الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

صدر عن المدى مغامرات في بلاد العرب

- "أكرر عليك، يا افندم، إنني رأيت ذلك رأي العين".

كان المتكلم نجار طارق بك (Najar Terek beg)، وهو رحال تركي، وضابط سابق في سلاح الفرسان، وصديقي الذي وثقت به في اسطنبول، والذي غمرني بالفرح عندما التقيته في حلب.

كنا نحتسي القهوة في حديقته الصغيرة بعد لعبة بليارد، وكان يحكي لي عن أشياء لو صدرت عن أي رجل آخر لصدفت عنها صدوف المرء عن أباطيل. كنا نتحدث عن اليزيدية، تلك الطائفة الغامضة المنتشرة في الشرق، ولاسيما في شمالي بلاد العرب، والتي يخشاها ويسخط عليها المسلمون والمسيحيون لأنها تعبد الشيطان.

أخبرني كيف زار منذ ثلاث سنوات حصن اليزيدية المقدس في جبال الأكراد القريبة من الموصل شمالي بغداد، وعن معبد غريب بني على مصاطب صخرية منحوتة في سفح الجبل المنحدر، ولم يسمح له بالدخول إليه، والظن أنه كان يحوي تمثال الطاووس النحاسي العظيم، ويؤدي إلى كهوف تحت الأرض حيث تجري طقوس عبادة الشيطان، وكيف رأى أحد "أبراجهم السبعة" الهائلة، أو "منازل القوة"، وهي أبنية عالية بيضاء مخروطية الشكل تلمع من أعاليها أشعة ساطعة - ولما قاطعته إنما قاطعته ههنا.

لقد قاطعته لأني قد سمعت عن تلك الأبراج السبعة أكثر من مرة قبلاً، وظننت أنها أسطورية تماماً، شأن المملكة الصينية التي تحت الأرض، أو كهوف السندباد. والحكايات التي سمعتها قبل ذلك، وكانت واسعة الانتشار في الشرق، يمكن أن تكون هذه خلاصتها:

ثمة سلسلة من أبراج سبعة على قمم جبال متباعدة تمتد عبر آسيا من شمالي منشوريا عبر التبت وبلاد فارس ثم إلى كردستان. وفي كل واحد من هذه الأبراج يقيم على الدوام أحد كهنة الشيطان، وهؤلاء الكهنة يتحكمون في أقدار العالم نيابة عن الشيطان عن طريق "بث" ذبذبات سحرية خفية.

ثم إنني التقيت رجلاً غير مؤمن بكل هذا الهراء، وأخبرني بكل هدوء أن تلك الأبراج، مهما كانت غايتها، فهي موجودة بالفعل ومكرسة لخدمة الشيطان، وأنه قد رأى أحدها رأي العين.

ومع أنه قد ذهب إلى هناك متنكراً في زي تاجر كردي، فقد أكد لي أنه يمكنني أن أذهب كما أنا وليس في ذلك أية مخاطرة، وأن أرى أكثر مما سمح له بأن يراه. قال لي: إن اليزيدية يحبون الذين يتكلمون الإنكليزية، لأن الإنكليز الذين تولوا السلطة في العراق قد وضعوا حداً للقتل والمجازر التي كانوا يتعرضون لها في ظل الحكم الإسلامي.

وقال: إن مدينتهم المقدسة تدعى (شيخ عادي)، وهي لا تؤدي إليها أي طرقات، بل يمكن الوصول إليها عبر ممرات جبلية على ظهور البغال انطلاقاً من الموصل.

دخلنا إلى مكتبته، وكنت أنا والسيدة سيبروك قد توقعنا أن نعبر إلى العراق عاجلاً أم آجلاً، ولكن أملنا أن نرجع أولاً إلى دمشق، ونذهب مع إحدى قوافل شركة نيرن (Nairn) الإنكليزية للنقل التي تقل سياراتها المحمية المسافرين والبريد البري من مطار بيروت إلى بغداد. ولكن طارق بك أخبرني أن السفر من حلب إلى الموصل مباشرة بالغ الخطر، لذلك يمكنني أن أوفر الوقت والمال باستئجار سيارة خاصة، واجتياز شمالي بلاد العرب بالسير محاذاة وادي الفرات من حلب إلى بغداد، وأما السفر بعد ذلك من بغداد إلى الموصل فسيكون أمراً سهلاً.

عاد معي في تلك الليلة إلى فندق بارون (Baron)، حيث نزلنا انا وكاتي، وحيث اكتشفنا شاباً اسمه جورج كان أكثر الأشخاص خبرة بالمكان مع أنه لم يكن إلا الخادم الأول في الفندق. عثر على صاحبي (كراجين) برغم الوقت المتأخر، وتحمست كاتي للتغيير المقترح في الخطط. فتبادلنا الرأي، وجادلنا، وساومنا وأخيراً وافق أحد الرجلين على تأجيرنا سيارة وسائقاً مقابل عشرين ليرة ذهبية.

قيل لنا: إن علينا أن نتمكن خلال ثلاثة أيام من القيام بالرحلة الشاقة على طول وادي الفرات إلى دير الزور، ومن هناك إلى عانه (Anah)، ثم إلى بغداد عبر الصحراء الجنوبية الشرقية.

كان ذلك ليلة أربعاء، واتفقنا أن نستعد للرحلة في اليوم التالي، وننطلق فجر يوم الجمعة.

ولما عدنا ظهر يوم الخميس من السوق الذي ابتعنا منه نظارات واقية وخوذاً وطعاماً معلباً، وجدنا صديقي طارق بك ينتظرنا. لقد عثر على عربي يمكنه أن يعطينا مزيداً من المعلومات عن اليزيدية، وكان يريد أن يجمعني به عصر ذلك اليوم. وتبين أن ذلك الرجل، واسمه وولي فدن (Walid Fadan)، كان تاجر أقطان من سكان الموصل سابقاً. تحدثنا معه في حانوته القريب من السوق. أكثر من الهذر في البداية، ولما ألححنا عليه اعترف أنه لم يختلط باليزيدية قط، وما يعرفه عنهم أخبره به "قريب" كان يتاجر معهم، كان حديثه شديد الوضوح، ولكنه كان صعب التصديق.

قال: إن اليزيدية يحكمهم أمير يدعى مير سعيد بك (Mir Said beg) الذي قتل والده وخلفه على الطائفة. وتحدث عن باحة معبد تعبد بها أفعى سوداء، وعن قرابين عند قاعدة برج أبيض. وروى حكاية أكثر غرابة من ذلك عن عادة من عادات اليزيدية، وهي أنهم يحضرون للكاهن الأكبر كل ليلة فتاة عذراء يطوق خصرها حزام ثقيل من فضة، وأن أحداً من اليزيدية لا يأخذ عروسه إلا بعد أن تخضع لطقوس مقيتة.

لم اعتقد آنذاك أن في تلك القصة شيئاً من الحقيقة - ومع ذلك ففي حوزتي الآن بالفعل الزفاف اليزيدي الفضي الثقيل، وهو حزام عريض من الأفضل أن يسمى مشدّاً - ولقد اعترف لي أبناء الطائفة أنفسهم، عندما وصلت أخيراً إلى شيخ عادي، ووثقوا بي بعض الثقة، أن "حق الليلة الأولى" موجود، وهو جزء من العرف عندهم، على أن ذلك الحق لا يمارسه المير الحالي.

ولكنني استبق الأمور في تدوين ما يجب أن يتضمن بعض التفاصيل على الأقل عن مغامرتنا في وادي الفرات، وإن كنت لا أدعي أن ما اكتبه هو قصة رحلة.

كانت انطلاقتنا من حلب، والساعات القليلة الأولى من رحلتنا، خالية من الأحداث. قطعنا سهلاً أجرد على جانب طريق كان مجرد ممر، واجتزنا قرى منازلها مثل خلايا النحل مبنية بالطين على شكل مخروط، وبلغنا، بعد خمسين ميلاً أو أكثر، النهر الأصفر العريض المنساب بين ضفتين من الطين المشوي القاسي.

سرنا بمحاذاة ضفته الجنوبية في سهول صلبة ومستوية مثل أرضية حلبة التزلج. وسائقنا داود، وهو شاب في الثلاثين نحيل، ولكنه قوي، كان يبدو في ثياب الخاكي الملوثة بالشحم، وقبعته المصنوعة من جلد الغنم الأسود، جديراً بالثقة التامة. غير أني استأت لما اكتشفت أنه مسيحي، وبالتالي ربما كان أرمنياً، مع أنه أنكر ذلك أشد الإنكار.

طاب لنا السير في الصباح الباكر، ولكن لفح الهاجرة في الواحدة كان شديداً. وكانت قد بدأت تظهر عن ميمنتنا مرتفعات طينية ورملية تعلوها أحياناً آثار هائلة، وما لبثت أن ظهرت أجرف شاهقة على بعد مئات الأقدام على ضفة النهر، ثم على بعد ميل ونيف.

وفي غضون كل ساعتين أو ثلاث ساعات كنا نرى أحياناً حصوناً تركية قديمة، بعضها مهجور، وبعضها أقام فيها الفرنسيون حامية قليلة العدد.

توقفنا عند إحدى تلك المواقع ظهراً لكي نملأ بالماء ثانية خزان تبريد المحرك، والقربة المعلقة على زجاج الواجهة، فخرج بضعة أنفار من شرطة الصحراء وأحاطوا بنا وقد هاجوا واضطربوا.

أرادوا أن يعرفوا سبب تأخر باقي القافلة، ونصحونا بالانتظار حتى يلحقوا بنا. فاجأتهم رؤية امرأة في السيارة، ولما علموا أننا مسافرون وحدنا، حاروا في أمرنا.

تفحصوا جوازات سفرنا المؤشرة للسفر من سوريا الفرنسية إلى العراق الإنكليزي من غير تحديد الطريق، وهزوا رؤوسهم وكان الأمر لا يعنيهم، ثم أخلوا سبيلنا.

ولما انطلقت بنا السيارة مقعقعة، أخذ داود يغمغم. سألته عما دهاه، فتذمر من سفرنا وحدنا، وقال: ربما صح هذا السفر قبل شهر، أما الآن وقد تغيرت الظروف، فإن السفرة "ملعونة".

زاد سرعة السيارة إلى حد الخطر، فطلبت منه أن يبطئ السرعة، فقال لي: إن أمامنا سيارة فيها سائق وضابط فرنسيان، وإذا لحقنا بهما فقد تصبح السفرة "زين".

ولم ندخل في الأصيل حتى رأينا الأجرف الشاهقة تندفع نحو النهر وكأنما لتسد طريقنا، واعتقدت أننا سوف نجد معبراً أو جسراً هناك. وبدلاً من ذلك، انعطفنا نحو اليمين إلى ممر صخري يتعرج بين الأجرف، وكان ذلك الممر أول درب سلكناه يشبه الطرقات الممهدة، وأظن أنه قد شق منذ آلاف السنين للمركبات القديمة.

ولما سرنا خلف الأجرف الصخرية، دخلنا في "ارض سيئة" مرتفعة، تدلت على طريقنا الضيق صخور جيرية بيضاء ساطعة، كان بعضها منشقاً عن أصله. رمتنا الشمس بالحر من قبة السماء، ولما خلعت نظارتي الواقية، وتلقيت كل لفح الحر، كان الأمر يشبه السير عبر الجمر وخبث المعادن في أتون هائل شديد الحرارة. اضطررت إلى ارتداء معطفي، ولفت كاتي نفسها في بطانية، وغطت يديها أيضاً وقاية لهما من الاحتراق.

وبعد ساعة سوعاء دار الطريق حول جرف، فرأينا على بعد مئة ياردة أمامنا، وعند منعطف آخر، رأينا عربيين كوفيتاهما تغطيان وجهيهما حتى العيون، مع بندقيتين جاهزتين في أيديهما - ولكن أزرار النحاس، وشارات الزي كانت أبهر الأشياء في ذلك الجو الساطع. سرتنا رؤيتهم، ولم نحسبهم قطاع طرق ولو لحظة. غير أنهم أوقفونا بانفعال شديد، وهناك أدركنا السيارة التي كان داود تواقاً إلى السفر في رفقتها.

وحقيقة الأمر هو أنها سدت الطريق. لقد حطمت رصاصات واجهة الزجاج، ومزقت رصاصات أخرى جهاز التبريد. كانت السيارة خالية، وفي الظل الضيق قبالة العجلات استقلت جثة السائق وعليها عباءة، وكان الذباب قد أخذ يجتمع. أما النقيب فقد كان مفقوداً، ثم عثر على جثته بعد خمسة أيام في أسفل وادٍ قريب. وقد كتبت وكالة اسوشيتد برس (Associated press) مقالة عن هذه الحادثة آنذاك، ثم كتبت مقالة أخرى بعد أشهر أوضحت فيها كيف ألقي القبض على القتلة، ثم شنقوا في دمشق.

كان وضعنا فظيعاً، ولاسيما بالنسبة إلى كاتي التي كانت هادئة وشاحبة، في حين استحوذ الذعر على داود. وما كنت لألومه كثيراً على ذلك، فأنا نفسي شعرت بالإحباط. ولكن دير الزور كانت على بعد ساعتين، ومن الواضح أن الأمر المعقول هو أن نتابع سيرنا إذا كان ذلك مسموحاً به. والدركيان العربيان لم يسمحا لنا بالمضي فقط، بل نصحانا بأن نواصل السفر. فالمخافر قد تنبهت، ومن المستبعد أن يحدث اعتداء آخر هناك في يوم واحد.

ولكن سائقنا داود لم يوافق. وكان وجهه الأسمر الشاحب المشرب خضرة يسيل عليه العرق من تحت قبعته المصنوعة من جلد الغنم الأسود. أراد أن يرجع، ويقضي الليل في أحد حصون الصحراء، ثم يتابع سيره إلى حلب في اليوم التالي. وقد أكد لي أن السفر "مستحيل"، وأقسم بالله أن لا طاقة لنا به، وبالتالي فإن مالي سيعاد إليّ. ولما وجدني أعارض هذه الخطة، قال: إن التصرف الآخر الآمن هو البقاء حيث كنا في حماية الدركيين حتى يأتي آخرون نستطيع مرافقتهم إلى دير الزور. ولكن الدركيين قالا: من غير المحتمل أني يذهب درك إلى الدير حتى اليوم التالي، كما علمنا، فالجميع سوف ينشغلون بالبحث عن القتلة. وبعد سباب وصياح أفلحت أخيراً في جعل داود يدير محرك سيارة الفورد، ويتابع السفر. وبالطبع لم يحدث أي شيء آخر إلا اشمئزازنا من داود، وتعرضنا المتكرر لخطر الانقلاب بسبب سياقته المتوترة للسيارة.

كانت الشمس ما تزال عالية عصر ذلك اليوم حين تراءت لنا دير الزور، وهي مدينة صحراوية كبيرة ذات بيوت مستوية السطوح، مبنية على جانبي النهر. إنها الحاضرة المعزولة في وسط بلاد العرب الشمالية. كان يخفف من رتابة استوائها القباب، والمآذن، وأعمدة إرسال اللاسلكي في المواقع الفرنسية، والتي كانت وسيلة اتصالها الوحيدة مع العالم الخارجي ولما وصلنا إلى مفخر الدرك في ظاهر المدينة خرج إلى لقائنا رقيب محلي في بزة الخاكي، ولكنه كان كان حافياً حاسر الرأس. كانت الأخبار قد بلغتهم، غير أنه أبدى حرصه على معرفة المزيد. كان الرقيب لطيفاً، وأنيساً، مطلق اللسان بالفرنسية، وقد تعجب من (Le Courage de Madame) (شجاعة السيدة).

لم يكن في الدير فندق يوفر أسباب الراحة للرحالة الأوروبيين، لذلك نزلنا في خان محلي، أوقفنا السيارة في باحة الخان، وذهبنا إلى غرفة في الطابق الثاني جدرانها وأرضيتها وسقفها من حجر، ونوافذها ذات قضبان متعارضة من حديد مثل زنزانة كبيرة. كانت خالية من الأثاث تماماً عندما جر داود امتعتنا إليها. وجاء صبي في السادسة عشرة يلبس عمامة وقميصاً قصيراً بالياً يثبته نطاق، ويحمل مكنسة، وجرة ملأى بالماء، ونظف الغرفة. أحضر بعد ذلك سريران من حديد، وبسط عليهما فيما بعد فراشان محشوان بالقش خيط عليهما قماش قطني جديد، إضافة إلى لحافين لونهما الرمادي حائل.

ساورني القلق أن لا يسمح لنا بالمضي في رحلتنا اليوم التالي، لذلك ذهبت إلى زيارة الآمر الفرنسي في أثناء استلقاء كاتي للراحة. قال لي: إن مغامرتنا تنطوي على حماقة، غير أن متابعة السفر إلى بغداد ربما كانت، في رأيه، آمنة أكثر من العودة إلى حلب. أعرب عن أسفه لأنه لم يستطع أن ينزلنا في فندق، وأعطاني زجاج ماء بيرييه (perier) للسيدة سيبروك، ثم اصطحبني إلى مطعم محلي صغير حيث شربنا بيرة ألمانية ممتازة وباردة.

شعرت بالتحسن، فتجولت في المدينة، وشاهدت النهر، وأخذت صورتين، أو ثلاث صور قبيل الغروب، وأخيراً عدت إلى كاتي التي كانت مستغرقة في النوم.

ندمت على ما جرى بيني وبين داود. لقد شتمته في حقيقة الأمر بكل ما كنت أعرفه من ألفاظ عربية، وألفاظ إنكليزية اعتقدت أن يفهمها، لذلك استدعيته، وطلبت منه الإشراف على عشائنا ومشاركتنا إياه. كان العشاء طعاماً معلباً من سلتنا، إضافة إلى صحن كبير من لحم الضأن المسلوق في مطبخ الخان، ومزيد من البيرة التي أرسل داود فتاة صغيرة رثة الأذيال بغية إحضارها. أتى بطاولة واطئة وجلسنا على السريرين.

سعد داود بالمصالحة، ولكنه ما لبث أن أزعجنا برمي العظام، وقشور الخيار، وعلب السردين وغيرها من الفضلات على أرضية الغرفة. غير أنه كان يعرف العادات أكثر مني، إذ جاء صبي مرة أخرى بعد أن أنهينا عشاءنا حاملاً جرة ماء ومكنسة، فأزال النفايات، وصب الماء على الأرض مرة أخرى، وكنسها تماماً. توقعنا أن يزعجنا البعوض. غير أننا متعبين للغاية بحيث أن جيشاً منه كان عاجزاً عن إبقائنا يقظانين.

إن نهر الفرات ينعطف شمالاً عند دير الزور، وبدلاً من مجاراته في اليوم التالي، اندفعنا عبر البلاد، وسرنا يوماً في صحراء صلبة الأديم والحصى، مستوية أحياناً، وأحياناً فيها اخاديد وسلاسل تلال، فاضطررنا من وعورتها الشديد إلى التباطؤ في السير.

اشتد حر النهار، واصبحت مؤلمة ملامسة المقاعد الجلدية، والهيكل المعدني للسيارة. هبت من الجنوب ريح مثل أنفاس أتون. وكنت ارتدي قميصاً، وبنطالاً قصيراً مزموماً عند الركبة، ولكنني اضطررت إلى ارتداء معطفي مفضلاً (أن اتحمص على أن أنشوي). أما كاتي فقد أرغمت منذ وقت طويل على ارتداء قفازين ومعطف صوفي ثقيل بما أن جلدها قد تبثر بالفعل داخل ثوب الحرير الرقيق.

لقد ثبتت وشاحاً طويلاً على خوذتها، ولفت فيه رأسها وكتفيها. ثم أخذت حواشيه تنحل وتخفق في الريح، ولم تجد ما يكفي من الدبابيس من أجل تثبيته. وظل الوشاح ينحل، ويصفق وجهينا معاً جاذباً خوذة كاتي عن رأسها. رثيت لها في البداية، ثم شاط بي الغضب، وصرت أدعو الله أن يلعن النساء جميعاً. لقد كره واحدنا الآخر، فما كنا فيه كان أسوأ من القتل والقتلة.

وأخذت أشياء تئز قبالة كتفي، وقبالة جانب السيارة. خيل لي أنها أحجار صغيرة، غير أني تبينت أخيراً أنها جنادب. وما لبثنا أن دخلنا في سحب منها. هجمت على زجاج السيارة، ودخلت إليها من جانبها. والجانب التي لم تؤثر فيها الصدمة زحفت علينا. نسينا ما بيننا من بغضاء، وأخذنا ندفع الجنادب إلى الخارج. كانت تبصق "عصير التبغ" مثل أي جنادب مسيحية، ولكن أعدادها الكبيرة انتشرت مثل طاعون فرعون. وسرعان ما ذهبت فجأة مثلما أتت. لقد اجتزناها، وخلفناها وراءنا. تبادلنا أنا وكاتي الابتسام بارتباك، وتصالحنا.

*(في جبل عبدة الشيطان) فصل من كتاب مغامرات في بلاد العرب للمؤلفة آن بلنت الذي سيصدر قريباً عن دار المدى بدمشق ترجمة أحمد ايبش.

 

 


  

 

مملكــة القسوة

طامي هراطة عباس

احكم ( المعلم الشيخ ) ضماد جبهته النازفة، كانت يداه ترتعش وهو يعقده باحكام حول راسه، ومع ذلك فقد شعر ان جرح جبهته العميق ما زال ينز دما عبر نسيج الرباط، فلمس بطرف اصبعه النحيل موضع الجرح فاحس بلزوجة دمه ودفئه، فسرت بداخله ارتعاشة مبطنة بالخوف والمرارة أزاحت بعضا من مكنونات صبره وحلمه، اذ ذاك تلمست الكآبة طريقها الى سحنته فارتدى وجها صارما غريبا على جلاسة الصامتين، والذين ادمنوا سماعه عندما شحت منابع عزيمتهم.

وكانت تلك الجلسات الطويلة حول موقده الباعث للسكينة والدفء تبدوا لبعضهم محض إنصات  لتأويلات يصعب تصديقها، لكنه جميعا ودون استثناء كانوا ملاحقين بقلق يقضم روح الاستكانة واللامبالاة المستقرة في اعماقهم، وغالبا ما تتحول ليالي الشتاء الطويلة الى كوة لمخاوف كانت تستثيرهم منذ تفاقم الاحداث.

تاملهم ( المعلم الشيخ ) بصفوفهم المبعثرة  في حجرته الواسعة فبدوا محبطين واكثر ميلا للصمت، اطبق على رغبته في تقريعهم بعد استعادته لهدوءه فحاول ان يعيد تصوره للاحداث الى بدايتها الاولى :

-: انسلت مدن الحجر المطمورة في منافي النسيان من رحم القرى القاسية... في الماضي البعيد كان اولئك الرجال القساة يقتلعون قلوب بعضهم البعض في ساحات المعارك من اجل حفنة ثمار جافة... كانت القسوة والهة الموت منظومة عبادتهم المنقرضة، ولهذا فقد اغضبوا كل الالهة فحلت عليهم لعنة النفي في باطن الحجر، كاد نسلهم ان ينقطع لولا نزق بعض الالهة الذين افشوا سر قيامتهم لالهة الظلام والصقيع... ففي الليالي الباردة حين تنطفأ المواقد وتذوي جمراتها، يستنهض الصقيع كل طاقته ليشق الحجر المطمور، فتنسل اشباح الرجال القساة المنفيين من عالمنا بقاماتهم الضخمة واشكالهم المرعبة... يجوبون طرقات الليل المقفرة بحثا عن كائن ما ليقدم اضحية لالهة الموت والقسوة وكلما زادت الاضاحي وتفشى طاعون الانزواء اقتربت قيامة بعثهم...

الان اصبح بعث مملكة الظلمة والموت يلامس مخيلة جلاس المعلم الشيخ فتسربت القشعريرة في الاجساد التي اقلقها تدفق الاشباح الى مدينتهم، فاقتربوا من بعضهم، تلاحمت اكتافهم، كانوا يستجيرون بدفء اجسادهم المتلاحمة من انبعاث مملكة الظلم، ومضوا يستذكرون قصص الجدات عن الايام المغبرة، حين كان الرجال القساة يختطفون الصبايا والرعاة الصغار... لكن حكايات العجائز كانت تتحدث عن سيل عارم اطاح بمملكة القسوة، فاختمرت في ذهن احدهم فكرة السيل :

:- لنقدم الاضاحي ونجعل اماكن عبادتنا تضوع برائحة المسك والبخور الثمين، سنصلي جميعا... فلعل سيلا اخر يطيح بهم.

اخفق احدهم في حبس مشاعره، كان فتى مخلصا لمعلمه الشيخ،  فبدت له فكرة البخور والاضاحي محض هروب اخر من مواجهة لابد ان تحدث :

-: قلة فينا اهملت صلواتها، ولن ينفع البخور ونذور الشمع والزيت وليست حكاية السد مؤكدة ! لقد قتل حراس البوابات احدهم وحين عاينه الحكيم ادهشه ان يكون الكائن اجوف ! وهم يحاولون كل ليلة طمر نبعنا ولو استمر الامر هكذا سيشح الماء عن مدينتنا، وبالامس ايضا قتلوا بضعة رجال من حراس السور، شقوا بطونهم وملئوها بالحجارة والنجاسة، ولقد تجرأ احدهم هذا اليوم وتسلل الى باطن مدينتنا فاصاب بحجره جبين شيخنا المعلم...

كادت نار الموقد ان تخمد اشار المعلم الشيخ الى احدهم فاضاف بضع قطع من الخشب الجاف، سرعان ما دهمتها السنة اللهب عندما توالى بضعة رجالا منهم على النفخ بين الجمرات الذاوية والحطب، فزادت السنة اللهب من حدة الضياء والدفء، فيما دارت عليهم كاسات من شراب ساخن.

 

كان الشيخ يراقبهم مليا اكمل البعض منهم احتساء شرابه ولاذ بالصمت فيما كان البعض الاخر يرتشف على مهل، كانت رؤية الشيخ واضحة منذ ظهور تلك الكائنات المخيفة، وكان يستشعر حالة الفزع التي امتلكت دواخل الناس ويدرك ايضا ان البعض كاد يستسلم لقدرية فاجعة، وظل يعتقد على الدوام  ان اثارة عواطفهم لن يقدم الا فورة مؤقتة تفقد عنفوانها عندما تصطدم بالعقبة الاولى، في اعماقه فكرة انضجتها سنوات عمره الطويل وبحثه الدائم عن بوابات الامان والسكينة... فقطع صمت الجلسة تساؤل احدهم :

-: لماذا نحن ايها المعلم الشيخ ؟

-: لاننا سادة الانهار العذبة والينابيع الباردة، وحراس بوابات المعرفة... من هذه القلعة صار للفظة شكل وللاشياء اسمائها... نحن صناع الحرف الاول... من شجر الغابات البكر اقمنا مدينتنا، ان لرائحة البلوط والصنوبر والارز عطرا يضوع بالازقة والحواري... فان تسيد اشباح الليل واعادوا قيامة مملكتهم فسوف نقتات على الحجر ونمشي على اربع ولن تلد نساءنا غير وشاة جياع يقتطعون اثداء امهاتهم الجافة مقابل رغيف خبز اسود...

هزتهم تصورات المعلم الشيخ واعتصرتهم مثل الة ضاغطة عظيمة، فتفتت روح الاستكانة وذاب الخوف في دفء العزيمة التي نمت في اعماقهم عندما تخيلوا مدينة خربة وارغفة من تراب واناسا تلوك ذكريات مجدها البائد في افياء العبودية المحتملة... انتفض احدهم من مكانه وهو يرتجف غضبا :

-: انا سوف...

قاطعه الفتى المخلص لمعلمه الشيخ :

-: بل نحن جميعا...

قال الشيخ : اجل انتم دون استثناء... لم تعد الالهة شديدة الاهتمام كما كانت ولن يدلكم احدا على طرق الخلاص... احشدوا كل البنائين والزجاجين وصناعكم المهرة... أسئلوا نساءكم شاورا أبناءكم، انتبهوا لتقاطع الاشياء وتضادها، ثمة حكمة كامنة فيها يمكن التقاطها... ستجدون طرقا جديدة لنصركم الوشيك.

التمس الشيخ الراحة لجسده الواهن، فاتكأ على وسادة فراشه...  اقتربوا من بعضهم شكلوا حلقة حول نار الموقد كانت رؤاهم المبعثرة تميل للتوحد وهم يتحاورون رغم صمت البعض، وحين استأذنوا بالانصراف تلاقفتهم دروب مدينتهم القلقة، فبدت للعديد منهم ان تلك الفسحة القائمة بين منتصف الليل والنهار الجديد ستكون اطول مما يجب، كانت لهفة الاستعداد ليوم عمل واعد تطرد مخاوفهم وتشيع فيهم دفقا من عزيمة مؤكدة.

 


   الفيلسوف الفرنسي جارك دريدا يتحدث عن الإرهاب

ترجمة/ فالح حسن

نشرت " لو موند ديبلوماتيك " على صفحاتها الثقافية، في شباط 2004، لقاءين منفردين مع مفكريْن بارزيْن في مجال الفلسفة، هما الفرنسي جاك دريدا والألماني يورغن هابرماس. وأدارت الحوار معهما جيوفانا بورادوري، أستاذة الفلسفة في فاسار كوليج Vassar College بنيويورك. وكانت مناسبة هذا الحوار، الذي نقدّم ترجمته، هي صدور كتاب اشترك بتأليفه الفيلسوفان تحت عنوان: "" مفهوم " الحادي عشر من أيلول [إصدارات غاليله Galilée، باريس، 264 ص]. وكانت جيوفانا بورادوري قد أجرت حواراً مطولاً مع دريدا،  وصدرت ترجمته العربية عن "المشروع القومي للترجمة"/2003. وفي ما يأتي الحوار مع دريد، ونأمل أن ننشر الحوار مع هاير ماس في عدد قادم.

 

*سواء أكان الحادي عشر من أيلول حدثاً له الأهمية الكبرى أم لا، ما الدور الذي توكله أنت إلى الفلسفة؟ وهل بوسع الفلسفة أن تعيننا على فهم ما جرى؟

-لا شك أن "حدثاً " كهذا يلتمس إجابة فلسفية. بل الأولى، إجابة تساؤل ثانيةً الافتراضات المفاهيمية في أقصى جذرورها الأشد انغراسا في الخطاب الفلسفي. فالمفاهيم التي غالباً ما يوصف فيها هذا " الحدث"، ويُسمّى، ويُبوّب، تنهض على " غفلة دوغمائية " لا يمكن أن يوقظها إلاّ تفكير فلسفي جديد، تفكير " في " الفلسفة، وبخاصة في الفلسفة السياسية وفي تَرِكتِها. إذ أن الخطاب السائد، خطاب وسائط الإعلام والبلاغة الرسمية، يتكل بسهولة مفرطة على مفاهيم من قبيل " حرب " أو " إرهاب "(محلياً كان أم عالمياً).

إن قراءة لـ" نقد " كارل شميت Carl Schmitt (قانوني ألماني في سنوات الثلاثينيات، هو تلميذ ماكس فيبر Max Weber، وكان نازياً) على سبيل المثال، لربما ستأتينا بنفع كبير. فهي " من جانب "، تعيننا لنضع بالحسبان الاختلاف، بقدر ما يمكننا من بُعد، بين الحرب التقليدية(مواجهة مباشرة و " معلنة " بين دولتين متعاديتين، كما يراها الموروث القانوني الأوربي الواسع)، و"الحرب الأهلية "، و "حرب الأنصار "(في أشكالها الحديثة التي تظهر بها منذ مطلع القرن التاسع عشر، و شميت يعترف بذلك).

لكن، "من جانب آخر"، ينبغي علينا الاعتراف أيضاً، "على خلاف" شميت، أن العنف الذي ينفلت من عقاله الآن لا ينهض على الحرب (فتعبير " حرب على الإرهاب " هو من اكثر التعابير لبساً، ويتعين تحليل اللبس والمصالح التي يدّعي هذا الإسراف البلاغي خدمتها). إذ أن بوش يتحدث عن " حرب "، لكنه لا يقدر على تحديد العدو الذي يُعلن انه أعلن الحرب. فما أفغانستان، بشعبها المدني وجيوشها، بعدوة للأميركان، وما فتئوا يرددون هذا.

على افتراض أن " ابن لادن " هو المقرِّر المطلق بهذا، يعلم العالم اجمع أن هذا الرجل ليس بأفغانياً، وان بلاده لفظته (فضلاً عن "البلدان" كلها، والدول كلها بلا استثناء تقريباً)، وانه يدين بتعليمه إلى الولايات المتحدة، وبخاصة انه ليس لوحده. والدول التي تساعده عن طريق غير مباشر، لا تفعل ذلك بصفتها دولاً. فأي دولة لا تدعمه علناً بوصفها دولة. وحتى الدول التي تؤوي الشبكات " الإرهابية "، يصعب حملها على أنها كذلك.

فالولايات المتحدة وأوربا، ولندن وبرلين، هي أيضا ملاذات، أماكن تدريب وتعليم " إرهابيي " العالم كلهم. فمنذ زمن طويل ما عادت هناك جغرافية، ولا تحديد "إقليمي"، يتصل بالأمر اتصالا وثيقاً كي يتم تشخيص مرابض هذه التقنيات الجديدة في انتقالها أو في عدوانها. ( لنقل على عجالة مفرطة مستطردين، من أجل توسيع وتحديد ما تحدثت عنه آنفا عن تهديد مطلق من مصدر مجهول وغير دولي، أن الأعمال العدوانية من النمط "الإرهابي"، لربما لن تحتاج بعد الآن إلى طائرات، وقنابل، وانتحاريين: إذ يكفيها الدخول إلى نظام معلوماتية ذي قيمة استراتيجية، لتضع فيه فايروس أو تُعمل فيه خللا خطيرا يشل المصادر الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، لبلدٍ ما أو لقارةٍ ما. وهذا ما يمكن أن يجري في أي مكان على الأرض، بكلفة ووسائل قليلة.)

لقد تغيرت العلاقة بين الأرض، والإقليم، والإرهاب (يستخدم" ديريدا"هنا مفردات متجانسة النطق والرسم تقريباً:la Terre الأرض، le territoire الإقليم أو جزء من ارض،la terreur الإرهاب أو الترهيب.(المترجم))  وينبغي أن نعرف أن ذلك يتصل بالمعرفة، أي بالتقنية-العلم. فالتقنية-العلم هي التي تشوش التمييز بين حرب وإرهاب. وبهذا الصدد، عند مقارنة "11 من أيلول" باحتمالات التدمير والفوضى العارمة " المدخرتان " للمستقبل في شبكات المعلوماتية في العالم، يتبع " 11 من أيلول" أيضا إلى المسرح العتيق للعنف المكرّس لضرب المخيّلة. وسيغدو بالمستطاع فعل الأكثر سوءا غدا، بنحو لا مرئي، بصمت، واكثر سرعة، وبغير دموية، لدى مهاجمة " شبكات networks " المعلوماتية التي تعتمد عليها الحياة كلها (الاجتماعية، الاقتصادية، العسكرية، الخ) التابعة لـ"بلد كبير"، اكبر قوة في العالم.

سيقال ذات يوم: كان "11من أيلول" عهد("رائع") قديم في آخر حرب. كان لا يزال من نظام العملاق: مرئي

وهائل! أيُّ قوام، وأيُّ عِلو! ووقع الأسوأ مذ ذاك، بلايين التقنيات من  الضروب كلها، الأكثر قدرة بكثير ولا مرئية، ومنيعة، تلج في كل مكان. إنها تتبارى في التضاؤل مع الميكروبات والبكتريا. لكن لا وعينا يتحسسها، ويعلم بها وهذا ما يخيف.

إنْ لم يكن هذا العنف " حرباً "بين دول، فهو لا يتبع كذلك إلى " الحرب الأهلية " أو "حرب الأنصار"، بالمعنى الذي يحدّده شميت، في الإطار الذي لا تقوم فيه انتفاضة وطنية، مثل جلَّ حروب الأنصار، بل في حركة تحررية مكرّسة للاستيلاء على السلطة في ارض دولة- أمة. حتى لو كان أحد أهداف الشبكات "البنلادنية"، الجانبي أو المركزي، هو زعزعة استقرار العربية السعودية، حليفة الولايات المتحدة الغامضة، وتنصيب سلطة دولة فيها. وحتى لو واصلنا الكلام عن الإرهاب، فان هذه التسمية تغطي مفهوما جديدا وتمييزات جديدة.

* أتعتقد بالإمكان ملاحظة هذه التمييزات؟

-هذا اصعب شيء على الإطلاق. فإذا أردنا ألاّ نتكل اتكال الإمعة على اللغة السائدة, التي تبقى في الغالب طيعة لبلاغات وسائط الإعلام أو التهويمات الشفاهية التي تقوم بها السلطة السياسية المهيمنة, ينبغي الحذر كل الحذر عند استخدام كلمات "إرهاب" وعلى الأخص "إرهاب دولي". ما الإرهاب, أولا وقبل كل شيء؟ ما الذي يمايزه عن الخوف, وعن الكرُبْ, وعن الذعر؟ قبل برهة, عندما أثِرت أن حدث 11 أيلول لم يكن "الأكبر" إلاّ في إطار عاقبة الجرح الذي فُرض على الوعي واللاوعي فأنا أعني أنه لم يكن يرتبط بما جرى بل بالتهديد اللا محدود بمستقبل اكثر خطرا من الحرب الباردة،, أكنتُ أتحدث عن الإرهاب, أم عن الخوف, أم عن الذعر, أم عن الكُرب؟

  بمَ يختلف الإرهاب المنظَّم, الهائج, المُتخذ أدوات،عن هذا "الخوف" الذي يَعدُّه موروث بأكمله, من هوبز Hobbes  إلى شميت بل حتى بنيامين Benjamin على انه شرط سلطة القانون وممارسة السلطة لسيادتها, على انه شرط السياسة نفسها وشرط الدولة؟ لايتحدث هوبز، في الـ"Léviathan", عن "الخوف fear" بل عن "الإرهاب terrour". ويقول بنيامين عن الدولة إنها ميّالة إلى حيازة احتكار العنف عن طريق التهديد تحديداً. وسيقال طبعاً أن كل تجربة ترهيب ليست بالضرورة أثر لإرهابٍ ما، حتى لو امتلكت خصوصية. لاشك في ذلك, لكن التأريخ السياسي لكلمة "إرهاب" يُشتق بلا حساب من مرجعيته إلى "الترهيب" الثوري الفرنسي, الذي مورس باسم الدولة والذي كان يفترض حقاً وصدقاً احتكار العنف احتكارا شرعيا.

لو نرجع إلى تعريفات الإرهاب السائدة أو الواضحة شرعيتها, ماذا نجد فيها؟ الإحالة إلى جريمة ضد الحياة الإنسانية تخرق القوانين (المحلية أو الدولية) وتنطوي في الوقت نفسه على التمييز بين مدني وعسكري (يُفترض أن ضحايا الإرهاب مدنيون)، وعلى غائية سياسية (التأثير في سياسة بلدٍ ما أو تغييرها من خلال ترهيب شعبه المدني). إذاً لا تقصي هذه التعريفات "إرهاب الدولة". ويدّعي إرهابيو العالم اجمع انهم يردون, من باب الدفاع عن النفس, على إرهاب دولة داخلي والذي, لا يذكرون اسمه, يتلفع بشتى أصناف التسويغات كبُرت مصداقيتها أم تدنت.

تَعلَمون الاتهامات الموجهة, على سبيل المثال وبخاصة, ضد الولايات المتحدة بممارسة إرهاب الدولة أو بتشجيعه. من جانب آخر, كانت التجاوزات الإرهابية مألوفة في صيغ القانون الأوربي القديم حتى في أثناء الحروب "المعلَنةَ" من جانب دولة ضد دولة أخرى. بل وقبل عمليات القصف التي تباين حجمها في الحربين الأخيرتين, كان ترويع الشعوب المدنية سبيلاً كلاسيكياً، قبل قرون من ذلك الوقت.

يتعين علينا قول كلمة أيضا عن تعبير "إرهاب دولي" الذي يغذي الخطابات السياسية الرسمية في كل أصقاع العالم.  ويُستعمل كذلك في إدانات رسمية عديدة صدرت عن الأمم المتحدة. إذ  بعد 11 من أيلول, أدانت غالبية ساحقة من الدول الممثلة في منظمة الأمم المتحدة ما تدعوه "الإرهاب الدولي" (وربما  حدث ذلك بالإجماع, ما عدتُ اذكر, ويبقى الأمر موضع تأكد), كما كانت قد فعلت غير ذات مرة في أثناء العقود الأخيرة.

هذا ما حدا بالسيد كوفي انان، خلال جلسة نقلت على التلفزيون, لتذكير الأعضاء بإجرائهم نقاشات عديدة سالفة. وفي اللحظة نفسها حيث كانت الدول تتهيأ لإدانة مفهوم " الإرهاب الدولي ", أعلنت بعضها تحفظها على مستوى وضوح هذا المفهوم، وعلى المعايير التي تسمح بالتثبت منه. ومثل شأن كثير من المفاهيم القضائية التي تكون رهاناتها خطيرة جداً, ما يبقى غامضاً أو دوغمائياً أو قبل ـ نقدياً في هذه المفاهيم لا يمنع السلطات القائمة والتي يقال أنها شرعية من استعمالها وقتما يتبدى لها ذلك ملائما.

إنما على نقيض ذلك, كلما التبس مفهوم ما, كلما كان طيعاً لإنتهازية احتيازه. زد على ذلك, ومن دون أن نناقش فلسفياً موضوعة "الإرهاب الدولي" وإدانته, سمحت الأمم المتحدة، إثر هذه القرارات المتعجلة, إلى الولايات المتحدة استخدام "جميع" الوسائل التي تراها الإدارة الأميركية ملائمة ومناسبة لحماية نفسها مما يدعى بـ"الإرهاب الدولي".

من دون الرجوع بعيداً إلى الوراء, وحتى من دون التذكير, كما يجري عادة, عن وجه حق, في هذه الأوقات, أن بالإمكان تأجير الإرهابيين بوصفهم مقاتلي

الحرية في سياقٍ ما (على سبيل المثال في النضال ضد المحتل السوفييتي في أفغانستان)، ويُتخلى عنهم بوصفهم إرهابيين في سياقٍ آخر (وعادة هم المقاتلون أنفسهم, وبالأسلحة نفسها، كما الحال اليوم)، دعونا لا ننسى الصعوبة التي قد نواجهها في التقرير بين "المحلي" و "الدولي" في حالة العمليات الإرهابية التي دمغت تاريخ الجزائر، أو ايرلندا الشمالية، أو كورسيكا، أو إسرائيل أو فلسطين.

لا مجال لأحد نكران وجود إرهاب دولة في عمليات القمع الفرنسي بالجزائر، بين العام 1954 والعام 1962. ثُم أن لطالما نُظر إلى الإرهاب الذي مارسه التمرد الجزائري على انه ظاهرة محلية ما دامت الجزائر جزءاً متمماً للأراضي الوطنية الفرنسية، تماماً مثلما كان يُقدّم الإرهاب الفرنسي(الذي تمارسه الدولة) بوصفه عملية شرطة وأمن داخلي. وبعد عقود فقط، أي في سنوات التسعينيات، منح البرلمان الفرنسي وبنحو استعادي صفة الـ"حرب" قانونياً لذلك الصراع (إذن هو مواجهة دولية)، بغية التمكن من تأمين معاشات "المحاربين القدامى" التي كانوا يطالبون بها.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة