ثقافة شعبية

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

تأثير الفنون الشعبية العربية على الفنون الأوروبية الفن الشعبي يوحد الشعوب بلغة واحدة

معتصم زكي السنوي

بغداد

على الرغم من الحرب الضروس التي استمرت أجيالاً متعاقبة بين الشرق العربي الإسلامي وبين الغرب المسيحي، فإن الأدب الشعبي العربي قد اثر في آداب خصومه تأثيراً قوياً لم يستطيعوا إنكاره فصاغوا ملاحمهم على غرار الملاحم الشعبية العربية ولقد استطاع الباحثون أن يضعوا أصابعهم على التشابه بل التماثل بين حلقات من سيرة عنترة وبين ملحمة "السيد" الاسبانية وبين حلقات من الهلالية وما يشبهها من أغنية "رولان" والشواهد أكثر من أن تحصى.

وكم شغل الدارسون أنفسهم في الكشف عن علاقة "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي "دانتي" برسالة الغفران لشاعرنا "ابي العلاء المعري". ولكن الأدب الشعبي العربي حل هذا اللغز حلاً حاسماً فقد استوحى "دانتي" التصور الشعبي العربي لقصة "المعراج" ويكاد يقطع مؤرخو الشعر بأن كثيراً من الأوزان العربية والألحان العربية قد فرضت نفسها على الشعر الأوروبي. ولم يكن التأثير قبساً من القصائد العربية الرسمية وإنما كان بفضل التفاعل بين الشعوب على الرغم من الخصومة والقتال(1). والاعتراف بالفنون الشعبية يحطم ما شاع من تخلف الشعب العربي أو عزلته أو عجزه عن الإبداع. فلقد استقر في أذهان الكثيرين - مثلاً - أن الشعب العربي عاجز بفطرته عن إبداع الملحمة، وأن تعبيره الشعري لا يخرج عن نطاق الغنائية الفردية فبدد الشعب بروائعه الملحمية هذا الوهم. وخيل لبعض الباحثين الأوروبين أن القريحة العربية لا تستطيع "التجسيم والتشخيص" فقضى الأدب الشعبي والفن الشعبي على هذا "التخييل". وحاول الاستعلاء الأوروبي أن يفصل بين حقبة من الماضي المجيد للشعب وبين حاضره، فزعموا أن الحضارة القديمة قد ذهبت عناصرها الثقافية بذهاب أصحابها.. بقيت حقيقة لا يمكن إغفالها بحال من الأحوال وهي أن الشعوب لا تعيش في جزر بشرية منعزلة أو مغلقة وأنها تتبادل على الدوام المعارف والخبرات واشكال التعبير على اختلافها. كان هذا هو الواقع فيما قبل التاريخ، وعلى مدى التاريخ حتى عندما كانت وسائل الاتصال الدواب والمراكب. والدارس للأساطير الموغلة في القدم يلاحظ بلا عناء. الأخذ والعطاء بين الجماعات الإنسانية المتجاورة، فإذا اضفنا إلى ذلك التماثيل في حركة التطور استطعنا أن ندرك أن هناك وحدة جمعت شعوبنا من قديم: وعندما تحولت الأساطير وانحلت عقدتها، وتعرضت الأوطان إلى الهجرات الكبيرة، التقت عناصر ثقافة متعددة وامتزجت وحافظ الشعب عليها وأعادها في صورة العقائد الثانوية والشعائر الاجتماعية: ومن هنا كان التراث الشعبي أجمع عن غيره للمعارف والخبرات والمهارات وأدل من الآثار الشاخصة ومن الكتب المدونة على مكانة من تاريخ الإنسان وحضارته.. ونحن الآن نتساءل عن موقفنا من هذا التراث القومي الذي تتراكم فيه تجاريب مجتمع إنساني موصول الحياة منذ أقدم الأزمان إلى الآن(2).. أن هذا الموقف يتلخص في صنيع كل أمرئ بمخلفات أبية وجده: أنه يأخذ ما يراه صالحاً ويعدل ما يرى احتمال صلاحه وهو يضيف إليه دائماً من أنماط عصره. والتراث القومي ليس مجرد ميراث مادي، وحسب جيلنا أن يعرف قوانين تطوره ليحسن الانتفاع به. أنه يتسم بالمرونة دائماً وهو يتطور على الدوام.. أنه يتعدل في المضمون والشكل. تضاف إليه حلقات وتسقط منه حلقات.. والأساس في هذا كله هو الوظيفة فإن كانت صالحة بقيت عناصر التراث وألا فإنها تتغير ويستتبع ذلك تغيير.. يكافئها في الشكل وفي المضمون. وما دمنا قد تعرفنا على تراثنا القومي واعترفنا بعناصره الشعبية فمن اليسير أن نتعرف على طابعنا القومي الذي ينعكس في أنماط وأشكال ومضامين. ومن اليسير أيضاً أن نميز دائماً بين ما يصلح من عناصر التراث وما لا يصلح.. كانت هناك شوائب فرضتها ظروف كالسلبية والإمعان في الغيبية.. مثل هذه العناصر يجب ان تطرح من تراثنا القومي.. وهناك فنون لم تتطور كالظواهر التمثيلية.. علينا بتطويرها، ولم يعد هناك ما يحول بيننا وبين ذلك. ويجب أن نحذر العوامل المصطنعة أو المتكلفة التي تقضي على الطابع القومي وتطمس ملامحه المميزة. هناك إذن واجب علمي يعتمد على الواقع في الجمع والتصنيف والعرض والدراسة وواجب نفعي ينتخب من المجموع المصنف المدروس ما يراه صالحاً لكي يتفاعل معه أو يستوحيه أو يستلهمه.. لو فعلنا ذلك لحطمنا الحصار الذي يفرض على حياتنا الفكرية والفنية.

ما نحتاجه تراث تقدمي لمسايرة روح التطور والنهوض

لابد أن نسلم بأن المجتمعات العربية، كغيرها من المجتمعات البشرية، تعرضت إلى أنواع متعددة من الصراع والتناقض بين قوى التقدم وقوى التخلف، وكانت كل من هذه القوى تلقى في المعركة بأفكارها وثقافتها، لذلك فما نحن في حاجة غليه اليوم هو التراث المعبر عن قوى التقدم في المجتمعات العربية، ولهذا أهمية كبرة لأنه يدفع بحركة اليقظة العربية الراهنة إلى الأمام بصرف عن الضرورة العلمية. وهنا استشهد بكلمتين حكيمتين: أحداهما لمفكر مصري هو قاسم أمين: (1863 - 1908م). والثانية للمفكر برتراند راسل (1872 - 1970م) فيلسوف انكليزي معاصر. قرأت الكلمتين في يوم واحد، فبعثا في نفسي تأملات كثيرة، وأفكار كثيرة، كلمة قاسم أمين قالها في كتابه "المرأة الجديدة" وهي: أي زمن من الأزمان السابقة كان منزهاً عن العيوب حتى يصح أن يقال أنه "نموذج الكمال البشري!!". الكمال البشري يجب ألا تبحث عنه في الماضي، بل أن أراد الله أن يمن به على عباده فلا يكون إلا في مستقبل بعيد جداً"(3). فنحن في الشرق لا يزال كثيرون منا يتجهون بعقولهم وقلوبهم ومشاعرهم إلى الماضي، يستلهمون آراءه وثقافته ومقاييسه للحياة، واحترام الآباء وتمجيد الماضي عاطفته محمودة، فلنذكر هذا الماضي وندرسه ونمجده على أنه ركيزة من مشاعرنا وأحساساتنا وتاريخنا نبني عليه، ولكننا ننتقده ونمحصه ونتجرأ عليه، ونقدر رجاله وأهله على أنهم "ناس" من "الناس" ليسوا منزهين عن العيوب ولا مجردين من النقائص، كما كانوا فعلاً في واقع الأمر، يجب أن نخضع هذا الماضي ورجاله لمقاييس صادقة موضوعة مجردة فلا نعطيه ولا نعطيهم من "القداسة" أكثر مما يستحق ويستحقون. فذلك إحساس يعوق نشاطنا للتقدم، ويعطل سيرنا إلى مستقبل أكرم وافضل.. احترام الآباء وتمجيد الماضي عاطفة حلوة ولكنها قد تكون مخدرة، والتطلع إلى المستقبل بادرة شريفة واقتحام يدفع ويحفز ويربى. أما أن ننظر إلى الماضي نظرة المتحسر الذي يتمنى أن يبقى، أو الذي يرجو أن يرجع ويعود، فهذه هي الردة الضارة المعوقة التي تتمسك بأوهام مفسدة، فليس الماضي كما قال قاسم أمين، منزهاً عن العيوب، وناموس الحياة قائم على أن ما مضى لن يعود، فالسلفيون الذين يستدبرون الحاضر ويستقبلون الماضي يعارضون ناموس الحياة ويحاولون أن يعودوا بالناس إلى ما ليس لهم فيه خير، ولن يستطيعوا أن يعودوا بهم. أما كلمة برتراندراسل فمؤداها أن المجتمع لا يستطيع أن يتقدم إلا بجهود المستقبلين دعاة التجديد والحرية، ولكلتا الطائفتين: المستقبليين والسلفيين، وجودهما ضروري، ولكن السلفيين يلقون إسناداً أكبر في المجتمع القائم، لأنهم يحافظون على نظمه وأسسه التي ألفها، على العكس من المستقبليين التقدميين، فهم يزعجون الجماهير بالدعوة للتحرر من الواقع المألوف ويجاهدون ليخرجوا للناس شيئاً جديداً لم يألفوه، أو ليدخلوا في حياتهم شيئاً جديداً لم يألفوه أيضاً. يقول راسل هذا الكلام عن انجلترا، أو عن أوروبا عامة، وهناك من ارتفاع مستوى الإدراك والثقافة، ومن الحرس على حرية الرأي والفكر والقول، أسناد وأسناد لدعوة التجديد والتقدم وزيادة المستقبل واقتحامه. ومع إننا في الشرق والمنطقة العربية منه، لا نزال في أمس الحاجة إلى من ينبهنا، بل يزعجنا، لكي نفيق من الغيبوبة التي تسيطر علينا بفعل عوامل كثيرة تربطنا، بل تقيدنا بكثير من المفاهيم الخاطئة، والتقاليد الضارة، والمقاييس المفسدة، ولا نزال نسمع كثيراً من الصيحات كأنها صرخات الاستغاثة، أن: حافظوا على جميع التقاليد، عودوا إلى الماضي، الأخلاق في خطر، انقذوا الأوطان من دعاة الفساد، ونجد في احيان كثيرة أن صرخات الاستغاثة هذه تجد سميعاً مجيباً كأن أصحابها من السلفين يحتاجون إلى حماية أو رعاية. مع أن دعاة المستقبل المتطلعين إلى حياة أفضل وأقوم هم، كما قال راسل، الذين يحتاجون أشد الحاجة للحماية والرعاية والمناصرة.. في مجتمع مثل مجتمعنا الشرقي الذي نعرفه.. للدولة على الشعب حق التوجيه والتقويم، وقد تجد الدولة أن الشعب - أو طائفة منه - أسير "لعادات ضارة" كتعاطي المخدرات مثلاً أو الإسراف في الطلاق أو الزواج وهو لألفة هذه العادات يحرص عليها ولا يحب أن يتحول عنها"(4). ونحن في هذه الحالة نجد الدولة ترعى المصلحة العليا فتوجه وتقوم وتزجر، بل تعاقب، وفي بعض مجتمعاتنا التي يسير عليها الفكر السلفي الذي تحس وطأته، اعتقد أن علينا واجب المساندة والتأييد والمناصرة للجانب الذي يحتاج إلى ذلك، وهذا الجانب هو جانب المستقبليين دعاة التجديد والاقتحام والجرأة. ولئن كان برتراندراسل يرى هذه المساندة واجبة في أوروبا أو انجلترا، فهي عندنا، في الشرق، ضرورة، لكن هناك كلمة لابد منها عن دعوة التجديد التي نقصدها، والتي قصد غليها برتراندراسل دون شك، حين دعا إلى مساندتها ونصرتها، دعوة التجديد التي نقصها، هي تلك التي تقوم على الفهم والإدراك والأصالة والتعمق والإخلاص، لا تلك التي تقدم على السطحية والجهالة والتقليد وحب التسلق والشهرة، أو على المسايرة والمتابعة والأنانية، دعوة التجديد التي تحارب العادات والتقاليد البالية التي أصبحت لا تناسب المجتمع العربي ونؤيد منها ما يكون صالحاً لمسايرة روح التطور والنهوض.

هوامش:

1- انظر توطئة يوسف طيران لكتاب: روبرت أور نشتاين وبول إيرليش / عقل جديد لعالم جديد: كيف نغير طريقه تفكيرنا لنحمي مستقبلنا / ترجمة أحمد مستجير (القاهرة) الهيئة العامة لقصور الثقافة 1995.

2- التفكير العلمي : د. فؤاد زكريا / القاهر - دار مصر العربية، 1992، ص 190.

3- المعقول واللا معقول في تراثنا الفكر / د. زكي نجيب محمود، ط3، دار الشرق - بيروت، 1992، ص25.

4- فنون الأدب / هـ.ب.تشارلتن / ترجمة د. زكي نجيب محمود - القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1985.


إلى أمانة بغداد لا تهدموا هذا الجزء من بغداد

ترددت طويلاً في كتابة هذا المقال القصير الذي اعتدت أن أوشح به صفحة "ثقافة شعبية" أسبوعياً لأن الموضوع الذي أردت معالجته موضوع حساس خاص بعمارة جانب حيوي من بغداد هو منطقة السراي والقشلة وما جاورها، فقد سمعت - كما يسمع الناس - أن أمانة بغداد عهدت أو تريد أن تعهد لشركة "ما" القيام بـ(تطوير) هذه المنطقة التي تحمل الكثير من ذكريات التاريخ القريب والبعيد لبغداد، وسمعت أيضاً أن هذا (التطوير) يتم بقلع.. نعم بقلع كل الأبنية (القديمة) فيها، أي القشلة والسراي والساعة وجديد حسن باشا وما يجاوره وتحويل هذه المنطقة إلى منطقة (عصرية) تبنى فيها العمارات والأسواق الحديثة.. لتكون بغداد (أجمل) وأكثر عصرية.

تمنيت ساعتها أني لم اسمع كلاماً من هذا النوع الغريب فالدول الحديثة والعصرية والقديمة والمتعصرنة تسعى إلى تطوير عواصمها بالحفاظ على المعالم التاريخية فيها وإعمارها وفق طرازها الذي بنيت على اساسه حفاظاً على هويتها التاريخية والحضارية وبناء الأسواق والمتنزهات والعمارات يتم في مناطق أخرى مكشوفة ومفتوحة لعمل جميل كهذا، وما دام النظام السابق قد عبث بمطار بغداد القديم المقابل لمحطة السكك وما دام المسجد الكبير الذي بوشر به لم يتكامل بعد وبقيت تلك الأراضي الشاسعة التي حوله غامضة المصير فالأحرى أن تبنى العمارات المقترحة هناك وكذلك في أراضي معسكر الرشيد الشاسعة ولا حاجة لتطوير يزيح من بغداد معالمها مثلما فعل النظام السابق بالكرخ فأزال محلاتها القديمة دون أن يطورها وأنشأ عمارات شارع حيفا وسواه فضاعت معالم الكرخ القديم وانتهت أجزاء شعبية مهمة وأبنية كان يمكن أن يحافظ على جزء منها ويصان ليظل البيت البغدادي القديمة نموذجاً شاخصاً للعيان لا أن يقتصر الأمر على أبنية بيوت السويدي وتوفيق محمود والظاهر فتلك نماذج من عمارة ما بين الحربين وهي تختلف عن نموذج البيت البغدادي القديم.

والمهم هنا - ونحن لا نريد أن نناقش ما حدث من جرائم معمارية وننكأ الجراح - ألا نزيد بغداد جروحاً وأن يلغى اقتراح مشبوه كهذا يدمر الباقي من بغداد القديمة ومعالمها فنحن لا نريد عمارات حديثة في هذا المكان التاريخي بل عمارات وأبنية حديثة وأسواق في أماكن أخرى خالية وتستحق الإعمار والتطور أما هذه الأبنية وهذه الأماكن فالمرجو أن تهتم الدولة بأسرها بها وأن تعمرها حسب نموذجها المعماري لا أن تقلع من الأساس ويقتلع معها جزء من ماض قد لا يكون جميلاً لكنه ماض تاريخي شاخص لبغداد نريده حياً وباقياً خلود بغداد.

يكفي بغداد جراحاً وعبثاً ونفايات ومتفجرات وارتال عسكرية ذاهبة - آيبة ويكفي بغداد ألماً وحزناً على شرطتها وأولادها وشبابها متمنين أن يكون ما سمعناه كاذباً وغير صحيح وأن تظل شواخصها عزيزة شاخصة.. ولأمانة بغداد أو اية جهة مسؤولة أن تكشف للقارئ الكريم عن الحقيقة.

 


شريعة القمرية

زياد مسعود

تقع شريعة القمرية في جانب الكرخ مقابل محلة سوق الجديد بالكرخ وعلى القسم المطل على الشريعة يقع زقاق يواجه شارع الإمام موسى الكاظم (درب السكة) ويمتد إلى النهر وفيه سكلات الأخشاب والقرب الخاصة بالاكلاك حيث كانت تحل في الشريعة الاكلاك القادمة من سامراء والدور وبلد وتكريت محملة بالمواد الغذائية والرقي والدهون الحيوانية وكانت تحمل عند عشرينيات القرن العشرين المسافرين من هذه الأماكن إلى بغداد وبعد وصول الكلك إلى الشريعة وتنزيل المواد المحمولة عليه تفك الأعمدة الخشبية التي تربط القرب تحتها وكذلك القرب وتباع إلى الاسكلات الموجودة على الشريعة أو تودع عند البعض لحين نقلها إلى أمكنة أخرى.

وكان ترسو على الشريعة أيضاً القوارب الخاصة والقفف التي تنقل العابرين إلى شريعة الميدان بالرصافة عبر نهر دجلة أو بالعكس إضافة إلى قوارب صيادي الأسماك الذين يمدون شباكهم على الشريعة للتنظيف أو خياطة ما انقطع منها من خيوط ولا تزال شريعة القمرية في أشهر الصيف تجمع السباحين صغاراً وكباراً حيث يتعلم الصغار السباحة على يد مدربين متخصصين يتقاضون أجورهم من آباء المتدربين.

وكان البلاّمة الذين ينقلون موظفي ديوان الحكومة (السراي) من الكرخ إلى الرصافة وبالعكس يومياً يتقاضون مشاهرة قدرها دينار واحد في الخسمينيات وكان شيخ البلامة الذي يضبط الدور (السرة) بين القوارب يدعى دنوش، وكان للطلاب الذين يدرسون في معاهد وثانويات الرصافة مشاهرتهم الآمل وكان ثمن النقل للعابرين العاديين يتراوح بين 4 - 10 فلوس.

كانت بعض عبرات الدجاج (والعبرة بفتح العين عبارة عن جادر مسقوف على الأرض) تتجمع في شريعة القمرية ليبيع فيها الفلاحون الدجاج والبيض للراغبين، ومن أصحاب القفف التي كانت تنقل العابرين إلى الجانب الثاني أو تستأجر لصيد السمك حجي يوسف، خلف الزمزم، جبوري الصالح، جبوري الطويلة.

وعلى شريعة القمرية تقوم بناية مسجدها الذي تكامل سنة 626هـ وفتح في شهر رمضان ورتب فيه مصلى الشيخ عبد الصمد ابن أحمد أبي الجيش وفتح لثلاثين صبياً يتعلمون القرآن الكريم وفي سنة 668 أمر علاء الدين الجويني حاكم بغداد من قبل هولاكو بعمارة المسجد مرة أخرى بعد أن خرب اثناء سقوط بغداد عام 656هـ (1258م) ثم عمر مرة ثالثة على يد السيدة عائشة زوجة عمر باشا والي بغداد سنة 1177هـ وكان متولوه بداية القرن العشرين طه أفندي الشواف ثم الشيخ عبد الملك الشواف (والد محمد والعقيد عبد الوهاب صاحب حركة آذار 59 بالموصل) وكان من الخطباء فيه الشيخ طه والشيخ عبد الملك والشيخ محمد صالح جرجيس / وما زال المسجد قائماً للصلاة فيه.

وشريعة القمرية واحدة من جملة شرائع في صوب الكرخ منها شريعة النواب التي تحادد بناية ثانوية الكرخ للبنات وبيت النواب الكبير الذي كانت تخرج منه السبايا في عاشوراء ممتدة من ساحة جسر الشهداء اليوم إلى محلة الجعيفر حيث يستقبلها أهل الكرخ ويسقون عطاشاها ويعزون المشاركين بها ومن الشرائع الكرخية الأخرى شريعة باب السيف الخاصة بصيد وبيع السمك وعبور الأفندية والتجار إلى شريعة المصبغة وشريعة سيد سلطان علي في جانب الرصافة.

 


حلّيات

تأليف: د. صباح نوري المرزوك

مراجعة/ سعد الحداد

ان الاهتمام بتراث المدن يعني التواصل الحضاري لشعوبها وعملية الحفاظ على ارثها دليل وعي انساني لأن المدن العريقة ذات الحضارة تعد رمزاً انسانياً قبل ان تكون رمزاً وطنياً.

ومن تلك المدن مدينة الحلة التي اسست على يد الامير صدقة (سنة 495 هجرية / 1101م) والتي استطاعت ان تصنع لنفسها خصوصية مميزة من خلال دأب ابنائها من العلماء والادباء والمفكرين على وضع الاسس الصحيحة في بناء مجتمع متفتح قادر على التفاعل مع الجديد بحكمة وروية. لذلك ظلت هذه المدينة بعيدة عن اجواء الانغلاق المعرفي حتى في احسن الظروف التي مر بها العراق وان طالتها الايدي الآثمة في مجازر وحشية متباعدة من قبل المحتلين العثمانيين غير انها ظلت تقاوم في ميادين اخرى لتقدم للانسانية فكراً خلاقاً وادباً كبيراً وموروثاً شعبياً واجتماعياً ..

وآخر ما صدر في الباب الاخير كتاب للباحث الفلكلوري والمفهرس الدكتور صباح نوري المرزوك حمل عنوان (حليات.. مقالات عن الحياة الاجتماعية في الحلة) قدم فيه تراثاً ميدانياً معاشاً فمنذ اكثر من عقدين يحاول الباحث ان يدون في دفاتر متفرقة ما يتعلق بالحلة من عادات وتقاليد ويؤرشف ما يلتقط من صور حية لحياة الناس في المدينة ايام من افراحهم واتراحهم وصناعاتهم ومهنهم الشعبية وبعض الظواهر المنتشرة في المدينة فأخرج لنا كتباً اخرى احدها في الامثال الحلية وآخر في الكنايات والتعابير في الحلة وثالث في ما قيل من شعر في الحلة اما كتابه هذا فتضمن مجموعة من المقالات كان قد نشرها في وقت سابق في مجلة التراث الشعبي  ومقالات لم تنشر وهي كما وصفها الباحث في مقدمته (وهي في مجموعها وعلى اختلاف موضوعاها يمكن ان نصفها بانها (حليات) اي انها موضوعات تخص الحلة وتبين علاقتها بما جاورها من (المدن) وهي النبات في الامثال الحلية، النبات في الالغاز الحلية، تفسير الاحلام في النبات عند الحليين، عادات وتقاليد المرأة الحلية في العقم والولادة، وترانيم الامهات في (بغداديات) مقارنة بالحلة، صناعة الدبس في الحلة، الحمامات الشعبية في الحلة، حكاية من الحلة (الله كتب واني محيته)، معجم البيوتات الحلية، دليل بأسماء الشعراء الشعبيين في محافظة بابل.

احتجن الكتاب  بحجمه المتوسط (105) صفحات بضمنها تقديم الباحث والفهرست واذا كانت حصة النبات في مقالات الكتاب هي حصة الاسد وقد استغرقت اكثر من 40 صفحة فهذا يعني اهتمام الحليين بالنبات لان مدينتهم مدينة زراعية خصبة كما رافق المثل واللغز والحكمة حياة الناس فيها، وكم تمنيت لو اقتصر الدكتور الفاضل في كتابه على هذا الموضوع لفرادته فهو بحق عمل مضن في حجمه واستقصائه ميدانياً من افواه المسنين والشباب والاطفال ومن الجنسين وترتيبه ترتيباً هجائياً وان اكثر ما دون ليس له وجود فعلي في حياة الناس اليوم خاصة تلك المغالطات اللفظية او عبارات التعجيز والالغاز مما يعطيها صفة البقاء والحفظ كتراث شعبي.

اما ما يتعلق بتفسير الاحلام في النبات لدى الحليين فأنا لا اتفق مع الباحث في ذلك خصوصية متفردة للتفسير الحلي لأي حلم يراه النائم وقد استطاع الباحث ان يقدم لقارئه مقدمة وافية تناقض ما جمعه على انه تفسير حلّي فالرؤيا وتفسيرها والتعابير المؤلفة في هذا الباب كثيرة وكلها تجنح نحو التفسير الجمعي للامة ككل وليس لفئة او بيئة او مجتمع محدد. فالمقدمة ذات الصفحات الاربع ليس فيها ما يدل على خصوصية لمدينة الحلة ولا تتناسب من جهة اخرى مع الصفحات الثلاث موضوع البحث.

اما الحمامات الشعبية في الحلة. فأعتقد ان الجمع هنا لا يصح لأن الباحث لم يعرج على حمامات الحلة كلها بل تناول طبيعة عمل الحمام الشعبي وما يستخدم فيه من ادوات وايضاح عادات المرتادين اليه. ولو تطرق الباحث الى الحمامات الشعبية الاخرى في الحلة لكانت مادة تاريخية خصبة بمعلوماتها تفيد الباحثين والمهتمين بالتراث الشعبي الحلي وهو القادر على اتحافنا بالمزيد من ذلك.

اتمنى من الباحث ان يضيف لهذا الجهد جهداً آخر في استقصاء ما استجد طيلة اكثر من عقدين لا ان يقتصر على ما نشره في حينه ليكون فضل ريادته في جمع ما نشر الاساس المعتمد لدى الدارسين والباحثين.

وتمنيت من الباحث ان لا يضم الى كتابة هذا ما صنعه من فهرس للبيوتات والشعراء الحليين وان يفرد لهما كتاباً خاصاً يضيف اليه ما يوافق هذا الباب. علماً ان له جهوداً اخرى في مثل هذا التصنيف.

واخيراً فنحن امام منجز جديد على الرغم من قدمه. فمادته في اغلبها تصح لكل حين لما فيها من تاريخ يجمع بين المتعة والفائدة ويحفظ لمدينة الحلة تراثها وعاداتها وتقاليدها.

 

 

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة