الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

هل كان الهجوم الامريكي مفاجأة اعلامية ايضاً؟

امير الحلو

من مبادئ العلم العسكري استخدام عنصر المفاجأة او (المباغتة) في عمليات الهجوم العسكري الواسع او المحدود، وقد يصح هذا التعبير في العمليات والحروب (البسيطة) والمناوشات العسكرية وعمليات  الكر والفر، ولكن وبحكم التطور التقني الكبير واستخدام اجهزة الاستكشاف الحديثة الى جانب المعلومات الاستخبارات التقنية (اقمار من الجو) او البشرية (الارضية)، لم يعد عنصر المفاجأة في الوقت الراهن من الامور التي تراهن عليها الدول المتحاربة، لذلك نتساءل هل فوجئت القيادة العراقية بالهجوم الامريكي من الجنوب؟

للجواب على هذا التساؤل لا بد لنا من القول ابتداءً ان الاوضاع المتأزمة بين الولايات المتحدة الامريكية وقيادة صدام حسين كانت قد بدأت قبل الحرب العسكرية بعدة سنوات وكانت السنة الاخيرة عام 2002 - حتى نيسان 2003 قد شهدت تصعيداً كبيراً في الصراع على الصعيدين السياسي والاعلامي، فقد استطاعت امريكا  اصدار عدة قرارات من مجلس الامن الدولي جعلت العراق حسب تعبير مادلين اولبرايت (منبوذاُ ومحصوراً في قفص) علاوة على استمرار حالة الحصار الشامل في جميع المجالات، كما ان الحرب الاعلامية كانت (ساخنة)من خلال مئات محطات البث الفضائي التلفزيوني والاذاعي من داخل اميركا وخارجها علاوة على استخدام وسائل الاعلام المكتوبة في تصعيد الحملة الاعلامية على النظام العراقي وممارساته وخصوصاُ في موضوعة (امتلاك اسلحة الدمار الشامل) وعلاقته المتوترة مع لجان التفتيش الدولية واتهامه اياها بالتجسس، نقول ان الحرب قد بدأت فعلاً على الجبهتين السياسية والاعلامية مع المقاطعة الاقتصادية وكانت مؤشراً واضحاً على الاستعداد الامريكي لشن الحرب العسكرية على العراق خصوصاً بعد تسلم الحزب الجمهوري وجورج بوش (الابن) رئاسة الجمهورية الامريكية وتكوينه للقيادة العليا المحيطة به ممن يسمون بـ (الصقور) امثال ديك تشيني ورامسفيلد وولفز درايس، وهكذا (مالت) الامور وخصوصاً بعد احداث 11 ايلول التي كانت بمثابة شن الحرب على امريكا من جانب جماعة اسامة بن لادن وامتداداتها، مما جعل ادارة بوش وكما صرح هو بنفسه تضع الخطط اللازمة لشن الحرب على العراق بهدف معلن هو القضاء على اسلحة الدمار الشامل ومحاربة الارهاب الذي اتهم النظام العراقي بوجود ارتباطات له مع قيادته، وبدأت عملية العد العكسي لتحقيق الهدف الاصلي وهو اسقاط نظام صدام حسين بالتعاون مع اطراف من المقاومة العراقية وخصوصاً المقيمة في الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا ولها علاقات مباشرة مع بعض مراكز (القوى الامريكية) سواء في البنتاغون او C.I.A او بعض اعضاء الكونغرس الامريكي، وكان من الواضح ان تدفق القوات الامريكية والبريطانية بمختلف صنوفها المقاتلة والسائدة الى منطقة الخليج العربي وخصوصاً في دولة الكويت المحاذية للحدود العراقية، وكذلك اقامة قيادة قوات التحالف لمركزها المتقدم في قاعدة السيلية في قطر، يمثل مؤشرا واقعياً على ان الحرب ستقع لا محالة وان الولايات المتحدة الامريكية ترغب بإيجاد (غطاء دولي) لهذه الحرب سواء من خلال اصدار قرار من مجلس الامن الدولي (بمشروعيتها) ام بإشراك اكبر عدد ممكن من الدول في القوات العسكرية التي ستهاجم الاراضي العراقية حتى لو كانت (رمزية) لإعطاء طابع دولي لهذه الحرب مع التأكيد على قيادتها (امريكياً).

ولم يكن المحللون السياسيون والعسكريون بحاجة الى اي جهد للوصول الى نتيجة مؤداها ان شن الحرب على العراق هو مسألة وقت و (ترتيبات) سياسية وعسكرية.

وان من اعتقد ان سبب الحرب هو (اسلحة الدمار الشامل) وبالتالي محاسبة القيادتين الامريكية والبريطانية على فشلهما في الوصول الى هذه الاسلحة بعد سقوط النظام السابق انما ( يبسّط) الامور ان لم نقل انه يبتعد عن الحقيقة القائلة ان الهدف من الحرب اساساً هو اسقاط نظام صدام حسين لاغير ولكن هل كان صدام حسين يدرك هذه الحقيقة؟ الجواب انه ركز في لقاءاته مع الوفود الاجنبية التي زارته لحثة على التعاون مع المفتشين الدوليين على انه لا يمتلك اسلحة الدمار الشامل وانه قام بتدمير ما كان يمتلكه منها، كما ان الاجهزة الاعلامية والدبلوماسية كانت تتحدث بهذا الخطاب في جميع المحافل محاولة تكذيب وجود اسلحة الدمار الشامل وكأنها تعتقد انها بذلك سوف تسحب البساط من تحت الحجج الامريكية والبريطانية وتسلبها مبررات شن الحرب على العراق، ولعل ما ذكره السيد بريماكوف رئيس الوزراء الروسي الاسبق ووزير خارجية قطر على زيارتهما للعراق ومقابلتهما لصدام حسين يؤكد ما ذكرناه بأن التركيز حول وجود او عدم وجود اسلحة الدمار الشامل، ولكن من يقرأ سطور ما قاله المبعوثون الاجانب وخصوصاً بريماكوف والشيخ حمد وزير الخارجية قطر يشعر بأنهما (نوّّها) لصدام حسين حول نية الولايات المتحدة الامريكية شن الحرب على العراق وازاحته، وتقديم النصائح له للتخلي عن السلطة، لا عن الاسلحة، للوصول الى حل يجنب العراق الحرب المتوقعة والتي ستؤدي حتماً الى احتلال كل الاراضي العراقية. ومن خلال ما نشر عن نتائج الاجتماعات فإن صدام حسين قد رفض اي حديث عن التخلي عن السلطة ورفض (مبادرة) الشيخ زايد آل نهيان رئيس دولة الامارات العربية المتحدة ايضاً، مع التأكيد بأن الذين يقدمون من مثل هذه (النصائح) سوف يندمون، وبحسب ما ذكره السيد بريماكوف فإن السيد طارق عزيز قال له بأنه سوف يزور العراق بعد عشر سنوات وسيجد قيادته الحالية موجودة وسيندم حينئذ على مهمته هذه وطلباته غير المشروعة.

واذكر انني كنت في زيارة لمصر خلال تلك الفترة وقد عرّجت في طريق العودة الى بغداد على دمشق حيث التقيت بالاخ الصديق نايف حواتمة الامين العام للجبهة الدميقراطية لتحرير فلسطين حيث دار حديث بيننا عن الاوضاع في العراق، وقد اكد لي المعلومات المتوفرة لدى الجبهة حول اتخاذ قرار شن الحرب على العراق.

تلك هي الصورة التي كان يراها العالم كله، ولكن هل كاان الرئيس السابق صدام حسين يراها بالطريقة نفسها، او بالوضوح والنتائج نفسها؟

لقد قلنا في مقال سابق حول دور الاعلام في مواجهة الاستعدادات للحرب ان كل الاجراءات المتخذة على جميع (الجبهات) السياسية والاعلامية والعسكرية لم تكن توحي بوجود تصور لإمكانية اقدام الولايات المتحدة الامريكية على احتلال العراق عسكرياً والوصول الى بغداد واسقاط النظام القائم في حين ان جميع الدلائل والوقائع كانت تشير الى ذلك كما ان الكثير من المعلومات كانت تؤكد ذلك وحتى في الساعات التي سبقت شن الحرب في 20 / 3 / 2003.

فمع ان الولايات المتحدة الامريكية قامت (علنا) بهدم الجدار الفاصل على الحدود الكويتية العراقية، وفتح ثغرات واسعة فيه لدخول قواتها، وذلك مؤشر واضح على بدء الحرب الوشيكة، فإن بعض الاحداث (الاعلامية) قد اكدت ذلك ايضاً، فمن المعروف ان وزارة الاعلام وبأوامر من وزيرها قد (اجبرت) الصحفيين والمراسلين والوكالات من العرب والاجانب على السكن في فندقي الرشيد والمنصور ميليا فقط للسيطرة على حركتهم ومراقبتهم من قبل الاجهزة الامنية، كما جعلت من المركز الاعلامي المجاور لمبنى وزارة الاعلام مقراً لتواجد جميع الوكالات وعقد المؤتمرات الصحفية، وكذلك جعل الطابق الاول من مبنى وزارة الاعلام مكاناً وحيداً لوضع الوكالات والمحطات التلفزيونية لكاميراتها واجهزتها والتصوير ضمن حدود وزوايا محددة من ذلك المكان فقط، ولكن المفاجأة التي كانت امام وزارة الاعلام وجهاز المخابرات عصر يوم 19 / 3 / 2003 ان فريق محطة C.N.N الامريكية قد قام بالانتقال من فندق الرشيد حيث مقر اقامته الى فندق فلسطين - ميريديان من دون استئذان المركز الصحفي في وزارة الاعلام او حتى اشعاره مسبقاً، وهنا قامت القائمة ونزلت بنفسي الى المركز الصحفي حيث وجدت  ان ممثلي اجهزة المخابرات يتساءلون عن كيفية انتقال الفريق الى الفندق المذكور وما اسباب هذا والانتقال ومغزاه، وكالعادة فإن رد الفعل هو الطلب من فريق محطة C.N.N مغادرة العراق فوراً ومنعهم من العمل، صعدت الى غرفتي بعد ان وجدت الاوضاع (مرتبكة) واتصلت هاتفياً بفندق فلسطين ميريديان وتحدثت مع الاخت الكريمة (ريما الاخضر الابراهيمي) وسألتها عمّا حدث اجابتني: لقد كنت ابحث عنك لأخبرك بأن (تدير بالك على نفسك) قلت: لماذا؟ قالت: ان الهجوم العسكري سوف يبدأ فجر هذا اليوم وبضربات جوية تسبق وتصاحب دخول القوات العسكرية الامريكية والبريطانية عن طريق الحدود الكويتية، وان المقر الرئيسي لشبكة C.N.N في ولاية اتلانتا في امريكا قد طلب من مكتبهم في بغداد الانتقال فوراُ من فندق الرشيد الى فندق فلسطين ميريديان بالتحديد لأن فندق الرشيد سيكون هدفاً عسكرياً (وكان كولن باول وزير الخارجية الامريكية سبق ان هدد بذلك سابقاً) وانهم رفضوا طلباً من وزارة الاعلام بجعل انتقالهم الى فندق المنصور ميليا لأنه هو الآخر من الاهداف العسكرية لكونه قريباً من مبنى الاذاعة والتلفزيون ووزارة الاعلام في الصالحية وقد شعرت ان فريق  C.N.N لم يكن مهتماً بقرار اخراجه من العراق لسببين الاول ان الحرب ستقع فعلاً وستعجز الاجهزة الامنية عن ملاحقتهم خلالها والثاني ان لديهم فريق عمل متكاملاً يصاحب دخول القوات الامريكية الى العراق وبإمكانه تغطية الاخبار من (الجانب الآخر). ولكن السؤال المطروح هنا هو: هل كانت الاجهزة الامنية او المخابرات في مقدمتها عاجزة عن تحليل معنى الانتقال الفوري لفريق الـ C.N.N من الفندق وبشكل سريع ومن دون اي اشعار او اذن من وزارة الاعلام؟

ومع بدء الضربات الجوية والصاروخية على العراق كله ودخول القوات الامريكية والبريطانية الى ميناء ام قصر في الجنوب، كانت وزارة الاعلام قد تعرضت الى ضربتين جويتين استهدفتا الطابق العاشر حيث مركز البث الدولي (الانترنيت) والطابق الاول حيث تتواجد الوكالات الاجنبية على ممراته الخارجية للتصوير، ومع اصرار وزير الاعلام على بقاء تلك الوكالات في مبنى الوزارة (كدروع بشرية) فإن مندوبي تلك الوكالات قد لجأوا الى طريقة (مبتكرة) في النقل التلفزيوني (البعثي) وهي جعل كاميراتهم مصوّبة نحو السماء او بإتجاه الشارع وتركها تعمل لوحدها وذهاب المصورين والمراسلين الى الطابق الاسفل لأحدى العمارات المجاورة، ولكن مع اشتداد الضربات وخروج مبنى وزارة الاعلام من (المعركة) وسقوطه نهائياً كمقر لإدارة العمليات الاعلامية (اضطر) وزير الاعلام الى السماح للوكالات بالانتقال الى فندق فلسطين مريديان حيث تحولت ساحته الامامية وطابقه الاول بإطلالته على ساحة الفردوس (الشهيرة) مقراً لجميع الوكالات التلفزيونية والصحفية وقام الصحاف بنقل مقر مؤتمراته الصحفية (الشهيرة ايضاً) الى احدى قاعات فندق فلسطين مريديان، والى الوقوف مع الصحفيين في الساحة الخارجية للفندق حيث يدلي بتصريحاته وتهديداته المعروفة (عالمياً) ومن (النكت) المؤلمة التي اذكرها انه في يوم 9 / 4 / 2003 حيث دخلت القوات عبر النهر على القصر الجمهوري وملحقاته عمليات دخول الدبابات واسر مجموعة من الحرس الجمهوري، ولكن الصحاف حضر في الساعة العاشرة صباحاً الى ساحة الفندق وحدث الصحفيين والمراسلين بعصبية نافياً دخول القوات الامريكية الى بغداد وان القتال ما زال في ( المطار) وفي (ام قصر) في آن واحد، وكنت اقف قريباً منه فقلت له بأنهم جميعأً قد بعثوا لوكالاتهم بصور دخول القوات الامريكية الى القصر الجمهوري، اتذكر انه (بهت) وسكت وطلب من السيدين مدير عام الفضائية العراقية ومعاونة (كان قد جاء معهما  بسيارة بيك اب) ان ينتقلوا معه سريعا الى مقر الفضائية العراقية في الاعظمية لأن هناك خطاباً مهماً (للرئيس القائد) عليه ان يقوم ببثه فوراً.

-وللحديث بقية -

 

 


 

حاضرة الفاتيكان تنشر فضائح انتهاكاتها الكنيسة  لاعتذار من اجل اعادة ترميم التاريخ

روما: موسى الخميسي

نشرت حاضرة الفاتيكان قبل عدة ايام ملفاً من 800 صفحة حول الفصول الاليمة التي وصفت بالاخطاء الجسيمة للكنيسة الكاثوليكية التي سادت بها، اعمال التعذيب والقتل والاضطهاد الديني التي رافقت حملات ما عرف بمحاكم التفتيش الديني في القرن الثالث عشر.

وهذه الخطوة الثانية التي تقدم عليها الكنيسة الكاثوليكية، بعد ان قدمت قبل اربع سنوات اعتذاراً رسمياً الى الجميع بمن فيهم العرب والمسلمون عما اصابهم من جراء الحروب الصليبية التي تعتبر اعنف اتصال بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي، واعتبرت بمثابة لفتة تاريخية كبيرة، هدفها البحث عن الغفران لآثام الكنيسة المسيحية في الماضي، وتعزيز روح التسامح بين الاديان، واقامة جسور اكثر عمقاً ومتانة للاسهام في تطوير وتعميق الحوار بين الحضارات والشعوب والاقوام التي تحيا على كوكبنا الارضي.

مبدأ التسامح الحقيقي الذي ادخله العالم في قواميسه الجديدة، وهو يسير في بدايات الالفية الثالثة ويدخل آفاق القرن الجديد، الذي اطلق عليه قرن التحضر والتقدم، سيمهد لكل شعوب وجماعات الارض، الطريق  الى تقديم الاعتذار لبعضها البعض عن العديد من المظالم والاستباحات والانتهاكات التي شهدتها في تاريخها الطويل، اذ ادرك باباً الفاتيكان الحالي كونه فيلسوفاً بالدراسات التاريخية، وعبر اكثر من مرة عن اعتقاده بأن احد مهامه البابوية اعادة بناء الجسور المكسورة بين الدين، والعقلانية، وبين المسيحية والاديان الاخرى، وخاصة الديني الاسلامي واليهودي،  اذ يجمع المؤرخون على ان واحداً من الآثام الكبيرة يتمثل في الحروب الصليبية التي شهدتها العصور الوسطى والتي تعتبر اكثر الفصول ظلاماً في تاريخ الكنيسة، يقف ورائها دافع ديني استعماري استهدف احتلال الاماكن المسيحية المقدسة، وقف من ورائه بابا متعصب هو اروبان الثاني الذي اطلق شعاراً مغرضاً وكاذباً (الرب يريد ذلك) وكان يراوده الامل في توسيع دائرة نفوذه، مسخراً المجمع الكنسي (سيندوس) الذي عقد عام 1095 ليصدر امره التعسفي بالاستيلاء على الاراضي المقدسة من ايدي المسلمين بالقوة وليجمع من حوله كل القوى الاصولية والسلفية  المتعصبة لحمل السلاح، لإرتكاب واحدة من ابشع المذابح التي شاهدها تاريخ العصور الوسطى، حيث قام جيشه المؤلف من الف وخمسمائة من الصليبيين بعد اربع سنوات على ذلك الامر بنهب مدينة القدس وذبح ما يزيد على مائة الف رجل وامرأة وطفل، ممن التجأوا الى الجوامع، والمختبئين في السراديب، وبذلك انهوا فرص التعايش السلمي ما بين الاسلام والمسيحية، واحتلت فكرة الصراع موضع العقيدة في التكوين الثقافي للانسان الغربي لقرون طويلة.

وقد استمرت حملات الرعب التي كان يقودها التعصب الاعمى اكثر من مائتي سنة في ست حروب ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر نهبت واحرقت الارض بما فيها من ناس واموال ومبان وحيوانات، وزرعوا البغض والتعصب والكراهية بين الاديان الرئيسة الثلاثة، اذ شهدت المنطقتان جموعاً كثيفة وجيوشاً جرارة هي في الواقع هجرات اخذت تتدفق من غرب اوربا متسربلة بمسوح الدين ومتخذة لها شعاراً زائفاً يتمثل في انقاذ بيت المقدس من ايدي (المارقين) ولكن ثمة دوافع كانت اعمق من الشعارات الدينية البراقة التي رفعها الصليبيون.

لقد عاد البابا البولوني (كارلو ويتيلا) صاحب سياسة (ريا بوليتيك) وصاحب المركزية القوية التي تجعل منه زعيماً سياسياً يحمل نظرية كونية للقرن الجديد بعد ان شهد القرن الماضي انهيار النظريات الكونية يملأ الدنيا ويشغل الناس في ظل نظام عالمي جديد ليعيد لأكبر كنيسة مسيحية في العالم دورها السياسي والاجتماعي بعد قرون من الظلامات، وليخرجها من عزلتها واعادة الاعتبار اليها، وليصل صوتها الى بلدان وقارات لم يكن لها فيها وجود من خلال سياسة الانفتاح والمراجعة، ودعم قضايا التحرر ومحاربة الفقر وانصاف العدالة، واعتماد سياسة الحوار مع الديانات الاخرى، واتباع دبلوماسية ثلاثية الابعاد منذ اعتلائه الكرسي البابوي عام 1978، ليزيل الشوائب التي علقت بتاريخ الفاتيكان ومكانته نتيجة العديد من الممارسات الفردية وغير الحكيمة التي نسبت الى الكنيسة الكاثوليكية في فترات متعددة من تاريخها الطويل الذي يمتد الى الفي سنة، وتفعيل التفاهم وتعظيم لغة الحوار المشترك بين الفاتيكان والعالم.

ان الكنيسة وهي تفتح صفحة جديدة في تاريخها بالاعتراف بالذنب ومعاقبة ذاتها تكفيراًُ عن خطاياها في القرن الثالث عشر، انما تخطو بجلاء خطوة الى المستقبل تتمثل في المصالحة مع الذات اولاً، ومع المذاهب المسيحية الاخرى والاديان الاخرى، وتقف قضية الحملات الصليبية التي وصفها العديد من اللاهوتيين المتنورين بأنها (جنون في اراقة الدماء) تقع في اطار بين الجانبين، انعكس على كتابة صفحات طويلة من التاريخ بعيداً عن الحقائق وفي اقل تقدير بعيداً عن الموضوعية، اذ مازال التحيز والتعصب والى يومنا الحاضر يوصف هؤلاء الذين قاموا بعمليات القتل واستباحة الارض والاعراض، بأنهم من الابطال والفاتحين والمحررين.

ان عودة الى تلك المظالم الوحشية التي وقعت خلال عقود العنف التي لم يسلم منها حتى مسيحيو المنطقة بكل مذاهبهم، فضلاص عن اليهود والاقوام الدينية الاخرى التي كانت تعيش في امان وتعايش، طبعت العلاقة بين الديانات والطوائف والمذاهب بطابعها الذي تمثل بالحساسية العدائية، وجعلت من المستحيل محوها او تحويرها او شطبها، لأنها كانت علاقات مجابهة وحرب وعداوة، انعكست بشكل سلبي على علاقة الغرب بنفسه والغرب مع الآخرين.

والغريب ان العرب لم يسمعوا من احد طيلة قرون طويلة اي اعتذار  من احد لما عانوا منه من سلسلة من الغزوات والمذابح والاستباحات والاستعمار، والظلم الذي تسلط عليهم طيلة فترات طويلة، مع ان اليهود حصلوا على اعتذارات اكثرمن دولة، وحصلوا على تعويضات مالية فخمة مقابل الاضطهاد النازي لهم اثناء فترة الحرب العالمية الثانية، والهنود حصلوا على اعتذار رسمي من الانكليز لما اصابهم من مظالم اثناء فترة الاحتلال الانكليزي، واليابانيون حصلوا على اعتذار المسؤولين الامريكيين لما الحقهم من اضرار انسانية واخلاقية ومادية نتيجة الحرب العالمية الثانية وهنالك العديد من الشعوب التي حظيت هي الاخرى باعتذارت وتقديم التعويضات، ويجيء اعتذار الفاتيكان ليعيد تركيب التاريخ على نحو جديد.

فاعلان هذه الوثيقة الجديد التي تتألف من 800 صفحة، هي ممارسة جريئة لنوع من النقد الذاتي والمراجعة التي تستند الى الاعتراف بالاخطاء التي ارتكبت في مراحل تاريخية سابقة وعلى رأسها محاكم التفتيش او بالاحرى محارقها التي التهمت الكثير من المورسكيين الابرياء في اسبانيا، وراح ضحيتها آلاف الابرياء من عرب صقلية ومدينة لوشيرة التي تعتبر آخر معاقل المسلمين في ايطاليا، ومن ثم رد الاعتبار لمن تمت الاساءة اليهم، وهو ما حدث بالفعل مع العالم الفلكي الايطالي غاليليو غاليلي (1564 - 1642) حيث قدم الفاتيكان اعتذاراً رسمياً لهذا العالم الجليل لكل ما تعرض له من اساءة بسبب اعلانه ان الشمس هي مركز الكون وليس الارض مثلما كان سائداً قبل ذلك، ويعتذر الفاتيكان الآن عما لحق الفيلسوف الديني جوردانو برونو الذي احرقته محاكم التفتيش المسيحية عام 1600، وما لحق بالراهب الدومنيكاني سافونا رولا (1452 - 1498 ) الذي طالب بإصلاح الكنيسة، والقائمة ستطول وتمتد في خطوات جادة وجريئة تعتبر الاولى من نوعها لتصفية حسابات العديد من الاخطاء التي ارتكبتها الكنيسة خلال الفي عام مع التاريخ عن طريق طلب الصفح.

يبدو ان البابا يوحنا بولس الثاني الذي عزم على تدشين عالم ما بعد الحرب الباردة، في عالم ثري بالمجاعات والمجازر والكوارث، يريد اعادة ترتيب امور ( البيت الكاثوليكي) قبل الرحيل الاخير، فهو مازال رغم امراضه المتعددة يجر شيخوخته وجراحاته وكذلك آماله، ليعلب دوراً اساسياً وفعالاً في عصر سقطت فيه الايديولوجيات فإنهارت القيم والمثل ليحل محلها العنف والقتل والحروب والهمجية والتعصب وسلطة المال، فهو يريد ان (يسد فراغا) احدثه انهيار الشيوعية سواء على الصعيد الايديولوجي ام على الصعيد الاجتماعي، فوثيقته الجديدة تحدٍ للعديد من القيم والقناعات التي سادت في فترات تاريخية، كما ان التوجه نحو الاعتذار عن الجرائم التي ارتكبت من قبل المشروع الصليبي وليس من قبل المسيحية، هو تعبير عن نزوع ديني اصيل للمسيحية، ويصب في سياق الجهود المتواصلة من اجل اقامة صحية واحياء ما هو مشترك بين هذه الديانة والديانات والمذاهب الاخرى.

ان الاعلان التاريخي المهم بجميع المعايير يعد حدثاً تاريخياً كبيراًُ يضاف الى قائمة الاحداث العالمية التي ارتبطت بالتحولات الكبيرة وسياسة الانفتاح التي يشهدها العالم، فهو ضربة للتزمت بجميع معانيه وذرائعه اطلقها بابا الفاتيكان بوجوب تأسيس ارضية للحوار بين كل الثقافات العالمية، مثلما هي خطوة اضافية في سلسلة الخطوات التاريخية للبابا من اجل استعادة دينامية التغيرات والتقارب الايماني الاصيل بين مختلف الديانات السماوية، لاسيما ان الخلافات تبقى في نصوص التشريعات لا في اصولها او مصادرها.

الوثيقة في دلالاتها المعنوية، تتصل ايضاً بمبادئ الحوار بين الاسلام والمسيحية في الظرف الراهن، وفي الصدارة منها استيعاب التطورات الجديدة في العالم، وبناء مفاهيم لإحترام التعددية في الايمان والتفكير والانتماء في عصر غدت هذه المفاهيم ارادة عالمية لجميع المجتمعات الانسانية بدون استثناء مما يعني ان نكران هذه الحقوق نكران لحقائق العصر، بل تحديد لمضامين ونصوص دينية، تقوم على ان الدين لا يقوم على اكراه، بل يسعى الى اقامة نوع جديد من التعايش بين عداوات قديمة، كان من الصعب تفكيك كراهيتها التي اباحت القتل والصدام. الوثيقة هي دعوة لجميع الاديان الاخرى في العالم بأن تعترف بما الحق صفحة العلاقات التاريخية بين مذاهبها والاديان والطوائف الدينية الاخرى من سوء سود العديد منها طيلة قرون طويلة، كما انها تنسجم مع مبادئ السلام ورفض العنف الى درجة القداسة، والتسامح الذي اخذ طريقه الى قواعد العمل بين الدول والامم والشعوب التي تستمد الكثير من جداولها من تلك المبادئ السامية، والذي سيدين بكل وضوح ما قامت به النزاعات الدينية المتطرفة بحملات العنف اللاديني لمعاقبة شعوب وديانات ومذاهب بإسم الدين، فقد كان وسيظل براء من كل اعمال التنكيل التي قادتها وتقودها اليوم قوى الظلام في العراق، مؤسسات ارهابية تمنح نفسها صفة الدين، ضد المرأة والعلم والتطور وحق التفكير، وحق وجود الآخر، على مر العصور، فلا مندوحة من الحوار بين عقلاء اي قوم لتجنيب الشعوب والبشرية ويلات التصادم، لأن الدين يظل بمثابة البوابة التي تنزع اليها المجتمعات اول ما تنزع حينما تتعرض هويتها للاستلاب الى التمسك بمقوماتها الروحية.

نحن نعتقد بأن الوثيقة الفاتيكانية الجديدة ستدفع الجميع، مسيحيين ومسلمين ويهوداً وبوذيين وزرادشتيين ومندائيين ويزيديين وعشرات الديانات الاخرى في العالم، الى وقفة مطلوبة من اجل تحليل سوء التفاهم وفك آلياته وتفهم اسبابه للانتقال الى العصر الجديد بمشروع وفاق حضاري يلغي الاشباح القديمة والاحكام الجاهزة والجهل المتبادل.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة