الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

 

أيقونة رافدينية التنظير وغريزة زيارة المتحف

أجرت الحوار : خالدة حامد

هناء مال الله فنانة تشكيلية تحمل دبلوم كرافيك من معهد الفنون الجميلة، وبكالوريوس ثم ماجستير رسم من كلية الفنون الجميلة، وتحضر للدكتوراه الآن . رئيسة فرع الكرافيك في معهد الفنون الجميلة وتحاضر في كلية الفنون الجميلة، فرع الكرافيك.‏

شاركت في معارض كثيرة؛ شخصية وجماعية في بغداد وعمان وتونس وباريس ولندن. وحازت جوائز عدة كان من بينها:‏ جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( 84ـ1985) وجائزة الرسم الأولى بمهرجان الواسطي الثامن وجائزة الرسم الأولى شهادة تقديرية من نقابة الفنانين‏(1991 ) وجائزة تقديرية / قاعة عين / بغداد (1993) ، وجوائز تقديرية أخرى .

يمكن البدء بتعريفها بأنها فنانة تنشد المغامرة الفنية بغيّة الوصول إلى آفاق الاكتشاف. يتعرف المشاهد في لوحاتها على الأثر التحديثي الذي تزاوج فيه بين ذخيرتها النظرية ورغبتها التطبيقية بالتجريب. لهذا نراها اختطت مسارها الخاص في الفضاء التشكيلي العراقي لتحقيق تجربة أصيلة تستدعي الإعجاب. ولما كان المتحف يشكل نبعاً متجدِّداً ، نجد أن هناء مال الله كانت من الذين نهلوا منه في إغناء تجربتها. وفي تأكيدنا هذا، لا نعتمد فقط على وصف هناء لتجربتها بأنها تكمن في التساؤل المفتوح، بل على مسارها الممتلئ بالتجريب وتساؤلها عن مشروعية التجريب على مستوى الأساليب والتقنيات والمفاهيم لإنجاز عمل فني متميز.‏

يقول عنها الفنان التشكيلي الكبير شاكر حسن آل سعيد أنها رسامة ومُنظِّرة ، في الوقت نفسه ، تبلغ من رؤيتها الفنية مبلغها من تقنيتها وأسلوبها وتعبيرها على نحو تسعى فيه إلى إشباع تجربتها تقويماً وغنّى، منطلقة من ثقتها . وما محاولاتها لارتياد المتحف إلى جانب معايشتها الواقع البيئوي في المدينة سوى نوع من الاعتكاف الفكري في داخل (اللقية) و(الشريحة) على حد سواء.‏

وجدير بالذكر أن النظام السابق أوصد أبواب المتحف العراقي للآثار بوجه الزائرين منذ عام 1991 ولم يعاد فتحه إلا في 30 تموز 2000 ، بدعوى الحفاظ عليه وسلامته أمنياً . وأعيد غلق أبوابه من جديد بداية عام 2003 استعداداً للحرب ليتعرض بعدها إلى السرقة والتخريب . وفي المرتين اللتين تم فيهما تغييب المتحف وحجبه عن رواده ، نلحظ أن الفنان العراقي كان يخزن الإرث الرافديني للمتحف في ذاكرته ؛ من مشاهداته المتكررة له ، ليعيد إنتاجه من جديد . ومن هنا ـ من المتحف العراقي للآثار ـ تبدأ رحلة الحوار مع الفنانة هناء مال الله...‏

ـ هل تعدين ما موجود فيه من لقى وآثار ونصوص وتماثيل منافذ يمكن الاستلام منها، ومن الخروج بطروحات فنية جمالية تحقق للعمل، المستند إليها تراكمياً، نوعاً من المعاصرة؛ نوع يمكن أن يوازي الإنجاز الحضاري للآخر)الغرب)، ويحقق خصوصية بمعنى هوية رافدينية (عراقية) للعمل الفني.

من الممكن طرح السؤال بصيغة أخرى:

هل يمكن أن يشكل ما موجود في المتحف، صلابة معينة لأرضية الإرث التشكيلي الرخوة بسبب الانقطاع والاعتماد على ما حققه الغرب (أوروبا على وجه الخصوص) من تراكم لمراحل الفن التشكيلي عبر قرون؟‏

:  إن الأطر التي حطمتها الطروحات الفنية الحديثة، في الغرب، جعلت منطقة الفن والقيم الجمالية مفتوحة ومرنة وقابلة للاستيعاب والتغيير. وبالنسبة لي كان الذهاب إلى المتحف لا يهدف إلى رؤية لقى أثرية، بل إلى مشاهدة أعمال فنية معاصرة وحديثة أستند إليها في معالجتي الفنية، وهي تخصني إلى الدرجة التي من الممكن فيها صياغة هويتي الفنية، وتحدد لي مسارات فنية، تضاهي ما موجود في الغرب. إن استدارتي القوية إلى المتحف قد تكون، في أحد جوانبها، راجعة لعزلتي عن الآخر. وقد تكون في الجانب الآخر بسبب من وعي قلق الاستلاب وعقدة النقص في الإنجاز الفني إزاء إنجاز (الآخر) الذي لديه عقدة التفوق. وقد يكون في جانب منها لتقوية الأرضية التي تكون مؤهلة لانطلاق حقيقي وصادق بالنسبة لنا (كجيل فني). وقد يكون فيها الشيء الكثير من أن الإنتاج يخصني حضارياً بشكل محدد، فضلاً عن أنني تلقيت آثار المتحف العراقي وعبرتها الزمنية كأعمال فنية توازي، إن لم نقل تفوق، أغلب الإنجازات الفنية الغربية الحديثة. كما أنها إنتاج بكر كان سؤاله الوجودي جوهري ونقي قبل أن يشوه بتراكمات معرفية فقيرة أو مهزوزة. هذا كله يعمل بجانب، وهناك جانب الخطوط الخفية المحيرة والسرية التي تربطني بالمتحف بكل محتوياته، القاعة السورية على وجه الخصوص (وقاعات اللقى ما قبل الكتابية المحايثة لها)، والتي لا أعرف سببها، والتي تجعلني أنفض حياتي الحاضرة مع المتحف وأنصص المتحف على حياتي خارجه سواء في الشاعر أو في المحيط الذي أعيش.‏

ـ هل كان للعزلة بسبب الحصار وما رافقه ، وعزلة هذا الجيل بسبب الحربين، في صالح إنجازك والإنجاز الفني لجيلك. بمعنى آخر، هل أن درجة معينة من التواصل ممكنة لتحقيق التحفيز وتحقيق الهوية أفضل من اتصال مفتوح المديات مع الآخر يحقق نوع من الاستلاب، أم العكس؟ وإذا شئت توضيح السؤال أكثر أقول: هل من الممكن إنجاز فن تشكيلي متقدم حضارياً وله خصوصية وتكون إحدى شروطه العزلة الحضارية.‏

: ذكرت أن الاستدارة الحادة إلى إرثنا الحضاري، كانت في إحدى نقاطها الكثيرة تنطلق من العزلة المفروضة، ومن الممكن المشابهة بين العزلة الفردية والعزلة الأكبر الحضارية. فدرجة معينة من العزلة الفردية لابد منها للفنان لتكثيف إبداعه، وعدم بعثرته وتشتته بسبب الاتصال الزائد. كما أن درجة معينة من التواصل الحضاري، تحفظ المسارات الفنية وتكثيفها إنتاج هوية فنية واضحة بحضارة ما، لابد أن تكون إحدى شروطها نوع من العزلة. هذا هو بالضبط درس الفن الحديث، وإلا بماذا نسمي انبهار الغرب بالفن البدائي الإفريقي؟ أو بالفنون البكر الأولى لحضارات أولى مثل حضارة وادي الرافدين وحضارة وادي النيل؟ الدرس الأكبر هو أن يستلهم الفن الغربي مدارس فنية وحركات وإنجازات وطروحات جمالية من فن يعده بدائياً، مثل الفن الإفريقي، وهو أنجز ما أنجز في فترة حضارية كان فيها مغلقاً على نفسه تماماً، ويعيش عزلته. هنا يظهر الفرق واضحاً بين ما نعنيه بالتقدم الحضاري ـ الذي يشكل الفن التشكيلي أحد مستوياته ـ وبين التقدم التكنولوجي.‏

ـ ما دور المؤسسة في تحفيز وإقامة أرضيات ثقافية راسخة للإنجاز الفني التشكيلي في العراق، وهل تعتقدين أن دور المؤسسة مهم لإنجاز تراكم حضاري حقيقي في العراق؟ وهل الإنجاز وفق الاجتهاد الفردي ـ والذي هو سائد الآن ـ يبقى قاصراً مهما حقق من تقدم؟‏

: إن بناء مؤسسة ثقافية تسير وفق خطة حضارية واضحة وتؤدي دورها وفق شروط ثقافية وحضارية راسخة هو من سمات التقدم الحضاري لمجتمع ما. ونحن نفتقد لهذه المؤسسات الحقيقية الإنجاز على المستوى الإبداعي. ولا زال شرط الفردية هو ما يضمن للإنجاز الفني استمراره؛ أي كونه نشاطاً فردياً، خارج على نظام أي مؤسسة، وبه يصبح الطريق وعراً وشاقاً، لكثرة الثغرات التي توجدها العناصر الدعية، والمتطفلة. وما يتوضح الآن هو أن الإنجاز الحضاري يحتاج إلى طواقم عاملة لكي تنجز ما تنجزه، حتى في حالة أشد الإنجازات فردية وذاتية مثل إنتاج اللوحة، بمعنى أن قاعات العرض التي تلتزم الفنان نقدياً وتسويقياً مفقودة لدينا تماماً. كما أن المؤسسة النقدية التي تروج وتمهد لتيار فني أو لتيارات فنية غائبة وهزيلة.‏

ـ ما دور النقد، وهل تعتقدين أن هناك نقداً احترافياً يؤدي دوره الآن في العراق؟ وما قيمة التنظير الذي قمت به، والذي جاء مواكباً لأعمالك وأعمال زملائك الفنانين؟ وهل تعتقدين بتنافذ هذا التنظير مع عملك الفني، أي هل هو مهم كذلك لكل فنان، أم أن العكس صحيح، بمعنى أنه يؤدي دوراً يثقل العمل بالطروحات النظرية؟‏

: بهذا السؤال تحضرني مقولة (إليوت) بان شرط الناقد الحقيقي أن يكون ذا موهبة إبداعية في الفن الذي ينقده، بمعنى أن ناقد الشعر يجب أن يكون شاعراً حقيقياً ذا موهبة كبيرة وليست عادية أو مزيفة. أي أن مقولة "الناقد الناجح شاعر فاشل" هي مقولة بائسة وميتة وعقيمة. وهنا يكون شرط ناقد الفن التشكيلي (الرسم على وجه الخصوص) رساماً كبيراً، وضرورة أن يستند نقده إلى خلفية تنظيرية واسعة، وأن يكون ذا فكر مرن ويتمتع باطلاع فكري واسع، وله حساسية تمس العصر الذي يعيشه في كل نقاطه، بالإضافة إلى نقاط التجاوز. وهناك عدة مستويات لابد من تطابقها لكي تتحقق شخصية ناقد الفن التشكيلي المحترف، ولكي يصبح من ممكنات فكره هو استشراف ما سيتحقق والتمهيد له فكرياً وذوقياً، فهل هذا الشخص موجود ضمن رعيل نقاد العراق؟

أما بصدد سؤالك عن التنظير أقول أن التنظير مهم للفنان التشكيلي؛ فنتاج شاكر حسن آل سعيد التنظيري أضاء مساحة واسعة من نتاجه ونتاج الأجيال التي عاصرته. وفي الغرب نجد نتاج (كاندنسكي) مثلاً (وبول كلي) قد أسس وأضاء مفاهيم مهمة في التيارات الفنية التي عملا ضمنها وأوجدا تنظيراً لمعالجتها الفنية كان من الصعب جداً أن يكتشفها ناقد الفن الذي يتمتع بالمستوى النظري

حسب في تلقي العمل دون المستوى العملي. وعليه، أنا أرى العكس؛ ففائض الوعي التنظيري يرتفع بالعمل إلى مستوى يجعله أهلاً لأن تطلق عليه تسمية أو صفة "العمل الإبداعي".‏

 


الخطوط الحمر في أدب الأطفال

(القسم الثاني)

جليل خزعل

"أطفالنا لم يعودوا أبرياء"

كامي 1973

ثمة موضوعات محرجة ومحظورة في أدب الأطفال اتفق كتاب العصر الذهبي لأدب الأطفال على تجنبها وعدم الخوض فيها. لكن كتاب اليوم أخذوا يتناولونها باستمرار في أعمالهم. ومن المدهش أن انتهاك هذه المحظورات كان له أثر كبير في شهرة وانتشار الأعمال التي تناولتها.

ومن هذه الموضوعات، موضوعة "الموت". ففي حياة الأطفال ثمة أمور على الرغم من كونها شائعة ومألوفة، لكنها تربك الأطفال، وتشوش أذهانهم. لقد تناولنا في القسم الأول موضوعة "الجنس"... واليوم سنتناول موضوعة "الموت" وكيف تم التعامل معها في أدب الأطفال.

يركز الكثير من الكتاب على حل عقدة الطفل من موضوعة الموت من خلال موت حيوان عزيز على الطفل، كالقطة أو الكلب أو الحصان أحياناً، أو أي نوع من الطيور الأليفة التي يتعلق بها الطفل، وتنشأ بينهما علاقة حميمة.

كما في رواية "الشيء الصالح" للكاتبة جوديث فايروست التي عالجت الأمر، حين يعترف الطفل بأن حيوانه المفضل قد دفن في الأرض كي يساعد الأزهار على النمو.

ويركز بعضهم الآخر في الكتاب على وفاة قريب ما. وغالباً ما يكون هذا القريب هو الجد أو الجدة، كما هو الحال في رواية الكاتب تومي دي بولا التي تحمل عنوان "جدة فوق، جدة تحت" وكذلك في رواية "وداعاً جدي كنت أحبك" لنورما فوكس مايزر التي ترجمها إلى العربية هنري زغيب وصورت عن دار ثقافة الأطفال في بغداد عام 1989 أول مرة.

تتناول الرواية حياة جدٍّ مسن تهمله أسرته، وتعامله باستخفاف وسخرية، باستثناء حفيدته "جيني". وحين يقرر الجد العودة إلى قريته التي ولد فيها، تقرر الحفيدة أن تذهب إليه من دون علم الأسرة. وهناك تقضي معه أوقاتاً سعيدة في القرية. لكن في أحد الصباحات، تستيقظ الطفلة "جيني" ولا تجد جدها قربها، فتخرج للبحث عنه في الحقل فتجده نائماً قرب شجرة التفاح. فتقف مستغربة.

كيف ينام هكذا على أرض رطبة ومنجمدة؟

وهرعت إليه خائفة. كان نائماً على خاصرته، حافياً مفتوح الفم كما في قيلولته. تقدمت منه، قلبها يدق من الذعر ونادت من جديد: جدي.. هل تنام؟

إنحنت عليه، لمست وجهه، وذعرت أكثر، فنادته صارخة وهي تهزه بكل قوة: جدي، جدي أرجوك أجبني. قل كلمة واحدة. وارتمت عليه صارخة مفجوعة: لا، لا، لا.

كان جسد العجوز بارداً، خرجت منه الحياة.

بعد لحظات صمت، تمتمت: وداعاً جدي.. كنت أحبك. وطبعت على خده الخشن المثلج قبلة أخيرة. وتوجهت صوب القرية.

أما الكاتبة كاثرين باترسون فقد جذبت القراء في روايتها الرائعة "جسر إلى تريبثيا" التي تتحدث عن فتى قصير يدعى "جيس" يبلغ من العمر إحدى عشرة سنة يتعرض لسخرية والده الجاهل حين يعبر عن رغبته في الرسم، أو حين يخبره برغبته في أن يصبح عدّاءً مشهوراً. تنشأ بينه وبين الطفلة "ليسلي" صداقة حميمة. تتحدث الرواية باسهاب عن هذه الصداقة، حيث تنسج الطفلة "ليسلي" لهما عالماً خيالياً يحكمانه كملك وملكة، إلا أن موت "ليسلي" قضاءً وقدراً في مكان مجهول. إختاراه ليكون المكان المقترح لمملكتها يهز الطفل "جيس". لكنه يتعلم كيف يبني جسراً بين عالمه الخيالي وعالمه الواقعي، ليقبل مخاوفه ويدرك قواه، فكان للموت تأثير قوي في حياته "كان يفكر فيها طول الوقت. يفكر في حياته كيف كانت قبل أن تشرق فيها شمس "ليسلي". كان مجرد صبي، غبي، نزق يقضي يومه في رسم الصور الساخرة ومطاردة الأبقار، ليوهم نفسه بأنه قادر على القيام بعمل كبير يستطيع من خلاله أن ينتصر على مخاوفه الصغيرة التي كانت تضطرب في داخله. كانت "ليسلي" هي التي أخذته من مرعى البقر وحولته إلى ملك وقد حان الوقت لكي يتحرك بمفرده، فلم تعد "ليسلي" موجودة لتأخذه إلى عالمها الخيالي".

لذا يجب عليه الآن أن يتحرك من أجلهما. وعليه أن يوفي هذا العالم ما أسلفته له "ليسلي" من خيال وقوة.

كان يتحدث بهذه الكلمات التي استعارها من صديقته "ليسلي" "كان يجب أن تطرد مخاوفك وتتركها خلفك. كان يجب ان تقف على قدميك بثبات ولا تجعل هذه المخاوف تمارس ضغطها المستمر عليك. أنت محقة يا "ليسلي" النقية. أليس كذلك؟ نعم أنت على صواب"

كان موت "ليسلي" ينطوي على نفحات قربانية، كانت تضحيتها أكبر من الحياة، كانت شبيهة بعض الشيء بتضحيات المسيح وقد يحار المرء، فيما إذا كانت بحاجة إلى هذا الموت حقاً لكي يحدث التغيير المطلوب في حياة "جيس".

ومن الروايات المهمة التي عالجت موضوعة "الموت" رواية "صيف العجوز" تأليف هادلي أرون (اسم شهرة لكاتبين هما لي هادلي وآنبل آرون) الصادرة عام 1979.

تتحدث هذه الرواية عن صداقة تنشأ بين فتاة في الثانية عشرة من العمر وامرأة عجوز تبلغ الخامسة والسبعين تقضيان فصل الصيف معاً.

هذه الرواية تربط مرحلة الشيخوخة بمرحلة الفتوة، وتعد الجيل الوسط عدوهما المشترك. كونه غارقاً بالهموم والمشاغل. أو كما تقول العجوز للصغيرة:

"إنهم يعتقدون معرفة الأشياء أفضل منا، أنا وأنت معرضتان للأذى كما تعلمين. أنت لأنك صغيرة، وأنا لأني عجوز".

تظهر هذه الرواية وجه الشيخوخة، حيث الأوردة المزرقة النحيفة. والتجاعيد الكثيرة، والشعر الأبيض وتبين أن القوة ضرورية للكبار كي يقاوموا شيخوختهم، ويتحملوا الإهمال والضعف الجسدي، ومحافظوا على كرامتهم ويصمدوا أمام المصاعب الاقتصادية والخنوع.

وفي نهاية الرواية يشعر القارئ بالراحة، عندما تموت المرأة العجوز في بيتها الخاص وكما أرادت.

وعلى الصعيد المحلي كتبت في نهاية العقد الثمانيني من القرن الماضي قصة بعنوان "الغيمة الوردية" تتحدث عن طفل تموت أمه ويتزوج والده من امرأة ثانية. فيشعر الطفل بالحزن والألم. يلاحظ معلمه حزنه ويحاول ان يساعده ويهون الأمر عليه، فتبدأ أمه تزوره في الأحلام على شكل غيمة وردية اللون، فيعرف أنها تنعم بالراحة والسعادة في العالم الآخر. وقد رفض الرقيب في دار ثقافة الأطفال نشر هذه القصة، لكنه سمح بنشر قصة مماثلة للكاتب فاروق يوسف عنوانها "دموع ندى" يتحدث فيها عن طفلة يقتل والدها الجندي في الحرب العراقية - الإيرانية، ولكنه يبقى يزورها في الأحلام. وصدرت في كتاب أنيق وطباعة فاخرة كونها من الأعمال "التعبوية" كما اصطلح عليها في ذلك الوقت.


جينات الإبداع

جمعة الحلفي

كم ابتذلت عبارة موهبة، أو عبارة مبدع، لكن، مع ذلك، لا تزال هي العبارة الوحيدة التي يمكن أن نعول عليها في تمييز المبدع الحقيقي عن غيره من الكتاب. وعلى الرغم من افتقادنا للمقاييس الصارمة في هذا الميدان، بسبب فوضى النقد ومجانية النشر والترويج الدعائي، بيد أن المرء يمكنه، في النهاية، أن يطمئن إلى حكم الزمن، إذ من شأن الزمن أن يقول كلمته الفصل في الأثر الإبداعي، سلباً أو إيجاباً، فليس من قبيل المصادفة أن يحيا، ويتعاصر معنا، قلة من المبدعين، فيما يذهب الكثيرون إلى الماضي من توهم، مثلما هو ليس من قبيل المصادقة أن يبقى إبداعهم حاضراً وفاعلاً، طوال عقود من السنين، بعد رحيلهم، في حين يكون الزمن قد جرف العشرات والمئات ممن عاصروهم، كما تجرف تيارات الماء، الزبد الطافح نحو حواف الشواطئ.

لقد كرست معايير الإبداع الجمالية، على مر التاريخ، حقيقة أن هناك، من المبدعين، من يتحول تراب الكلمات بين أيديهم، إلى سبائك من ذهب المعنى، فيما هناك من يحاول معالجة الكلمات ذاتها، فلا يسفر عنها سوى غبار الصنعة. وبين أولئك وهؤلاء فروقات لا ترى بالعين المجردة. فصناع الإبداع الحقيقي يتمتعون بجينات وراثية تمتد بهم إلى نسغ الأزهار ومنابع المياه العذبة، وأشجار اللوز وغابات الحكمة ومكابدات العشاق الأوائل. إنهم، باختصار، يشبهون أولئك الذين يغربلون مياه الأنهر، النازلة من جبال الألماس بحثاً عن ذرات الذهب في ذلك الرماد الليلكي الوهاج، فيما تتوقف سلالة مدعي الإبداع والطارئين عليه، عند مواهب مهرجي السيرك وندل الاحتفالات المبتذلة ومزوري الحقائق ومتصيدي الفضائح وكتاب الأبراح والكلمات المتقاطعة.

وكما هو حال المبدع الحقيقي، في تميزه ورسوخ منتجه الإبداعي، كذلك هو حال الثقافة، فالثقافة الحقيقية ليست تسطير نظريات فارغة وابتداع مصطلحات غامضة، بل هي حامل الإرث الإبداعي والحضاري لأية أمة، أو جماعة بشرية. وليست هي ثقافة التطرف والظلامية والاستبداد، والاستعلاء على الآخر، بل هي تلك التي تعيد إنتاج كل ما هو معرفي وتنويري وصادق وخلاق. ولا هي حاضنة لإنتاج الخواء والترهات، بل هي تلك التي يراهن عليها الإنسان في بحثه الدؤوب عن الإجابات وعن الحلول وعن التغيير وعن الإدهاش والإغناء، فمن دون هذه الشروط ستغدو الثقافة ضرباً من ضروب الإعماء والتخلف والإعاقة، وتلك خالدة خلود الأمل، والإنسان محكوم بالأمل دوماً، وهذه عارضة وعابرة كزبد البحر مهما تأبدت.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة