كيف تأتي
خلال الليل حين يكون الموت نائماً على جثة النهار؟ ..
الكتابة العراقية ..
مجابهة الحياة خارج القناعات المتصلبة
أحمد سعداوي
1
لا تحتفظ لنا سير الروائيين بنمط ثابت عن علاقة الكتابة
بالظرف المحيط بها. فلدينا على الاقل روائيان كتبا افضل
اعمالهما وهما يعانيان من أعباء المرض والاحتضار البطيء،
وهما كافكا وبروست. واضفى هذا المرض في اعين جمهور القراء
بعداً استشهادياً لعملية الكتابة لدى هذين الروائيين.
وكتب كل من تولستوي وفلوبير أعمالهما الاساسية وهما ينعمان
باستقرار مادي ووضع اجتماعي جيد، بينما عانى ديستويفسكي
وجيمس جويس متاعب شتى وهما في صدد الانجاز الابداعي.
وكانت حياة هيمنغواي حافلة بالسفر والمغامرة والمجازفة
والانشطة المتنوعة غير المعهودة لدى اصحاب حرفة الكتابة،
وفي الجانب المعاكس نجد ان نجيب محفوظ قد غادر عالمنا دون
ان تتغير عاداته التي لا تختلف عن عادات موظف حكومي متقاعد،
لا تحفل حياته بالكثير من الاثارة.
وكتب خوان رولفو روايته العظيمة اليتيمة (بيدرو بارامو)
وهو مجرد موظف صغير في دائرة الهجرة المكسيكية. ولم يتعرف
عليه الكثير ممن كانوا يعرفونه بصفته روائياً، ولم يوفر
لهم ـ من خلال نشر روايات اكثر ـ فرصة لأدراك هذه الصورة
فيه. بينما يتحرك خوان غويتسولو، الذي يكتب بلغة خوان
رولفو نفسها في اجواء من الاضواء الاعلامية، ويقضي أوقات
كتابته لرواية جديدة في مدن الساحل المغربي.
وكان جورج سيمنون، الكاتب الفرنسي الذي قال عن اعماله
الرئيس الفرنسي الاسبق فرانسوا ميتران بأنها تمثل ثروة
وطنية لفرنسا، كان سيمنون هذا يكتب رواية جديدة كل احد عشر
يوما، مستخدماً أقلام الرصاص حصراً. بينما قضى روائي
ايرلندي شاب شطراً كبيراً من عمره لأنجاز روايته الاولى
التي فازت بعد ذلك بجائزة البوكر البريطانية، ولم يتأخر كل
هذا الوقت إلا لسبب وجيه، فهو يعاني من شلل شبه كامل في
جسده، ولا يستطيع ان يحرك سوى رأسه، وانجز روايته الاولى (والاخيرة
ربما!) من خلال النقر بعصا في فمه على مفاتيح آلة كتابة
كهربائية.
ويخطط الايطالي امبرتو ايكو، وكذلك الانكليزي ديفيد لوج
لروايته القادمة جيداً، ويحسب كل التفاصيل قبل ان يشرع
بالكتابة. بينما ينشد كتاب اخرون لصورة تنبثق في اذهانهم
ويبدأون بنسج الرواية حولها، فتغدو عملية الكتابة اكتشافاً
مستمراً للرواية المطمورة في تلك المنطقة الرخوة بين الوعي
واللا وعي. وربما تحدث ماركيز عن شيء مشابه فيما يخص (مائة
عام من العزلة) التي يرى انها انبثقت ونمت من صورة طفل
يلمس الثلج ويتعرف عليه للمرة الاولى في ثلاجة لحفظ السمك.
ينظر بعض الروائيين للكتابة على انها فضاء لمتعة التحول،
كالروائي التركي نديم جورسيل، الذي يتساءل في منتصف روايته
الشهيرة (محمد الفاتح) عن معنى استمراره هو ككاتب في
ملاحقة قصة تاريخية وأهمال صديقته (دنيز) التي جاءت من
فرنسا خصيصاً لتقضي الوقت معه، فيتغير مسار الرواية من
الحكاية التاريخية نحو حكاية ايروسية. بينما يرى اخرون
انها تستنزفهم وتستهلك طاقتهم، كالروائي التركي الآخر يشار
كمال، الذي يشعر بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه حين
يقرر كتابة رواية جديدة. فحالما ينتهي من الكتابة يستدعي
طبيبه الخاص لفحصه، فيكتشف ان وزنه قد إنخفض وأنه يعاني من
اضطرابات صحية عديدة.
هناك من الروائيين من يلجأ الى الخيال الصرف في انشاء
عالمه الروائي، فما هي الصلة الواضحة بين مدينة نيويورك
التي يقيم فيها الكاتب الاميركي بول اوستر والمدينة
الهيتروتوبيا التي انشأها في روايته (بلاد الاشياء الاخيرة)؟
بينما هناك من يتابع احداث ومجريات الواقع منافساً الصحفي
في ذلك لينشئ عالمه الروائي استناداً الى هذه المعطيات
المتحولة كما في رواية (تقرير ميليس) للروائي اللبناني
الشاب ربيع جابر.
2
العرض السابق يقدم امثولة عن اللا تعيين الظرفي الذي تتحرك
فيه طاقة الكتابة، وهو بالضرورة ما يوفر للكتابة اختلافها
وتعددها، فحتى في أكثر النظريات شكلية وتجريداً، لا نتوفر
على وجهة نظر مقنعة حول انفصال موضوعة الكتابة الروائية
واساليبها عن الظرف العام الذي يتحرك فيه الكاتب.
ما الذي يدفعني ككاتب لأختيار هذه الموضوعة وهذا الاسلوب
وهذه التقنيات؟ إنه بالتأكيد ليس مجرد نداء العبقرية والفن
الكبير. انه شيء يأتي من خارج الكتابة، ويتحدد من خارج
الكتابة حصراً. إنه ما يجعل الكتابة نوعاً دائماً من
العلاقة، نوعاً من الاتصال ونوعاً من الرسالة.
وهذا ما يتضح لدى بعض الكتاب الذين يركزون كثيراً على جانب
(الرسالة) هذه، ويحددون خصائصها ووظيفتها. فحين كتب ماريو
فارغاس يوسا روايته (مدينة الكلاب) كان يفكر تحديداً بفضح
المساوئ والانتهاكات التي تجري داخل المدارس الداخلية في
البيرو. ويبدو ان هذه الرسالة وصلت واحدثت التأثير الذي
كان يوسا يأمله، فتولدت زوبعة إعلامية انتهت الى تغييرات
فعلية على أرض الواقع.
وقد تكون (الرسالة) من نمط (عرض الحال) أي تقديم شهادة أو
صورة دقيقة عما يجري الان، عما يجري حول الكاتب. أو من نمط
التوثيق المجازي لاكتشافات الكاتب الروحية والنفسية، خلاصة
ما لتجربة غدت جزءاً من الذاكرة.
والمؤكد أن الروائي في أغلب الاحوال لا يتمكن إلا بمشقة من
ادعاء انفصال مبادرة الكتابة لديه عن تفاعله مع المحيط
الاجتماعي والسياسي من حوله.
3
أفكر في كل ذلك وانا اتأمل امكانات (اللا تعيين الظرفي)
بالنسبة لكاتب عراقي يسعى للتناغم مع ذبذبة المحيط من حوله،
والتقاط ايقاع الكتابة من خلال ذلك.
أتأمل تلك الكتابة التي تأتي خلال الليل حين يكون الموت قد
وسخ الذاكرة اليومية للكاتب خلال النهار. أتأمل تلك
المقبرة الهائلة التي تعطي كل يوم دلائل جديدة على وجودها
خلف قشرة الحياة النهارية، وهي تكشف عن جثثها من دون أي
ممكنات (لتعيين ظرفي!).
إنه بالتأكيد ظرف شديد الخصوصية ويطبع الكتابة التي تنجز
فيه بهذه الخصوصية دون ريب، ولكن هل اختبرنا فعلاً امكانات
هذه الكتابة الخاصة والمميزة، ام انها ممتنعة لأن الظرف
العراقي الخاص في هذه الايام هو ظرف اللا كتابة بالدرجة
الاساس؟
شخصياً لا املك اجابة يمكن لي ان اعممها وأتخذها انموذجاً
للكتابة الروائية العراقية الآن. ولكني احمل في ذهني
افتراضات لهذه الكتابة ليس إلا.
يحتاج الكاتب الى
حلم، حلم ذي اساس واقعي، يمكن ان يساهم الكاتب بتقريبه أو
ايضاحه أو التأكيد على واقعيته. أنه الرجل الذي يحتاجه
الحلم كي يقترب من الاخرين، بمعنى اخر ان الحلم يحتاج في
المراحل العصيبة الى من يؤكد على وجوده، الى شخص يؤمن
استناداً الى طاقته الخاصة بأمكانات رؤيته بالعين المجردة
دون ان يكون لديه دليل واقعي على ذلك!
وقد لا يحتاج الكاتب الى كل ذلك قدر حاجته لليأس، ففي لحظة
اليأس تكون العين اقدر على رؤية الحقيقة دون بهرجة الامال
الوقتية والزائلة. الحقيقة المرة والنهائية.
فيساهم الكاتب حينها في ذلك الجهد الانساني الذي دأب على
تربيتنا ان نتعايش مع الموت ونحوله الى طاقة مضافة لتدعيم
الحياة وجعلها اكثر واقعية وحكمة.
قد تكون الكتابة الروائية العراقية الان نوعاً من الانتقام
من الخراب والموت، نوعاً من السخرية من كل هذا الفشل
المريع الذي يتناسل من حولنا، وهي سخرية لا توحي بالبديل،
قدر تأكيدها على أمكانية السخرية نفسها تحت أي ظرف.
إن الظرف الاستثنائي والخاص الذي تحياه بلادنا الان،
والافق الذي يتخلق لمستقبلها، والذي يشي باحتمالات كابية
اللون، يفرض في كل الاحوال تحدياً كبيراً ازاء الكتابة، إن
كان هناك اصرار كافٍ على (اعتناق) الكتابة والاستمرار فيها.
هذا التحدي يتحدد بالدرجة الاساس في تلك اللغة القادرة على
الامساك بايقاع الحياة، وتلك القدرة على مجابهة الحياة
خارج القناعات المتصلبة التي يتاجر بها الاعلام في كل
ثانية، ويتاجر بها سدنة الايديولوجيات المتحاربة القابعين
خلف دفة الاعلام. وهي اخيراً ذلك الايمان بحدوث الكتابة
تحت أي ظرف وفي أي وقت. الكتابة التي لا تحب ولا تكره
مسبقاً، وانما تسعى للرؤية بعيون اكثر اتساعاً مما هو متاح.
|