلبي احتياجاته والإسهام بالارتقاء به. ومن خلال هذا التفاعل الجدلي مع المجتمع تنشأ خصوصية كل جامعة وهذا يستلزم بالتالي ضرورة استقلاليتها في مناهجها الدراسية وخططها البحثية ونظامها الإداري، فليس من المنطقي والمجدي أن تكون مناهج وخطط أبحاث وأقسام وكليات جامعة البصرة مثلاً مطابقة لنظيراتها في جامعة الموصل أو جامعة السليمانية بكل الخصوصية التي تحملها المناطق التي نشأت فيها هذه الجامعات. ولكن مسؤولي التعليم العالي في الحقبة السابقة أصروا على سلب الجامعات استقلاليتها لأنهم بالأصل لم تكن لديهم استقلالية! وفاقد الشيء لا يعطيه.

تطوير التعليم العالي في العراق

من خلال ما ورد ذكره أنفاً من ملاحظات تعطي مؤشرات عن واقع للتعليم العالي لا يلبي حاجات وطننا وطموحات شعبه، ولا يؤهله لمواكبة التطورات الهائلة في ميادين العلم والتكنولوجيا والنظم التعليمية الحديثة. لذلك أصبحت عملية إعادة النظر بنظم التعليم العالي في عراقنا والارتقاء بها ضرورة ملحة لا تقل أهمية عن عملية إعادة تأهيل وتطوير البنى التحتية والخدمات الأساسية.

وندرج في ما يأتي بعض المقترحات والرؤى التي نرتئي أنها تساعد على تحقيق البعض مما نصبو إليه بهذا الخصوص.

1. المناهج الدراسية: تحتاج المناهج الدراسية في جامعاتنا ومعاهدنا إلى دراسة شاملة ومعمقة بغية تطويرها كماً ونوعاً ونظاماً تعليمياً ومنهجية في استخدام الأساليب التعليمية الحديثة. ومن جملة ما يساعد على ذلك تكليف ذوي الخبرة وكل حسب اختصاصه بوضع أسس عامة لمناهج حديثة تستجيب لحاجات وخصوصيات بلدنا مع ترك هامش من الحرية للأقسام والكليات لرسم سياستها التعليمية الخاصة وتطوير مناهجها. وتستدعي الضرورة هنا إطلاع المعنيين على المناهج الدراسية والنظم التعليمية للجامعات العالمية الرصينة من خلال شبكة الانترنت أو من خلال المعاينة الميدانية المباشرة بإرسال موفدين إلى تلك الجامعات. وإذا كان تطوير المناهج الدراسية ضرورة ملحة على صعيد الدراسة الأولية، فأن تلك الضرورة تصبح أكثر إلحاحاً لتطوير مناهج الدراسات العليا والاعتماد على أساليب تعليمية تنمي قدرة الطالب على الابتكار والإبداع وتفتح آفاقه وتطور ملكاته الذهنية مما يؤهله للموقع العلمي القيادي الذي سيشغله مستقبلاً.

2. المستلزمات الدراسية والمختبرات: من المؤكد أن مناهج دراسية متطورة تحتاج إلى مستلزمات دراسية ومختبرات لكي تكون العملية التعليمية متكاملة وفاعلة في تخريج طلبة مؤهلين لنقل الخبرة العلمية إلى واقع التطبيق ومتطلبات التنمية. وهذه المستلزمات تشمل قاعات دراسية جيدة التصميم والتأثيث ومجهزة بأحدث وسائل التعليم، ومختبرات وورش مزودة بالأجهزة والمعدات اللازمة لإكساب الطالب الخبرة العملية وتطوير الملكات التطبيقية، بالإضافة إلى المستلزمات التكميلية من قاعات للنشاطات الرياضية ونوادٍ ومطاعم وغيرها.

3. الأقسام الداخلية: إن ما هو متوفر من أقسام داخلية لا يغطي كل أعداد الطلبة المحتاجين إليها ولا يحتوي على تجهيزات كافية لتوفير مناخ دراسي ملائم، لذلك فأن الأقسام الداخلية تحتاج إلى اعتمادات مالية ضخمة وجهاز إداري كفوء لإدامتها وتطويرها.

4. المكتبات: نظراً لما تعانيه مكتبات جامعاتنا، وخاصة الفتية منها، من نقص كبير في الكتب والمراجع والدوريات وخاصة الحديثة منها، فأن الحاجة ماسة وملحة لتجهيز هذه المكتبات وبشكل فوري بأحدث الكتب والدوريات العلمية الرصينة، بالإضافة إلى الخدمات التكميلية من اتصالات عن طريق شبكة الانترنت وتوفير قواعد للبيانات وأقراص مكتنزة. ولا يقل أهمية عن ذلك تطوير أبنية المكتبات وتوفير الأجواء الدراسية المناسبة فيها.

5. التوجيه والإرشاد النفسي: إن هذا الجانب؛ على أهميته، يكاد يكون مفقوداً في مؤسسات التعليم العالي عندنا ويستلزم إعطاءه الاهتمام الذي يستحق.

6. الأستاذ الجامعي: التعليم الجامعي كما هو معروف يقوم على ثلاثة أركان أساسية وهي الطالب والأستاذ والنظام التعليمي. ومن أهم أسباب أزمة التعليم العالي في العراق هو ما واجهه الأستاذ الجامعي من معاناة مادية ومعنوية، ففي بعض المراحل كان راتب الأستاذ الجامعي ما يعادل (خمسة دولارات فقط!). هذه المعاناة المادية تركت بصماتها جلية على كل مفردات أداء الأستاذ الجامعي وحتى على الجانب الاعتباري والمعنوي والذي تضرر أيضاً بفعل جملة من القرارات والأنظمة التي سلبت الأستاذ الجامعي معظم صلاحياته في تقرير المسيرة التعليمية ومفردات المناهج وأسلوب إدارة الامتحانات، وكان تتويج ذلك بإجراء الامتحانات المركزية إمعاناً بعدم الثقة بكفاءة التدريسي والتشكيك بنزاهته. وإذا كان الجانب المادي للأستاذ الجامعي قد شهد تحسناً ملموساً خلال الفترة الأخيرة، إلا أن المسألة تستلزم فترة طويلة من إعادة الثقة ورد الاعتبار. وتنبغي الإشارة هنا إلى القصور في عملية تأهيل الأستاذ الجامعي خلال العقدين الماضيين بسبب النقص الكبير في البعثات والزمالات الدراسية بحيث أصبحت أكثرية الكادر التدريسي هي من خريجي الجامعات العراقية وفي ظل ظروف دراسية وبحثية بالغة الصعوبة. ومما زاد في ضعف التأهيل والمستوى الأكاديمي لأستاذنا الجامعي هو ضآلة دورات التدريب والمشاركة في الندوات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى شحة النشريات وصعوبة وسائل الاتصالات. وإزاء كل ذلك فأن الحاجة تستدعي المباشرة بتكثيف البعثات والزمالات الدراسية والدورات التدريبية وتشجيع المشاركات في الندوات والمؤتمرات الدولية من خلال تغطية ولو جزء من نفقات هذه المشاركات.

7. الطالب الجامعي: الطالب الجامعي هو أساس العملية التعليمية وهو غايتها ووسيلتها في نفس الوقت. وبالإضافة إلى ما ذكر من عوامل تساعد على الارتقاء بمستواه من إصلاح للتعليم الابتدائي والثانوي وتوفير مناخات جامعية صحية، فأن مسألة التخطيط المنهجي لسياسة القبول التي تضمن أن أعداد الخريجين وتخصصاتهم تغطي احتياجات مؤسسات الدولة وسوق العمل، وتؤمن فرص عمل لمعظم الخريجين بما يتناسب مع تخصصهم ومؤهلاتهم، مما يعطي دافعاً وحافزاً قوياً للتحصيل الدراسي والتفوق.

استنتاج وتوصية:

من خلال ما ورد ذكره، يمكن الخروج باستنتاج رئيسي مفاده أن التعليم العالي في العراق يمر بأزمة عميقة وحادة نتيجة جملة من الظروف والأسباب أهمها ما يأتي:

1. ضعف في تأهيل الطالب في مرحلتي الدراسة الابتدائية والثانوية.

2. خطة قبول لا تستند إلى منهجية وتخطيط مدروسين من أجل إعداد خريجين بإعداد وتخصصات مؤهلة لتنفيذ خطط التنمية.

3. بيئة غير صحية وظروف بالغة الصعوبة عاشتها أركان العملية التعليمية من طالب وأستاذ وكادر إداري نتيجة الحروب والحصار وظروف الاحتلال.

4. قوانين وقرارات مرتجلة صدرت عن مسؤولين غير أكفاء وخاضعين لمركزية شخص أوحد.

5. نقص كبير في التخصيصات المالية لوزارة التعليم العالي ومؤسساتها المختلفة، أثر سلباً على تهيئة المستلزمات الدراسية وتجهيز المختبرات وغنى المكتبات.

6. خضوع الجامعات إلى مركزية أفقدتها استقلاليتها وخصوصيتها في رسم سياستها النابعة من ظروف وحاجات البيئة التي نشأت فيها.

7. مناهج دراسية وأنظمة تعليمية تخلفت عن مواكبة التطورات الهائلة في ميادين العلم والتكنولوجيا.

8. قصور في عملية تأهيل الأستاذ الجامعي من خلال البعثات والدورات التدريبية والمشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية.

9. غياب خطة واضحة للبحث العلمي تستجيب لحاجات البلد وتواكب التوجهات الحديثة في العلم والتكنولوجيا.

10. ضعف في تدريب الطلبة اللازم لإكسابهم المهارات التطبيقية الضرورية في ميدان العمل.

11. قصور في النشاطات اللاصفية بكل أنواعها الثقافية والرياضية والفنية اللازمة للإعداد الروحي والبدني المتكامل للخريجين.

وبناءً على ما تقدم ومن أجل النهوض بالتعليم العالي والارتقاء به إلى المستوى الذي يؤهله لريادة عملية التغيير والبناء في عراقنا الجديد، فأن التوصية التي نضعها أمام أنظار قياديي التعليم العالي المقبلين هي وضع الخطط الكفيلة بمعالجة كل مظهر وسبب من أسباب أزمة التعليم العالي والتي حاولنا أن نؤشر لأهمها في هذه المقالة. والأهم من ذلك هو العمل الجاد والدؤوب لتنفيذ هذه الخطط وتوفير كل مستلزمات إنجاحها. وهذا بالتأكيد ليس مسؤولية قياديي التعليم العالي فحسب، بل أنها مسؤولية وطنية تضامنية. ولنا ثقة وأمل عاليان بالمخلصين والغيارى من أبناء شعبنا برغم الظروف الصعبة، فالظروف الصعبة تلد فرسانها.

 

 


 

 

من أجل حملة التضامن مع الأساتذة العراقيين

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

قبل الدخول المباشر في الدعوة لحملة تضامن مع الأساتذة العراقيين وما يتعرضون له من مخاطر, نحتاج لعرض سريع لجملة من الآلام والأوصاب التي اكتنفت حيواتهم جميعا منذ عقود بعيدة في عراقنا. لقد تميَّز الأستاذ العراقي بمثابرة علمية أكاديمية ناشطة ولم يكن اسمه موجودا في قوائم اعتبارية تقليدية في الساحتين الإقليمية والعربية بل كان باحثا من الطراز الإبداعي الأول حتى على الصُعُد الدولية.. ومن ذلك نعرف أعلاما كبيرة تغذَّت منها وعليها جامعات عالمية معروفة وكانوا بالمئات إنْ لم نقلْ بالآلاف في أصقاع الأرض يقدمون جليل العلم وعظيم المعارف الإنسانية...

وتذكر تلك الجامعات الأجنبية منها والعربية ما للأستاذ العراقي من دور فاعل مميَّز في مجال التطوير والبحث والدراسات المعمَّقة فضلا عن المحاضرة الجامعية والإشراف على تخريج دفعات الكادر العلمي في شتى المجالات. ونحن هنا لا نذكر ذلك منَّة على أحد بل نذكر عظيم الفضل يوم استقبلت تلك الجامعات في زمن لاحق من القرن الماضي أساتذتنا وهم يُكرَهون على مغادرة بلادهم ..

فبعد أنْ كان وجودهم الرائع تلبية لحالة من التعاون مع جامعات عربية وأخرى عالمية طوال الحقبة بين ثلاثينيات القرن الماضي وستينياته جاءت سبعينيات القرن الماضي لتدفع مئات بل ألوفاً منهم للهجرة القسرية من البلاد في ظل مطاردة خطيرة من سلطات الطاغية لهم. وكان تضامن الجامعات باستقبال وترحاب كبيرين للأستاذ العراقي ولم تتمنّع حتى بعض الجامعات العربية ذات الخصوصية من استقبال العراقي من مختلف تيارات الفكر السياسي والانتماءات القومية والمذهبية, في إشارة لعلو منزلته ولموضوعية التعامل معه بعيدا عن التقوقع في إطار من عزل عنصري أو مذهبي أو قومي .. فلقد كان التعامل باستمرار على أساس احترام الروح العلمي والموضوعي عند الأستاذ العراقي..

ولم تكن حالة الهجرة التي حلَّت كارثية بالأستاذ الجامعي العراقي بكل ما جرَّته من آلام وأوصاب مقتصرة على آلامها التقليدية بل امتدت لظروف قاسية مروا بها لاحقا.. وواحدة من مفرداتها تكمن في مطاردات نظام السادية الدكتاتوري وعمليات اغتيال لاحقتهم حتى وهم على بعد آلاف الأميال عن بلادهم..

وسارع مئات من الأساتذة العراقيين بالعودة إلى البلاد بُعيد سقوط الطاغية ونظامه الدموي مباشرة.. وذلك لم يكن بسبب من آلام الغربة ومصاعب المنافي وظرروف بلدان الشتات بل إخلاصا لوطنية عميقة الوجود في الذات المعبِّرة عن الشخصية والهوية العراقيتين عند أساتذتنا.. وعلى الرغم من جميع الظروف الرهيبة التي يمرّ بها عراقنا فإنَّهم أصروا على العودة ومباشرة أعمالهم في إعادة إعمار ما خرَّبته أكثر من ثلاثة عقود من الضيم والظلم...

هنا فقط ظهرت المجابهة الأخطر بينهم وبين قوى التخريب والتقتيل. ولقد كان ذلك موجودا منذ الوهلة الأولى ولكن الأمر تصاعد واتخذ منحى خطيرا جدا في المدة الأخيرة حيث لم تعد قضية الاختطاف مقصورة على مطالب مادية بحتة.. فنحن أمام مشهد دموي بعيد جدا في مستهدفاته التخريبية.

لقد ركّزت قوى الظلام على الأستاذ الجامعي العراقي لما عُرِف به من دور أكبر من دور الأستاذ في قاعة الدرس والمحاضرة فقد كان دائما قائدا اجتماعيا وسياسيا ومخططا لعمليات البناء وفعل التنوير الفكري الفلسفي فكان العقل الجمعي لمجتمعنا في سابقة أعمق معنى من دور التكنوقراط.. فدوره من الفاعلية لم ينحصر في حدود أكاديمية بحتة ولكنه من الحيوية ما جعله لصيقا بحياة العراقي عامة وتفاصيل يومياته العادية..

من هنا كان التحام الأستاذ الجامعي مع أوسع جمهور خارج إطار التلقي في قاعات الدرس الجامعية وخارج قاعات المحاضرة ومختبرات العمل العلمي هناك في الشارع العراقي وفي البيت العراقي وجدنا أعمق استقبال وأبعد تفاعل مع رؤى العقل الجمعي...

والسؤال بعد ذلك لن يكون لماذا يُستهدف الأستاذ الجامعي العراقي، فهذا أمر صار مفضوحا ليس لقطع الطريق أمام التقدم العلمي المعرفي في مجتمعنا بل لإشاعة حالة الظلام والضلال ولتمكين الجهلة من تصدّر المشهد في المرحلة التالية عدا عن تخريب البلاد وإرهابها عبر عمليات ضرب أعناق قادة المجتمع الحقيقيين..

إن من يستهدف الأساتذة هم أنفسهم الذين يستهدفون كل فئات شعبنا ومكوناته..ونحن ندري ما لقوى إقليمية ودولية من مصالح في مدِّ أصابع التدخل في عراقنا بالذات في قضية اغتيال الطبقة المثقفة المتعلمة تعليما ولا تتلبسنا أية لحظة من التردد في الإشارة إلى جميع تلك القوى ولكن الأمر المطلوب مباشرة هو وقف العمليات الإجرامية وفضح القوى التي تقف وراءها ..

هنا يجب أنْ نشخّص تلك القوى.. وهنا نجابه عمليات تضليل تنهض بها قوى إقليمية وحتى محلية عراقية .. ألم يقل الطاغية سأترك العراق إذا ما أُبـْعدت عن كرسي الظلم , الحكم, فيه أرضا يبابا؛ هذه هي الأرض اليباب وهذه بعض مفردات خططه الجهنمية.. وهو يعرف ماذا ترك لنا من قوى التخريب وما زالت أموالنا المنهوبة تفعل فعلها ليس في إفقارنا وحرمان أبناء شعبنا منها بل في إيقاع أبلغ الجروح فينا وفي وجودنا الجديد..

من ينكر أن قوى مهزومة لها مصلحة في جرائم التخريب؟ ومن ينكر أن قوى مأجورة هي عصابات منظمة وغير منظمة وضعت نفسها في قطار دمار العراق؟ ومن ينكر وجود أصابع إقليمية تمتد لتنظيم ما لم ينتظم بعد في أفعال الشر؟ ومن ينكر حقيقة اللعبة الإرهابية الجارية في كونها حربا جديدة علينا؟

هذا فضلا عن قوى حزبية محددة وتيارات معنية بفرض فلسفتها بالقوة على الشارع العراقي.. من نمط ما قام به الدكتاتور من تجهيل وظلام ومسخ العقول وتخريب الروح العراقي وها هم يتسلمون استكمال المهمة عبر محاولة إخضاع المجتمع بإرهابه بعمليات القتل وليس أقل منها.. فليس لامرأة أن تخرج من منزلها وليس لها أن تبدي رأيا وتنهض بمهمة اجتماعية إلا ما يرونه لها جارية عبدة في أحضان اختطافاتهم المسوّقة لمشايخهم .. وليس لرجل أن يخرج عن طوع بنانهم وإلا جز أو حز رأسه.. وليس لأي كان من وجود خارج فلسفتهم وتفسيراتهم لما يسمونه دين الحق وهم الأبعد عن حق أو عدل أو إنصاف...

نعم هؤلاء هم رؤوس الجريمة وهوامشها أما الحديث عن المؤامرة الإمبريالية الصهيونية والوجود العسكري الأمريكي فقد صار مهزلة لمنطق حتى زعران السياسة ونحن أدرى بعدونا "الخارجي" وهمجيته وشراسة ماكنته العدوانية وأدرى بكيفية التعامل مع الماكنة الاقتصادية التكنولوجية وحتى مع الجيوش الجرارة لدولة كأميركا ولإسرائيل ..

وليس من مفردات منطق الأمور اليوم أمام واقع معقد أنْ نجيِّش خلايا الموت لمقاتلة أمريكا أو إسرائيل بالطريقة الصدامية المفضوحة حينما اتجه شرقا من أجل القدس ثم جنوبا من أجل القدس وشمالا ولكن هذه المرة ضد الشعب بأسلحة الدمار الشامل وكانت أيضا من أجل القدس  ولو استمر الأمر لذهب لمواطن أخرى جميعها ليست في اتجاه القدس. حتما لأنَّه كما ترون لم يستهدف التحرير وهكذا يفعل هؤلاء من أجل القدس والإسلام التي تمر عبر إحراق العراق وقتل العراقيين جميعا.

وصار التساؤل مريرا حيث نقول هل تدمير المدارس وقتل الطلبة والطالبات وترويعهم في أخف الأمور من الجهاد في سبيل الله والقدس والعراق في شيء؟! أم قتل علماء الدين واغتيال المراجع يُعدّ الدين أوالاعتقاد الصحيح؟ أم اختطاف الأطباء والمهندسين هو طريق البناء في بلادنا؟! أم تفجير سيارات الموت المفخخة أمام المستشفيات والمؤسسات الحكومية الخدمية هو طريق الحرية والاستقلال؟! أم مهاجمة قوى حفظ الأمن وشرطة تنظيم الحياة العامة والحفاظ على القانون هو طريق إخراج الأمريكان من البلاد؟!

أسئلة لا تنتهي كلها تحمل إجابة واحدة تشير إلى الجريمة والمجرم بما لا يقبل لبس. ولكنَّهم لا يزالون على إصرار في جرائمهم من أجل مصالح قذرة ليس أقلها سيادة ظلمة يحتاجونها لمزيد من العيش الطفيلي على حساب العراقي..

اليوم سيكون الوقوف مع الأستاذ العراقي حملة لازمة وضرورية وهي مهمة منتظرة مؤملة في كل شرفاء العراق والمنطقة والعالم وهم يتضامنون مع شعبنا من أجل ضياء الحق والسلام والديموقراطية.. من أجل وقف نزيف عراقيينا الذي امتد طويلا ولم يعد ممكنا السكوت عن مظالمه وضيمه..

إنَّ الحملة من أجل التضامن مع الأستاذ العراقي هي حملة من أجل نور المعرفة والخلق الكريم وبناة الحق والعدل والتسامح والسلام ونور الحرية ومجد الحياة الكريمة وهي حملة من أجل إدامة الصلة مع مَن منحوا حيواتهم من أجل الآخرين شرقا وغربا في بلاد العرب والهند والسند في بلاد الغربات السبع .. إنَّها حملة تنتظر أن يعلو فيها صوت المنظمات الدولية والإقليمية المتخصصة, وصوت الجامعات في أرجاء المعمورة طلبة وأساتذة, وصوت أبنائنا من طلبة الجامعات العربية وزملائنا من أساتذتها الأفاضل ممن تعايشنا معهم ردحا طويلا وتقاسمنا الهموم والإبداعات, وصوت كل طلبة العراق وأساتذة الجامعات العراقية لكي يقولوا بمختلف تياراتهم العقائدية والدينية والمذهبية والقومية والسياسية إنَّهم مع حياة السلم والحرية، مع حياة الكرامة والشرف وضد كل قوى التخريب والظلام فهي إنْ أفادت قلة ضئيلة ماديا اليوم أو في أمر من أمور الحياة الزائلة معولة على الخداع والتضليل بمزاعم دينية فهي لا نفع فيها في غد جميعنا بل مؤداها نار تحرق الأخضر مع اليابس...

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة