الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

نظرة نقدية لعروض مسرح الصورة

(2-2)

عبد الخالق المختار

ومثلما فعل في (هاملت) فقد عمد (القصب) الى تجريد شخصيات المسرحية من ملامحها البيئية عن طريق استخدامه الاقنعة والازياء التي لا تنتمي الى زمن محدد وكذلك عن طريق المكياج الذي مسخ وجوه بعض الشخصيات، وذلك لتأكيد شمولية الاحداث.

بقي ان نشير الى ان المشهد الاخير في العرض كان مشهداً متقناً ويشكل قيمة كبرى من حيث الرؤية والتنفيد، فلقد قام المخرج بمخالفة منطوق المؤلف الذي امات (تربليوف) بإطلاقة مسدس واستعاض عنه بفيضان البحيرة التي التهمت (تربليوف) حيث فاضت بمياهها حتى بان ما يستقر في قعرها من بقايا هذا الانسان المحطم، البائس تاركاً خلفه الثقافة الكلاسيكية (الموناليزا، شكسبير، الكمان، المرآة  المهشمة، الحقيبة.. الخ).

اما بالنسبة لعرض مسرحية (الملك لير ) فقد قام (القصب) بإختزال الحوار وحذف بعض الشخصيات في محاولة منه لإعداد النص وتقديمه بشكل تحتل فيه الصورة المكانة الاولى في العرض المسرحي. بعبارة اخرى ليكتب بالصورة نصاً آخر يلتقي مع النص الاصلي في الروح او يضيف رؤيا تلتقي مع قصد الكاتب. اذ ينظر (القصب) الى المخرج على اعتباره مؤلفاً ثانياً للنص وليس خاضعاً له، فالمسرح الذي يخضع الا خراج للنص، مسرح يكفيه انسان ابله، مجنون، لا يحب الشعر). وبناءً على هذا ففي مشهد العاصفة مثلاً، قام بتغيير ما جاء به (شكسبير)، حيث حول العاصفة من عاصفة خاضعة للطبيعة الى عاصفة داخلية جسدها بالابواق النحاسية الكبيرة التي كانت تملأ خشبة المسرح وفضاءاته، وهنالك بكاء حزين وهذا ما اراده لـ ..(لير) ان موسيقى المملكة قد تهدمت وتوقفت وهذا بعد مسرحي جديد.

وكما فعل (القصب) في اعماله السابقة فقد اعطى سينوغرافيا العرض الاهمية الاولى وكرر استخدام القماشة البيضاء التي سبق له استخدامها والتي ارادها في هذا العرض ان تكون كفناً ابيضاً يلف المأساة وشخوصها، وهناك اقفاص من الحديد، وتابوت يتسيد الشكل وذو دلالة تلخص الحدث، ثم البوق بيد البهلول بصمته الرهيب ليعلن عن مملكة بلا ملك. البوق الصامت اعلان صارخ  عن انهيار المملكة. كما ان استخدام المخرج للعجلات التي تنقلت الشخوص الرئيسة بواسطتها اعطت للمشاهدة فكرة عن عجز تلك الشخوص. هذا يعني ان (القصب) وظف الديكور في هذا العرض بنية متحركة وعنصراً جمالياً وليس بيئة للاحداث والشخصيات - كما في المسرح الواقعي - ذلك انه اراد ان يؤكد من خلال هذا الشكل (الذي لا يوحي بزمان ومكان معينين) شمولية الاحداث نهجاً ثابتاً سار عليه في اعماله السابقة، حيث ان الفرضية الاخراجية التي اعتمدها المخرج لتجسيد عرضه المسرحي تعتمد على ان الازمة لا تكمن في ذلك الخطأ الذي ارتكبه (لير) في توزيع المملكة بل في الخطأ الكوني الحاصل في بناء مجمل العلاقات الانسانية.

اما عن عرض (احزان مهرج السيرك) فهو سيناريو للكاتب الروماني (ميهاي زامفير) بثماني عشر لوحة، ترجمه واعده الدكتور (صلاح القصب). وهو عبارة عن سلسلة من الاحلام والكوابيس متداخلة فيما بينها في اجواء غريبة واماكن متعددة، فالاحداث تجري في حلبة سيرك، صحراء، ممرات حجرية، بحيرة جليدية، صالة لعزف الموسيقى، ملعب لمصارعة الثيران، ملهى ليلي، ملعب لكرة السلة. اما الزمن فيمتلك نفس الاهمية التي يمتلكها في الاحلام، انه ليس زمناً تقليدياً، فمهرج السيرك - بطل الاحداث- يموت ثلاث مرات. ففي (اللوحة العاشرة) يموت جراء التصفيق الحاد من قبل الصحفيين والجمهور، وفي (اللوحة الرابعة عشرة) يموت وسط حلبة مصارعة الثيران عندما يغرس احد الثيران الهائجة قرنيه بجسد المهرج، واخيراً يموت في (اللوحة السابعة عشرة) في ملعب كرة السلة عندما تتساقط على رأسه كرات لا يحصى عددها ورغم غرابة الاحداث وخياليتها، الا ان السيناريو يشير بصورة واضحة الى معاناة الانسان وعذاباته وسط هذا العالم المدمر الذي يشكل كابوساً مستمراً لهذا الانسان البائس الذي اختفى بزي مهرج فهو احياناُ اعلان، واحياناً اخرى موسيقي ومصارع ثيران، وهو اخيراً حكم في ملعب لكرة السلة، انه (انسان العصر لا يكون الا حيث يريد له الآخرون ان يكون، ولا احد يعبأ بإحساسه، بجوهره، ولا حتى بكيانه الاجتماعي.. هو لعبة القوى المجهولة).

وقد لجأ المخرج الى مفردات صورية لتجسيد عرضه المسرحي، سيما وان العرض قد خلا تقريباً من اية عبارة بإستثناء الصوت الذي يقول للمهرج منذ عشر سنوات والجمهور ينتظر عودتك ومجيئك. ولقد تمثلت هذه المفردات بآلة بيانو تحتل عمق الفضاء المسرحي، محاطة بجدار مطلي باللون الاسود الفاتح ورسومات رمزية، بالاضافة الى بعض الادوات التي شكلت جزءاً مهماً في (سينوغرافياً) العرض وهي كرات، شال، مظلات، كما عاد (القصب) من جديد الى توظيف القماشة البيضاء (الكفن) في لوحة احتضار (آنا) بعد ان وظفها في تجربتين سابقتين هما (الخليقة البابلية) و (الملك لير) بيد انها لم تنطو هنا على قيمة فنية مهمة مقارنة بدلالاتها التشكيلية والرمزية في (الملك لير) .

وقد نجح المخرج في اختيار الممثل (كريم عبود) لإداء شخصية المهرج اذ اعتمد في ترشيحه هذا على المعطيات الفسيولوجية لهذا الممثل الذي يتمتع بمرونة جسدية جيدة سيما وان العرض كان عبارة عن انطباعات مسرحية يشدها البانتومايم والبالية.

الا ان هناك ثمة ملاحظة على عرض (احزان مهرج السيرك) تتمثل في تشتت افكار العرض وعدم وصولها الى الجمهور بشكل مقنع، فالمشاهد لا يكاد.. يجد سبباً لكل هذه الحالات الدرامية فكأن المخرج يهمه بشكل مقنع، فالمشاهد لا يكاد.. يجد سبباً لكل هذه الحالات الدرامية فكأن المخرج يهمه عرض تلك الحالات التي قد تفهم احداثها بمعزل عن الاخرى من غير ان يجمعها جامع، ويعلل (القصب) هذه الظاهرة بأنه (اعتمد في هذه التجربة على تفكيكية الصور المسرحية، اي ان هناك فواصلاً بين صورة واخرى وعملية (المونتاج) والربط المنطقي لهذه الصور تقع على عاتق المشاهد).

وتصور (القصب) هذا جاء نتيجة تأثره بالمخرج الروماني (ليفيو جوليه) الذي يعرف الاخراج بأنه (تلك الاحلام التي لا نتذكرها عندما نستيقظ) لذلك فعلى المشاهد ان يعيد تلك الاجزاء التي تهشمت ليعيد صياغة الحلم من جديد، وهذا اتجاه صحي يساهم في تحريك ذهنية المشاهد ومخيلته، شريطة ان يبقى هناك خيط رفيع يربط اجزاء العرض، فالعمل الفني مهماً يخضع لتفسيرات وتأويلات عدة، ينبغي ان تلتقي جميعها في الخط العام وان اختلفت في التفاصيل والجزيئات وهذه سمة جمالية لمعظم الاتجاهات الحديثة. ويذهب (لانج) الى ان (الاستمتاع الجمالي الذي نحصل عليه من قطعة فنية يرتكز كلية على قوة وضوح العالم الذي يخلقه الفنان عن طريق فنه).

بقي ان نذكر ان (القصب) قدم عرضه المسرحي هذا في  قاعة المسرح الدائري لاقترابها من السيرك ولخلق علاقة مباشرة بين العرض والمشاهد. وقد سبق وان قدم تجربتين في القاعة نفسها (ملحمة الخليقة البابلية وطائر البحر) ، وهو بهذا يذكرنا بالمخرج (آرتو) الذي كان (اول من دعا الى المسرح الدائري.. والذي كان هدف آرتو فيه ايجاد روابط اوثق بين الممثلين والنظارة، روابط اوثق مما يمكن ان يحققه المسرح العادي).

وفي مسرحية (الحلم الضوئي) لم يعتمد العرض المسرحي على نص مسرحي مؤلف، وانما اعتمد فكرة مقترحه من قبل المخرج، او تخطيط اولي لنص، وقد ساهمت مجموعة العاملين في تطويره، حتى اصبح مجموعة من (المقاطع) الصورية لا ترتبط ارتباطاً واضحاً  ومحدداً. فالاطار العام للعرض هو ان المجموعة احداث ذلك الحلم بشكل غير مترابط وهنا يأتي دور المشاهد في هذه التجربة اذ انه سيعيد ترتيب تلك الاجزاء التي يفترضها العمل.

لقد اجتمعت اجناس بشرية، لا يمت احدها الى الآخر بأية صلة، فهناك (قزم) يقرأ في كتاب، يهرم، ثم يعود صغيراً ليظهر لنا بين فترة واخرى. مجموعة من (العميان) يلتقطون صوراً فوتوغرافية، ويعجبون بأداء راقصة البالية.. مطربة خرساء، وثمة مسافرون آخرون يتبارزون، يموتون، ثم يعادون الى الحياة. كل هذا وسط مفردات صورية تناثرت هنا وهناك. اشرطة سينمائية، هاتف مقطوع الاسلاك، ابواق صامتة، كرات، آلة كمان بلا اوتار، وفي الخلف شاشة تطل منها كائنات بشرية مكتظة بين فترة واخرى لتنشأ علاقات غير واضحة مع ما يجري على المسرح.

ان طريقة تأليف سيناريو العرض، جاءت مماثلة لطريقة التأليف في (المسرح المفتوح) حيث يجتمع العاملون في المسرح، ومن بينهم المؤلف المسرحي، ويبحثون عن فكرة مركزية، او صور مركزية يمكن ان توصل بها مكونات اخرى، بحيث يستطيع الجميع ان يسهموا في عملية الوصل هذه خالقين في النهاية نصاً مسرحياً او خطوط نص مسرحي. اما عن دور الاخراج في هذا العرض المسرحي، فقد اتفق المخرجان (صلاح القصب) و (شفيق المهدي) على تقليص دور المخرج في العرض، وتجريده من صفة التسلط ليأخذ دور القارئ او المترجم للحالات الدرامية المختلفة، فقد اتاح المخرجان الحرية الكاملة للممثلين في رسم الحركة التشكيلية للعرض وفق ما يمليه احساس كل ممثل مستفيدين في الوقت نفسه من الحالات التلقائية التي تحدث اثناء التمارين. وهنا يلتقي المخرجان مع نهج المخرجة (جون ليتيلوود) التي (لا ترسم بنفسها حركة الممثلين لان الحركة تأتي في الغالب تلقائية من مجموعة الممثلين وتحمل عناصر الجمال التشكيلي تلقائياً.. كما انها تحاول تقليص الدور الآمر للمخرج، لدرجة يجعلها تقول سينتصر المسرح، عندما يموت كل المخرجين).

اما عن التمثيل في هذا العرض، فقد كانت السيادة للغة الجسد ليعبر بالحركة،  والرقص، والايماءة عن الحالات الدرامية بعد ان غابت الكلمة نهائياً، ولقد حاول المخرجان الاستفادة من منهج (كروتوفسكي) في اعداد جسد الممثل كي يكون مطواعاً للتعبير عن مختلف الحالات التي تصل الى المشاهد عن طريق اللغة.

لقد وفق عرض مسرحية (الحلم الضوئي) في خلق شكل مسرحي للانبهار والدهشة لأعتماد المخرجين على اسلوب تجريدي، تجنب جميع العناصر التقليدية في الحركة والتشكيل ليستدعي استجابة شكلية بين مفردات العرض التي اشرنا اليها، اي ان الاخراج حقق شاعرية المكان بالدرجة الاولى، تلك الشاعرية المرتكزة على اللغة الصورية التي نطق بها كل ما وجد على المسرح من اشياء.

بيد ان العرض لم يوفق في طرح مفاهيم وافكار محددة وواضحة، تماماً كما حدث في عرض (احزان مهرج السيرك)، وذلك لفقدان الترابط العضوي، الامر الذي ادى الى تشتت ذهنية المشاهد الى الحد الذي لم يجد فيه الوقت الكافي للبحث عن الدلالات بين صورة واخرى ولو توفر عنصر الفهم في العرض، لاعطت التجربة مؤشراً ايجابياً، وكما ترى (ايثل بفر)، (ان الشعور او الاستثارة خلال الخبرة الجمالية يبلغ حد الكمال اذ يتحد من هذا الشعور عنصران متنافران هما:

1. عنصر الاستيعاب. 2. عنصر الاثارة

كما تعود قضية انتفاء مقصودية العرض ايضا، الى اعتماد الاخراج بشكل  رئيس على تأويلات الممثلين وتفسيراتهم الذاتية المختلفة، التي لا ينفيها كل عمل فني ابداعي، لكن المضمون ككل لم يكتمل في ذهن القائمين على اخراج هذا العرض، اذ لو توفر مثل هذا التصور (الكلي) في ذهن المخرج لينقله الى الممثل، لوصلت الينا الكثير من المفاهيم انطلاقاً من ان (مسرح الصورة) هو (خلق شاعري قائم في ذهن المخرج. مسرح لا ينفي التلقائية، لكنه مبني بشكل متكامل مثله مثل القصيدة الشعرية) . هذا يعني ان الاعتماد على اللحظات الآنية فقط دون ايجاد الطريق الذي تسلكه، يجعلها هلامية قلقة غير مكتملة.

 


 

 

برتولد برشت والمسرح الملحمي

بهاء محمود علوان

يعتبر برتولد بريشت الكاتب والمخرج المسرحي الالماني الكبير من اهم المسرحيين في القرن العشرين ليس على صعيد المانيا فحسب بل على الصعيد العالمي ايضاً.

وقد احتل مكاناً كبيراً ومرموقاً بين كبار المسرحيين امثال شكسبير وغوته وشيلر وغيرهم.

كما كان للمسرح البرشتي تأثيراً كبيراً على المسرح العالمي عموماً وعلى المسرح العربي خصوصاً بإعتباره ظاهرة فكرية متطورة.

وكان للمسرح الملحمي دوراً كبيراً في توعية الجماهير وتوجيهها نحو تحقيق الاهداف النبيلة والتقدمية، اذا اخذ المسرح على عاتقه واجبات مهام كبيرة يأمل من خلالها تحقيق اهداف تقدمية تصب في خدمة المجتمع، وكان المجتمع العربي في فترة الخمسينيات والستينيات بحاجة الى هكذا مسرح ثوري تقدمي يحمل هموم ومعاناة المجتمع.

لقد اعتمد بريشت في اغتناء المسرح الملحمي على اسلوب جديد في طريقة العرض المسرحي، وهذا الاسلوب هو اسلوب التغريب  (Die Verfremdung) اي ان لا يكون الممثل مقتنعا للدور الذي يؤديه على خشبة المسرح ولا يتعامل مع النص بعواطف جياشة تجعل من المشاهد متعاطف ومنحازاً لتلك الشخصية وهذا هو الهدف من المشاهد متعاطفاً ومنحازاً لتلك الشخصية وهذا هو الهدف الرئيس في عملية التغريب، ومن الجدير بالذكر فإن فن التغريب قد استخدم من قبل الآسيويين قبل استخدام بريشت حيث تعتبر عرائس الدمى نوعاً من انواع التغريب في المسرح.

يركز المسرح الملحمي على دور الجمهور اذ يعتبرهم جزء مهم من العملية المسرحية لهم دور ما يلقى على عاتقهم ويتفاعلون مع الاحداث ويحاول المخرج في المسرح الملحمي ان يجعل من الجمهور او ان يجعل الجمهور يلعب دور الناقد على احداث المسرحية من خلال فهم موضوعي للحدث ونظرة واضحة لا تتخللها العواطف كما مألوف في المسرح التقليدي.

وهذا الدور يأتي من خلال الاستخدام الامثل لمبدأ التغريب حيث يبقى المشاهد فطناً لما يدور حوله على خشبة المسرح فيحلل الاحداث ويصدر بعدها الاحكام بنظرة لا تتخلها العواطف.

لهذا كله حاول بريشت توظيف الجمهور لتحقيق اهدافه في خلق مسرح تقدمي ناضج يطرح هموم الناس ويتفاعل معها.

ولتحقيق هذه الاهداف فعليه ان يجدد استخدام مبدأ التغريب بصورة واضحة ومميزة فنلاحظ ان بريشت قد ركز على عدد من العوامل الاساسية في التغريب ومنها: يتوجب على الممثل استخدام اسلوب السرد في اداء الدور على عاتقه ويبتعد جهد الامكان عن الاسلوب التقليدي في التمثيل.

يستخدم الممثل صيغة الزمن الماضي في القاء النص، اي ان يقول كان وكانت وحصل.. هذا الاسلوب يجعل المشاهد يشعر بأن الحدث قد وقع الزمن الماضي وليس حدثاً آنياً فينخفض التفاعل معه ويبقى المشاهد يقظاً وهذا بالضبط ما يردده بريشت.

يستخدم الممثل ضمائر الشخص الثالث عند سرده للحدث وهذا ايضاً يساعد في خلق شعور المتلقي ببعد الحدث عن الواقع.

فمن خلال هذا الاسلوب يبقى الممثل ناقلاً للوقائع وليس ممثلاً للدور، وكإنما مراسل يقوم بتغطية احداث وقعت في مكان في الزمن الماضي.

ان الفكرة الاساسية من استخدام مبدأ التغريب هي ايقاظ الوعي لدى المشاهد داخل المسرح، اما البطل لدى بريشت فإنه لا يقوم حقائق جاهزة ولا ينطلق ومحاولة خلق الموقف الاجتماعي والتاريخي الممثل عند بريشت يحول الغرض الايديولوجي داخل المسرح بابتكارات جديدة.

كما ان بريشت كان يثرى الشخصية المسرحية من خلال اعطائه وظائف ودلالات متعددة وواضحة ومحددة بدقة لكافة عناصر العرض المسرحي، من خلال الديكور والموسيقى والاضواء وتحديد اماكن الممثلين على الخشبة، وكان يوظف جميع هذه العناصر بصورة جيدة ودقيقة، ومن هنا فإن المتتبع للمسرح الملحمي يرى بأن هذا المسرح هو على النقيض من المسرح التقليدي يقوم بتقمص الدور الذي يلعبه على خشبة المسرح بشعور كامل وبعواطف واحاسيس تجعل من المشاهدين متفاعلين بعواطفهم مع هذا الممثل، فيكون على بكائه ويضحكون عندما يضحك وهذا الشيء لا نجده في المسرح الملحمي.

كما ركز بريشت على رسم جوهر المشروع الثقافي والايديولوجي للارتقاء بالانسان عبر تجاوز المعوقات المادية للوصول الى مستوى الانسان الفنان.

خلاصة القول: ان مبدأ التغريب هو نوع من انواع الفنون يتخذه الكاتب والمخرج بحيث يجعل الممثل يقوم بتعطيل وصول شيء من فئة الى المشاهدين، ثم يصل من خلال تلك الاثارة الى نقطة التوازن التي يجب ان تحدث بين القطعة الفنية التي قدمها وبين ما يمثلها في الحياة او ما يماثلها في الاحاسيس، وهذا يعني ان بريشت ومن خلال استخدامه للتغريب لا يشرك المشاهد داخل القاعة العرض في التفاعلات والاحداث من خلال الاحاسيس، بل يستبدله بمشاهد ناقد لا ينسى نفسه مع الحدث.

كما يحاول بريشت استبدال معايشة المشاهدين للاحداث في داخل قاعة العرض بنشاط فكري راق وخلق حالة من الوعي.

ويؤكد دوماً على الممثلين بقطع تسلسل الاداء التمثلي في مراحل الادوار، كذلك يوظف بريشت الغناء اثناء العرض للغرض اعلاه.

وقد اتهم بعض النقاد مبدأ التغريب حيث اعتبره حالة  ضعف داخل المسرحية، وان سلبيات هذا المبدأ اكثر  ايجابية.

 


 

من مكتبة المسرح

الحداد لا يليق بكاليجولا

عرض: علي مزاحم عباس

اقتبس الكاتب والفنان المسرحي كريم جثير العنوانات الداخلية لهيكل مسرحيته الجذابة والمتميزة (الحداد لا يليق بكاليجولا) من فنون ادبية اخرى، وافاد من تقسيم المسرح الحديث لهيكل المسرحية الى غير الفصول والمشاهد التقليدية فقسمها الى ايام الحداد المقامة على موت كاليجولا وانبعاثه متخذاً من التقسيم (اطاراً زمنياً) محدداً كما قسمها الى امكنة رابطاً بين الاطارين في وشائج قوية مثل (غرفة نوم كاليجولا/ قاعة العرش/ قصر رئيس الحاشية)، فتمخضت عن هذه التقنية الفنية (حبكة سلسة وناضجة ومؤثرة تتطور افقياً وعمودياً لتبرز بقوة ملامح البطل كاليجولا بابعاده العقلية والنفسية والغريبة والمؤثرة. فالمسرحية هي مسرحية (شخصية) تصور جبروت وجنون البطل وغرابة اطواره وقد زين له ان لا يقدس سواه تراه لا يبجل أمه المتوفاة لأنه فرض عليه لا لشيء سوى لكونها امه فبات ينظر اليها ككائن ضعيف وليس كآلهة، كان بعد اساه على رحيلها ضعفاً اكثر منه قداسة، فعلى الجميع ان يقدسوه هو لأن المقدس - في رأيه- من يفرض قداسته على الآخرين بالقوة، ويصل به هذا المفهوم الى التجديف حين يقول: (لو كان الرب لطيفاً وودوداً لما قدسه احد ولكان هذا الرب اضحوكة) لذا يأمر بإقامة حفل راقص ولما تنقضي ايام الحداد يرقص ويعربد ويثمل وينتشي ليقنع الآخرين انه غير حزين.

وتسري اشاعة موته اثر اختفائه، فينقل رئيس الخدم الخبر على لسان الخادمات والكاتب يوظف هذا الحدث بطريقة (الاسترجاع) ويعقب رئيس الحاشية نافياً كاليجولا الذي يفاجئهم بظهوره المباغت معلناً: لقد تساوت في نظر كاليجولا جميع الاشياء: (الموت والحياة المياه والدماء، الهزائم والانتصارات، المسالخ وساحات الاعدام اعياد ميلاده الباذخة ومآتم قتلاه ولم يعد هناك ما يثيره ويتبنى اشاعة موته وصعوده الى السماء فيأمر بإقامة الحداد لسبعة ايام ورفع الرايات عالياً حتى تحجب السماء، وتوشح صوره التي زحمت الشوارع وان يلبس الناس الثياب السوداء وتنصب الخيام وتقام الولائم وتكتب الملاحم وكل مظاهر الحياة بما فيها تنظيف السجون وحفر القبور الجماعية للمتمردين.. كل هذه الاشياء التي امر بها كاليجولا لم تورثه  سوى الملل (الشيء الوحيد الذي يشعر كاليجولا امامه بالضعف، ويورثه السأم ويجعله اقل مرتبة من الالهة)!

ويقرر تحدي الموت وعيش موته وهو حي ويحياه وهو ميت، ويسخر من الموت قبل ان يسخر الموت منه، وان يلعب اللعبة فكل الاشياء لديه لعبة فالتاج يتحول الى لعبة والحاشية جزء من اللعبة، فقد خلقهم ليتسلى بهم،  فرئيس الشرطة لبس سوى خليلته المتنكرة في زي احد افراد الحاشية ورغم ذلك يختلج في نفس كاليجولا احساس بالملل وفي بدء حكمه استطاب التصفيق له واستعذب المدائح رافضاً التعددية مؤثراً الأحادية، ولم يعد يثيره ويمتعه ويدهشه سوى موته واقامة الحداد على زوجه، وتنفرد خليلته بمعرفة حقيقة مرضه. فهو لم يعد يشعر بالشبع والنوم والنشوة، ولم يعد يحزنه قتل غرمائه فيزورونه في كوابيسه ومنها كابوس خيانة زوجته التي اورثته آلام شهريار وعدم ثقته بالمرأة ويجيء اسم شهريار على السياق العام للمسرحية، ويبدو غير مبرر فنياً.

ويشكل تفكيره في صوره التي غطت المدينة ليعكس حقيقته كنرجسية وحين يرى تمثاله النصفي في قاعة العرش يتساءل من هو احق بالعرش؟

هو أم التمثال مما يعكس اختلاط الواقع في ذهنه واهتزاز ثقته بنفسه وهو يكره الاحتفال بعيد ميلاده لأنه يذكره بحتمية موته وانتظار الاعداء بدنو اجله. وهنا يظهر التصدع في جدار الحاشية المريرة اذ يظهر خلاف بين رئيس شؤون الحرب ورئيس الحاشية حول جدوى الاحتفالات وحقيقتها ففي نظر الاول ما هي الا مهزلة وهي في نظر الثاني مصدر رعب.

وتصيب كاليجولا صدمة كبيرة حين يلتقي بصاحب قارب بعد اختفائة فيخبره بحقيقته وحقيقة حاشيته وهو لا يعرف انه كاليجولا متنكراً وان الهالة المنسوجة حول الوهيته الكاذبة ما هي الا زيف واكاذيب فتثور ثائرته فيعمد الى قتله ورميه في النهر بعد ان افصح له عن سعادته الحياة خلافاً لما عليه كاليجولا، وهي عند صاحب الزورق غابة كروم وما الايام عناقيدها ما علينا اعتصارها وقت قطافها وشربها حتى ثمالتها ومفهومه هذا يذكرنا بمفهوم صاحبة الحانة في الملحمة الشهيرة (كلكامش) ويكتشف كاليجولا فساد رئيس الشرطة الجديد واشتغاله في السوق السوداء. وتتناهى الى اذنيه اصوات مبهمة تهاجمه رغماً عنه فيعوي كالذئب. بهذا الحدث تبدو المسرحية وقد وصلت الى نهايتها لكن الكاتب واصل مشواره فيخبرنا بالتصدع الذي اصاب جدار الخوف إذ يأخذ الناس بتحرق التعليمات فيطفو على السطح الخلاف بين رئيس الشرطة ورئيس الحاشية فيأخذ الاول زمام المبادرة متأخراً ولكن رئيس الحاشية يرى الا جدوى، فقد استخدام كاليجوفد الأشياء  للتمويه فيرد عليه الاول ان الاشباه قد قتلوا جميعاً.

ويخطو المتمردون من العامة خطوة حاسمة نحو الخلاص حين يرتدون الملابس البيضاء كأكفان ويحاصرون القصر فيراهم كاليجولا كما يرى الوحوش حتى ليمكنه ان يجعلهم اشد منها ضراوة مثلما يستطيع ترويضهم (بعد ذلك لا يمكنهم العودة الى طبيعتهم) كما يرى الصفح ضعفاً لا يمت بصلة الى صفات البشر، لذا فإن كاليجولا لا يصفح عن احد وحين تواجهه خليلته بعد ان اهانها وضربها بضعفه امام الجنس وشذوذه وفي هذا الطور تنقسم الحاشية ازاء الخطر المحدق بالقصر الى قسمين قسم متردد خائف وقسم يريد قتل الطاغية لتحلق الثوار، ومنهم من يولي هارباً انقاذاً لجلده، وينفذ الى داخل القصر رجل متمرد ويشهر سيفه بوجه الدكتاتور الا انه كاليجولا يواجهه قائلاً: (لا احد يستطيع قتل كاليجولا سوى الاله كاليجولا نفسه) فيطعن تمثاله النصفي فتنبجس الدماء ويخر الطاغية ميتاً وينهار كل شيء.

صدرت هذه المفاهيم في معظمها على لسان كاليجولا، فأجاد الكاتب تصويرها بإسلوب مقنع وبراعة قديرة في ادارة الصراع ومن وجهة نظر شخصية كان يستحسن ان يعرض الكاتب بعضها على الستة الشخصيات الأخرى مثلما أخذت الخليلة مكانها وبرغم جاذبيته فلم يكن كافياً حيث ظلت بعض الاحداث والافعال غير مشبعة الى درجة كافية مثل فساد الحاشية وانتهازيتها وخنوعها ومسؤوليتها في خلق الدكتاتور واستشراء الطغيان، وعلى العموم كانت المسرحية تشريحاً حاداً ولاذعاً لعقلية الدكتاتور وان لم يقترب الكاتب من الديكاتورية بشدة فهي ليست مجرد حاكم مجنون ويساري بل هي افراز اجتماعي وفكري يختل في الوقت نفسه.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة