من أعلام
الصحافة العالمية ..
كاتب
(الريبورتاج) الذي أسس الواقعية السحرية
جودت
جالي
...
هذا هو ملخص الواقعة والريبورتاج بأسلوبه لأكثر أجزائه
شعرية و (سحرية). كان دا كونيا جمهوريا محبا للنظام
العلماني مغرما بالرياضيات ولكنه أيضا، وهذا من المتناقض
في شخصيته، كان يعتقد بتفوق العرق الآري ويكره كانودوس
وحواري المشير ويمقت الزنوج والهنود وكل من أختلطت دماؤه
بدمائهم، ولكنه ماأن شهد مذبحة كانودوس وروى ملحمتها حتى
أكتشف جمال كانودوس وأصالة العرق الهجين، أعجبته لياقتهم
الأنسانية وكرمهم وكبرياؤهم وأملهم بالخلاص، تحول كرهه إلى
أغنية حب لمن كرههم.
هو (أوقليديس
دا كونيا) ولد في ريو نيغرو عام 1866 وأغتيل في ريو دي
جانيرو عام 1909. دخل أول شبابه الكلية العسكرية حيث عرف
بآرائه الجمهورية وطرد منها عام 1888 لمجاهرته بأحتقار
وزير الحرب، ولكن أعيد أليها في العام التالي عندما أصبحت
البرازيل جمهورية. تخرج كمهندس مدني ولكنه عمل بشكل أساس
كاتبا، رافق (دا كونيا) في عام 1897 كمراسل لصحيفة (أيستادو
ساو باولو) قوات الجيش التي أرسلت لقمع أتباع حركة صوفية
تطهرية في سيرتاو من مقاطعة باهيا وقد قامت القوات بسحق ما
أعتبرته الحكومة تمردا. سواء كان ماجاء في الريبورتاج الذي
أحتل صفحات كتاب بعنوان (أوس سيرتويس) عام 1902 وترجم إلى
الأنجليزية عام 1944 بعنوان (تمرد في الأرض النائية) من
وقائع عجائبية صحيحا (وهو مالم ترد رواية تخالفه من
الناجين أو أفراد الجيش أو المصور أيفاندرو الذي رافق
الهجوم الأخير) فأن الأكيد أن الكتاب غير الأدبي دشن حقبة
جديدة ليس في الأدب البرازيلي فقط بل وفي أدب أمريكا
اللاتينية كله، وكان أول كتاب في الواقعية السحرية سرد
واقعة تأريخية مهد الطريق أمام خيال (خوان رلفو) وخورخه
آمادو Jorge Amado
(وليس جورج آمادو
بدليل Jorge Luis
Borges خورخه لويس
بورخيس وهو مايطابق قواعد اللفظ بالأسبانية) وغابريل
غارثيا ماركويث (وليس ماركيز) وغيرهم. وقعت في البرازيل
حرب القرن التاسع عشر الأكثر غرابة في ضراوتها في منطقة
منسية لم تنقصها الشهرة منذئذ، وأذا أستخدمنا تعبير دا
كونيا فأن أبرز سكانها أثنان هما الشمس والشيطان وكان
مرجحا أن تبقى نكرة في التأريخ لو لم يدس هذا الشاب الصحفي
العبقري أنفه فيها، كان كتابه بمثابة ألياذة (طروادة طينية)
هي قرية (كانودوس). كان عدد أكواخها لايتجاوز الخمسين
آنذاك وسماؤها جمرة متقدة تعيش عيشة العذاب إلى أن ظهر ذات
يوم بين ظهرانيها المهووس (آنتونيو فنسنته مينديس)،
آنتونيو المستشار، وقد ذاع سبب هذا الظهور في باهيا كلها.
لقد أنجبت صحراء شمال شرق البرازيل بجفافها وفيضاناتها،
بقفارها وأدغالها، بجمالها الفاني، منذ قرون الكثير من (المشعوذين)
و (المخلصين) ويعج تأريخها بمدعي المعرفة الألهية و النبوة،
بالمتمردين والقتلة، بالأبرياء والملائكة، بعالمي الغيب،
ولم يكن آنتونيو المستشار يختلف عنهم كثيرا. لم يكن فيه
أول حياته مايشير إلى أنه سيكون (مسيحا) جديدا أو حتى
حوارياً. تزوج وأنجب أطفالا وعمل في التجارة وكتابة العقود.
خانته زوجته مع شرطي فشق عليه ذلك. أعتزل الناس في سيرتاو
ولما خرج من عزلته بعد عشر سنين كان عقله عقل نبي وسلوكه
سلوك الولي. رجل ملتح نحيل كهيكل عظمي هزيل كظل متلاش أغبر
اشعث عيناه مقلوبتان وياللعجب كان فيهما من السحر مايسلب
أرادة من يقف بحضرته. تبعه رجال ونساء كان عددهم يتضاعف
يوما بعد يوم. شرع هو وأتباعه ببناء (المدينة المقدسة) في
كانودوس ولم تلبث أن أتسعت ففي كل يوم كانت تظهر عشرات
البيوت من تحت الأرض. لكن المتمدنين في باهيا لم يكونوا
راضين فجمهورية البرازيل الناشئة بحاجة إلى النظام وهذا
النظام لامكان فيه للمشعوذين وعليه يجب القضاء على هذه
الفوضى ومستشارها آنتونيو، وقررت الحكومة سحق هؤلاء (المطيورين)،
ولكن ماأن وصل الجيش الغازي مشارف القرية حتى فر جنوده كمن
أصابه مس لايعرف له سبب. عاد أهل كانودوس إلى شؤونهم
وأزدهرت (مدينة الرب) حتى أصبح فيها 5200 دار. أصبحت مزار
الخلاص يقصده المدمنون والعاهرات والقتلة والحالمات بمريم
العذراء. أرسلت باهيا جنودا آخرين لم يلبثوا أن هزموا
بمجرد رؤيتهم أولئك المشردين. وصلت الأنباء إلى ريو دي
جانيرو فهاجت المدينة وماجت وجهزت الحكومة جيشا مع مدافع (كروب)
ومدافع رشاشة أحاط بكانودوس، لكن (أهل الله) قنصوا الجنود
ببنادق قديمة ذات الفوهات العريضة، ليست طلقاتها سوى حبات
المسابح التي حققت المعجزات. جاءت حملة عسكرية ثانية عام
1897 أحرقت المدينة بنيران المدافع ، هجم الجيش على
المدينة التي تحولت إلى نار ودخان، قتل آنتونيو المستشار
وملأت الجثث الشوارع وسالت الدماء في المجاري. لم يبق ألا
أربعة مدافعين بينهم شيخ وصبي هاجمهم جيش قوامه 5000 جندي
وقتلهم. لم تعد كانودوس على الأرض بل أرتفعت إلى السماء.
كانت المدينة شبحا، مخطط متاهة لاأول له ولاآخر، خرائب
طالعة من عصر ماقبل التأريخ، تملك الجنود الذعر رغم
الأنتصار وشعروا كأنهم أجتازوا حدودا غير مرئية، مدينة
لاهيئة لها، لم يعودوا في العالم، سقطوا في هوة التأريخ
المجهول. أراد الضباط تدميرها بالديناميت، ولكن كيف يمكن
تدمير أبنية من غبار؟ فقد الجنود رباطة جأشهم ولم يستدلوا
من هذه الكتلة الغامضة على مخرج، وقعوا في فخ أنتصارهم
فيما كان المذبوحون يعودون إلى الحياة وهم يطلقون من
بنادقهم آخر ماعندهم من حبات المسابح، ((سليمة لم تمس،
تحولت المدينة الهشة، الآيلة إلى أنقاض، إلى كتلة رهيبة)).
هذا هو ملخص الواقعة والريبورتاج بأسلوبه لأكثر أجزائه
شعرية و (سحرية). كان دا كونيا جمهوريا محبا للنظام
العلماني مغرما بالرياضيات ولكنه أيضا، وهذا من المتناقض
في شخصيته، كان يعتقد بتفوق العرق الآري ويكره كانودوس
وحواري المشير ويمقت الزنوج والهنود وكل من أختلطت دماؤه
بدمائهم، ولكنه ماأن شهد مذبحة كانودوس وروى ملحمتها حتى
أكتشف جمال كانودوس وأصالة العرق الهجين، أعجبته لياقتهم
الأنسانية وكرمهم وكبرياءهم وأملهم بالخلاص، تحول كرهه إلى
أغنية حب لمن كرههم.
|