عمارة وتشكيل

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الأسس الفكرية والتشريعية للمدينة العربية الاسلامية

أ.د. حيدر عبد الرزاق كمونة

 

الخصائص المدينية في الفكر والتشريع الإسلامي

لغرض معرفة الخصائص المدينية عند العرب المسلمين فانه لابد من الرجوع ال المحددات النابعة من الفكر الإسلامي ومن نصوصه الأساسية. فقد جاء عن النبي(ص) في حديث شريف قوله: (لا جمعة ولا تشريق ولا فطر وأضحى ألا في مصر جامع) وفي حديث آخر: (إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة)، فتعبير الأمصار هنا بمفهوم المدن التي أطلق عليها العرب تعبير الأمصار. وهنا يتجلى موقف المدارس الفقهية في موضوع المدينة وتفسيرها والشروط التي ينبغي توافرها في مكان ما كي تكون مدينة وهو أقامة صلاة الجمعة التي تقام بالمسجد الجامع، وعلى اعتبار ان المسجد الجامع له خصوصية تمدنية وفقاً للمفهوم العربي الإسلامي، فما أورده الماوردي في الأحكام السلطانية أنه لا يجوز إقامة الصلاة الجامعة إلا في "وطن مجتمع المنازل" وهو تحديد واضح لمفهوم المدن أي المكان الذي يستقر به والذي يتوافق تماماً ما سبق ذكره من آراء المعجميين العرب في المدينة. وهناك شروط أخرى ينبغي توفرها منها:

1ـ ضرورة ان يقطن هذا (الوطن) من تنعقد به صلاة الجمعة.

2ـ ضرورة ان لا يضعن منه هؤلاء لا شتاءً ولا صيفاً.

وأورد الإمام ابو حنيفة بالنسبة إلى شروط اقامة صلاة الجمعة فيقول ان صلاة الجمعة انما تخص بها الأمصار دون غيرها وانه لا يجوز اقامتها في القرى والذي يعتبر تطوراً فريداً في فهم تعبير المدينة. واعتبر المصر هو ذلك المكان الذي يوجد فيه:

أـ سلطان يقيم الحدود.

ب ـ قاضٍ ينفذ الأحكام.

ويشير بذلك إلى ان الفقهاء المسملين قد وصفوا عدداً من الخصائص والشروط التي يمكن الركون إليها في تحديد ما هية المكان وفيما إذا كان مدينة أو غير ذلك وتلك هي:

1ـ المقدرة البشرية والكثافة العددية.

2ـ وجود سلطة قضائية تقيم الحدود.

3ـ تطور عمراني.

(وبالإمكان التوصل إلى جملة من الخصائص المشتركة لدى الفقهاء والجغرافيين العرب (أي ما يمكن قوله من الجانب النظري والتطبيقي) فالمكان الذي يتمتع بسمات:

* بلد جامع.

* تقام فيه حدود.

* يحله أمير.

* ويقوم بنفقته ويجمع رستاقه.

هو الذي ينطبق عليه مفهوم المدينة أو المصر والبلد الجامع كما عرفها الجغرافي العربي ـ المقدسي ـ إذ يقول كذلك:

(والمصر عند العوام كل بلد جليل) تميزا لمفهوم المدينة عند العوام عن مفهومها وفق القواعد والأصول التشريعية في زمانه.

وهناك تعابير أخرى تشير إلى مراكز تمدنية مثل الحصون أو حصن صغير أو موضع.. ولم تهمل القرية فمن التعبيرات قرية، قرية كبيرة، قرية كالبلدة.

 

المدينة العربية الإسلامية في سياقها التاريخي

لا مراء في ان الكثير من مراقبي ومؤرخي الاسلام قد تناولوا بالبحث والتعليق التباين المذهل في السياق الجغرافي والبشري حيث نزلت رسالة الإسلام ووطدت اقدامها في بادئ الأمر أي بين شبه الجزيرة العربية التي كان يقطن فيها في المحل الأول أقوام من البدو الرحل أو شبه المقيمين ووجه العالم الإسلامي القديم كما قيض له ان يبزغ بعد ذلك ببضعة قرون فحسب شبكة من المدن العظيمة تمتد من الهند إلى لغرب، يتدفق فيما بيها برا وبحراً مختلف انواع المنتجات، فضلاً عن جميع ألوان المعارف والأفكار والثقافات.

وانها لحقيقة واقعة، ان انتشار الاسلام على ايدي الجيوش العربية، بل أكثر من ذلك مجرد الاقتناع بالرسالة التي تحملها قد واكبته تنمية حضرية بلا مثيل.

وظهرت مدن جديدة كانت لا تعدو ان تكون في البداية مجرد معكسرات محصنة، مثل البصرة والكوفة اللتين اسستا فيما بين عام 15 ـ 17 هجرية أبان خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ثم توالى  ظهور المدن العربية التي عاشت إلى اليوم كمدن كبرى مثل الفسطاط قاهرة المستقبل) عام 19 هجرية. القيروان عام 48 هجرية وتونس بعد ذلك بعدة سنوات، ثم تأسيس المرية وفاس وكانت هناك أيضاً مدن قديمة فيها القوة والحيوية المتجددة بدخولها السلم الإسلامي مثال دمشق وبخاري وسمرقند وقرطبة واشبيلية.

فالسياق التاريخي لتطور ونشوء المدينة العربية يدل على حيويتها واصالتها، فالمدينة العربية ليست مقفلة وعناصر التبدل والتغيير موجودة وفقاً للعوامل التي ساعدت على نشوئها والعوامل التي ساعدت على تبدل احوالها. ومن هنا فلابد من محاولة استقراء النصوص الجغرافية والتاريخية واللغوية لمفهوم المدينة العربية الإسلامية واستقراء الآيات القرآنية الكريمة  والاحاديث النبوية الشريفة وأراء الفقهاء والجغرافيين لاستخلاص نتائج إيجابية توضح بجلاء واقعها وعناصرها البنيوية وشخصيتها من جهة ومقوماتها الاجتماعية والطوبوغرافية من جهة ثانية وقد أظهرت هذه النصوص:

1ـ عمق الإرث الحضاري المتين للمدينة الاسلامية والترابط الواضح بين النسيج العمراني لها والفكر الإنساني للعربي المسلم.

2ـ وحدة تركيب المدينة الإسلامية وانسجام بيئتها الجغرافية والتخطيطية والاجتماعية والاقتصادية.

3ـ وضوح رؤية المسلمين بالنماذج المتعددة للمدن وفقاً للعوامل التي لعبت دوراً بارزاً في نشأتها وتطورها وانهيارها وتدهورها.

4ـ التواصل الحضاري في مجال التمدن بين الماضي والحاضر بما يفيد المساعي الحثيثة الدائرة الآن في حقل التمدن العربي الحديث المعاصر.

5ـ مدى الفهم والإدارك من قبل الجغرافيين والمفكرين العرب على مبدأ التسلسل الهرمي للمفهوم الحضري المتمثل في الإقليم ومركزه المدينة الكبيرة والمتوسطة والصغيرة.

لقد توصلت الدراسات التخطيطية إلى ان المدينة العربية الاسلامية قد مرت في مراحل عديدة من التطور الشكلي والبنيوي، ولكلا نوعي المدن الهندسية الشكل كبغداد المدورة أو المدن ذات النسيج العضوي مما يدل على أصالة وغنى فن تخطيط المدن عند العرب. كيف يتأتى لنا ان نفسر فنا لتخطيط المدن سابقاً لعصره بهذا القدر وبمثل هذا الرسوخ؟ لا ريب ان فن تنظيم المدن لم يكن خافياً على العرب، إذا ان مكة المكرمة حيث ولد النبي (ص) ودعا لرسالته النبوية كانت منذ زمان بعيد بؤرة تجمع حضري ذات أهمية حقيقية بوصفها نقطة التقاء تجارة القوافل ومركزاً للحج يأتي إليه الناس لزيارة الكعبة الشريفة من كل فج عميق، وكانت مستقراً للعديد من الاصنام (قبل ظهور الاسلام) وفق هذا كله، كانت هنالك تجربة المدينة المنورة في زمن الهجرة عام 622 ميلادي حيث أرسيت قواعد المجتمع الإسلامي وتنظيماته.

فالمدينة المنورة كانت المنار الذي يهتدي به المشرعون والحكام المسلمون عبر القرون في تأملاتهم وضروب نشاطاتهم.

 

المبادئ العامة في تخطيط المدينة الاسلامية

لقد عبرت المدينة الإسلامية بشكل صادق وعميق عن الكثير من المبادئ الفكرية والعقائدية التي يؤمن بها المسلمون وفقاً لما جاء به الدين الحنيف من مبادئ سامية، سواء في تنظيم علاقة الفرد بربه، أم بأخيه الإنسان، أو الأمة الإسلامية باجمعها، لذلك نجد ان المدينة العربية الإسلامية استطاعت ان تقيم تنظيمها الحضري والمكاني على مجموعة من المبادئ الأساسية المستمدة من الفكر الإسلامي والتي يمكن تحديد اهمها بالمبادئ التالية:

 

الوحدة والتوحيد

يعتبر مفهوم (الأمة) هو العنصر الأساسي والرئيس في الوحدة الإسلامية، هذه الوحدة قائمة على أساس الايمان الذي يعمل رابطا اجتماعيا قويا، ويرادف مفهوم (الأمة الواحدة) دائماً مبدأ الوحدة (Unity)، ومفهوم الامة ظاهر في تركيب المدينة بشكلها المصغر في (الحي comunity) للمدينة والمسجد (Mosque) هو مركز (المجتمع) دينيا وعمرانياً باعتباره محل تجمع المصلين ومحل التوجه والخضوع إلى (الله) سبحانه وتعالى وهو كذلك (أي المسجد) منطقة التجمع.

ان اشهار وحدانية الخالق (الشهادة)، وذكر الله، الهدفان اللذان لا يني القرآن الكريم عن حث المؤمنين عليهما، كما ان السبل التي يشير إليها الكتاب العزيز لتحقيق هذين الهدفين عديدة متنوعة، إذ إنها تخاطب الملكات التي يتمتع بها الإنسان جميعاً ولا تهدف إلى نسج المقدس في البعد الزماني فحسب بل دمجه في البعد المكاني الذي ينتشر فيه الإنسان وهكذا.

ومن المعلوم ان صلب العقيدة الإسلامية قائم على مبدأ التوحيد للخالق سبحانه وتعالى الذي تخضع وتتوجه إليه الأمة الإسلامية، افراداً وجماعات.

فوق النظرة الإسلامية، تعتبر المدينة نموذجية إذا ما كانت جميع فعاليات ساكنيها تنتهي في صيغتها النهائية لتحقيق هدف واحد وموحد، هو خدمة الخالق سبحانه وتعالى.

 

الصلاة وشعائر العبادات

ففي السياق المكاني يوجد قرين مصغر للوحدة، يكمن في العبادات الإسلامية، بالاخص في الصلاة إذ لا نستطيع ان نغفل الدور الذي يؤديه شرطا الوجود المادي وهما الزمان والمكان في تنظيم الطقس الديني وهو أشد ما يظهر في الصلاة من أركان الاسلام الخمسة.

ان الشعيرة الدينية التي لا مثيل لها في تكوين وإيجاد القاعدة الأساسية للتنظيم الفيزيائي للمدينة العربية الإسلامية هي التوجه الواحد نحو (الكعبة) المشرفة بالنسبة لجميع المصلين من المسلمين على وجه الأرض فالمحور الخفي الذي يربط الفضاء المخصص للصلاة اينما كان، على وجه الأرض المحور الخفي الذي يربط الفضاء المخصص للصلاة أينما كان، على وجه يتوجه إلى الكعبة، مما يحدد بالتأكيد اتجاه المسجد وبالتالي الخط المنظم لتسقيط الشوارع الرئيسة للمدينة بدءاً من المسجد الذي يمثل التقاطع للشوارع في المنطقة باعتبار منارة المسجد أو بدايته هي البؤرة البصرية الدالة للمارة وقبلة الناس ضمن تلك المنطقة.

وقد أثر بعض الشعائر الخاصة التي تسبق أو تصاحب اقامة الصلاة تأثيراً كبيراً في تصميم المدن الإسلامية وطريقة سيرها، ألا وهي: أ: الطهارة الواجبة لاداء الفريضة. ب ـ احترام وقت الصلاة. ج ـ التوجه نحو مكة المكرمة، واخيراً وجود مكان يبلغ من الاتساع قدراً يكفي لسعة جميع المصلين في صلاة الجماعة في يوم الجمعة وهي واجبة في كل مراكز تجمع السكان المهمة.

وادى الشرط الأول إلى توفير دورات المياه والأحواض والفساقي والحمامات العامة التي تكفي قيامها للدلالة على وجود مدينة إسلامية، وأفضى الشرط الثاني إلى ظهور بعض الوظائف المرتبطة بالمواقيت منها وظيفة الموقت الذي يقوم بتنظيم الوقت والمؤذن الذي يدعو الناس إلى الصلاة مما أدى إلى انشاء المآذن وفي بعض المدن الرئيسة إلى تشييد المراصد الفلكية. وقد حدد الشرطان الاخيران طريقة بناء المساجد والوفاء بمتطلبات شعائرها وهي: قاعة فسيحة للصلاة بها محراب يعين القبلة ومنبر يعتليه الامام وهو يلقي خطبته التي تسبق صلاة الجمعة.

ولا يقتصر المسجد على كونه مكاناً للصلاة بل انه مركز اجتماع أو محفل يتناقل الناس فيه أخبار المدينة كما انه مركز للتعليم الديني حيث يجلس فيه الكبار والصغار من كل المراتب الاجتماعية في حلقة بعد المغرب لتلاوة القرآن أو للاستماع إلى درس الفقيه وكثيراً ما يكون المسجد الملجأ الذي يلوذ به الشحاذون والمشردون والمظلومون حيث يجدون فيه المأوى والملاذ ويتلقون فيه الصدقات والاغذية التي تسخو بها الجماعة الإسلامية في أماكن العبادة. وأحياناً تقام صلاة الجماعة خارج صحن المسجد مثلما هو الحال عندما يحتفل المسلمون بعيد الفطر بعد نهاية شهر رمضان وعيد الاضحى بعد انتهاء مناسك الحج. ففي هاتين المناسبتين يتوافد المؤمنون جماعات إلى المصلى ويقع خارج المسجد، وعادة ما يكون قريباً من المقابر، للصلاة في الخلاء ووجوههم إلى حائظ بين القبلة. وتعتبر صلوات الشكر هذه التي تشترك فيها الجماعات الإسلامية بأسرها حينما تنحني آلاف الجباه وتلمس الأرض ثم ترفع في حركة منتظمة في صمت لا يمزق سكونه سوى صيحات التكبير ـ من ابلغ المظاهر تعبيراً عن واقع المدينة الإسلامية وحيويتها.

 

التدرج والخصوصية

ان تسقيط وتنظيم الفضاء المفتوح في المدينة الإسلامية التقليدية يتم بحيث تحقق المتطلبات الاجتماعية الحضارية بأسلوب تنامي الفضاءات بشكل متدرج.

ان المحلات السكنية في المدينة العربية ( أو وحدات الجيرة أن صح التعبير) ذات النسيج المتشابك و المتمساك، تنتشر خلالها المساجد بتوزيع متدرج (Hierrarchic) ضمن مبدأ التكامل وضمن مبدأ اتصال العبد المسلم بخالقه سبحانه وتعالى. وهو مبدأ تكامل هذه الوحدات بنفسها وهذه هي المبادئ والعناصر التي تتكون منها المدينة الإسلامية المثالية.

في المدينة العربية الإسلامية هناك نظام تقسيم الفضاءات المفتوحة وحسب الخصوصية إلى (فضاء عام، فضاء شبه خاص، فضاء خاص) ومن جهة أخرى تقسيم اجواء المدينة إلى نوعين، نوع خاص للرجال ونوع خاص بالنساء وبعزل كامل بينهما، ان هذه الاعتبارات والخصائص بغض النظر عن كونها ناتجة بشكل مباشر من القيم الدينية والقانونية، فأنها حقيقة صالحة وظيفياً لتحقيق الحاجات الاجتماعية المطلوب اشباعها وتحقيقها في الأحياء الإسلامية.

 

احترام الطبيعة والبيئة الطبيعية

لقد حث كثير من الآيات القرآنية وبشكل متكرر على التفكير في الطبيعة والنظر إليها نظرة تقدير وتمعن باعتبارها من خلق الله سبحانه وتعالى، وتدعو إلى الاعجاب والتفكر بالوحدة في التنظيم والتصميم للتنوع الهائل الموجود في الطبيعة، وعناصرها ذات المساس المباشر بالإنسان، من حيث قيم الجمال، القوة، المنفعة، والفائدة المباشرة للإنسان.

ونتيجة لانعكاس هذه المبادئ على تخطيط وتصميم النسيج الحضري للمدينة العربية الإسلامية، بشكل فعال وصادق، نجد ان هذا النسيج الحضري المتناسق في تكوينه الفضائي، قد امتاز بثلاث مميزات رئيسة هي:

1ـ الوحدة والتوجه نحو الداخل: ويبدأ الإحساس بالوحدة حال دخول المدينة عبر بواباتها.

2ـ الجزء والكل لهما الأهمية نفسها في تشكيل النسيج حيث يؤثران ويتأثران احدهما بالآخر (بعكس النسيج الحضري لمدننا الحديثة حيث ان الكل أهم من الجزء).

3ـ ان التآلف والتفاعل في سلوك وآراء سكان المدينة انعكس على شكل النسيج الحضري بشكل عضوي وتلقائي.

ان هذه الدلائل تشير بشكل واضح إلى نجاح المعمار العربي المسلم في تحقيق المبادئ الفكرية التي آمن بها، واتخذها عقيدة وسلوكاً عن طريق الصياغة العمرانية والتخطيطية الناجحة لمدينته الإسلامية.


الفنان التشكيلي محمد عارف ودراماتيكية الخطاب

أ.د عقيل المهدي يوسف

تمر أنامل الفنان محمد عارف على سطح لوحاته لتصنع حصاناً في موقع راسخ، كناية عن اصالة، وثورة، ومفردة سردية، في نسق حكايات اختزلها الفنان التشكيلي إلى تكوينات وألوان وحجوم وملامس، لكن دراماتيكيتها، وتوقها الإبلاغي، تبقى محرضة للمدونة الحكائية التي تكرس مشهديتها، فيتم تراسل خطاب التحدي من قمة أعلى من هام الطغاة. بوصفه نغمة دالة يتكرر نسجه في لوحاته.

ويضيء الفارس الفعل الجوهري للوحة بتعبيريته الموحية بحفظ النوع القومي، الذي يستقبله المتلقي الواعي بالمغزى الضمني المشترك بينه وبين الفنان.

وحين تقرأ نص الرسام في متحفه المصغر الذي يضم عدداً كبيراً من التخطيطات واللوحات ينبغي الانتباه إلى مؤشرات من خارج نص اللوحة كأن تلمح عقب بندقية، اختزنت اثراً بشرياً من سنوات الجمر ومكابدات الصراع الدامي.

ثم بعد هذا الاستهلال، تتنزل إلى كهف، أو رحم تتنفس فيه نتاجات هذا الفنان الذي أراد لها ان تكون (أي مآثره الفنية) محفوظة في حرز أمين تطوف مع وجوه وعوالم ومدن واحداث، تتحرك من تخطيط لتقف عند حضرة اللون والرؤوى، وتمر مع تقلبات وعي الفنان، وعشقه الحرية، واندهاشه بعالم (موسكو) الذي حصره بين معهده لتعلم الرسم وبين المتحف الذي يقدم له الأحلام مؤطرة، ومتصادمة ومتجادلة بديالكتيك الإبداع، وتحولات الايديولوجيا.

لقد تقصد بفعل مبكر، خطاباً انعكاسياً ينبع من روح الشعب وابطاله الايجابيين الذين يغيرون المحيط الاجتماعي، ويفككون الإرث و(موتيفات الفلولكلور)، ويعتنون باللون المحلي، بملامح رومانتيكية ـ حالمة.

فاندفع متحزباً، دون إلزام، فعاجت لوحاته وماجت بالناس البسطاء، وبفكرة الشهيد الذي حمله شعب بأسره إلى مثواه الأخير، فترى الايادي، تتابع وتتكرر، لتنفث بالمعنى الروحي من خلال مادية اللون والاشكال والحجوم، أراد الفنان محمد عارف ان يوصل الخطاب الواقعي إلى جماهير عريضة، ليجروا خلف صاريتها، لكن اللوحة تتريث في معالجة نسيجية السطح، وتستعير ذاكرتها من محيط الفن العارم، فتأخذ من التعبيرية، البوح الفوري وذاتية الرؤية، وعجائبية العالم، وتنساق.

مع الانطباعية بتكوينات بقعية مرهفة اللون والضوء، ويستدير دورة مغايرة لما عهده في موطنه من صفاء اللون واشتعاله وتألقه فيرسم ندف الثلج، وطبقات الجليد، وهطول الامطار، وتراقص الاضواء فوق اعمدة الكهرباء، وحركة الموسكوفيين في شتاء قارس البرودة ثمن أساتذته قدرته الفنية وهو القادم من ضوء الشرق الوهاج إلى ضباب بلدان الصقيع.

رسم الفنان مدنا، وهو يرتحل من عاصمة غربية إلى أخرى، مستشعراً في كيانه حباً لأبناء الأرض جميعاً.

وبقت لوحاته متشبثة بانموذجها الواقعي، برغم انفتاحها على عوالم تبدو مضادة لخطابها، واستأثرت محاكاة الواقع، وإعادة انتاجية، بالهيمنة المتحكمة بالمساحات الملونة، التي تحتل الشخوصية فيها محاور السيادة. وتتقلص إلى خلفيتها، تفصيلات طبيعية، مثل شلال أو جبل أو كدير، أو حقل، أو حصان يرمح في السهوب الخضراء الممتدة، إلى ذرى جبلية من كردستان العراق.

ترتبط هذه المفردات بوحدة تصميمية ومعمارية وجمالية من حيث تبايناتها اللونية، وتوازناتها وايقاعاتها، المتناغمة مع المحاور الافقية والعمودية والمائلة، ليشتق منها الفنان عوالم هرمية، أو اسطوانية، أو مثلثة، ولكنها لا تأخذ بالاسلوب التجريدي، بل تخضع الخطوط التجريدية للأفق التشخيصي، الذي يبقى وفياً لمحاكاته مهما استبد به الهوى، أو استدرجته أطياف مدارس الحداثة. وهو حين تنفتح مدونته على هذه الصيغ الهندسية، يترك في مساحاته ملامس محلية (بيئية)، بطابعها اللوني الذهبي الوهاج، محاكياً الزي الكردي الطافح بالتطرف اللوني المشع، في عرس من التضاد اللوني الحار والبارد، والحكايا التي تسردها الجدات عن الفرسان ومآثرهم.

غالباً ما يحتل الموضوع البشري بؤرة اللوحة، وتقودنا الخطوط والمسطحات وترتيب عناصر التكوين إلى حواف قصية يشغلها حصان صاهل، أو شمس مشرقة، أو ماء يتدفق.ومن معالجاته الجسورة التي كسرت نمطية الرؤية هي تجربته في مدينة (أبها) السعودية، فترى، لوحة، يتحرك فراغها بخطوط ومسطحات وكتل واشكال شبه ـ اسطوانية، لكنها تجمع بين التصميم الهندسي والمعالجة الواقعية، بتناص مع الطابع المكسيكي، كما تفترض، ولكنك سرعان ما تقتنع بان الفنان، نقل انطباعاً واقعياً حقيقياً في مدينة (أبها) التي تمتاز بتضاريسها الجبلية، وبالنسوة اللواتي يأتين بمناسبات محددة، وكأنهن يجلبن معهن إلى المدينة الخير والبركة، وبهجة الحياة وتدفقها.

في أسلوبية مميزة، وضع الرسام طفلين في تكوين دائري مؤسلب مع وقفة كل مرة الشخصيتين النسويتين، بوضعيات مغايرة لتوزيع خطوط التركيز على عناصر التكوين، ضمن وحدة إطارية ملموسة وتبرز في لغته التشكيلية السمات العراقية، باشراقها الحضاري المرتبط بكينونة إنسانية مثقفة وبرسالة شمولية، لا تنسى (الفردي) ووهجه الوجداني.

وتجبرك لوحة تخطيطية بعنوان (ناتاشا) على التمعن في خطوطها الدقيقة، وتنسى هذا (البورتريت) الذي تمت صياغته بخطوط محكمة وتذهب محلقاً مع نبل الفنان، الذي ترى هشاشة قلبه، واضطراب نبضاته، الذي استطاع تمويهها، ودفن رغائبه بالتماعة عينيها، وهدوئها، وتوازنها المسالم، وإذعانها للتواصل.

الفنان لوحده يستطيع ان يجمع المتنافر بين الظواهر فيوصل (ناتاشا) بقبعات المكسيك بقبعات نسوة بدويات، بصدور فلاحات عامرة بالحياة، وينقلها إلى مواقع جبلية، فتطفح نشوتها الإبداعية، وتتلاقى جداول الانوثة بالديونسيوسية، التي تقمعها باتجاه مضاد طاقة (بيوريتانية) طهرية!!.

هذا التشريط الاخلاقي الشرقي، يذكرك بلوحات السلاف وعلى رأسهم (ريبين) بمشاهدة الحافلة بالوجوه الفردية وسط الحشود وبمنجزات الواقعية الاشتراكية في الحقول التشكيلية ان ما تعلمه (عارف) في بلاد السلاف من شغف قومي، زواجه مع إرثه القومي، المنفتح على الرحمة، ولغة الرسل، والمار ببرزخ القمع والتفنن بالايذاء من قبل سلطات رجعية ـ ظلامية.

المتأمل للوحاته يكاد يسمع نداء الشعب، صادحاً بالاغنية، والحكاية، وكائنات الطبيعة، ويتخيل الفنان يسيح متلقيه، بالحب والوعي، ليقيهم من الطوفان وعثرات الزمان. وهو يجمع الحسي بالرؤيوي بعراقية من نمط فريد.

يحق للفنان ان يخشى على لوحاته من التلف والضياع أو البيع العشوائي، فحقق حلمه في متحفه الشخصي فكان ـ بحق ـ منجزاً يسجل بتفصيلات دقيقة سفر فنان وهو ينشئ خليقته التشكيلية ويودعها في مستقره، في مدينته (أربيل) التاريخية فنان جاب موسكو بذاكرة (بغدادية) ما زال في منطقة السرد، لم يغادر حكايات الجدود المهتمين بخاصرة الجبل ولم يزل يحتفظ بفراسة المبدع الذي انتمى إلى (جماعة بغداد) ليمسك بفرشاته وهي تلتقط تموجات حركات الفكر التقدمي، ليرسم ظواهر الواقع، اجتماعياً وتاريخياً وفولكلوريا، بروح جمالية. منفتحة على الجديد، ممتنعة على الجمود.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة