المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الكينونة والسلطة : هيدغر وفوكو

هيوبرت ل. دريفوس

ترجمة : خالدة حامد

في صميم فكر هيدغر يكمن مفهوم " الكينونة " ، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن مفهوم " السلطة " في كتابات فوكو . تاريخ الكينونة يمنح هيدغر منظوراً يمكن الانطلاق منه لفهم الكيفية التي تحولت بها الأشياء في عالمنا الحديث إلى موضوعات . وبالضبط مثلما أن هيدغر يقدم تاريخ الكينونة الذي يتوج في الفهم التكنولوجي للكينونة لغرض مساعدتنا على فهم وتجاوز طريقتنا الراهنة في التعامل مع الأشياء بوصفها موضوعات أو مصادر ، يحلل فوكو الكثير من نظم السلطة التي تتوج في السلطة البايولوجية الحديثة لغرض مساعدتنا على تحرير أنفسنا من فهم أنفسنا بصفة ذوات .

توحي مثل هذه التوازيات العامة باحتمال وضوح رؤية المدى الذي يمكن فيه دفع مقارنة " كينونة " هيدغر بـ " سلطة " فوكو . فهل يشير هذان المصطلحان إلى وظيفتين متماثلتين ؟ وهل أن حقب هيدغر في تاريخ الكينونة تضاهي نظم فوكو في جينالوجيا السلطة ؟ وإلى أي حد يقود فيه هذا ان التأويلان لتاريخنا هذين المفكرين إلى نقد شرطنا الثقافي الراهن بطرق متشابهة ؟ ما الخطر الذي يراه كل واحد منهما ؟ كيف يعمد كل واحد منهما إلى التحريض على المقاومة ؟ وعلينا أن نتساءل ، قطعاً ، عمّا إذا كان هذان المفكران يختلفان في أية طرق مهمة .

بدءاً أقول أن دعم هيدغر للاشتراكية القومية وتوصيته لاحقاً بالسلبية السياسية تبدو معارضة تماماً لتركيز فوكو على الحرية الاجتماعية والفاعلية السياسية . ويتضح أن هيدغر متحفظ بعض الشيء ويبدو فوكو عند اليسار بوضوح . ولئلا يساء فهم الفرق المذهل بين هيدغر وفوكو فيما يخص المواقف السياسية ، علينا أن نتذكر تعليق فوكو على هيدغر في آخر مقابلة له :

"بالنسبة لي ، كان هيدغر الفيلسوف الأساس دائماً … فتطوري الفلسفي بأكمله متحدد بقراءتي لهيدغر ".

إن هذا التعليق الأخير الذي صدر عن فوكو قبل أن يقتنصه الموت وتركه ليقول الحقيقة حتى في باريس يجبرنا على أن نتساءل عن الكيفية التي تمكن بها فوكو ـ على الرغم من روحه السياسية المختلفة راديكالياً عن هيدغر ـ من التصريح ، وبطريقة مهمة ، بأنه يتبع هيدغر

من المهم أن ندرك أن الكينونة عند هيدغر ليست جوهراً أو سيرورة ، بل هي ، وكما ورد في كتاباته الأولى ، " الأساس الذي عليه يتم فهم الكينونات " . ويمكن للمرء القول أن فهم الكينونة هو أسلوب الحياة المتجلي بالطريقة التي يتم بها تنسيق الممارسات اليومية . ففهم الثقافة للكينونة يتيح للناس وللأشياء الظهور بصفة شيء ما ـ يظهر الناس بصفة أبطال في اليونان وبصفة أولياء صالحين في العصور الوسطى ، مثلاً ، في حين أن الأشياء كانت عند يونانييّ هوميروس تتبدى بطريقة تستحق الإعجاب ، وتتبدى عند المسيحيين بصفة مخلوقات لابد من إتقانها وتأويلها .

وعموماً ، فإن الممارسات المشتركة التي نتكيف معها تزودنا بفهم ضروري لما يفسر الأشياء ، ولما يفسر الأشياء الكائنات البشرية ، وما الذي يعطي فعل ما معناه ، وعلى أساس ذلك نتمكن من توجيه أفعالنا نحو أشياء معينة وأناس معينين . ولهذا يُولِّد فهم الكينونة ما يطلق عليه هيدغر تسمية " التوضيح " (Lichtung) . وهو يرى أن تاريخ الكينونة في الغرب كان تاريخاً لسوء فهم " التوضيح " . فمنذ أفلاطون فصاعداً ، شعر الفلاسفة بأن ثمة شيئاً يكمن ما وراء الكينونات الاعتيادية هو المسؤول عن وجودها بصفة شيء ما ، ولما كان التوضيح يبقى دائماً في الخلفية ـ أو ينسحب ، مثلما يقول هيدغر ـ فقد عمد الفلاسفة إلى استبداله بالكينونة الأسمى التي هي أساس الكينونات ومصدر لفهمها . ويرى أفلاطون أن هذه الكينونة الأسمى هي الخير ، وهي الناقل اللامنتقل عند أرسطو ، والرب عند المسيحيين لتصير الإنسان نفسه في عصر ما بعد الأنوار . يستدعي هيدغر هذه المحاولات كلها ليحل " كينونة الكينونات " ، أو اللاهوت الوجودي ، أو الميتافيزيقا محل التوضيح .

أما فوكو فيرى أن السلطة عانت من سوء فهم مماثل . ونجد ، عموماً ، أن من الممكن فهم الكثير من تعليقات فوكو الصعبة التي تتعلق بالسلطة إذا أدركنا أنه معني بالتوضيح الاجتماعي الذي يركز على الطريقة التي تتناسق بها ممارسات الأفراد والجماعات اليومية لتنتج وتديم وتعين ما يفكر به الناس وما يفعلونه وما يكونونه . و" سلطة " فوكو ، مثل " كينونة " هيدغر ، ليست كياناً أو مؤسسة ثابتة بل متجسد في الممارسات الاجتماعية التاريخية . فهو يقول " يحتاج المرء لأن يكون محدداً ؛ فالسلطة ليست مؤسسة ولا بنية ، ولا هي قوة معينة نحن موهوبون بها ، إنها الاسم الذي يعزوه المرء إلى موقف إستراتيجي معقد في مجتمع معين ". ينشأ هذا الموقف الإستراتيجي عن أفراد وجماعات معينة يعارض أحدها الآخر . وتؤدي هذه الأفعال ، التي يتم اتخاذها معاً ، إلى تدشين فضاء اجتماعي يتم فيه تعريف الناس والأشياء والحقيقة . والسلطة ـ مثل التوضيح ـ منتجة جداً ؛ إذ يخبرنا فوكو قائلاً : السلطة تنتج إنها تنتج الحقيقة " ، أي أنها تحدد معنى الاعتقاد والعمل . ويرى أن السلطة ، عكس العنف ، تسيطر على الأفعال مع أنها تتركها حرة برغم ذلك :

"السلطة لا تمارسها سوى الذوات الحرة ولا يتم لهم ذلك إلا بقدر ما كانوا أحراراً . وأعني بذلك الذوات الفردية أو الجماعية التي يواجهها حقل إمكانات يتوفر على العديد من الاحتمالات السلوكية والعديد من ردود الأفعال والتناقضات" .

وهو مثل هيدغر ، يتحدث عن هذه الطريقة اللاعنيفة في توجيه الفعل بصفة حُكم :

"السلطة بالدرجة الأساس مواجهة بين خصمين ، أو هي آصرة بين أحدهما الآخر لا قضية حُكُم ... أن تحكم ، ضمن هذا المعنى ، يعني أن تبني حقل الفعل الممكن للآخرين".

وإذا أردنا أن نعيد صياغة عبارات هيدغر فإن السلطة هي الأساس الذي بناءً عليه يتمكن البشر من فهم أحدهم الآخر . ولأن فوكو غير معنيّ بالكيفية التي تتبدى بها الأشياء ، بل يقصر اهتمامه على الناس ، لذا فإن السلطة التي تُستعمل عادة في وصف الطريقة التي تتحكم بها الحكومات بأفعال الناس تبدو هنا اسماً ملائماً ـ إن لم نقل مضلِلاً ـ لما يسيطر على طريقة فهم الناس لأنفسهم وللآخرين . وينبغي أن يكون معلوماً أن نوعاً ما من السلطة ضمن هذا المعنى الانطولوجي هو ضروري لأي مجتمع بقدر ضرورة وجود فهم معين لكينونته . بل يمكن لنا أن نعيد ما قاله فوكو من أن " مجتمعاً بلا علاقات سلطة لا يمكن أن يكون إلا وهماً " .


ثلوج من خيال مبكر ورقة من دفتر كردستان

عواد ناصر

كان الفصل شتويا بامتياز، فشتاء كردستان غير شتاء عربستان، وكلما توغلت شمالا اضطربت خطواتك على الصخر الثلجي واختل إيقاعك في بيئة خشنة، شبه عذراء، شبه خام، قياسا بما تداولناه من شوارع وعجلات ووسائل مواصلات واتصالات وسائر أعراض حضارة تركناها خلف ظهورنا بلا أمل. بيئة يندر أن تلتقط عيناك فيها شكلا هندسيا عدا القمر والبندقية.

أما أصياف كردستان فبديعة، خضراء، لكننا لسنا مصطافين ولا متزلجين على الثلوج، ثم أن الصيف أخطر علينا من الشتاء. طيارونا من نسور" القادسية" يفضلون القتل صيفا، والدم يتغير من الأحمر الى الأسود تحت أشعة القمر. تحولات الألوان الأكثر إثارة من ثباتها الواقعي. هذا شأن الطيران الليلي الحربي وليس طيران أنطوان دي سانت أكزوبري.

أما في النهار فكثيرا ما يشن" نسورنا البواسل" غاراتهم بطائرات الميغ التي سلبت البروليتاريا السوفيتية أحلى سنوات عمرها. غارات علنية في جولة صيد خفيفة ضد أهداف سهلة تتراكض، كالدجاج المذعور، الى غير اتجاه لحظة الغارة.

بعد انحسار الغارات صفنت على حجرين متجاورين لا يمرران دجاجة مذعورة لكنني مرقت من بينهما كالسهم المدهون.

تتعقد مهمة" نسورنا البواسل" دائما، وتفشل، ضد الإسرائيليين، حسب.

****

غارة جوية

جاءت الطائراتْ

عندما جاءت الطائراتْْ

مسني ساحر الحرب فارتعشت ركبتاي

مرت الطائراتْ

عندما مرت الطائرات مر خيط من  الملح في طرف العين

مرت الطرقاتْ

انعطفت يمينا الى قهوة من مقاهي الرصيف

صبغت حذائي

تحرشت بامرأة وشتمت الحكومة

عادت الطائرات

عندما عادت الطائرات اتخذت زهرة" موضعا" بين عيني

واختبأت تتقي الطائرات

انعطفت يسارا فكان الجميع نياما نياما نياما

تحت لا فتة إسمها البندقية

ارتعشت قامتي من جديد

ـ هنا استجوبتني القصيدة ـ

إنني أبصر، الآن، أمي ومكتبتي وصديقي:

تلك أمي تقبل قاتلها

تلك مكتبتي فوق طاولة الشرطي"الوديع"

ذاك وجه صديقي وقد ألبسوه شواربهم

ألبسوه قميص الجميع....

15 حزيران 1982

 

تقرر أن نسافر صباحا، قبل الصباح بكثير، الى ناوزنك وهي منطقة كسائر مناطق كردستان مقسومة على نفسها الى ثلاث جهات: الأولى جهة الحكومة والثانية جهة المقاتلين: الأنصار والبيشمه ركه والثالثة جهة الخيال.

لم يكن هذا التقسيم سوى إجراء وهمي رغم إنه يصح نظريا وعمليا حيث تقتسم البنادق والدبابات وخطط السياسة المرئية وغير المرئية تلك الأرض الغامضة المسكونة بالفراغ والألغام والربايا والمهربين والزعماء والأفاعي والذئاب والقمر الذي غالبا ما يكون على أوضح صوره وأشدها وحشة وعريا لحظة الثلوج والخوف.

وما أن حل موعد السفر حتى اختصرنا كل شيء الى أدنى عدد ووزن وضرورات.

على أن الضرورات نسبية عند كل رفيق فإذا اختصرت زوادتي الى ثلاثة كتب وعلبة سردين وإبرة وخيوط وأدوات حلاقة وأسنان وخمس علب من سجائر" بغداد" وعلبة ثقاب احتياطية( غير التي في جيبي) ودفتر ملاحظات وخربشات شعرية أو غير شعرية وقلم جاف الحبر، فوجئت بزوادة رفيق آخر يزيد وزنها على السبعة كيلو غرامات، وعندما أبديت استغرابي أفهمني ذلك الرفيق أن الأمر ليس من شأني.

بدأت خطواتي على "طريق الحرير" نحو تلك الناوزنك التي كانت أكثر رفاهية من موقعنا الذي تركناه للتو، وعندما سألت الرفيق ذا السبعة كيلوغرامات مستطلعا المزيد أجابني بلهجة الفهيم العليم" في ناوزنك كل شيء حتى البيض والبصل"!

ثمة كلمة كان الرفيقان المسؤولان عن المفرزة يبالغان في استخدامها وتكرارها وهي"الرزمة": الرزمة لم تزل نشيطة. الرزمة ستجوع بعد قليل. الرزمة مثقفة. الرزمة لم تر امرأة بعد اليوم!

عند أول استراحة أدركت أن رفيقي كانا يعنيانني بهذا الوصف( الرزمة) فعليهما أن يوصلاني سالما غانما الى ناوزنك، وتلك كانت مهمتهما الرئيسة، بعد أن جرى رزمي الى هناك لافتتاح إذاعة" صوت الشعب العراقي" التي سأكون أحد مذيعيها ومحرريها.

الإستراحة في كردستان لا تتم بناء على الرغبة بالإستراحة ولا ترتبط بالضرورة بحاجة التعبانين اليها. استراحاتنا تخضع لدواعي الأمان وتوقيت المسافات وتوفر المياه: ينابيع، عيون مياه، أنهار صغيرة أو كبيرة.

رغم أني كنت الأكثر عطشا(.. هكذا يشعر العطشان) إلا أنني تمهلت حتى انتهى رفيقاي من التهام المياه التي لم تتجمد بعد بحكم الجريان فكان أن سجلا ذلك لصالحي على إنه نوع من الإيثار أو الزهد بشؤون المعدة وما يدخل في بابها، على أن الأمر بخلاف ذلك، فقد كنت أريد الإستفراد بتلك العين الفضية المترقرقة، وحدي، من دون منافس، عندما تتقدم الغرائز على التدابير.

ركعت متعبدا، متهدج الروح، غامضا، سعيدا، وحيدا على أرض شبه خام، متناولا، في حفل تناول كنسي، أول جرعات الجنة من مياه بريئة، غير معبأة ولا جارية في أنابيب. من فم الأرض الى فم الإنسان.

فكرت بمشروع قصيدة تقارب الثلج وتقترحه نصا مركبا، وفي أول استراحة في جامع القرية كتبت:

"أبيضٌ حول انتباه الشجرة

أبيضٌ يمتدُّ من غدارتي حتى التقاءِ الغيمِ بالقمةِ، بالثلجِ، بسورِ المقبرة

كان جلدُ السفح أبيضْ

وكأن اللهَ مفتونٌ بهذا الأبيضِ الوحشيِّ يرميه على الناسِ بلا أي سبب

آخ .. يا ليلَ الجنوبْ

كم من الأبيضِ تحتاج الذنوبْ؟"

15 كانون الثاني 1981

طرقنا، بعد تردد طال، باب أول البيوت" يا لسوء حظ صاحبه الذي سينكب بثلاثة ضيوف ثقلاء" قلت أنا. " اعتادوا على ذلك" عقب آمر المفرزة.

فتحتِ الباب امرأة شابة تحمل طفلا على ذراعها. ابتسمت وأشارت الى أن تفضلوا. لم يكن صاحب البيت موجودا" سيأتي بعد قليل" قالت وأعدت فراشا والقمت المدفأة مزيدا من الحطب.

دخل صاحب البيت. حيانا باختصار شديد وجلس. أخذ عودا يعابث جمر المدفأة. لم تكن ملامحه مرتاحه لضيوفه. " أنتم شيوعيون إذن؟" قالها بدراية." كيف عرفت؟" سأل آمر المفرزة الذي يجيد الكردية. " واضح من طريقة لبسكم للملابس الكردية. الشيوعيون، غالبا، يطلقون لحاهم كالمتصوفة. ثم إنكم عرب، ومن غير الشيوعيين يجندون العرب في صفوفهم؟ فوق هذا وذاك قالت زوجتي أنكم ترددتم طويلا قبل الدخول. الآخرون يدخلون رأسا، وبالإكراه أحيانا".

هذا ما ترجمه آمر المفرزة. جاءت الزوجة باللبن الناشف والشاي والخبز. كم أحلم ببيضة مقلية كبيضة جاك بريفير التي تتحرك بمخيلة الجائع. لم يعقب على حلمي أحد. لقد كان تداعيا داخليا، كما يقول الأدباء.

أكلت بشهية عادية، رغم الجوع الذي يعض الأحشاء منذ ساعات طويلة، فالطعام غير مستساغ كفاية. يطلق المقاتلون على هذا النوع من اللبن إسم" مخابرات" لأنهم يجدونه أينما حلوا!

نمنا مبكرين، كما يقضي بذلك الجسد المخلوع من جسده. لم ننتظر صاحب البيت لننام كي يبدأ بالجماع. وإذ استخدمت لفظة" بيت" فهو ليس كذلك. غرفة واحدة يقسمها مهد بدائي يهز باليد لكنه لا يحجب شيئا.

كان مهد الطفل هو كل الجدار العازل بين مكان نوم الزوجين وضيوفهما.

سألت آمر المفرزة صباح اليوم التالي أن يسأل صاحب البيت عما دفعه، البارحة، الى فعلته بحضورنا. قال أبو البيت:" لو انتظرت كي أخلو بزوجتي لما اختليت بها أبدا". وأضاف"" يبدو أن ثورتكم لن " تقف" يوما، وصاحبنا( وأشار الى عضوه) يقف كل ليلة".

 

***

كتب سعدي يوسف مرة" مضى زمن كانت البندقية فيه التفرد والحل/ أتى زمن المدن المصرفية" ليقرر حقيقة شعرية، بينما حاولنا، أنا ومن معي، قلب تلك الحقيقة الشعرية الى فعل عياني ملموس"( أتى) زمن (تصبح) البندقية فيه التفرد والحل/ ( مضى) زمن المدن المصرفية".

يا لحقائق البشر المتنوعة، المتناقضة... كالبشر.

أما زلت تؤمن بحلول البنادق المتفردة؟ سؤال اليوم غير سؤال الأمس.. والجواب متحول أيضا. لكن سعدي على حق: ها نحن نعيش اليوم، كما الأمس، زمن المدن المصرفية.

مَن الأكثر مضاء وصخبا، بشرفكم، رنين النقود أم دوي البنادق المتفردة؟

أما وقد ذهب الظمأ وابتلت العروق ورقت المفاصل وتخدرت العيون اقترح ذو الكيلوغرامات السبعة أن نعد الشاي.

مجرد التفكير بإعداد الشاي يعني الإقبال على لحظة ترف خارج السياق.

بعد ست ساعات متواصلة من المسير. ست ساعات من الصمت. الكلام لا يستقيم مع المسير. تحين لحظة أخرى. لحظة الكلام. لا استراحة ولا شاي ولا كلام من دون الشعور بالأمان.

ربايا الحكومة المحصنة والمحروسة من أربعة أركان لم تزل بعيدة. سبق لي أن عشت سنتين ونصف السنة في ربايا الحكومة أثناء خدمتي العسكرية الإلزامية. خدمة العلم. أي علم؟" عش هكذا في علو أيها العلم..... فإننا بك بعد الله نعتصم" أول قصيدة حفظتها غيبا في مدرسة ابن الأثير الإبتدائية للبنين.

" كل ما حفظناه في المدارس نسيناه" نطق آمر المفرزة بجملة جادة لأول مرة بعد فاصل " الرزمة". أما ذو الكيلوات السبعة فمشى الى الجوار باحثا عن حطب أو ما يصلح منه للإشتعال في واد تغطيه الثلوج.

عاد ذو الكيلوات السبعة بحضن حطب يابس لكنه مبلول" من سابع المستحيلات سيشتعل" صرحت أنا. " سيشتعل حتما" عقب أبو السبعة كيلوات، وبين مستحيلاتي السبعة وحتميته بدأ الحطب بالإشتعال وإن بمشقة.

قطعة من مطاط هي الوقود المناسب في مثل حالتنا.

" الشاي على الأبواب" هتف آمر المفرزة باعتزاز.

صحيح أن الثلج لم يكن كثيفا على الأرض. إلا أن بعضه تحول مياها في حذائي.

أحذية المطاط هي، لا سواها، التي تعمر طويلا في كردستان. رمى رفيقنا القادم من باريس بحذائه الرياضي الثمين((Adidas منذ أول التلال!

"لنستمر" قالها آمر المفرزة بثقة مفرطة بالنفس. سوينا أحزمتنا وأحكمنا ربط أحذيتنا ثم مشينا.

بدأ الثلج يسقط مجددا. بم تحتمي من الثلج تحت سماء مكشوفة؟بالشجر؟ لا تحتمل الشجرة أكثر من عشر دقائق حتى يتسرب الثلج من بين الغصون على شكل كرات صغيرة صلبة، باردة، بل حارة لاسعة، مثل الجمر. بلغنا أرضا ترابية محروثة مما زاد من ثقل الأقدام. لأخلع حذائي أسلم. قلت لنفسي ثم خلعته. ضحك رفيقاي. بعد بضع خطوات لبسته. ضحك رفيقاي مرة ثانية!

لم يحتمل مزاجي أي ردة فعل. الحصى والحجر جرح قدمي.

الثلج يشتد ويتصلب: تحت الياقات وعلى الأيدي. في الأصابع والعيون. يسيل على الرقاب.

فكرت بالتوقف.. ولكن الى متى؟

"إن توقفت تجمدت" صاح آمر المفرزة. لا خيار إذن. ورطة. " أريد أن أقضي حاجتي" سألت رفيقيَّ.

" حاجة أم حجة" علق أبو السبعة كيلوات. انتحيت جانبا. خلعت سروالي ثم سروالي الداخلي. لامس الثلج شرجي. لا يمكن قضاء الحاجة في مثل هذا الوضع.

" على الشجرة.. على الشجرة" كرر آمر المفرزة. أزحت الثلج من جذع شجرة أفقي. تسلقته مثل قرد ثوري وتم لي ما أردت.

ألهذا السبب يسمون رجال العصابات بالغوريللات؟

علق آمر المفرزة ضاحكا ليشجع أبا السبعة كيلوات على التمادي أكثر.

"لأنهم يخرون على الأشجار" .

لم يتح لي حماسي المتطرف المشاركة في التجربة المسلحة في كردستان أن أتوقع أمورا كثيرة بينها مشقة المسير وسط ثلوج ستبلغ الليلة أو الغد ثلثي قامة رجل متوسط الطول مثلي.

لم يذكر ذلك جيفارا في مذكراته ولا كاسترو في خطاباته ولا رجيه دوبريه في نقده" ثورة في الثورة".

" لا ثلوج في السييرا مايسترا" أوضح أبو الكيلوات السبعة. " لهذا السبب انتصرت الثورة هناك وستفشل هنا" عقبت أنا مقطوع الأنفاس.

ثمة قرية قريبة. علامات القرى تبدأ من مسافات بعيدة: نباح كلب قصي. أشجار السبندار المستقيمة. دخان من سقف بيت. أشياء أخرى من تدخلات الإنسان في التراب والشجر.

تذكرت مقطعا من برتولد بريخت " الدخان يتصاعد من سقف الكوخ/ يا لبؤس الكوخ الذي لا يتصاعد منه الدخان".

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة