إشكالية
الدولة في المجتمعات الإسلامية
(1-1)
د.
علي وتوت *
* باحث أكاديمي في
سوسيولوجيا السياسة
في
التنظيرات السياسية الحديثة تبدو الأديان جميعاً وهي لا
تستقيم مع المفهوم الحديث للدولة بشكلٍ عام (نعني بذلك
قضية الفصل بين المؤسسات)، ولكن الإسلام يضيف إلى العامل
السابق، تقاطعه مع فكرة البعد الجغرافي للدولة، فالمنظور
الإسلامي يتعامل مع مفهوم (الأمة) الذي لا تحدده الجغرافيا،
فأمة المسلمين يمتد وجودها وانتشارها بانتشار المسلمين على
وجه البسيطة، بدون اعتبار لمسألة الحدود السياسية للدول.
بينما تنشأ الدول الحديثة وفقاً لقواعد القانون الدولي
باكتمال العناصر المكونة لها من: إقليم جغرافي ذي حدود
واضحة، وأفراد وجماعات يسكنون هذا الإقليم، ونظام سياسي
متبلور في حكومة تحكم معترف بها من قبل السكان، وأخيراً
اعتراف بقية المجتمع الدولي بهذه الدولة الجديدة(1).
وإذا ما كانت دول الغرب المسيحي قد تخلصت من الوصاية
السياسية للكنيسة، فقد بقي الشرق المسلم (بمجتمعاته التي
لم تستطع إنضاج فكرة الدولة) تحت وصاية رجال الدين
المسلمين. وعلى الرغم من أن التراث الإسلامي لا يذهب مثلما
تفعل المسيحية، إلى تعيين طبقة اللاهوت أو رجال الدين، فإن
هذه الفئة من الأفراد أسهمت بشكل فاعل في صياغة الإشكالية
(السياسية/الدينية) التي يعيشها المشهد السياسي في مجتمعات
الشرق المسلمة. فقد شكلت (هذه الفئة) مصدر الإحراج الأول
في هذه المجتمعات، وذلك في التأثير على عدد من أفراد
المجتمع، قلوا أم كثروا، مؤيدين لاعتبار الدين مصدراً
للسلطة السياسية.
ولو تتبعنا كتاب الشيخ علي عبد الرازق الذائع (الإسلام
وأصول الحكم) نجد أن عجز الممارسة الإسلامية بمختلف
مشاربها وتوجهاتها عن حل مسألة الحكم يبدو واضحاً ! وإذا
ما كان المسلمون الشيعة لوحدهم يشعرون بعقدة الذنب تجاه
مسألة شخص الحاكم، فإنهم في الحقيقة يشتركون مع باقي الفرق
الإسلامية في عدم الإشارة إلى مسألة شكل الحكم !!
وإذا ما حاولنا العودة إلى النظام السياسي في الإسلام
فلسوف نجد أن الأمة الإسلامية التي أسسها وأرسى قواعدها
ووضح اتجاهاتها، وأشرف على بنائها الرسول الكريم محمد (ص)،
كانت تقوم على مبادئ واضحة تكون فيها السيادة العليا لله
سبحانه وتعالى، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، مالك كل
شيء، وإليه تُرجع الأمور. وتوضح آيات القرآن الكريم
القواعد العامة التي يسير عليها المجتمع بهديٍ من الله
تعالى. فالقرآن دستور هذه الأمة الذي تتمثل فيه المصالح
العامة للمسلمين، فالأموال العامة المرصودة لمصالح
المسلمين هي مال الله، والقتال من أجل الأمة هو قتال في
سبيل الله. أما (المجتمع) الإسلامي، أو بصورةٍ أكثر دقة
الأمة الإسلامية فكانت تتكون من الأفراد الذين يؤمنون
بمبادئ الدولة الجديدة ويعملون من اجل بقائها وديمومتها،
وكان أفراد هذه الأمة يتماسكون بالعقيدة المشتركة والمثل
الأخلاقية الموحدة والعمل من اجل هدف مشترك يقوم على الحرص
على ما فيه خير الجميع، فمصلحة الأمة وخيرها هما الغاية
العظمى، وأفراد الأمة متساوون في الحقوق والواجبات. وكل
فرد فيها مسؤول عن أعماله، وله الحرية التامة في العمل
والتنقل والتفكير ضمن نطاق المصلحة العامة من دون الإضرار
بالآخرين أو بما يضعف الأمة(2).
إن المسلمين بعامة يميلون غالباً إلى الاعتقاد أن النبي
(ص) كان ملكاً رسولاً، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية
مدنية، كان هو ملكها وسيدها. لعل ذلك هو الرأي الذي يتلاءم
مع ذوقهم العام، ومع ما يتبادر من أحوالهم في الجملة،
ولعله أيضاً هو رأي جمهور العلماء من المسلمين، فانك تراهم،
إذا عرض لهم الكلام في شيء يتصل بذلك الموضوع، يميلون إلى
اعتبار الإسلام وحدة سياسية، ودولة أسسها النبي (ص). وكلام
الماوردي في (أحكامه السلطانية)(3)ينحو ذلك المنحى، إذ جعل
الخلافة حراسة الدين وسياسة الدنيا، في حين يؤكد ابن خلدون
في (مقدمته) أن الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشرع في
حفظ الدين وسياسة الدنيا، شاملةً للملك، والملك مندرجً
تحتها(4).
ولم يعد هناك شك في أن النظام الذي أقامه رسول الله (ص)
والمؤمنون معه في المدينة يمكن وصفه بأنه (سياسي)، بكل ما
تعنيه هذه الكلمة من معنى(5).
لقد أقام الرسول الكريم (ص) عند هجرته إلى المدينة المنورة
أول نظام سياسي يجسد وحدة جميع أفراد المجتمع في (الدولة/المدينة)
في (يثرب)، وذلك تحت فكرة (المواطنة)، إذ عقد الرسول (ص)
اتفاقاً مع المسلمين، من المهاجرين والأنصار ومع القبائل
اليهودية ومع المشركين في المدينة. فاتفق معهم على حماية
بعضهم الآخر من أي اعتداء خارجي قد يقع على المدينة وكذلك
اتفق معهم على حرية كل فئة في معتقداتها، ولكن اليهود
خالفوا العهد وتعاونوا مع مشركي المدينة ومشركي مكة ضد
المسلمين فانتهى ذلك الاتفاق الذي أطلق عليه اسم (صحيفة
المدينة). ونلاحظ أن الرسول (ص) وصف المسلمين واليهود
وغيرهم ممن دخلوا في الاتفاقية بأنهم أمة من دون الناس
بمعنى إنهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها، وهذا
يتطابق مع مفهوم المواطنة القائم على أتفاق دستوري بين
أفراد المجتمع الواحد(6).
لكن شيئاً لم يذكر عن شكل الحكم بعد الرسول، وهو ما قاد في
ظننا إلى خلافات كبرى ما زالت محل جدل كبير بين المسلمين
لغاية الوقت الحاضر. فمن الجدير بالملاحظة أنه ومنذ بداية
نشوء السلطة السياسية في الإسلام بعد وفاة النبي (ص) كان
السؤال المتقدم الملحّ: (مَنْ يحكم ؟)، بمعنى أية قبيلة أو
عشيرة سوف تحكم، وتأخر السؤال السياسي الأكثر أهمية
وموضوعية: (كيف يكون الحكم بعد النبي في الدولة الجديدة ؟
بأي منهاج وبرنامج استنباطاً من مبادئ الإسلام السياسية
التي جاءت عامة مرنة تتطلب التحديد والتقنين ؟) هكذا حولّت
(ذاتية) القبيلة مسألة الحكم في تاريخ الإسلام من (موضوع)
الحكم، كيف يؤسس ويُدار.. إلى (ذاتية) الحاكمين: مَنْ
يكونون، من أية عشيرة أو قبيلة، وأي (ذات) منهم تفضل (الذات)
الأخرى(7).
وعلى الرغم من أن العقيدة الإسلامية منذ ظهورها، وكما يؤكد
أحد الباحثين الغربيين، لم تعترف قط بأي فصل أو تمييز بين
المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية، أي الدين والدولة(8)،
كما فعلت المسيحية، فقد ظلت مسألة الخلافة تشكل معضلة لم
تحل اشكالياتها لغاية الوقت الحاضر. فالخلافة لدى المسلمين
هي كما يقول ابن خلدون: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي
في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال
الدنيا كلها ترجع عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة،
فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة
الدنيا به(9).
لقد أوجد المسلمون القائمون على الأمر (هكذا يدعوهم
الجابري) أو من أصحاب الكلمة والرأي، على رأس الدولة
الإسلامية منصب الخليفة (بمعنى خليفة رسول الله، وكان أبو
بكر الصديق (رض) هو أول من شغل هذا المنصب في اجتماع سقيفة
بني ساعدة الذائع الصيت). هذا المنصب الذي تم ترشيح
الخلفاء الأربعة إليه بطرق عدة، مرةً بإجماع فئةٍ من
مهاجري قريش تحديداً، كما حصل في البيعة لأبي بكر
الصديق(رض)، ومرةً بتوصية من الخليفة السابق كما حصل في
بيعة عمر بن الخطاب (رض)، ومرةً بتعيين ستة على أن يتم
ترشيح أحدهم فيما بينهم كما حصل في بيعة الخليفة الثالث
عثمان بن عفان (رض)، أو بطريق الانتخاب (الاختيار) المباشر
كما حصل في بيعة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب (رض).
إن هذا التنوع في الطرق والآليات لاختيار الرجل (تحديداً
!!) الذي ستكون صلاحياته مطلقة، وغير محدودة بحدّ فيما يخص
شؤون السياسة في الحكم والدولة. فالخليفة هو المسؤول عن
إدارة الشؤون العامة وتوجيهها، وله السلطة العليا في إرسال
الجيوش وتعيين الولاة وعزلهم وتحديد حقوقهم وواجباتهم.
ويستمد الخليفة قوته من مسؤوليته في تسيير أمور الدولة
كلها، وواجبه في تامين سلامتها (كذا !!). ومع أن الخليفة
هو صاحب السلطة العليا فانه كان يستشير من يرى استشارتهم
من الصحابة لسماع آرائهم وتوجيهاتهم، إلا أن القرارات تصدر
باسمه وهو المسؤول الأول عن إصدارها ومتابعة تنفيذها (كذا
!!).
هذا التنوع والتعدد في طريقة الاختيار سيحيلنا إلى
الملاحظة السابقة ل (محمد جابر الأنصاري) عن تأخر السؤال
الأكثر أهمية وموضوعية: (كيف يكون الحكم بعد النبي في
الدولة الجديدة ؟، بأي منهاج وبرنامج استنباطاً من مبادئ
الإسلام السياسية التي جاءت عامة مرنة تتطلب التحديد
والتقنين ؟). وهو ما سوف يستفيد منه معاوية بن أبي سفيان
ويستغله في تكوين ما سيطلق عليه الجابري دولة (الملك
السياسي)(10). فمؤسسة الخلافة الإسلامية التي لم ينص عليها
صراحة لا القرآن ولا السنة وإنما استحدثها القائمون على
الأمر من المسلمين عقب وفاة النبي وساروا بها، كنتاج
اجتماعي، مع توالي عهود الخلافة(11)، وبالتالي فإن بإمكان
مسلم آخر أن يوجد شكلاً آخر من الحكم (هو الملكية المحض،
يورث الأب الملك لابنه، ويرث هذا الأخير الملك عن أبيه)،
هذا من جهة.
ومن الجهة الأخرى، فإننا نرى إمكانية الفصل بين المؤسستين
السياسية والدينية منذ وفاة الرسول الأعظم (ص). إذ إن
المسلمين كانوا يرون النبي محمد (ص) كملكٍ ورسول، تؤكد
حقيقة جمعه السلطتين السياسية (بحكم كونه الحاكم الأوحد في
الأمة الإسلامية) والدينية (بحكم كونه رسول الله وخاتم
الأنبياء). ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو:
- مَنْ خولَّ من أتى بعده من الحكام السياسيين (الخلفاء)
تبوؤ زعامة السلطة الدينية، بل الحكم (الشرعي) على أفعال
الأشخاص وفقاً للنص الذي صار هم من يفسرونه ؟
إذ أصبح من حق الحاكم (الخليفة) تكفير الناس (يذكر لنا
التاريخ بهذا الشأن أن من بين ما سميّ بحوادث الردة، بعد
وفاة الرسول (ص) حادثة الصحابي الجليل مالك بن نويرة الذي
قام بقتله الصحابي خالد بن الوليد خطأً وكيف تم تبرير ذلك)(12)،
بل والحضَّ على قتلهم استناداً إلى تفسيرات دينية كان
يضعها الخليفة نفسه (بعَّدِهِ الأكثر علماً دينياً أيضاً
!!).
|