الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

رحيل الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك  دريدا

 

على الرغم من أن الفلسفة تعيش في أعماقي منذ الطفولة إلا أن علاقتي بالثقافة الفرنسية تبقى هامشية ...

(أن نتعلم العيش  يعني أن نتعلم  الموت ونأخذ في نظر الاعتبار ، الأخلاقية المطلقة ، دون السعي إلى  السلامة  ولا الانبعاث ولا الخلاص .  إنها العلاقة الفلسفية القديمة ، منذ أفلاطون ،  : الفيلسوف هو من  يتعلم تقبل الموت)

جاك دريدا

بقلم : شاكر نوري

 ... هكذا إذن تقبل الفيلسوف جاك دريدا الموت ورحل عن عالمنا .

توفي جاك دريدا على إثر مرض سرطان البنكرياس النادر الذي يصيب واحد في المليون عن عمر يناهز 74 عاما ، أمضاها الفيلسوف وحقيبة الفكر يحملها على كتفه . فهو أحد آخر مفكري سنوات الستينيات الذين صنفوا من : مفكري 68 " بجانب التوسر ، لاكان ، فوكو ، بارت ، ودولوز .. ألخ  .

لا يمكن أن أنسى اللقاءات الثلاثة  بالفيلسوف الراحل جاك دريدا ، كان الأول في فندق لوتيسيا حيث أجريت معه حواراً نشر في أعداد مجلة " كل العرب" في عام 1988 ، والثاني على مدرجات مدرسة الدراسات العليا للعلوم الأجتماعية في منطقة رسباي التي درست فيها عاما حيث كان يتألق بمحاضراته.  والثالث لقاء حميمي حيث رأيته مارا من أمام مقهى سارة بيرنارد في منطقة شاتليه، وخرجت لأحييه وأدعوه لتناول فنجان قهوة لكنه فضل أن نتمشى سوية في جادة سان سيباستبول. كان كالعادة يحمل حقيبته ، ويذرع شوارع باريس كرجل عادي للغاية وليس كفيلسوف غير وجه الفلسفة.  أثناء السير، بدأ يسألني عن العراق المحاصر آنذاك ، وعبر عن تذمره للسياسة الأميركية إزاء هذا البلد، ثم سألني عن المثقفين العراقيين الذين يعيشون في الداخل . كان كعادته ذلك الفيلسوف الشارد الذهن، يفكر بآلاف القضايا الإنسانية، ويتنهد على المظالم التي تسود العالم . وفارقته بعدها وهو ينزل إلى قطارات الأنفاق الأرضية -المترو-، قاصدا منزله   ما زلت أحتفظ  بصورة شعره الأبيض الكثيف الذي أصبح علامة مميزة له.

من (الصوت والذاكرة 1976، إلى (أوليس غراموفون، 1988، مرورا ب ( صيدلية أفلاطون) 1972، و(الكتابة والاختلاف) 1967، و (هوامش الفلسفة) 1972، " وغيرها من الكتب العديدة  ،  برز اسم جاك دريدا في الفلسفة الفرنسية المعاصرة كأحد اخصب الأسماء وأكثرها إنتاجا للحدث الفكري بمعناه العميق. فيلسوف يعمل على هامش المؤسسة الفلسفية، يرسل شعاعاً من الشك في بداهات (خطاب الحقيقة)، يخلخل ازدواجيات الميتافيزيقيا الغربية الكبرى: الحضور ، الغياب، الواقع ، الحلم ، الشرق، الغرب، الشفوي، الكتابي، الداخل ، الخارج، مقتفيا آثارها في أعمال كبار مفكري الغرب من  أفلاطون إلى روسو إلى هيغل إلى هايدغر، وذلك ضمن استراتيجية شاملة تلخصها كلمة صارت مع مر السنين علماً على كل مشروعه الفكري: التفكيك .  والتفكيك هو تحليل عمليات التقابل أو الازدواج أو التضاد التي تقوم عليها المفاهيم الفكرية بغية تجلية طريقة عملها في تكوين الأنماط  الفكرية وكذلك في تكوين الأيديولوجيات . استراتيجية لا تحاول الخروج دفعة واحدة من إسار الصرح الميتافيزيقي الغربي - كما حاول ذلك غيره ولم ينتهوا إلا إلى تكريس هذا الصرح - بل تقيم داخله وتشرع حثيثاً في إقامة الشروخ في قلب هذه الثقافة ليتجلى شيئا فشيئا .  إن هذا الفكر مسكون من أقصاه إلى أقصاه بخطاب السيد وصمت العبد أو همهماته المخنوقة. انه ليس رحلة سليمة أبطالها مفكرون حياديون يعملون خارج السلطة من كل الجهات ويغوص فيها هاجس الهيمنة والإلحاق ورغبة السيطرة والتسلط والممارسة الفكرية هذه، مضادة (لخطاب السيد) تسعى إلى إقامة فكر جديد فالت من الأيديولوجيات.  ومشروعه يقوم على نص ذي هم أخلاقي يقظ، حرية مصغية لآثار الاختلاف والهوية المتحررة من كل أشكال الانغلاق.

تقاطعات يلتقي عندها دريدا  مع كبار مفكري  جيله ، جيل ما بعد  سارتر  وميرلوبونتي، جيل نهاية الأنساق الفلسفية المغلقة ، هذا الجيل الذي مثله مع دريدا  كل من جيل دولوز وميشال فوكو وميشال سير والمحلل النفساني جاك لاكان.

هامشي، هو الفيلسوف جاك ديريدا، حسب تعبيره، قدم من الجزائر. جذوره تظهر تارة وتختفي تارة أخرى .. وهو وان احتل الصدارة في الواجهة الفكرية الفرنسية، يظل يعيش هامشيا  في علاقته مع ثقافة ليست في نهاية المطاف  استمرار  للاستعمار الثقافي الذي حكم عليه بالنفي بعيداً عن لغة لم يتعلمها - العربية - وضمن لغته الوحيدة - الفرنسية- التي ليست في نهاية المطاف لغته .   

 كان لذلك، ، صبيحة أربعاء باريسية مسكونة بعلامات أفول قناعات وبديهيات كثيرة - سقوط جدران برلين وجدران أخرى -  كنت قد التقيت به  في أحد صالونات فندق لوتيسيا  الواقع بمواجهة مدرسة الدراسات العليا للعلوم الإنسانية حيث يدّرس فيها، في منطقة راسباي في  قلب باريس .  كنت أنتظر اللقاء منذ شهور عديدة بل منذ سنوات مع فيلسوف يقع خارج القوالب الجاهزة. جلسنا في تلك الظهيرة، ولم ينقذنا من الصمت إلا سؤال طرحته عليه لضرورة إشعال فتيلة الحوار، أستعيد الآن مقاطع منه لأهميته لأن الغياب يزيد من قوة العبارة ويقيم جسرا وهميا مع الراحلين.. وربما الحوار هو عصب وجوده بأكمله .. 

 جزائري دون أن يكون جزائريا وفرنسي دون أن يكون فرنسيا

من المعروف جيدا أن الفيلسوف الراحل ولد في الجزائر ولكن هذا الأصل لم يكن يظهر في أعماله . فقد قدم إلى باريس في عمر التاسعة عشرة ليبدأ  حياة حافلة. فأجابني في حينها " إنها مسألة هامة وجوهرية بالنسبة لي، أنت على حق ، لا يظهر أي شيء تقريباً من هذا الأصل في أعمالي، لكن هناك شيئا ما، رغم ذلك. متناثر في بعض أعمالي، وبشكل هامشي وأنا بدوري أعيد طرح سؤالك نفسه : لماذا هناك قليل من هذا الأثر؟ هناك أسباب عديدة ، وأنا متأسف لعدم ظهور هذه الجذور في أعمالي. أنني غير راض على هذه الوضعية. وأحاول تفسير ذلك وتعليله بأنني نشأت في الجزائر، وقد تكونت في كنف تربية استعمارية فرنسية، كل شيء كان فرنسيا وخصوصا برامج المدرسة .ولغتي الوحيدة هي الفرنسية. فالجزائر  التي عشت فيها طفولتي ومراهقتي، لم تكن خاضعة للحماية فحسب ، بل كانت تعتبر جزءا من التراب الفرنسي بهذا المعنى، حاولت السياسة الفرنسية تكريس الاندماج الكامل ، ولم تفرض نموذجا ثقافيا ولغويا كاملا. أضف إلى هذا أن عائلتي كانت تسكن في الجزائر مدة طويلة قبل مجيء الاستعمار . وأنت تعرف ، بلا شك، أن فرنسا طرحت الجنسية الفرنسية على الجزائريين وجميع الجاليات الأخرى في نهاية القرن التاسع عشر أي في عام 1875. ورغم أن وعيي تشكل في إطار معاداة الاستعمار الفرنسي للجزائر لكني لم أتعلم اللغة العربية، وإنني متأسف على ذلك.ومازلت احتفظ بصورة عن الجزائر المستعمرة . وفي عمر التاسعة عشرة، جئت إلى فرنسا وبدأت دراستي في باريس، وابتعدت عن تلك الجذور . حالة الاستعمار ، التحرير، وغيرها من الموضوعات، لم أجد اللغة المناسبة لا تحدث بها عن تجربتي (الجزائرية). وأعتقد أن موقفي السياسي كان واضحا لجميع من عرفني لكني لا أتحدث عنه كثيراً. " وكثيرا ما تساءلت هل يمكن أن يعبر الفيلسوف عن هذه التجربة عبر أشكال أدبية أخرى : "  لم أجد بعد المصطلح أو الشكل الأدبي أو طريقة الكتابة .. ولا أريد أن أكتب عن هذه التجربة بشكل سردي تقليدي. إنني أرغب في الكتابة عن تلك التجربة ولا أعرف فيما لو سأقوم بتحقيقها ذات يوم . على أية حال، أنني أرغب في سرد كل ذلك طفولتي ، جذوري الممتدة في الجزائر ، بطريقتي الخاصة.

اشتهر دريدا بموقفه الواضح إزاء الاستعمار الفرنسي وهو يردد : "  أستطيع أن أقول بأني كابدت الاستعمار الفرنسي وآثاره. في المدرسة الطلاب الجزائريون بدأوا يتناقصون .. واللغة العربية كانت تدرس كلغة أجنبية مثل اللغة الإنكليزية والألمانية . في تلك الأثناء ، تم طردي من المدرسة الفرنسية وبالتحديد في فترة الحرب العالمية الثانية تحت حكم فيشي .  بلا شك ، هذه الأوضاع أثرت  بي . وعندما أريد الحديث عن فترة طفولتي في الجزائر ، علي أن أتحدث عن انتمائي إلى الوسط الاستعماري خصوصا وأنني لم أتعلم أية لغة أخرى سوى الفرنسية .

والانتماء إلى فرنسا إشكالية أخرى عاشها الفيلسوف: (أشعر، على الدوام ، بأنني هامشي إزاء الثقافة الفرنسية .. أشعر بأنني في داخل هذه الثقافة وخارجها في آن واحد  .. ذلك لأني عشت في بلد أجنبي من ناحية، وجئت للعيش في فرنسا في عمر متأخر نوعاً ما . يبقى النموذج الثقافي الفرنسي بالنسبة لي نموذجا مفروضا من قبل المدرسة. والثقافة الفرنسية بحد ذاتها، تبقى ثقافة أجنبية نسبيا أي أنها حميمة وغير حميمة في آن واحد  .  أعتقد أن عملي الفلسفي، يطرح وضعيتي الهامشية التي أعتبرها جوهرية بالنسبة لي. أنت طرحت موضوعا يلامس رغبتي .. وأمل في الكتابة عنه ذات يوم.

 وقد سافر الراحل إلى بلدان عربية عديدة وعلى الخصوص إلى المغرب العربي . وأقام صلات مع ابرز مثقفيها  .  وعلى الرغم من أن الفيلسوف أمضى تسعة عشر عاما في الجزائر إلا أنه لم يتعلم اللغة العربية لأنه كان يركز على اللغة الفرنسية التي ستكون لاحقا أداته في التعبير الفلسفي .   " لا أسمح لنفسي أن أتحدث عن الثقافة العربية. من ناحية لأنني لا أعرفها من الداخل. ومن ناحية أخرى لأن الثقافة المغربية ليست كل الثقافة العربية .  المغرب بلد له خصوصيته، وذلك لعلاقتها الخاصة بفرنسا، ومن سوء حظي أنني أتحدث بالفرنسية مع المغاربة. لذا ليس لديّ رؤية أو تفسير داخلي للثقافة العربية. لكنني رغم ذلك استطعت أن استنتج بأن هناك حركة انفتاح على الثقافات الأوروبية، مع التأكيد على الثقافة التقليدية. ولهذا التوجه أهمية بالغة. لأن هذه الثقافة تؤكد، تقاليدها ولغتها الخاصة دون أن تنغلق على نفسها. شعرت في لحظات معينة، ولا أريد التعميم هنا، بوجود رغبة لإعادة تشكيل الذاكرة للثقافة من ناحية، وتجسيد علاقتها بالثقافة الأوروبية من ناحية أخرى. إنها لحظات سعيدة بالنسبة لي هناك مجموعة من الجامعيين والكتاب المغاربة يصرون على ترجمة النصوص الأجنبية .. وأعتقد بأنها علامة جيدة " .

 وعن رأية بالكتاب العرب قال لي : (أعتقد أن ما يكتب في هذا الميدان  هام  للغاية . لابد من ذكر صديقي عبد الكبير الخطيبي الذي اكن لأعماله احتراما كبيرا انه نموذج للمثقف العربي الذي يجمع بين التقاليد  والمعاصرة. إنها ظاهرة امتلاك اللغات العديدة .. والثقافات العديدة ... وعندما يستطيع المثقف أن يعطي للجانبين ، فعمله آنذاك يصبح ثمينا . ليس هناك محو لهويته .. ولا  اندماج في ثقافة الآخر. واعتقد أن هذا النمط من المثقف هو المحرك).

 التفكيكية ... هي الكتابة المختلفة

اشتغل الفيلسوف على أعماله الكبرى مثل (أصل الهندسة) و (الصوت والظاهر) و (الكتابة والاختلاف)... سألته عن مشروعه الفلسفي: (ربما التفكير بماهية المشروع الفلسفي ذاته، مثل مشروع الثقافة الغربية ولأنني فيلسوف منذ نشأتي المهنية، كان ما يشغلني، من الداخل والخارج هو التساؤل التالي: ما الذي أدى إلى تشكيل وحدة المشروع الفلسفي نفسه، باعتباره عنصراً مسيطراً على الثقافات الأخرى وهو ما نطلق عليه الثقافة الغربية؟ إذن كنت أتساءل عن وحدة هذه الثقافة. كنت أتساءل، وهمّ الكتابة الأدبية حاضر في أعماقي. رغبتي الأولى في جوهرها أدبية كنت أتساءل دائما: ما هي الكتابة وانطلاقا من هنا طرحت التساؤل الآخر ما معنى الفلسفة باعتبارها تفسير للعلاقة بين الكلام والكتابة. منذ كتابي (مقدمة لأصول الهندسة)، تحدثت عن وضعية الكتابة وعالجت هذا النص كيف يولد الموضوع العلمي - الهندسي موضوعات غير شفاهية لكنها تظهر عبر الوثيقة الكتابية. ليس هناك موضوع رياضي أو علمي دون أن يمر عبر الكتابة ولكي أتتبع هذا التفسير  أو هذا الخط  الكتابي، حاولت أن أرى وأحلل، عبر المراحل الكبرى للفلسفة ابتداء من أفلاطون ...).

على الرغم من ان الفيلسوف درس أفلاطون وهايدغر إلا   أنه   قريب من أدباء أمثال آرتو وبلانشو وادموند جابيس : (الرغبة في الكتابة أو المرور إلى الكتابة هي التي كانت تشغلني على الدوام. لدي انطباع بأن التجارب الأدبية لمالارميه  وبلانشو وآرتو وبتاي، تطرح تساؤلات فلسفية ربما تكون أقوى مما هي عند الفلاسفة أنفسهم. إنه نوع من الفضاء الذي وجدته مرسوما بين الأدب والفلسفة. فالنص الذي أكتبه ليس فلسفياً أو أدبيا صرفا بل هو مزيج بين الاثنين).

 مصطلح  (التفكيك) أثار الفلسفة برمتها وهيمن على المشهد الفلسفي عقوداً عديدة: ( في اللحظة التي بدأت بها الكتابة، كان التيار المسيطر على الثقافة الفرنسية هي البنيوية. ويرتكز هذا التيار على أن الموضوع أو الوعي مسجلان وموجدان في نظام بنيوي. كذلك بالنسبة للتحليل النفسي، والانتروبولوجيا، واللسانيات ففي ذات الوقت الذي كنت فيه أتغذى على هذه التيارات، كنت أقوم بنقد البنيوية. لذا فالحركة التي أنتمي إلهيا تسمى في الولايات المتحدة الأمريكية بـ (ما بعد البنيوية) أي نقد البنيوية التي تحاول طرح الأسئلة حول تاريخ البنيوية وعلاقات البنيات بعضها بالبعض الآخر. وكذلك نقد جوهر الفلسفة التي تقود البنيوية. وانطلاقا من هذه الأسئلة ، اقترحت عدة مفاهيم حول الكتابة وهذا ما نعثر عليه في الكتابة والكرافيك في آن واحد. وما اسميه بـ (الكتابة الأصلية) ليس مجرد الكتابة على الورق لأن الكلام .. نمط  آخر من الكتابة أيضا. وفي محاولة للإجابة على سؤالك الذي يتميز بالصعوبة فإن مفهوم الكتابة الأصلية ليس فلسفياً أو أدبيا، ولكننا انطلاقا منه، نحاول فهم جوهر الأدب وجوهر الفلسفة.

ولعل اختلاف دريدا  قدم مفهوما جديدا  من خلال نحت مصطلح الاختلاف بتغيير حرف الـ A-إلى- E  في الكلمة الفرنسية ، كيف تم ذلك ، قال لي :"   هذا صحيح إنني استخدمت كلمة غير موجودة في اللغة  الفرنسية وهو يرمز إلى مفهوم الابتعاد والاختلاف في آن واحد، وهايدغر يدعو إلى ما يسميه بـ (الاختلاف) بين الكائن والزمن. وحتى لو لم يكن هذا المفهوم موجودا عند نيتشه، فإنه يعبر عن تتبع أثر الآخر. ومفهوم (الكتابة الأصلية) يعتمد على أننا لا نستطيع أن نفهم شيئا في الحاضر ما لم نربطه بشيء آخر. حاولت الربط بين مفهوم الاختلاف كمفهوم للتفريق بين شيء وآخر، وبين التفكير المقتصد للزمن مما يسمح لي أن أفكر بالكتابة مثل الاختلاف.

دريدا ... ناقد أدبي من طراز رفيع

يجري الحديث عادة  في فرنسا عن أزمة الإبداع الروائي والشعري.. لكن المفارقة تكمن في أن الساحة الأدبية تشهد إنتاج آلاف النصوص الروائية والشعرية.. في خضم هذا التضخم الإنتاجي.. كان للفيلسوف رأي في ذلك : "  أعتقد أن الإنتاج الأدبي الكمي لا يتعارض مع الأزمة. إن استهلاك أو نفاذ الخطاب الأدبي أو الأدب له أعراض. فإذا كان هذا الإنتاج يعيد إنتاج أشكال وطرق أدبية متجاوزة من الثقافة، فأن  ذلك لا يعني غياب الأزمة وقد يكون الإنتاج الكمي للأدبي أمد هذا الإعراض. منذ وقت طويل، أي منذ خمسة وعشرين أو ثلاثين عاما، تمت محاكمة الأساليب السردية الروائية. وهذا لا يمنع وجود إنتاج ضخم ينحسر أمام هذا النقد. وينطبق ذلك على الفلسفة ذلك لأن إعادة النظر الراديكالية لا تقطع الإنتاج الإبداع.  الرواية الجديدة.. مرحلة هامة في فرنسا، على الأقل، ثمة انحسار عما وصلت إليه الرواية  الجديدة . على الصعيد الروائي، لا أعتقد بأن فرنسا  متقدمة. أعتقد أن ثمة أشكالاً سردية روائية ظهرت في أميركا اللاتينية ومناطق أخرى من العالم، أكثر أهمية مما ظهرت عليه في فرنسا. أعتقد بأن الرواية الجديدة نفسها لم تشكل حركة.. إنها مجرد تسمية أطلقت على مجموعة من الكتاب أمثال نتالي ساروت، الن روب - غرييه، ميشيل بوتور، وغيرهم، دشنوا أسلوبا جديداً تميز بسمات مشتركة فيما بينهم مما شكل قطيعة مع نماذج من الأشكال السردية الداخلية. كتاباتهم مغايرة إلا أننا لا نستطيع أن نتحدث عن مدرسة حقيقية للرواية الجديدة. لم يكن هدفه تجريد ممن سبقهم من الإبداع أمثال فلوبير وبلزاك.

في مفهوم دريدا ، الثقافة متشابكة  ولا يمكن فصلها ،  الفلسفة تبحث لها عن ملجأ وراء الأدب والأدب يبحث عن تفسيرات وراء الفلسفة: (مفهوم الأدب يتضمن مفاهيم فلسفية وكل  الممارسات الأدبية تتضمن، سواء بوعي الكاتب أو بلا وعيه، بعض التفسيرات الفلسفية. لذا لا أعتقد بوجود أدب خال من الفلسفة. في الحقل الأدبي ثمة أدب، ذي طروحات  فلسفية مباشرة، مثل الروايات المبنية على طروحات مسبقة. شخصيا اهتم كثيرا بالفلسفة الموجودة داخل الأعمال الأدبية. هناك بعض الأعمال الأدبية تكون أقوى من الأعمال الفلسفية.   ويكون لها القدرة أحيانا على محاكمة الفلسفة.

ركز الفيلسوف الراحل على الشاعر الفرنسي  فرانسيس بونج وكتب عنه: (لأنه شاعر كبير في اللغة الفرنسية. بونج لم يحتفل باللغة الفرنسية فحسب بل مارس في آن واحد،  فناً سردياً وقدم تأملات استثنائية حول اللغة .. كما طرح تساؤلات على الصعيد العملي والنظري حول جوهر الشعر واللغة. وكذلك ارتباط الشعراء بالأشياء.  أردت أن أبين الارتباط الموجود بين اسمه وتوقيعه وكتابته. عنيت بهذا الشاعر كشاهد كبير على اللغة الفرنسية .. وهو بمعنى من المعاني، منظر للقول الشعري .. ومفكر يشعر بضرورة ومسؤولية إزاء اللغة والأشياء ... ولديه إحساس بأنه مدين إزاء الأشياء . لم يكتب عن الأشياء الميتة فحسب، بل كتب عن الحيوانات : القريدس، والسنونو، على سبيل المثال ، انه بالنسبة لي مفكر للغة ... وملتزم عضويا مع اللغة.

 وأكثر من ذلك أن دريدا ربط  بين الرسم والأدب والفلسفة والعمارة .. كان يتجول في هذه الحقول ليقدم رؤية شاملة :" ليس هناك بالنسبة لي ميدان محدد أو ضوابط نتحدث فيها عن الرسم  والأدب والفلسفة والعمارة. صحيح أنني أتجول بين هذه الحقول لكني أسعى، على الدوام، في طرح تساؤل واحد وهو : ما هو تاريخ المؤسسات التي ساهمت في بناء هذه الحقول؟ أنني اهتم بالكتابة في الرسم ، والأدب في الفلسفة، أو الفلسفة في العمارة ... الخ. واسعى لهدم الحدود بين هذه الحقول. حتى لو أردت أن أقيد نفسي في حقل من الحقول، فأنني لا أقدر على ذلك. ولهذا السبب تجد عندي نصوصا حول التحليل النفسي، ونصوصا حول الرسم ونصوصا حول العمارة، ونصوصا حول الفلسفة أو الأدب، أو الشعر ، يحدث ذلك عندما نشعر بالانتماء إلى ثقافة معينة. وربما يفسر ذلك بأني لا انتمي إلى أي حقل من هذه الحقول. الانتماء وعدم الانتماء قد لا يعني الشيء الكثير .. كما قلت لك بأنني جزائري دون أن أكون جزائريا، وفرنسي دون أن أكون فرنسيا، وفيلسوف دون أن أكون فيلسوفا. ربما أن هذه الحركة أو هذا التنقل، الذي هو مصيري، تمنعني في أن أكون في أي مكان إذ لا أستطيع الاستقرار بل أمر دائما على الأشياء.

هل انتهت الفلسفة ؟

هذا السؤال طرحه العديد من الفلاسفة وعلى الخصوص فوكو ياما لكن رأي دريدا كان معارضا لهذا المفهوم: (كلا.. لا أومن بنهاية الفلسفة. حاولت أن أفرق بين الختام والنهاية لكن وجود الاختتام لا يرمز إلى توقف الفلسفة. كما قلنا هناك أزمة ولكن هناك إنتاج أيضا.. وهكذا هناك اختتام وليس نهاية. لا أعتقد بأن الفلسفة أشرفت على الانتهاء وينبغي ألا تنتهي. إنني ضد الخطاب الذي يقول بموت الفلسفة. من الناحية السياسية والمؤسساتية، أدافع عن مبدأ تدريس الفلسفة، والبحث الفلسفي أداة نقدية ضرورية حتى من وجهة النظر السياسية. وهي طريقة للبحث في عمق العلوم. إذن يمكن أن نفكر باختتام الميتافيزيقيا وضرورة تواصل الفلسفة. والدليل أنها مستمرة بكل الوسائل. وما أطلق عليه  (التفكيك) هو طريقة تفكير للاختتام لا تنتهي. ينبغي المحافظة على طرح التساؤلات الفلسفية على الدوام).

 الفلسفة ارتبطت باسم دريدا في فرنسا حتى أصبح هو آخر من يمثل المشهد الفلسفي: (لا أعتقد بأني قادر على الإجابة على هذا السؤال. من الصعب أن أعطي تعريفا لمفهومي الفلسفي بحيث لا أدري فيما لو أنني أستمر على تفصيل الحقل الفلسفي. ما يهمني هو التغلغل إلى التقاليد الفلسفية أحيانا نعجز عن ترجمة الخطاب الفلسفي الذي يخص الآخر. لا يوجد حوار بين  البلدان الأوروبية اللاتينية والبلدان الانكلوسكسونية لأن اللغة  والمصطلحات مختلفة. وحتى داخل الفلسفة الفرنسية  لا توجد وحدات صغيرة تسمح لنقاش كبير بين الفلاسفة. لا أعرف ما هي الفلسفة اليوم. هناك خطاب فلسفي متناثر. أما ما يخص الشق الثاني من سؤالك عن علاقتي بالفلسفة أو ارتباط اسمي بها، فيختلف ذلك حسب المكان والأشخاص. عادة ما يقدمون عمل (التفكيك)، وكأنه عمل ضد الفلسفة ، وهنا يكمن الخطأ لأن التفكيك ليس مضاداً للفلسفة بل هو في رأيي الذاكرة الأكثر حيوية فيها  رغم أنها قد تهدد بعض المؤسسات الفلسفية. على أية حال أنهم يربطون اسمي دائما ب (تفكيك الفلسفة "  لكني لا أقرأ فلسفتي بهذا الشكل.

 يعيش الفيلسوف في  حركة المجتمع الأوروبي  ولا ينفصل عنه : "  إنها حياة صعبة لأنه ، من ناحية، ينبغي المشاركة في حركة المجتمع كمواطن، ومن ناحية أخرى، الوقوف عند حركة هذا المجتمع ، مراقبته وتأمله، أنني شخصياً أعمل كأستاذ للفلسفة، يعني ذلك أنني ارتبط بمؤسسة تعليمية . في هذا الصباح، على سبيل المثال، شاركت في اجتماع وزاري حول تحديث تدريس الفلسفة في المدارس والجامعات . وبالرغم من الانهماك في هذه الأمور ، ينبغي على الفيلسوف أن يحافظ على مسافة تفصله عن المجتمع .. ذلك ما يفرضه التأمل الفلسفي . من الصعب أن تكون ملتزما في الحياة السياسية وان تحافظ على مسافة مع المجتمع . انه حساب ينبغي أن يقوم به الفيلسوف كل يوم . أعتقد أيضا  أن الفيلسوف يعيش في مدينة تتغير باستمرار. لم أكن  أعيش في باريس مثلما كنت أعيش قبل عشرة أعوام. أنني مضطر اليوم أن أقوم بواجباتي في التعليم ، وواجباتي ، كمواطن ، وان أشارك في المؤتمرات الفلسفية التي تعقد خارج فرنسا . وأحاول أن أجد الوقت لكتابة نصوص بعيدة عن الالتزامات اليومية اهتمامات كثيرة شغلت فكر دريدا ، وعلى الخصوص الإعلام :"  ينصب اهتمامي حاليا على مشكلة الوسائل السمعية - البصرية . وهذا لا يعني بأنني اقرأ جميع الصحف أو اجلس طوال اليوم والنهار أمام شاشة التلفزيون. بل ينصب اهتمامي بهذه الوسائل لأنها ميدان اجتماعي ، الصورة، وما تبثها من معلومات، وتأثيرها على التربية. الأطفال في فرنسا، على سبيل المثال، يقضون ساعات طويلة في مشاهدة التلفزيون. وهذا يساهم بدوره في تغيير مناهج التعليم " . ولعل صورة الفيلسوف في الغرب تعرضت هي الأخرى إلى بعض التشويش : (لا أعتقد بأن صورة الفيلسوف في الغرب هي صورة العبقري أو المجنون أو الهامشي، بل ينظر إليه المجتمع الأوروبي على أنه أستاذ أو موظف . في المخيلة الشعبية قد تختلط هذه الصورة بالنسبة للبرجوازية الفرنسية هو الأستاذ الذي يدرس الفلسفة في المدارس الثانوية).

فيلسوف في عمر مبكر ... وحفاوة كبيرة في الولايات المتحدة

(بلا شك، تولدت عندي هذه الفكرة في عمر مبكر. وعلى الأكثر ، كنت ارغب، بالدرجة الأولى، أن أصبح كاتبا . ورغبتي الأولى نبعت من الأدب . ولكنني حين اتصلت بالفلسفة على مقاعد الدراسة الثانوية، في عمر السابعة عشرة ، فكرت  بأنني سأتواصل مع الخط الفلسفي.

وقد اختلف مع فوكو وسارتر ، وهما من اكثر الفلاسفة هيمنة على المشهد الفلسفي الفرنسي لعقود: (إنها قصة معقدة مع فوكو. كنا أصدقاء ثم انقطعت صلاتنا، بعدها عادت صداقتنا من جديد . تعرفت عليه عندما كنت طالبا في مدرسة (إيكول نورمال)، وانعقدت بيننا صداقة حميمة، ثم دار بيننا جدل نقدي صاخب. لكننا تصالحنا قبل سنوات من موته. وعندما القي القبض عليّ في جيكوسلوفاكيا بسبب إحدى محاضراتي التي ألقيتها، تدخل فوكو لصالحي ووجه نداءً الإطلاق سراحي عبر الإذاعة. فكان من الطبيعي  أن اقدم له شكري عندما عدت من هناك .. هكذا تصالحنا. قمت بنقد كتابه (تاريخ الجنون) الذي تقبله في بادئ الأمر، لكنه من الغريب انه رد عليّ بقسوة عند إعادة طبع كتابه ، مما أدى إلى اضطراب علاقتنا.  أنني احترم عمل فوكو، لكنه في نظري ليس فيلسوفا بل مؤرخا كبيرا حيث ظلت الأسئلة الفلسفية غير ظاهرة في أعماله  . * إذا تكلمت عن سارتر .. مع الاحترام الذي نكنه له، لا أعتقد بأنه أضاف شيئا جديداً إلى الإبداع الروائي. وما قدمته الرواية يبقى تقليديا ومتأخرا بالقياس لأعمال أقرانه ، وخصوصا إذا ما قارنا مع جويس أو آرتو. اعتقد أن كاتبا مثل بلانشو، على سبيل المثال، وقصصه بالذات، تتمتع بقدرة إبداعية كبيرة برغم جميع القراءات السيئة له. ويمكن القول حتى القارئ الفرنسي لا يفهم بالضبط ما حصل لوحدة التطور على أعقاب الحرب العالمية الثانية. كانت حركة (تيل كيل) ذات أهمية كبيرة في نظري، في سنوات الستينيات، لكنها انحسرت فيما بعد... وكذلك بالنسبة للحركات الأخرى).

وقد عالج دريدا الأوضاع الفلسفية في فرنسا: (لدي انطباع، انه ظهر في الستينيات وبداية السبعينيات، خطاب مسيطر حول نهاية الفلسفة ، وهو خطاب يضع العلوم الإنسانية في وضع مهيمن، لم أكن متفقا مع هذه الفكرة، فالخطاب المذكور كان يؤكد على نهاية الفلسفة، وظهور العلوم الإنسانية، التحليل النفسي، اللسانيات والسيوسيولوجيا.. الخ. فقد ظهر في نهاية السبعينيات، كما أعتقد ما يسمى بـ(يقظة) الفلسفة وعودة إليها. وبالرغم من وجود الاهتمام البالغ بالفلسفي. لا توجد حاليا مدرسة فلسفية بقدر ما يوجد بعثرة للحقول الفلسفية.

أعماله لاقت رواجا كبيرا في الولايات المتحدة: (الشيء نفسه.. هناك تشتت تعانى التقاليد الانكلو-أميركية من ضعف بينما مفهوم (التفكيك) يبدو أقوى مما هو عليه في فرنسا. ثمة تناقض. أمريكا استقبلت عملي أكثر من بلدي. على أي حال، الولايات المتحدة الأميركية خارطتها متنوعة للغاية. وكل جامعة تختلف عن الجامعة الأخرى. لايوجد هناك ظاهرة التمركز الباريسية).

 

       


فرانكفورت وثقافتنا والأسئلة المؤجلة

سعد محمد رحيم

تعودنا، تحت وطأة العواطف المهتاجة، وفي مناسبات بعينها، أن نثير بعض الأسئلة القديمة، محدثين في البركة الراكدة لثقافتنا رجة مؤقتة، بدرجة ما عالية أو واطئة، سرعان ما تخمد ليعود كل شيء إلى طبيعته الأولى. وفي الغالب تكون أسئلتنا معبأة ضد الآخر الذي  نظن أنه ينكر تاريخنا وإبداعنا ووجودنا، ومسوِّغة لفعل الذات كما لو أن هذه الذات مبرأة من أي سوء.

هذه الأسئلة تمنحنا حالة موهومة من الاطمئنان والشعور بالتعالي الكاذب والإحساس بالظلم، كما لو أننا في أحسن حال، وأن العالم كله يتربص بنا الدوائر.

ففي كل سنة، ومع الإعلان عن الفائز بجائزة نوبل للآداب نطرح الأسئلة نفسها.. الأسئلة العقيمة التي تحجب عنا الأسئلة الأخرى الضرورية.. الأسئلة المغيبة التي يمكنها أن تدلنا على الهول، وتؤشر لنا عمق المأساة/ مأساتنا، وتمنحنا الفرصة أيضاً.. تلك الفرصة المعطلة، في مناخ الانفعال والمناحات، والركون إلى الأوهام. وفي هذه السنة، تصادف أن أعلن عن الفائزة بجائزة نوبل للآداب، وهي الروائية النمساوية ـ الفريدي ويلينيك ـ مع انعقاد معرض فرانكفورت للكتاب الذي جعل من العرب ضيف شرف له في دورته هذه.

وإذا كانت الأسئلة المصاحبة لنوبل تبدو سقيمة ومملة وخائبة من كثر التكرار فإن فرانكفورت مناسبة من نمط آخر، تتيح فرصة للتواصل والحوار مع ذلك الآخر، وقد تصبح تجربة لمراجعة ما يسميه محمد أركون بـ ( أضابيرنا القديمة التي يعلوها الغبار ).. أي أنها في الوقت نفسه تضعنا في موقف الحوار مع الذات ومساءلتها نقدياً، والدخول إلى المناطق المحظورة بأسئلة بقيت مؤجلة عقوداً طويلة، وهي أسئلة ليست جديدة تماما، لكنها تأخذ أو تحاول أن تأخذ مديات أخرى أكثر اتساعاً خارج الأنطقة التقليدية التي تعاني فيها ثقافتنا من عسر التنفس، وانعدام شرط النماء الصحيح. هذا إلى جانب الأسئلة الأخرى التي تحفر عميقاً نحو الطبقات الغائرة، التي من غير المرخص، الوصول إليها.

كان سؤال النهضة الأول في منتصف القرن التاسع عشر ( لماذا تقدم الآخر، ولماذا تأخرنا نحن؟. )، على الرغم من محدوديته أكثر جرأة وسعة أفق، وعمقاً مما تطرحه جهات ومؤسسات وأفراد تدعي لنفسها الآن تمثيل ثقافتنا، واحتكار أصولها وأطرها ومشروعها من زاوية أحادية ضيقة، تنكر شرطيّ التنوع والتطور، على الرغم من أنهما محدِّدان لا تكون ـ ثقافة ـ من دونهما.

كان بزوغ فكر النهضة العربية الحديثة حصيلة احتكاك مع فكر الآخر وثقافته وحداثته، ونتاج صدام مع مشروعه الاستعماري. وكان يمكن لذلك الفكر أن يحقق طفرة على صعيد الواقع الاجتماعي والثقافي لولا أنه تعرض لمحاولات إجهاض قاتلة نذكر منها، لا على سبيل الحصر، ما واجهه كتابـا طــــه حســـين ( في الشعر الجاهلي) وعلي عبدالرازق (الإسلام وأصول الحكم) من هجمات ضارية وشرسة في العقود الأولى من القرن العشرين.

وطويلاً بقي سؤال الهوية يقصي ويهمّش سؤال الإنسان والحرية على الرغم من أن الأول لا يكتسب شرعيته، ولا يستوفي شرطه الموضوعي من دون الثاني. كذلك تراجعت سلطة العقل أمام سطوة الخرافة واللامعقول وفورة الانفعالات . ومع العقدين الأخيرين من القرن العشرين بدا وكأننا صرنا نفتقد القدرة على التعاطي مع الذات والعالم بمرونة وثقة بالنفس، وفي منظور مصالحنا الاستراتيجية العليا.

إن العلاقة مع الآخر وإشكالياتها كانت المصدر لمجمل الأسئلة التي طرحتها النهضة العربية، ومنها ، أو في مقدمتها سؤال الحداثة. وليس بالمقدور الآن أن نبحث في إشكاليات الذات والهوية ـ وقد جعلتنا الإيديولوجيات الدوغمائية نحيلهما إلى أصنام ـ إلاّ في إطار الخارطة التي تجمعنا موضوعياً مع الآخر في علاقة لا فكاك منها، معقدة وقلقة ومولدة لاحتمالات شتى.

فرانكفورت اليوم، في لحظة ملتبسة من التاريخ، يضعنا مرة أخرى أمام التباس المفاهيم والعلاقــــــــة لــ أو بيــن ( شرق ـ غرب ) مع ما

يثيرها من أسئلة وإشكاليات مع النفس ومع الآخر، للخروج من خانق سوء الفهم وانعدام الثقة، نحو أفق الحوار العقلاني الصريح والجارح والمثمر، من أجلـ (نا) ومن أجلـ (هم).

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة