الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الباب الشرقي، خفايا و(قفّاصون)

مهند الليلي

تصوير/نهاد العزاوي

من خلال سيري وتنقلي اليومي، كثيراً ما أمر بالباب الشرقي، يجذبني إليها سوقها المليء بالمفاجآت والاحداث، من مختلف الألوان والاشكال والصور، من البضائع وأجناس البشر.. وكثيراً ما أكون مشاهداً فقط.. من كثرة ما حذرني الأصدقاء منها، ومن مشاهدتي للكثير من الاحداث.. فليس (التوغل في عالم غامض بالأمر الهين، فهو بحد ذاته مغامرة لا تحمد عقباها!! خاصة في مثل هذا العالم المحفوف بالبنادق والمسدسات والخناجر، بل حتى القنابل!! ثمة ما يجعل المرء قاسياً مع نفسه مع الخيار الذي يدفعها إلى عالم مجهول.. ولكن هي رغبة ربما كان اساسها ولع الكشف عن الحياة السرية لهذا العالم..

الباب الشرقي، هذا الباب الذي يمثل ذاكرة بغداد برمتها، تنتمي إليه المدينة وينتمي إليها، عبر طاقة المكان الذي منحته السنون الطويلة قدرة ان يكون جزءاً من تاريخ أي واحد من.. أنه أحيانا الوصف الموجز للعاصمة.. وهو في كل الأحيان صدرها المتدفق القوي.. وقلبها النابض الأمين.. وقد ورث هذا المكان كل شيء يؤلف النكهة البغدادية الأصيلة، وأرثها الثقافي والفلكلوري والفني.. فضلاً عن بهجته وأسراره وعشاقه.. وعن الوجوه التي أدمنته من الصعاليك والمتسولين والشعراء، ولكن لم تكترث الباب الشرقي بالزمن وتحولاته، انما راحت تفقد الكثير من الألفة والمحبة والأمان!! وصارت تنخرط هذه الأيام في آتون حياة شاقة فرضتها عليها تاريخية الحدث لتصبح مكاناً وموئلاً لخبايا كثيرة لا حصر لها.. كأنها اشبه بخبايا سرية في غابة كثيفة، ولعل وصف الباب الشرقي بالغابة هذه الأيام اقرب إلى الصواب. فهو مناخ مزدحم ترتبك فيه الأشياء والوجوه والأمنيات، وتمتزج مع بعضها في عويل ينذرك أحيانا بالخوف. وإذا يعمد المرء إلى اعتبار ما يراه شكلاً لعافية بغداد إلا انه بعد حين يتأمل هذا الخطر الذي ينسجه اللصوص والدهاة والمغامرون خلف اسيجة نراها أحيانا ناعمة ورقيقة للوهلة الأولى لم يكن بوسعي ان اعطي اذناً صاغية إلى مواطن أعرفه قال لي إن الباب الشرقي قد أصبحت هذه الأيام تلقب بـ(باب القفاصة)!! كتعبير ساخر ضد أشخاص لم يصبحوا بعد سراقاً.. ولكن ايقنت حين عزمت ان اتعرف على بعضهم... والقفاصة اصناف كأصناف السرطان.. كان (صكبان) أو (بو عكرب) رجلاً حاداً بليغ الملامح. لا يكاد يعطيك من كلماته شيئاً مفهوماً.. أظهر لنا نوعاً من الود.. بيد انه قال وبكلام صريح (نحن نسترزق باساليب خاصة) ثم احجم عن ذكر هذه الاساليب!! لكن صاحبي.. أو الوسيط بيننا أوضح ان صكبان يشرف على جماعة من الشباب يتحركون باستدلالات دقيقة.. واهداف محددة.. يملكون عدة كاملة لاستخدام بعض تفاصيلها إذا اقتضى الأمر!!

وهم يسعون عادة للتآمر على الغرباء. فمثلاً إذا جاء رجل يبيع ساعة يجتمعون حوله ويربكونه ثم يرفضون شراء الساعة ولكن بعد ان يبدلوها بأخرى مماثلة!! ربما تكون عاطلة.. أو انهم يقيمون مزاداً للملابس والمواد وبأسعار مغرية.. وبطريقة سحرية يجري تبديل المادة لتسليم المشتري مادة رديئة، ويقول له احد الموجودين: انصرف بسرعة قبل ان يغيروا رأيهم، وطبعاً فان مكانهم غير معلوم لانهم يظهرون للقفص فقط!! وقد أردت تجربة هذه الجماعة فعلاً فحملت معي في اليوم التالي جهاز (ستلايت) وفعلاً كنت أريد بيعه وقد عاملني عليه كثيرون.. لكن ثلاثة شباب دفعوا سعراً ممتازاً واصروا على شرائه. وبينما كنت في انتظار تسلمي المبلغ قال احدهم انه معيوب وانهم رفضوا شراءه، ثم اكتشفت بعد حين ان الجهاز عندما اعيد إلي ليس إلا جهازاً مهشماً من الداخل!! وهكذا هرعت إلى صاحبي (الوسيط) ليعيده لي وقال ان الجماعة يعتذرون وينصحونك بان تبيع اغراضك في مكان آخر، وقد حصل نفس الشيء لقريب لي حيث أخذوا منه البضاعة لكنه فوجئ بعد عودته للبيت بأن جميع نقوده مزورة!! وعلى الرغم من عدم مواجهتي لجماعة متخصصة بالنقود المزورة ولكن قال لي أشخاص موثوق بهم ان في الباب الشرقي اشخاصاً قد اختصوا بالتعامل مع النقود المزورة.. ويقال بانهم يشترون المليون دينار بـ(500) ألف. ويقوم زعيم هذه الجماعة بتصريف هذه النقود وتوزيعها بطرق عديدة، في البيع والشراء أو مبادلته بالدولار.. وطبعاً افراد هذه الجماعة منتشرون في كافة انحاء بغداد لكن مقرهم الرئيس هو الباب الشرقي!! والسؤال من أين يشتري هؤلاء هذه النقود المزورة؟ حيث الجواب يكمن حول وجود مطابع سرية أو أموال تدخل للعراق من الدول المجاورة، ولقد شاعت لديهم تسمية النقود بالطبعة الإسرائيلية أو الطبعة الإيرانية!!

والواقع ان الازدحام الذي تشهده الباب الشرقي واقصد في تلك المنطقة المحيطة بساحة التحرير وحديقة الأمة، وهو الذي يجعله مرتعاً خصباً للممارسات الممنوعة والضارة، وحين تطرح سؤالاً على أي مواطن هناك.. لماذا؟.. يقول لك ان هذه الممارسات تترعرع في البيئة التي تخلو من القانون.. والباب الشرقي الآن بلا قانون، وقد قادني هذا الكلام إلى مخبأ سري هو موئل للاقراص الخليعة!! وأنا في الحقيقة أشاهد هذه الاقراص (مثل غيري) تباع وبشكل علني جداً!! ولكن من أين تأتي؟ هذا هو السؤال.. فاتضح ان لها مكاناً تخرج منه لا يعلمه إلا العارفون!! وهؤلاء العارفون لا يمكن المجازفة معهم لأن امرأ مثل هذا قد يكلف الإنسان حياته!! وخصوصاً هذه الأيام!! ان في مثل هذا العالم أشياء وأشياء غريبة.. والأمر الغريب جداً ان للنشالة محميات محددة إذ لا يجوز ان يتمادى احدهم على مقاطعة الآخر وينتمون في الغالب إلى أشخاص ذوي بأس عظيم هم (فتوات) لا يمكن ابداً تجاوز حقوقهم!! وقال احد الباعة ان ثلاثة منهم تشاجروا في احدى المرات لأن أحدهم ضرب صبياً تابعاً له كان ينشل ضمن حدوده ويقول أن الأمر قد انتهى بالتصالح واعطاء المعتدى عليه زقاقاً اضافياً للعمل!! ومهما تكن القصص التي يرويها الناس إلا أنها تجتمع عند رؤية هذا المكان بغرابة.. وهي قصص غير معهودة بالذاكرة العراقية والذاكرة البغدادية على وجه الخصوص.. فمثلاً كما يروى ان زعيم الجماعة يمتحن الراغب بالعمل معه فإذا اثبت كفاءته قبل به.. وان بعض الجماعات تعتمد على عناصر نسائية وان جماعة تعمل بشكل الفريق وان أعضاء الفريق يعرفون واجباتهم.. الأول يتشاجر مع الثاني ويهدده بالقتل.. أما الثالث فيتدخل لحسم الموقف.. والرابع ينشل!

أو ان افراد يدورون على أصحاب محال أو اسواق الرصيف يجمعون (الخاوة) للزعيم ولا يستطيع احد ان يرفض، القصص ليس كلها صحيحة، فعادة الناس ان تبالغ وتضيف مزيداً من التوابل!!

غير ان الباب الشرقي تطوي أكثر منها لم تظهر لأنها لو ظهرت ادت ربما إلى تحطيم تلك الجماعة وتمزقها الأمر الصعب في هذا الموضوع ان احداً لا يسمح لك بالتقاط صورة أو حتى يعطيك اسمه الحقيقي وان العناصر الخطرة تختفي وارء حجابات ليس من السهولة الوصول اليها.. وقد كنت أتحدث مع شيخ يبيع الخردة فقال اني أنصحك بعدم التورط هنا!! على كل فرد هنا، ان يكون واعياً وحذراً وصبوراً وهادئاً.. وعليه في الوقت المناسب ان يتنازل عن أمور كثيرة. وأضاف كل الناس هنا في الباب الشرقي طيبون أصحاب عوائل يخافون كثيراً على املاكهم ولكن ماذا يفعلون؟! فمرة رفض صاحب محل ان يعطي (خاوة) فلم يجد من محله شيئاً في اليوم التالي!! قلت له: أنت من بين قلة قليلة من المواطنين كبير السن، فمعظم العاملين هنا من الشباب فاجاب: هنا العمل للقوي فالحر والارهاق والخوف كلها عناصر تقتل القلب فكيف تتحملها؟ ثم اضاف ثق ان الذين تتحدث عنهم ليسوا كثيرين وانا واثق لو انهم عثروا على عمل شريف لتركوا هذه الممارسات.. على أية حال لم أجد في الباب الشرقي مكابدات للقلق في داخلي.. لأني ما زلت ازور هذا المكان بما اتذكره سابقاً.. ولانه يزدهي بالتماثيل والاسماء، فانه يبقى جميلاً وانه لجميل حتى في عيون واخيله أولئك الناس الذين اضطروا إلى ركوب الخطأ، ولعلي أدرك ما قاله الرجل.. اننا ننعت هؤلاء بالعصابات والحرامية والقفاصة ولكن الذنب ليس ذنبهم وان بغداد ستعذرهم في يوم من الأيام، لو انهم اعتذروا لها وقبلوا ايديها..

 


الصبي الوقح

للكاتب الدنماركي هانس كريستيان أندرسُن

ترجمة: حميد العقابي

كان ياما كان، كان ذات مساء شاعرٌ عجوز في بيته حينما انقلب الطقس بشكل ينذر بالرعب، فقد هطلتْ أمطارٌ غزيرة وهبتْ رياحٌ شديدة. انتحى الشاعرُ في منزله ركناً دافئاً حيث أضرمت النارُ في المدفأة.

"أيها البؤساءُ

الذين بلا ملجأ

في العراءْ

حيثُ لم يبقَ ثوبٌ بلا بلل"

ردد الشاعر مع نفسه.

"افتح الباب، أنا بردان، بلّلني المطر"

صرخَ في الخارج طفلٌ وهو يطرق الباب. كان المطرُ يهطلُ بقسوةٍ والرياحُ تهزّ النوافذ.

"أووووه أيها المسكينُ الصغير"

قالَ الشاعرُ العجوز ونهضَ ليفتح الباب. كان الطارقُ صبياً صغيراً عارياً والماءُ يسيلُ من شعرهِ الأشقر الطويل. كان يرتعشُ من البرد. ولو لم ينجده الشاعر لكان قد مات في هذا الطقس القاسي.

"أيها البائسُ الصغير"

ردد الشاعر وأخذهُ بين ذارعيه.

"تعال، تعال ستدفأ عندي، سأعطيكَ تفاحةً ونبيذاً فأنتَ صبي لطيف".

كانتْ عيناه تشعان كنجمتين، وعلى الرغم من الماء الذي كان يسيل من شعره فقد كانت خصلاته الذهبية تبدو جميلة. كان يبد وكأنه ملاك صغير لكنه شاحبٌ مما أصاب جسده من برد. كان يمسكُ قوساً جميلةً لكن المطر قد اتلفها وكذلك النبال فقد نصلتْ ألوانها. جلس الشاعر قرب المدفأة وقد أجلسَ الصبي في حضنه وراح يجفف له شعره ويدفئ يديه. سخن له نبيذاً حلواً. شرب منه فاحمرتْ وجنتاه. نطَ على الأرض وراح يدور حول الشاعر راقصاً ببهجة.

"أنت صبي مرح، ما اسمكَ؟"

سأل العجوز.

"اسمي أمور" (*)

أجاب الصبي، ثم أضاف:

"ألم تعرفني؟ هذه قوسي وهذهِ نبالي، ألا تثقُ بي؟ انظرْ! الآن تحسن الطقسُ في الخارج، وبزغَ القمر"

"ولكن قوسكَ أتلفت"

قال الشاعر العجوز.

"هذا شيء رديء"

قال الصبي ثم أخذه قوسه يتفحصها:

"لا، إنها جافة، لم يصبها أي تلف، الوتر مشدودٌ بإحكام، الآن سأجربها"

رفع القوس ثم أخذ نبلةً من نباله. وتّرَ القوسَ مسدداً ثم رمى باتجاه الشاعر الرحيم فأصابه في قلبهِ تماماً.

"والآن ألا ترى ان قوسي لم يصبها أي تلفٍ"

قالَ الصبيّ ذلكَ ثم فرَّ مقهقهاً.

هكذا جحدَ أمور فضْلَ الشاعرِ عليه، حيث أنه أدخلهُ بيته وقدّمَ له النبيذ والتفاح. سقط الشاعر على الأرض باكياً فقد كانتْ إصابتهُ بالغة. كان يردد:

"أوووه أمور، يا وقح، سأخبرُ جميع الصبيان كي يتجنبوا صحبتك".

وعلى الرغم من ان الشاعر قد أخبرَ جميعَ الفتيةً والفتيات بأمر أمور الوقح، إلا ان أمور استطاع أن يوقع بهم، فحينما يعود الطلاب من المحاضرات كان يصطف معهم ببذلته السوداء وقد وضع كتاباً تحت إبطه، يموهُ نفسهُ فيحسبونه واحداً منهم، عندئذٍ يغرز نبلته في صدر أحدهم. وحينما تعود الفتيات من الكنيسة بعد الصلاة فأن أمور يتعقبهن. وهكذا هو في كل حين، يقتفي خطوات الناس، يجلس في ثريا المسرح مموهاً نفسه بالضياء فلا أحد يراه حينما يرمي الناس بنباله، ويركضُ في حديقة الملك عابثاً. مرةً رمى أمَهُ وأباه بسهمٍ فأصابَ قلبيهما.

أسألهما عنه فسيأتيك الجواب "أمور الوقح، لا تصحبه!".

تصورْ إنه مرةً رمى جدتهُ العجوز بسهم فأصاب قلبها. كان ذلك من زمن بعيد، ولكنها لم تنس ذلك. هذا هو أمور؟

والآن عرفت أي صبي وقح هو.

ــــــــــــــــــ

(*) Amor: إله الحب.

 

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة