الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

شذرات من سيرة المفكر هادي العلوي

بقلم/ أسعد جاسم حنظل

حيث تمتد معرفتي بالأستاذ السيد (هادي نوري العلوي) منذ سنة 1957 ويمكنني أن أستعرض بعض الجوانب وأطرح بعض الأمور التي لم يتطرق إليها جميع من كتب عنه.

حيث إني زاملته وعرفته منذ عملي معه في دائرة (صندوق احتياط مستخدمي الحكومة) أوائل سنة 1957 الكائنة في الحيدر خانه خلف مقهى حسن عجمي وذكرياتي هذه تنوء لتاريخ ذلك الإنسان الذي اختار طريقه من أجل البحث والمعرفة ومن أجل غد أفضل يوصل العراق إلى مصاف الدول المتقدمة وجدته يتعامل مع ذاته بصمت، كبير النفس والضمير والوجدان هادي الطبع، دمث الخلق صبوراً، محباً للخير عطوفاً على الفقير يحب الصديق، تنجذب إليه عند أول حديثك معه وكأنك تعرفه منذ زمان.

له رؤيته الجادة بالأدب والتاريخ وعلوم الدين حيث كان ينظر إلى الدين على إنه وعي اجتماعي وإنساني هدفه تحرير الإنسان من الظلم والاستغلال وليس المهم من يقوم به.

كان يتصل (تلفونياً) بالأستاذ (مصطفى جواد) مستوضحاً أمراً في مادة التاريخ. والأخير يقوم إيضاح ذلك له.

وكانت هذه المعرفة قد تعدت إلى أبعد من كونها علاقة موظف بموظف. إنما تعدت إلى أبعد من ذلك حيث.. كان يصطحبني إلى بيته في الكرادة وهو يحدثني عن طموحاته وما يتمناه في الحياة له وللوطن.

وحدثني أكثر من مرة عن جيرانه المدعو (حامد قاسم) حيث قال:

جيراني هذا له أخ عسكري برتبة كبيرة يأتيهم مرة كل شهر أو مرتين، وأريد أن أكلمه بموضوع مهم ولكنني متردد في ذلك، الموضوع خطير قد يكلفه حياته، ولكني أرى من واجبي أن أحدثه فيه.

نعم سوف أكلمه الشهر القادم وحينما أراه داخلاً أو خارجاً من بيت أخيه (حامد) لأن مثل هذا الموضوع لا يقبل التأجيل لأن الأوضاع السياسية مرتبكة وتتطلب التغيير العاجل.

هذا الحديث كان يدور بيننا ونعاود التحدث فيه بين فترة وأخرى.

ومع مرور الوقت، كنت أراه محرجاً حينما أسأله في هذا الموضوع.

كان يزوره في الدائرة أخوه (حسن العلوي) ومعه أولاد جيرانه (حامد قاسم) وهم (حسين وماجد) العلاقة كانت قوية بين عائلة (حامد) وعائلة الأستاذ هادي تجمعهم الجيرة القديمة والصداقة العائلية ولكن إحراجه هذا مصحوباً بخوف من أن مفاتحته (لشقيق جيرانه) قد يضعه في موقف حرج إذا رفض التحدث معه في الموضوع الخطير الذي يريده.

ولكن السيد هادي لم يكن يعلم أن هذا الضابط قد أعد العدة مع جماعة من (الضباط الأحرار) وينتظر ساعة الصفر ليعلن قيام الجمهورية.

وفي صباح 14 تموز 1958 ليلة الاثنين أعلنت الثورة وكان مفجرها هو الزعيم (عبد الكريم قاسم) وهو ما تنبأ به السيد (هادي) في حينه وما كان يتمناه أن يحدث ولكن حياءه وخوفه من إحراج جيرانه أخذ منه كل ما كان يتمناه. حينما كنت أذهب معه إلى البيت أشاهد نسوة يأتين ومعهن (النذور) وهي لا تتعدى عن قطعة قماش أو أشياء أخرى بسيطة. بمثابة هدية له لأنه سبق أن قرأ على رأس مريض لهن (سور من القرآن الكريم) وشفي المريض.

في المرة الأولى استغربت من هذا ولكنني في المرة الثانية كنت أشاهد مريضاً يأتون به أهله ليقرأ على رأسه وعند شفائه (ويشفى فعلاً) يأتون أهله بالنذور.

قال لي لا تستغرب (أخ أسعد) فإن الناس فقراء وبسطاء يعتقدون بأننا نساعدهم في شفاء مرضاهم، ولا نبخل عليهم في مد يد العون والمساعدة. لأننا فقراء مثلهم وكلنا (عيال الله) والواجب علينا أن نفتح بابنا لهم لثقتهم بنا ولأنهم يعتبروننا من أولياء الله الصالحين ودعاؤنا لهم بالشفاء مستجاب.

كان ينظم الشعر ويهز مشاعره ويفتح قريحته الشعرية موضوع يراه مناسباً لذلك.

أذكر في إحدى المرات أرسل معي إلى إدارة جريدة (العمل) لصاحبها آنذاك (فاضل الجمالي) مظروفاً وضع فيه ورقة كتب فيها قصيدة مطلعها: (العمل العمل     أبو عباس البطل) وهذا كما نرى تهكم على سياسة وصاحب هذه الجريدة.

ومرة أخرى قصيدة مطلعها:

نظر الله سمرحر          نائب الشعب المظفر

وجزاه الخير عنا         بالذي شاد وعمر

وأرسلها بيدي إلى جريدة الزمان بمناسبة ظهور نتائج انتخابات مجلس النواب آنذاك، وكان اسم أحد النواب الفائزين قد كتبت على ما يبدو (خطأ) (سمرمر) والصحيح (سمرحر) وهو مديح بصفة استهزاء.

ومرة كتب قصيدة يهجو بها أحد موظفي الدائرة (صندوق الاحتياط) كاتبة طابعة واسمه (عباس) لأنه كان يتأخر في طبع الكتب التي يرسلها إليه.

عباس يا جر ثومة الصندوق       وذبابة في مركز مرموق

هذا زميلك كان قبل مهذباً        فجعلته كلباً وأنت سلوقي

وفي إحدى المرات كتب عدة أبيات يهجو فيها الدائرة ومديرها لكون موقعها بين بيوت قديمة ومطابع كثيرة وخرائب وأزبال.

تباً لها من دائرة        دارت عليها الدائرة

مديرها مستهتر        وأهلها طراطرة

في شرقها قمامة     وفي الشمال (عاهرة)

في أوائل سنة 1959 تم طبعه كتاب سماه (كلمات طيبة) كان سعره آنذاك 50 فلساً يقع في 100 صفحة، ضم مجموعة من أشعاره، ومن أشعار أصدقائه، أذكر منهم (سلمان الجبوري).

وأوائل الستينيات ألف كتابه الموسوم (الشيرازي) وحدث له ما حدث عند ظهوره حيث أهدر دمه أحد رجال الدين آنذاك.

بعدها انتقل إلى وزارة (الثقافة والإرشاد) ونسب إلى إحدى مديريات الوزارة بمعية الفنان التشكيلي الأستاذ (نوري الراوي) وكان موقعها أمام وزارة الدفاع.

كنت أزوره ونتحدث بالوضع السياسي المتأزم آنذاك ونمني أنفسنا بأنه سوف يتحسن ولكن الوضع كان يتردى من سيء إلى أسوأ. فننتقل بأحاديثنا عن الأمور الأدبية والاجتماعية والعائلية.

لم يرزق بأبناء لكنني لم أسمعه في يوم من الأيام أن يبدي تحسره بل العكس كان يمازح بقوله (إذا جائني ولد أسميه ذو السلفتين لأنني حينما تزوجت أخذت (سلفة زواج) و (سلفة رهون).

كان مغرقاً بالشاعر (محمد مهدي الجواهري) (أبو فرات) وكان يقول لي إذا جائني ولد أسميه - فرات. وإذا جاءك ولد سميه فرات تيمناً بابن الجوهري (فرات) وفعلاً تحقق لي ذلك وجائني ولد في 30/ 3/ 1963 وأسميته (فرات).

كنا نتفق للذهاب إلى السينما إذا كان (الفلم) جيداً كذلك كنا نذهب إلى المسرح لنشاهد مسرحيات (فرقة الفن الحديث) حيث كانت تعرض مسرحياتها في قاعة (الملك فيصل الثاني) قاعة الشعب حالياً في باب المعظم مجاور وزارة الدفاع قديماً.

وفعلاً شاهدنا مسرحية (آني أمك يشاكر) و(6 دراهم) و(التم) و(الرجل الذي تزوج امرأة خرساء) وهي مسرحيات كانت تتناول وتنتقد الوضع السياسي والاجتماعي آنذاك.

عندما أخذت الأوضاع السياسية بالتدهور، كان يتألم كثيراً ويبكي أحياناً لشدة ما كان يتفاعل مع الأوضاع المتردية آنذاك.

في زمن كنا نأمل في أن ننعم بالحرية والرفاه والطمأنينة وهي الأهداف التي تبنتها ثورة 14 تموز، ولكن عصابة البعث أبت أن تترك لنا أن نعيش هذه النعم وعبثت بمقدرات الوطن والإنسان، عند ذلك قرر السفر إلى الخارج واستقر في بلاد (الصين) وهناك اهتم بالبحث والتأليف.

ومن هناك كان يكتب الرسائل إلى صديقه الأستاذ (سلمان الجبوري) الذي يقوم بإخباري وباقي الأصدقاء بذلك، وكنت أتابع أخباره وكان رحيله وترحاله إلى أن حط به الرحال في سوريا وتوفي هناك ودفن في مقبرة العراقيين مع العمالقة الذين غربهم عدو العلم والشعر والأدب والعلماء، يرقد مع المخلدين العظام، الجواهري وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي خالداً مخلداً، نعم خالداً مخلداً فيما تركت للعالم العربي والإسلامي والإنسانية جمعاء من مؤلفات هي بمثابة كنز وذخر للأجيال القادمة ومفخرة لوطنك العراقي الذي أنجبك. فأنت هادياً حقاً، ولم تمت وذكراك باقية في مؤلفاتك العشرة التي زخرت بها مكتبات العالم العربي والإسلامي.

فارقد يا صديقي

فأنت عندي كروحي  بل أنت منها أحب

وأنت للعين عين                 وأنت للقلب قلب

مرة أهداني صورة مؤرخة 3/ 3/ 1958 كتب خلفها (أخي أسعد: لا أحب إهداء الصور لأن فيها كثيراً من الزيف والانحراف عن الحقيقة، ولعلها أول صورة أهديها إلى صديق وأنا مرغم على ذلك يأخذني الحياء منك والميل إليك، ورغبتي في أن تلعن معي هؤلاء المصورين الذين يتجنون على الواقع).

موقع

هادي العلوي

أرفق صورة التقطت في 10/ 1/ 1958 في سطح الدائرة تجمعني معه وهو يقف إلى يساري ووقف إلى يميني الأستاذ (هرمز حنا كوهاري) أخ الشهيد (الياس) ووقف يساره (سعدي الحمداني) والجالس أمامهم (سلمان الجبوري) وبجانبه (سعدون الصفار).

أسعد جاسم حنظل


الطريق العربي الى فرانكفورت

لؤي حمزة عباس

يترقب المثقفون والمهتمون بسوق الكتاب في العالم واحدة من اهم التظاهرات التي يشكل الكتاب محورها، مثلما يمثل الحوار بين الحضارات والشعوب هدفاً كبيراً من اهدافها، انها مناسبة (معرض فرانكفورت للكتاب) التي تحتضن العالم العربي بوصفه ضيف الشرف لهذا العام، مما يضع المثقف العربي أمام اختبار آخر، وهو الذي لم ينج بعد من اختبارات الحياة العربية باشكالاتها السياسية والاجتماعية وقد انعكست بدورها على الهيئة والاعداد للمساهمة، ومشاركة دور النشر، وقوائم الترشيح التي غدت موضوعاً جديداً للتباين والاختلاف بين المثقفين العرب منذ الايام الاولى التي اعلن فيها نبأ تخصيص الدورة الحالية للعالم العربي، فهي، قبل كل شيء واحدة من لحظات المكاشفة التي على المثقف العربي استيعابها من

خلال حضور فاعل لتصحيح الكثير من التشويهات التي طالت صورة العالم العربي وحولت ابناءه في نظر العالم الى مجموعة من الارهابيين الذين تتجنبهم كل شعوب الارض ويأخذهم نزيف الدم بعيداً عن معنى الحياة وارادتها السامية، ذلك مالايمكن  تصحيحه بغير الكلمة المبدعة والسلوك الخلاق، واذا كان موضوع المشاركة قد واجه الكثير من المشكلات مع دخوله الى اروقة الجامعة العربية فان ذلك لن يقلل من أهمية الخطوة وجدارتها وهي تجعل من الثقافة سبيلاً للحوار بين الامم، ومن الاحتفاء بالكتاب فرصة مثلى للتواصل ولمواجهة الذات بالدرجة الاساس واختبار قدرتها على محاورة الاخر، فالكتاب الذي يمر داخل الاقطار العربية في واحدة من مراحله الصعبة تأليفاً وترجمة وتداولاً، والذي يعاني مايعاني من نير الرقابة وفرق التجريم والتكفير، يمكن ان يجد خارج البلدان العربية فرصته في استعادة بعض وجوده الناصع وهو مايبقى في حدود الامل طالما أننا شهدنا على امتداد شهور طويلة خطوات متعثرة في الطريق العربي الى فرانكفورت، واذا كانت اليابان وحدها قد خصصت اكثر من ثمانية عشر مليون دولار لدعم حضورها في معرض فرانكفورت للعام قبل المنصرم، فإن البلدان العربية جميعها لم تستطع جمع مااتفق عليه وزراء الثقافة العرب من دعم لم يتعد المليون دولار، في الوقت الذي تبدد فيه الثروات الطائلة في كل مايشين الوجود العربي ويسيء لحاضرة ومستقبله، اذ تظل الثقافة في مؤخرة اهتمامات حكوماتنا ومؤسساتنا ونحن نعلن، على الرغم من ذلك، تطلعاتنا لرفعة الوطن وبناء الانسان.

بمواجهة ذلك تعلن الثقافة الالمانية استعدادها لاستقبال ماسيقدم ضمن محور العالم العربي، الذي لابد من التحلي ازاءه بالفضول المعرفي والانفتاح وحب التجريب، حسب جملة شتيفان فايدنر، وهو يتابع خطوات سوق الكتاب الالماني، معبراً عن رغبة الالمان في مكافأة هذا العام وهي تتمثل (باكتشاف قارة أدبية جديدة ستظل تشد اليها مكتشفها وتمنحه علاوة على ذلك كثيراً من المفاجآت).. قارة تشكل خارطتها الادبية من خلال مجموعة من التراجم التي تظل محدودة على الرغم من الجهد الالماني المشهود لاستيعاب الحدث الثقافي العربي والتهيئة لطبعات جديدة من اعمال نجيب محفوظ، والطيب صالح، وابراهيم الكوني، وزكريا تامر، وسحر خليفة، وأدونيس، وسعدي يوسف، والياس خوري، ونجم والي، وايتل عدنان، بالاضافة الى سفر الف ليلة وليلة الذي صدر خلال الربيع المنصرم ضمن سلسلة المكتبة الشرقية، مثلما ستكون طبعته الجديد احدى النقاط المركزية لبرنامج دار C.H.Beck Verlag خلال المعرض، فهل يشكل ذلك مادة مناسبة لخوض غمار التجربة

والدخول في تفاصيل الاحتفال بوصفه حدثاً حضارياً بالدرجة الاولى؟

ان واحدة من أهم نقاط الخلل في المشاركة العربية تتمثل في تجزئة هذه المشاركة الى مجموعة من المشاركات المتفاوتة في قدراتها وتمويلها واسماء المشاركين فيها، ففي الوقت الذي سعت مصر طويلاُ للاقتراب من الحدث والتهيئة له عبر ماانجز على امتداد اكثر من عام من حلقات نقاشية وندوات وبرامج اعلامية عالجت الخطوة وأضاءت تفاصيلها، يبدي الكثير من اللبنانيين، اعجابهم بخطوة وزارة الثقافة وقد نجحت بميزاتية بسيطة للغاية بتجميع مايكفي من الاكتتابات كي تتمكن من ارسال 80 شخصاً الى فرانكفورت، أدباء وموسيقيين وسينمائيين ورسامين، بينما يغيب دور وزارة الثقافة العراقية بشكل شبه كلي، مثلما يغيب المعرض ومتابعة تفاصيله عن اهتمام صحافتنا الثقافية، كأنما لاشأن لنا في ضوء تفجر الوضع الامني غير مداراة جراحنا، من دون ان نفكر بمساهمة عراقية فاعلية تؤكد في فرانكفورت انتماء عراقياً خالصاً للحياة.

ان الوضع العراقي الراهن يخلف، بلاشك، أثراً عميقاً في نفوس العراقيين، ونفوس المثقفين منهم على نحو خاص، لكننا لن نعبر عن ارادة الحياة الا بالانتماء الفاعل لكل جهد حضاري، وهو مايتطلب منا عناية عالية بكل ماينتمي للحياة ويجدد دفق الامل في شرايينها، فالوفد العراقي الذي تشظى - على قلة مدعويه- الى اكثر من ثلاثة وفود من داخل العراق وخارجه صورة اخرى من صور العجز والتقصير التي مازالت تكبل حياتنا وتغيب منجزاً عراقياً طال انتظاره.


(الوجدان)

- 14 -

الامتحان

فائق بطي

لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن (المدى) بدمشق قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما رافقه من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.

(المدى الثقافي)

في مساء يوم وصوله الى موسكو، تعاد الحكاية من جديد  بحضور غائب طعمة فرمان والماشطة والخطيب. انه متعب وقد سئم الحديث عن موضوع الجبهة فهو متفق مع آراء الاغلبية من اعضاء الحزب واصدقائه برفض التحالف اساسا.

قضى الاسابيع الأولى مع الاربعة الذين يلتقون كل مساء في شقته او في شقة جلال الماشطة او في مطعم باكو في وسط المدينة. وكان كل من احمد النعمان وجبار حاجم وشاكر القيسي يجالسونهم في اكثر السهرات.

سئم هذا الروتين وهو في انتظار موعد مناقشة الاطروحة.  ان امتحان الترجمة والتاريخ والفلسفة سيكون بعد ثلاثة اشهر. انقذه جلال الماشطة بمشروع سفر الى برلين وبراغ. وافق على الفور وشدا الرحال الى برلين اولا. كان جلال خبيرا بزيارات برلين بالذات، حيث يذهب اليها عدة مرات في السنة للتبضع وشراء لوازمه من الملابس والكهربائيات وما شابه. هل يا  ترى   كان جلال  يتاجر بهذ البضاعة، ام انه يقتنيها سدا لاحتياجاته فقط؟ لم تكن من عاداته ان يسأل او يتدخل في امور الناس والاصدقاء، فلم يتحدث مع جلال بهذا الموضوع.

                                             ***

براغ هي المحطة الثانية في تلك الرحلة. في اليوم الاول لوصوله، سأل عن "ابو كاطع" . ذهب مع غريب القروي، العراقي الذي جاء الى براغ قبل اكثر من عشرين عاما، الى مقهى "سلافيا" المطل على نهر "فلتافا" والمقابل للمسرح الوطني. ان هذا المقهى المزدحم، يرتاده العراقيون، و يلتقي فيه كل يوم المثقفون العراقيون والعرب.

كان الجواهري الكبير يحتل مقعده المعتاد وقد احاطه عدد من هؤلاء المثقفين. احتضنه طويلا بعد فراق سنوات، وسأله ابو فرات مداعبا:

- هل وصلك الدور في طابور المهاجرين الطويل؟

اجابه بابتسامة ود وتقدير لهذا الشاعر العملاق:

- هل انت ياابا فرات متشائم الى هذه الدرجة؟

قهقه الجواهري وهو يداعب باصابعه مسبحة الكهرب التي يعتز بها كثيرا، ثم قال له والابتسامة لا تفارق شفتيه:

- مولانا، نحن السابقون وانتم اللاحقون.

قاطعهما جلال الماشطة ونظره يتجه الى باب المقهى، ثم نبه الجالسين إلى قدوم ابو كاطع.

واصل الجواهري حديثه الذي يرتاح له كل من يستمع اليه، شعرا او نثرا او حديثا، الى جانب نكاته المعهودة وتعليقاته على الجمال وحسناوات براغ اللواتي كتب فيهن شعرا:

- قدوم شمران الياسري الى براغ "منفيا" حيث قالها لكم بصراحته المعروفة، كان المؤشر للهجرة المفروضة علينا وعليكم. لقد بدأت بالفعل طوابير الشيوعيين تصل الى براغ وصوفيا، ليتم توزيعهم بعد ذلك في بلاد الله الواسعة.

كان الجواهري الكبير صادقا.

ان شهر آذار  عام 1979 كان المؤشر الذي تحدث عنه هذا الشاعر الوطني بحسه وبمشاعره الفياضة وحبه للعراق وللناس الطيبين من ابناء شعبه العراقي الاصيل.

                                                 ***

في اليوم الثاني، اصطحبه ابو كاطع الى بارات "اوفليكو" ليحتسيا البيرة السوداء التي تشتهر بها بارات براغ، وهو المشروب المحبب لشمران، خصوصا عند ما يتناولها في بارات مزدحمة تجاور جسر "كارل" الشهير، والذي يقال عنه ان مواد بنائه قد خلطت بالبيض لتزداد اعمدته متانة وقوة لمجابهة جبروت هذا الزمن.

كان شمران الياسري ساكتا حزينا على غير عادته، يتفحص وجه صديقه دون ان يتحدث اليه، ويداعب شاربه الكث كعادته، وساقه لا تكف عن الحركة بعصبية. دقائق مرت، وعلى حين غرة، قطع ابو كاطع السكوت الحزين حين قال:

- هل بدأ الرفاق القياديون يستعدون للرحيل؟

- ماذا تقصد يا ابا الكطوع؟

دار رأسه دورتين، وبدأ بالاهتزاز المضطرب، فاردف قائلا:

- لقد انتهت المسرحية، والمصيبة هذه المرة ان الفصل الاخير فيها هو المهزلة بعينها.

سكت الصديقان الرفيقان، وخيم هدوء حذر، الا ان شمران بدده بالوقوف، وطلب منه مرافقته لزيارة الصديق المشترك، مجيد الراضي. ارتاح للفكرة، فمجيد  صديق الجميع، ومسؤول المثقفين في الحزب الشيوعي في مرحلة ثورة 14 تموز. لقد افتقده سنوات الهجرة بعد اضطراره للسفر في منتصف الستينيات.

في دار الراضي، كانت جلسة هادئة وحميمية، ضمت الى جانبهم، جلال الماشطة. لم يغب الحزب في احاديثهم. قاطع شمران الكلام, وطلب من الحضور الهدوء والاستماع الى اذاعة ايران التي  بدأت تحتل اخبار انتفاضة شعبها كل نشرات الاخبار في العالم وبروز اسم آية الله الخميني كقائد لتلك الانتفاضة, ان ايران على ابواب ثورة شعبية عارمة.

مازح الماشطة شمران، وسأله ضاحكا:

- لماذا هذا الاندفاع وراء احداث ايران؟

امسك ابو كاطع بشاربه ورد بصوت جدي ينم عن ثقة:

- ان انتصار الثورة في ايران سوف يؤثر على مستقبل المنطقة بكاملها ..

قاطعه جلال ولم يدعه يكمل حماسته:

- ماذا لو ظهر فيما بعد ان هذه الثورة، مصطنعة؟

تدخل مجيد الراضي في الحديث الذي صار ساخنا، ورد على جلال:

- وهل هناك ثورات مصطنعة في التاريخ؟

استمر الماشطة في تحديه الجاد لشمران والراضي، مصرا على ان الاندفاع وراء ثورة تصطبغ منذ البداية بتيار ديني متعصب، سوف تكون عاملا للاضطراب في المنطقة لا عامل استقرار، فلماذا نخطئ منذ البداية؟

انتفض ابو كاطع من مقعده صارخا:

- آهووو ... قابل احنا نصنع الثورة في ايران؟

رد جلال وهو يرتجف احتجاجا على اصرار شمران:

- ما هو موقفنا لو تبين اننا في تأييدنا وحماستنا للخميني قد جاورنا الخطأ؟

ضحك الجميع، واتجهت انظارهم الى ابي كاطع، عندما صرخ بالقول:

- آهووو ... عود نكول اخطأنا... قابل هاي اول مرة نخطئ؟ صار لنا اكثر من ثلاثين سنة نغلط ونغلط، ومن خطأ الى خطأ نحن سائرون.

ضحك الجميع، وارتاح شمران عندما شعر بأن الذين يستمعون الى حججه، يتفقون معه، او هكذا افترض من خلال الجو السائد في الجلسة.

في طريق عودتهم الى حيث يسكن، اكمل ابو كاطع حديثه  حول  استفسارات مجيد التي اثارها قبل ان يغادروا بيته، شارحا سبب تسفيره من العراق على يد الرفاق في الجريدة والحزب، مستطردا بأن الرفاق احسوا بالخطر على حياته بعد نشر مقال "بصراحة" المعنون، "رأس الجريدة"، فطلبوا منه مغادرة بغداد في اليوم الثاني الى براغ. ثم تساءل:

- قل لي الحقيقة، بعد ان بدأت الامور في هذه الايام  تتضح أكثر..

قاطعه قبل ان يكمل السؤال لأنه يدرك بأن الحقيقة لم تعد تختفي وراء رأي هذا الرفيق "القائد" او ذاك، انما بانت كوضوح الشمس، فالبعثيون وبأوامر من صدام حسين يعدون العدة للانقضاض على الحزب بحجة خروجهم عن الطاعة "الجبهوية" . وهذه الحقيقة مقتنع بها جميع الرفاق، الا القلة من الذين كانوا يتوقعون عودة المياه الى مجاريها، وان ما يجري في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق، ما هو الا نتاج "عركة أخوة" ، فكانوا يضغطون على قيادة الحزب باتخاذ موقف مبدأي صارم، وحماية الرفاق من عواقب المستقبل المجهول المعلوم لهم.

عاد الى الفندق وهو يفكر بالمجهول فعلا، لا المعلوم لكل ذي بصيرة، فارهقه التفكير والارق اللعين.

كان يريد ان يلتقي في براغ بعدد من الاصدقاء.. مفيد الجزائري، ، جيان، حسين العامل، محمود البياتي، محمود صبري، كاكه قادر ديلان وآخرين، الا ان جلال الماشطة اصر على السفر والعودة الى موسكو.

                                              ***

في الاسبوع الآخير من شهر آذار، تحدد له موعد مناقشة اطروحته عن تاريخ الصحافة اليسارية في العراق. عاد الى الشقة فرحا وزف الخبر الى محمد كامل عارف الذي كان يشاطره السكن بعد هروبه المبكر هو الآخر من النظام، رغم اشتغاله محررا لأهم صفحة في جريدة الجمهورية هي صفحة آفاق، هرب بحجة الدراسة واستكمال شهادة الدكتوراه، اذ سبق له ان درس في موسكو سنوات طوالا وحصل على درجتين علميتين في جامعة موسكو. ان محمد كامل عارف، الذي يسميه ويوسف الصائغ، "محمد كاهي"، انسان طيب ومثقف، حلو المعشر، خجول، حميد الاخلاق، الا انه رغم كل ايجابياته، كان غريب الاطوار والمزاج. وهو ككاتب يتمتع برهافة الحس ورشاقة القلم، تضعف جهاديته امام الارادة في اتخاذ المواقف القاطعة. عاطفي حالم، تغلب على تصرفاته، الحماقة في بعض الاحيان، ان مست الحقيقة افكاره المشوشة نتيجة تخبطه في عالم السياسة الذي كان يتيه في خباياه بسبب ابتعاده عن الاعتراف بالواقع المعاش.

بدأت الليالي التي يقضيها في الشقة مع محمد تثقله يوما بعد آخر، وان لم تسعفه  زيارات غائب طعمة فرمان اليومية واقتحامات جلال الماشطة المحببة الى قلبه وقلب غائب. كان محمد (ابو العباس) يبكي بحرقة كلما ارتشف جرعة اخرى من الكأس الذي لا يفارق يده اليسرى، رغم عدم افراطه في الشرب، يولول واضعا المنديل على عينيه، ويبكي بحرقة ويصرخ بصوت عال: أهلي.. وين أهلي.. اولادي.. بغداد.. أويلي يابا.. وين اروح. ينظر اليه بانفعال، حيث ان هذا المشهد يتكرر يوميا مما يجعله يحتد من تصرفات العارف الخفيفة والمبالغ في عاطفيته، فيصرخ في وجههه:

- كافي يا محمد، هل نعيد الاسطوانة كل يوم.. لماذا لا تعود الى بغداد؟

يصحو محمد كامل، ويعود الى طبيعته المشوشة، فيروح يلعن الوضع في العراق الذي تسبب في ابتعاده عن الأهل، ثم يقفز الى فراشه، ويغيبه الفراش في لحظات. ان حقده ينصب على الفراق لا على من تسبب في هذا الفراق ليس له وحده بل ولألاف المثقفين الذين بدأوا يغادرون وكأنهم سرب طيور مهاجرة.

                                               ***

قضى الأيام القصيرة المتبقية على موعد مناقشة الأطروحة، بملل وحيرة. اخذ يفكر ويكرر السؤال مع نفسه: ماذا بعد الشهادة؟

كان التقليد المتبع في الاكاديمية، او لربما في الجامعات الروسية، ان يقيم الطالب الحاصل على الدرجة الاكاديمية، ومن الاجانب فقط، مأدبة عشاء وسمر في احد المطاعم، يدعو اليها اساتذة القسم، يتقدمهم رئيسه، والمشرف على الاطروحة، وعدد من الاصدقاء المقربين جدا، وهذا ما كان قد خطط له ونفذه جلال الماشطة، الخبير في الجلسات الحلوة، فكانت سهرة لطيفة ضمت غائب فرمان، احمد النعمان، شاكر القيسي، جبار حاجم، ليبيديف وابو الحب.

وفي مساء اليوم الثاني، دعا الى حضور جلسة مماثلة في شقته، سكرتير الحزب عزيز محمد، ثابت حبيب العاني، آرا خاجادور وعامر عبد الله، ولم يفته ان يدعو غائب وجلال. لقد كانت قيادة الحزب آنذاك قد بدأت في ايجاد مراكز لجوء لها، استعدادا للرحيل.

كان يرغب بلقاء (ابو سعود)  وعدد من الرفاق القياديين منذ فترة طويلة. لم ينجح في بغداد لظروف لم تحقق له هذا "الامتياز"، فارا د ان يجرب حظه في موسكو.

افتتح ابو سعود السهرة، مهنئا، ثم قال له:

- مالذي ستفعله بعد هذه المرحلة؟

اجابه بسرعة ودون تفكير حتى للحظات تأمل:

- العودة الى الوطن. اليس كذلك؟

نظر اليه السكرتير العام للحزب والى الرفاق الآخرين، وقال بامتعاض:

- هل تريد ان تصبح بطلا في رؤوسنا يا رفيق؟

استغرب من كلام عزيز محمد الذي يحترمه ويعزه كثيرا، واردف بالقول:

- اليس هذا هو المطلوب، ثم لماذا البطولة؟

ثم  توجه ابو سعود بحديثه الى الرفاق الآخرين والاصدقاء الجالسين في السهرة، وقال بنبرة حزينة:

- يفضل ان تفكر بالذهاب الى اية دولة عربية او اوروبية.

ومن عبارات عزيز محمد، ادرك للتو، ان الجواهري الكبير، كان صادقا، كما ادرك بأن  شمران الياسري كان العربون الذي يدفعه الحزب في الظروف التي تجبره على "التحالف" قبل وبعد الازمات والنكبات.

انها بداية الطوفان..

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة