الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

دريدا التطبيقي: لا يُحتمَـل أن تكون ميتاً بلا موت بيتر كراب

ترجمة: خالدة حامد

في مقابلة له مع صحيفة اللوموند في آب ، قال دريدا أن تعلُّم العيش يعني تعلُّم الموت . ونُقل عنه قوله " شيئاً فشيئاً فقدت القدرة على تعلُّم كيفية تقبّل الموت ... بقيت جاهلاً بخصوص حكمة تعلُّم الموت " . حينما سأله بيتر كراب : ما الذي سيحدث حينما تطبق نفسك ، عند الكتابة ، على مفكر آخر ؟ أجاب دريدا :

أولاً ، أنا دريدا التطبيقي . هذا المؤتمر عني ، ولهذا أنا هنا … لماذا يريدونني هنا ، ليستمعوا إلى اسمي ؟ لنؤجل الإجابة عن هذا السؤال . لا يتعلق الأمر بتطبيقي ، بل بقدرتي على الانتشار . لقد تعلمت الكثير من البحوث . لكن لِمَ آتي هنا اليوم بلا استعداد ، مع ملاحظات مزعومة ( يرفع ورقة بيضاء فارغة ) ؟ لم أرد أن أطبق أي شيء أصلاً ؛ أردتُ المجيء عارياً قدر الإمكان ( يخلع سترته ) . العري : النقاء والإباحية . وكالمعتاد ، قال جيف شيئاً قبل أن أتفوه بأية كلمة ، وحاولت أن أكون عصيّاً على التخمين ، وهذا مستحيل عليه .

حينما تأتي إلى مؤتمر لتكون أنت تطبيقياً ، يكون الأمر كما لو أنك مت . لكم أرغب في أن أرى ما سيكون عليه الحال حينما أموت . ولهذا السبب جئتُ اليوم ؛ لأشهد موتي .

أن تروي موضوعاً ما ـ هكذا ـ يعني أن تتظاهر  أنك مت . أردتُ أن التقي بمنظم المؤتمر ـ جوليان وولفريز -إلا أن الظرف اللازم لذلك كان شبه ميت . لماذا نخشى الموت ؟ من المرعب ان نتصور نهاية العالم . إلا أن الأكثر رعباً هو أننا سنواصل كوننا موتى بينما يستمر جريان العالم بلا توقف ؛ بينما نواصل نظرنا للأشياء… في الوقت نفسه ، الشيء الأكثر طمأنة .

لو  كنت دريدا التطبيقي ، كيف احتمل بقائي هنا ؟ إنه أمر لا يحتمل ؛ أن تكون ميتاً بلا موت : غير قابل للدفن ، بلا ثواء . يا للأسى ، ما يحمينا هنا هو الشك ، عبارة " كما لو أن " . فمن ناحية ، لا يوجد تفكيك تطبيقي . عليك أن تعمل على لغتك وعلى موقفك الخاصين . أنا لم أنس سؤالك . ومن ناحية أخرى ، لا شيء هناك سوى التطبيق . بإمكانك تطبيق التفكيك .

الآن أقول أن دريدا تطبيقي ؛ وهذا أمر آخر . فإن طبّقتُ نفسي ، وبطريقة تفكيكية ، فالحدث يتم بطريقة مفردة ومتفردة . لكن ، مثلما تعلم ، أنه بسبب قانون التكرارية يصبح ذلك غير قابل للتطبيق على الفور . ذكرت قبل لحظة الانتشار بوصفه مقابلاً للتطبيق . الانتشار إذن وتعدد المعاني .

وإن بدا أن لقبي يشير إلى هذه التكرارية ، فعندئذ أقول أنه لا يخصني . وحينما أقول أني دريدا التطبيقي ، يتم تطبيق الاسم على جسدي . أنا أحب هذا الاسم ، لكني اسأل نفسي : لماذا تعمل بجد ، لِمَ تحضر مؤتمرات ، لماذا تكتب الكثير ؟ ربما لضرورة أن يتم صوغ الاسم واختلاقه من أجلي أنا فقط بالطريقة المتفردة والتكرارية ذاتها . هذا فقط ما أستطيع فعله لتشريف الاسم . وهنا بالضبط وصلت إلى موضع سؤالك .

ولهذا فإني حينما أقرأ (أنه تم توبيخي لأني لم أكتب باسمي ) ، يكون شعوري بالواجب هو الإمضاء الحقيقي ، بمعنى أني أشعر بالأمانة للآخر .  أنا أمامهم بالضبط مثلما أنا أمام القانون ؛ الآخرون هم القانون لأنهم أمامي . وقبول الهبة هو إمضاء حقيقي . هذه هي البنية الطيفية بالمرة .

لا أعرف ما سيحدث لإسم دريدا بعد هذه المقابلة معك . سأحاول البقاء على قيد الحياة . إن فكرة الشعور بالمسؤولية تبدو ملغزة تماماً بالنسبة لي ولا أستطيع فض مغاليقها الآن هاهنا .  أولاً ، إن اسم العلم ( الذي لا يخص أي أحد ) يسميّ مسؤولية ما ؛ لاسم الآخر وللآخر . الاستقلالية ، التبعية . لغز المسؤولية يكمن في هذه المعضلة تحديداً : أن تكون قابلاً للتطبيق .

إن كان قرار ما هو المستحيل ، فلابد أنه سيحدث على شكل سلبية مؤكدة . وهذا لا يبرئني أو يعفيني على الإطلاق . لقد تم استدعائي للمؤتمر ، وتلقيت توصية به ، من شخص ليس حاضراً الآن . طاعة الموتى هي المشكلة . لا شك في أن المسؤولية المحدودة هي لا مسؤولة . لكي تكون المسؤولية مسؤولة ، عليك أن تحاول معرفة الأقصى وأن تسعى لما وراء الحد . ينبغي أن تصل اللاتناهي ، إلى ما وراء اليقين النظري . أنا سعيد جداً بوجود مؤتمر عن التفكيك . فقد تناهى إلى مسمعي أنه آخذ بالتضاؤل ، وبأنه يحتضر منذ ثلاثين عاماً . دعوني أخبركم بالحقيقة : مات التفكيك . إن كان ثمة اختلاف بين التفكيك وأية موضة أخرى أو حقل معرفي أو غيره ، فهو أن التفكيك مات .


الروائي شاكر الانباري.. المنفى وما بعده

بشار الشداد الحياوي

عاش الروائي المبدع شاكر الانباري غريباً منفياً خارج محيطه اللغوي والمكاني، منذ غادر العراق عام 1979 ليعيش في الدنمارك وبريطانيا حتى استقر اخيراً في سوريا، بسبب ملاحقة النظام السابق للادباء والكتاب التقدميين.

بدأ الانباري بكتابة القصة القصيرة ونشر في مجلة "الطليعة الادبية" لكن القصة القصيرة سرعان ما اصبحت لا تلبي طموحاته ولا تستوفي ما يريد قوله، فكتب الرواية واصدر مجموعة من الروايات منها: "كتاب الياسمين" و"ليالي الكاكا" و"الراقصة".. وغيرها.

تحدث شاكر الانباري عن تجربته في المنفى في ندوة خصصت له في المركز السويسري في بغداد يوم 10 /10 /2004.

كان حديثه عن تجربته في المنفى حديث الانسان والاديب الذي ما زال يحس بثقل الاغتراب واثره الكبير في نفسه وخياله وتفكيره رغم وجوده الان في بلده وبين اهله.

فهو -كما بدا من حديثه- لا يستطيع ان يضع حداً لاغترابه ولا يستطيع كما يقول اهل الفلسفة: "التخارج" بمعنى ان يخرج من محنته على نحوسليم، انه يعيش في ازمة، وهو افضل من يعرف ابعاد هذه الازمة، الا انه لا يستطيع التخلص منها انها ازمة المنفى وما بعد المنفى.

انه ضياع من عاش محنة الاغتراب ومعاناة المنفى، وحينما عاد إلى وطنه وجد نفسه محاطاً بآثار النظام الدكتاتوري والاحتلال ووطأته والارهاب ودمويته.

لذلك نجد شاكر الانباري، الروائي والاديب، الذي كان غزير الانتاج في غربته ومنفاه، والذي ما كاد ينتهي من كتابة نص حتى يبدأ بالكتابة من جديد، نجده بعد عودته إلى العراق ومنذ اكثر من عام قد توقف عن الكتابة تماماً والسبب -كما ذكرنا- غربته الطويلة وعودته لبلده الجريح والاوضاع غير الطبيعية فيه، جعلته يواجه صعوبة باستعادة وضعه الطبيعي.

حديث شاكر عن المنفى، هو حديث الاديب الذي لا يزال المنفى مؤثراً في ذاته الجريحة، وهو اليوم في وطنه وقد تأزمت جراحه فهو كتلة من الهموم والاحزان التي تتحرك بصمت وذهول.

واتوقع لو ان شاكر مسك القلم  وبدأ في الكتابة سوف يجد واقعاً تحت تأثير هوس الماضي الذي -كما اعتقد- هو الشيء الوحيد الجميل الذي يعيش في ذاكرته الان، وهو لا يرغب في ذلك، لان الماضي لم يعد له وجود..

لقد عاد شاكر فبحث عن الشواهد والرموز التي تركها واحتفظ بصورتها المطلقة لديه ساعة خروجه من الوطن، فلم يجدها كما كانت لقد طالتها يد التخريب والتدمير، ثم بحث عن احلامه التي رافقت اجفانه في المنفى، عن الوطن الجديد، فوجدها سراباً.

لقد قدم المنفى لشاكر خدمة كبيرة، ووجد لنفسه مجالاً اوسع، فالكاتب، في المنفى، يكتب النص بلا رقابة رسمية او رقابة اجتماعية، قدم له المنفى الحرية المطلقة في الكتابة والتفكير والحديث.

ويبقى لشاكر الانباري ذلك الموقف الوطني، مسجلاً له في سيرته الذاتية والادبية،  حينما عاد لوطنه ولأهله حاملاً همّ الغربة وهموم الوطن، ففي الوقت الذي ما زال عدد كبير من الادباء والمثقفين لا يجدون مبرراً للعودة إلى وطن لم يتعافَ بعد ان عاد شاكر الانباري إلى الاحضان الدافئة والنهارات والليالي البغدادية الجميلة، برغم كل شيء ليبدأ من جديد كاتباً روائياً يكتب عن هذا الزمن والزمن القادم.

 

 


 

الحُرّية

محمد سعدون السباهي

كانوا قد فتحوا امام طيرانه القصير، الواهن، ابواب غرف البيت الواسع، حتى ان آخر الغرف المخصصة لخزن المؤونة، صارت متصلة بغرفة المطبخ، عبر صالة الضيوف، ولان عائلة البيت ليست اكثر من امرأة في الستين من عمرها ورجل في مثل سنها، او اكثر قليلاً، وولدها الشاب العازب، فقد احاطوا طائر البلبل الصغير بالرعاية التي لا يمكن ان يمنحوها الا لطفل وسيم..

المرأة العجوز راحت تملأ فراغات البيت بنباتات الظل لتوهمه انما هو يعيش وسط حديقة حقيقية، ومن جانبه اخذ الشيخ يمضي نهاره وهو يتسلى بوضع عدد من الصحون الصغيرة، على الكراسي، والطبلات وفي كل مكان من شأنه ان يغري الطائر العزيز منها، وذلك بعد ان  يملأها ببذور السمسم، وجريش البرغل، واكواب طافحة بالماء..

أما الشاب فقد عمد إلى دق مجموعة من المسامير في الزوايا، ومن ثم ايصالها ببعضها بخيوط رفيعة، صمغ عليها اوراق ملونه لها اشكال ازهار مورقة، وثمار يانعة، بل انه طرد في قسوة قطة الدار حين حاولت ذات مرة افتراس الطائر المدلل بدافع من الغيرة، اكثر مما هو دافع الجوع، او العداء الغريزي.

ليت الامر انتهى عند هذا الحد، اذ تطورت رعايتهم، واهتمامهم بسلامة الطائر، لدرجة قاموا بأبعاد كل ما من شأنه ان يلحق الاذى، او يسبب الضرر به، اذ اتفقوا جميعاً، وهم يضحكون في سرور حقيقي، على عدم تشغيل المراوح على كثرتها في البيت العتيد على الرغم من ان الصيف لذلك العام، كان أكداساً من الفلفل الاحمر!

والزمت العجور نفسها بعدم مغادرة المطبخ ساعة اعداد الطعام خيفة ان يهوي الطائر على مشاعل الطباخ فيتلف قسم من ريشه... كذلك رفعوا المرايا الاثرية من الجدران، ودثروا بالشراشف المشجرة، مرايا خزانات الملابس، وكل ما من شأنه ان يعكس صورة الطائر تحسباً من مغبة ارتطامه بها... واستدعوا نجار المحلة الذي قام بنصب بابين من النسيج السلكي، امام البابين المطلين على الحديقتين، الخلفية والامامية من البيت، وزود كل منهما بنابض ارجاع ذاتي، يمنع الطائر من التسلل إلى الخارج، في ما لو عنّ لاحدهم فتح الباب لسبب ما، كتغيير هواء البيت مثلاً..

العجوزان تسامحا للفكرة التي راودت ابنهما، على قسوتها، والمتمثلة برفع صورة  زواجهما الملونة بالاصباغ المائية، التي مضى عليها، اكثر من اربعين عاماً، وهي في مكانها تزين الصالة باطارها الصقيل المزجج، وتظهرهما شابين في ميع الصبا، وقد تأبط كل منهما، بحياء زيجات الخمسينيات من القرن المنصرم ذراع الآخر، والتي كثيراً ما كانا يحدقان بها، مستعيدين بلوعة حارقة، اياماً أمست لبعدها، ماضياً كأنه يعود لغيرهما، او دعاها، بغصة قلب دفينة، في واحد من درج خزانة الملابس المعمولة من خشب الصاج اللماع، اذ  تعثر الطائر بها ذات مرة، لحظة كان يرفرف بنعومة، مالئاً الصالة الهامدة، بتغاريده الصباحية المرحة.

الشيخان، الناسيان المنسيان من الاقارب والاصدقاء، ما ان يغادرهما ابنهما إلى مقر عمله، حتى يشرعان بممارسة طقسهما اليومي المثير، اذ يجلسان مثل شخصين غريبين القت بهما المصادفة، بعد ان حطم إعصار الايام العاتي، زورقيهما مهددين بالعمى، او الصمم او الشلل النصفي، على جرف، هو عبارة عن سجادة زرقاء، في بيت دافئ، وآمن ولا يشكو العوز، وقد بسطا راحتيهما، بجلدها المتغضن، محاولين كل حسب اجتهاده، جذب انتباه (الطائر البرجوازي!) ويكون هو في معظم الاوقات، يقف بعيداً، غير آبه لأفعال عجوزين مضحكين، اصابهما الخوف، وان ظل في آخر الشوط يستجيب، بعد ان يكون قد رأى، كيف هدهما الإرهاق، من جراء المناداة عليه، والتوسل والاغراء، كلاما او تلويحاً براحات مبسوطة مرتعشة محملة بصحون الطعام، يعرف انها بمثابة رشوة الغاية منها إغوائه، فيحيط على راحة احدهما هكذا من دون مفاضلة!.. غير انه اليوم على غير عادته راقد كالحصاة في مكان بعيد، وقد دفع برأسه تحت جناحه!..

"أظنه مريضاً!"

تسائل العجوز ملتاعاً ونهض يتفقده، لكن الطائر حلّق مبتعداً، وحط على مكان لا يمكن لأي منهما الوصول اليه، فانتابتهما الحيرة، وحدقا ببعضهما مندهشين.

الطائر رأى يوم امس، من مكانه الاثير في المطبخ، رأى خلف النسيج السلكي، طائراً من جنسه، ظل سحابة ذلك النهار، يحوم خارج المنزل، ويعود ليقف قبالته، يصوت باتجاهه بنبرات عالية، فيها غضب، وفيها عتب، وفيها توبيخ!

"الله خلقك طائراً، فمتى تفهم!؟"

ولعله اسمعه كلاماً اكثر قسوة، وكان طائر البيت، من جانبه، يرد عليه احياناً بنبرات الطائر المدجن: المستحية، والمترددة، والمنكسرة..

الطائر الغريب يبدو اشعث مغبراً، بهيئة فنان صعلوك لا يأبه لما تعارف عليه القوم، يضلع على ساق واحدة، من يراه يجزم انه يعيش حياة صعبة، محاطة بالاخطار، لكن من جانب آخر، فأن العين لا تخطئ رشاقته، وتغريده الرنان، وطيرانه.

الراقص من شجرة إلى شجرة اخرى من بساتين الرب الواسعة، قياساً إلى طائر الدار الذي يرف بطيرانه المرتبك لفرط سمنته، والمحكوم بحيز صغير مسيج بالجدران الصماء، ومزين بالنباتات الكاذبة، وان لسانة، هويته الربانية العظمى، يدور، هو الآخر داخل فمه مثل خرقة، يابساً، شبه مشلول!

في اليوم التالي استيقظوا، وكعادتهم تسابقوا من فورهم لتفقد شؤون الطائر الحبيب، فلم يقفوا له على اثر، وعبثاً كان بحثهم الطويل والمتشعب عنه! فجلسوا ذات الجلسات الطويلة القلقة، كـأنهم في مأتم موثوقين على كراسيهم التي تضعضعت لكثرة ما جلسوا عليها، مثل دمى مطاطية،  يتأوهون، ويسعلون، ويرفون بعيون شاخصة، وقد زايلهم المرح، في رجاء مستحيل، نحو اغصان اشجار الدار الصامتة.

 

 

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة