المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

(الوجدان) الفصل التاسع الثبات

كنا قد توقفنا عن نشر الفصول المتبقية من كتاب (الوجدان) لفائق بطي الذي نشر (المدى الثقافي) حلقات منه، ووصلت الى المدى الثقافي العديد من الرسائل والاتصالات تستفسر عن اسباب هذا التوقف وتحثنا على مواصلة نشر ما تبقى من فصول الكتاب لأهمية ما تضمن من مراجعة لاحداث تتعلق بتاريخ الصحافة العراقية والتاريخ العراقي المعاصر عموماً. استجابة لرغبة القراء والمثقفين الذين اتصلوا بنا ننشر ومنذ اليوم الحلقات المتبقية من هذا الكتاب الذي سيصدر عن دار المدى بدمشق قريباً لما يلقي من ضوء على منعطفات مهمة من الماضي القريب. الكتاب من زاوية اخرى يعالج ويكشف الكثير من الاسرار التي لفت بعض الاحداث التي سمعنا عنها واخرى عشناها.

الفصل التاسع

الثبات

فائق البطي

الأول من آذار 1991

انتصب ضابط عراقي شريف امام جدارية كبيرة في ساحة من ساحات مدينة البصرة، انتصب بشموخ وتحد، يراقب الناس تارة، ويطيل النظر الى جدارية القائد العسكري الذي يقود جيش المليون، تارة اخرى. يلقي بنظره بعيدا عن صورة القائد، الى منظر الالاف من الجنود الذين يجرون اقدامهم بتثاقل وصعوبة، ويهاله منظر اولئك البشر وهم في ملابسهم الداخلية بعد تخلصهم من بدلاتهم العسكرية وزيهم القتالي في صحراء الكويت، لينتهوا من كارثة الهزيمة المفروضة عليهم.

وقف هذا الضابط الشريف امام الجدارية، وصوّب رشاشته الى رأس القائد المهزوم، لحظات، رشقها بصليات اصابت هدفها باتقان. عاد بخطوتين الى الوراء، ليفرغ باقي الرصاصات في صورة الصنم.

تكف الطلقات، تلتهب الأكف بالتصفيق، تشق هلاهل النسوة في الساحة عنان السماء، ويتحول صداها الى هتافات في المحلات المجاورة والازقة وصيحات الله اكبر تمتزج  باصوات العيارات النارية القادمة من كل صوب، من اسلحة شباب البصرة. يتراكض الناس وراء الهاربين من الحزبيين والمسؤولين البعثيين، بعد ان تحولوا الى جرذان مرعوبة. انتشراللهيب المتصاعد من الساحة الى كل مدينة وقرية في محافظة البصرة ..في العشار، الفاو، الزبير ، ام قصر والشعيبة.

انها انتفاضة شعب يثأر لكرامته وكرامة الجيش العراقي.

كانت البصرة، المحطة الاولى للانتفاضة، التي يحررها ابناء الشعب، وينضم اليهم افراد الجيش القادمون من صحراء الكويت.

الجنود والضباط يسلمون اسلحتهم للمنتفضين.

مراكز الشرطة تتحول الى مراكز ميدانية للتنسيق بين المقاتلين.

دوائر الدولة يحتلها الثائرون.

نيران الغضب المتفجر تلتهم دوائر الأمن والمخابرات ومقرات حزب البعث.

سيطر الغاضبون على المحافظة بكل توابعها.

من البصرة، تنتشر البطولة الى الناصرية، العمارة، الكوت، النجف الاشرف، كربلاء، الديوانية، ديالى والحلة.

من الجنوب، امتدت انتفاضة الشعب الى السليمانية، اربيل، دهوك وكركوك. تلاحمت سواعد ابناء كردستان العراق بسواعد ابناء الجنوب الصامد، تحولت الايام الى اعراس للشباب الذين صمموا على تحويل الانتفاضة الى ثورة رفض للحروب العدوانية، ضد ايران والكويت، وضد الشعب الكردي. ثورة رفض للنظام برمته، من اجل اسقاطه وبناء العراق الحر الجديد.

***

مدن العراق تنتفض..

معارضو النظام لا يزالون يخطبون في دمشق، وفي عواصم اخرى.

وكالات الانباء العالمية لا تزال تنتظر مقررات مؤتمر بيروت.

لم يصدر شيئ عن المؤتمرين سوى مقترحات وأمان بالعودة.

خاب أمله بالمؤتمر، وبالعودة مع جيل الانتفاضة.

لم يعد الى بغداد .. بل عاد مع من عاد من المؤتمرين الى المنافي من جديد.

طار مع رفيق مشارك آخر من دمشق الى ديترويت.

في طريق العودة، بدأت الانتفاضة بالانتكاسة.

واشنطن تسمح لسمتيات صدام حسين بضرب المنتفضين.

قوات الحرس الجمهوري التي لم تدخل الكويت وبقيت سالمة، تزحف باتجاه مدن الجنوب.

السعودية تطلب من واشنطن كبح الانتفاضة.

الجنود الامريكيون ينزعون سلاح  الشباب ويفتحون الطرق الى معسكري رفح والارطاوية.

السلطات الايرانية تستقبل مئات الألوف من اللاجئين.

الشعب الكردي بدأ مسيرة المليون الى حدود تركيا وايران.

الاماكن المقدسة في النجف وكربلاء تتعرض لقصف صواريخ صدام.

شعب الانتفاضة بدأ يغرق في بحر من الدم.

العرب ساكتون..

حكام الخليج يباركون عودة حكام الكويت ويحمدون سلامتهم.

خيمة صفوان حققت لصدام البقاء في الحكم.

تحولت الهزيمة في الكويت الى انتصار لحاكم بغداد المهووس.

الخاسر الوحيد، كان الشعب العراقي.

***

من جديد ينجو صدام حسين من مصيره المحتوم.

نجا من محاولات اغتيال كان ابرزها حادثة الدجيل.

ونجا من الحرب مع ايران بعد ان قتل من الجانبين اكثر من مليون انسان.

نجا من غزوه الكويت.

واليوم، ينجو من الانتفاضة، ويقتل خلال ايام ما يزيد عن مائة الف مواطن.

المعارضة العراقية تفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع بعضها، وفي فعالياتها ونشاطاتها من دمشق حتى الولايات المتحدة.ففي الوقت الذي تجتمع فيه قوى المعارضة في دمشق خلال الفترة 3 - 10 كانون الثاني 1992، استعدادا لعقد المؤتمر الثاني لها بعد مؤتمر بيروت، يبدأ البعض من تلك القوى بعقد لقاءات واجراء حوارات ثنائية ورباعية في لندن وفيينا وواشنطن، وتطلق الاتهامات من وراء الكواليس ضد قوى رئيسية في المعارضة، وتدعي فشل المعارضين لنظام صدام في توحيد صفوفهم او الاتفاق على برنامج وطني موحد.

تلك الزعامات التي تخفي رأسها وراء الكواليس، موزعة في عواصم عربية وشرق اوسطية.

كان بعيدا، وآثر ان يبقى بعيدا عن تلك الاجواء لفترة من الزمن، وابعد نفسه عن السفر الى لندن او الشام، وظل يراقب الاحداث من ديترويت وفي " مطبعة الشعب " التي تحولت الى منتدى يلتقي فيه المثقفون واالمعارضونٍ لمتابعة ما يستجد من اخبار المعارضة فيما وراء البحار.

قرأ في الصحف اخبارا عن مؤتمر جديد.

ظهرت مدينة اوروبية جديدة على خارطة المعارضة.

فيينا تستعد لمنح تأشيرة الدخول لرجال المعارضة.

يقول الخبر المنشور يوم 22 حزيران:

" اختتم المؤتمر الوطني العراقي - مؤتمر فصائل المعارضة العراقية - اعماله خلال الفترة 16-19 بانتخاب هيئة تنفيذية للمؤتمر تضم 17 عضوا للاشراف على تنفيذ خطة العمل المشتركة التي تم اقرارها في مختلف مجالات العمل السياسي والميداني والعسكري للاطاحة بنظام صدام حسين وانقاذ العراق.

كما وافق المؤتمر في جلسته الختامية على رفع عدد اعضاء الهيئة العامة للمؤتمر الوطني العراقي وهو بمثابة (برلمان في المنفى) من 68 الى 87 عضوا لتحقيق اوسع قاعدة من التمثيل الشعبي والفئوي والسياسي في هذا البرلمان.

واكد البيان السياسي الختامي للمؤتمر ضرورة اعتماد كل الوسائل المشروعة للاطاحة بنظام صدام باعتباره المقدمة الضرورية لتحقيق لقية الاهداف بل المناخ الاساسي لعملية التغيير الشامل في العراق. ودعا الى اجراء انتخابات حرة نزيهة لانتخاب برلمان وطني عراقي بعد التغيير، كما دعا الى احترام التعددية الثقافية للمجتمع العراقي.

انتهى الخبر..

برز لأول مرة أسم احمد الجلبي كرئيس للمؤتمر الوطني العراقي.

في وسط الخبر المنشور في الصحف، يقرأ اسماء الاحزاب والفصائل التي لم تحضر مؤتمر فيينا، وهي:

المجلس الاسلامي الاعلى في العراق ( الحكيم).

مجلس العراق الحر (سعد صالح جبر).

حزب الدعوة الاسلامية (الآصفي).

حزب العمل الاسلامي (محمد تقي المدرسي).

الوفاق الوطني الديمقراطي (صلاح عمر العلي).

الحزب الشيوعي العراقي (عزيز محمد).

الحزب الاشتراكي الكردستاني (د. محمود عثمان).

حزب الشعب الكردستاني (سامي عبد الرحمن).

جمعية العشائر الكردية.

التجمع الديمقراطي العراقي (صالح دكلة).

الهيئة العراقية المستقلة (حسن النقيب).

الهيئة العراقية الاستشارية (د. مهدي الحافظ).

الاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة وكندا (د. فائق بطي).

حركة الضباط العراقيين.

مجلس العشائر العراقية (سامي عزار المعجون).

تنظيم الناصريين المستقلين (مصر).

حركة الوحدة الشعبية (القوميين العرب – جاسم المعروف).

الحزب الاشتراكي في العراق (د. مبدر الويس).

شخصيات مستقلة وسفراء سابقون.

اعاد قراءة الخبر ثانية..خبر المؤتمر والقوى التي لم تحضره.

ان الكثير من فصائل المعارضة التي لم تحضر مؤتمر فيينا هي من الفصائل التي تتشكل منها الهيئة التحضيرية للاعداد للمؤتمر الثاني للمعارضة العراقية، والتي هي بالأساس ضمن لجنة العمل الوطني المشترك.

اذن.. اي مؤتمر هذا الذي انعقد في فيينا؟

ما هو مصير مؤتمر بيروت والمؤتمر الجديد الذي ينتظره المعارضون؟

لماذا حضر الى فيينا ممثلون عن الادارة الامريكية ووزارة الخارجية البريطانية؟

 


فوزي كريم في أمسية دمشقية بمناسبة افتتاح مرسم الفنان خالد سليمان

دمشق ـ ابراهيم حاج عبدي

في مساء خريفي هادئ، وحنون حيث تغفو دمشق في حضن قاسيون وتهب على شوارعها، وحاراتها النسمات الرقيقة التي تضفي على جمالها الليلي سحرا خاصا، أقام الشاعر العراقي المغترب فوزي كريم أمسية شعرية فريدة من نوعها، ففي مكان ضيق هو مرسم الفنان خالد سليمان الذي افتتح للتو، وبعيدا عن الرسميات، شاء فوزي كريم أن ينشد بعضا من قصائد ديوانه الجديد "آخر الغجر" الذي سيصدر قريبا عن دار المدى بدمشق.

قدمت إلى المكان مجموعة من العراقيين الذين يعيشون في دمشق، ولهم علاقة وطيدة بالفن، والشعر، والقصيدة ...حملت أوجاعها المزمنة وجاءت تصغي إلى صوت الحرف المقدس، دون أي تكلف ودون بذخ، فقط باقة ورد وحيدة باسم دار المدى حملتها الآنسة فاتن التي تآلفت، عبر عملها في دار المدى، مع الحزن العراقي وشجونه، فآثرت أن تزيل مرارة الزمن العراقي بورود ملونة... لا أضواء، ولا وجود لأصحاب الياقات البيض، فالشعر هو هكذا هش وجميل، وعذب، يحن إليه الكسالى، والمهمشون، والعشاق، والحالمون ـ أبدا ـ بحياة أجمل.

قرأ فوزي كريم باقة من القصائد كشفت عن دهاليز تلك الروح القلقة التي تعيش في المنفى اللندني منذ سنوات، تصالحت مع أوجاعها، لكنها أبت التصالح مع واقع مرير واليم، بائس ومقهور هناك في أمكنة الطفولة والصبا التي هجرها الشاعر باكرا بعد أن رفض الولاءات والوصايا وما أكثرها، فقط ولاء وحيد يغريه بالانحناء :الولاء لسلطة المعرفة والإبداع، وما فتئ الشاعر يدون الألم الإنساني دون ملل وكأنما الابتسام قليلا في وجه الكآبة والانكسار هو ذنب لم يشأ الشاعر أن يقترفه، محاولا ـ من خلال نتاجه الإبداعي ـ التبرئة من ذاكرة مفعمة بثقافة الجهل، والقمع، والاستلاب باحثا وسط هذا الخراب عن امرأة مطوقة بالياسمين، عن حانة ـ لعلها كاردينيا الغائبة ـ تمتص وجعه المقيم، وتزيل القلق القابع في الأعماق.

ها هو يقف على المنصة المتواضعة يتلو شعرا وكأنه ينشد أغنية لأرض السواد التي لفظت أبناءها قسرا وراحت تنسج لهم وشاحا للعودة المرتقبة دونما أمل، فقد غرق السندباد في السفار وأسرته آلهة البحار، أغنية شاحبة هرمت في السنوات الكئيبة التي مرت على بلده العراق، وعلى حياته كشاعر يعيش في حلم جميل عنوانه العراق الذي لم تستطع الغربة الباردة النائية أن تنتزعه من ذاكرة الشاعر المتدفقة، الخصبة، المفتوحة أمام دفاتر الأيام المليئة بالكثير من الخيبات، وبالقليل من الهدوء كاف لميلاد قصيدة.

يقول الشاعر بثقة: عشرة مستمعين أهم من جمهور عريض يهتف ويصفق لتلك الشعارات الحمقاء، ومن هنا آثر أن تكون الأمسية بعيدة عن الأضواء، والإعلام، والفضوليين، وصائدي الخجل والانكسار في عيون الشاعر الأعزل إلا من وهج القصيدة، أسماء قليلة كانت حاضرة: عامر بدر حسون، باسم قهار، طه خليل، احمد هاشم...وسواهم، قلائل أرادوا الإصغاء والشاعر لا يريد أكثر من هذا الجمع القليل، فها هو يخاطب شبيهه السياب: "أيها الشاحب الجميل/يا بديلي / يكفيك هذا القليل/ من بقايا درب نحاوله وثبا/وأفق نحار فيما يقول / سعة الليل في ثيابي، وبيتي/نفق عاثر الخطى معقول".

ينفي الشاعر أن يكون للشعر أي هدف أو أن يكون للشاعر أي موقف، فالشعر يكتب لا ليكون بوقا للأيديولوجيا، وفما للثوار... الشعر يدون ليعانق متاهة الحياة، ليثير أسئلة، ليكشف عن تلك العوالم الخفية

المتوهجة في قلب الشاعر، هي كيمياء معقدة غامضة، شاسعة بحجم الحياة، وضيقة كالفرح، وخافتة كما لو أن الصمت أبلغ منه:

لمَ أكتبُ وحدي الرسائلَ في كلِّ شهرٍ؟

أحاولُ أنْ أستجيب لصمتكِ.

إذْ أدعي أنَّ صمتكِ أبلغُ مما أحاول.

في كل شهرٍ أضم إلى اسمكِ في أول السطر ما أشتهي من خصالك:

سيدةَ الشوق، والياسمين، وقداحَ سور الحدائق.

حتى إذا ما تندّت زجاجةُ نافذتي من بخار فمٍ، قلتُ:

أنفاسُ سيدة الشوق؟

لكنه الليلُ، أنفاسُ ريحٍ من الليلِ باردة.ٌ

ثمّ أُنهي الرسالةَ.

فوزي كريم شاعر ينتمي إلى زمن الحروب والمآسي والمنافي البعيدة، كحال كل مجايليه، وهو في قصائده يطارد سرابا فاتنا، يسطر حروفاً بيضاء للحبيبة الغائبة، يفتش في حنايا الروح بحثا عن وردة مشتهاة، عن ابتسامة نبتت على شفة طفل ...يبحث عن جده المعري، وعن شبيهه السياب... يجوب تضاريس أرض الرافدين بمجداف من الشوق، يتوق إلى الارتماء في ظلال النخيل، والى الغرق حتى الثمالة في أهوار الجنوب، هو الشاحب الجميل يقطف تعب العمر، زنبقة، زنبقة لينثرها أمام الحضور أريجا يروي حكاية شاعر شاحب وجميل مثقل بالألم، وفي محياه يرتسم العراق، وحنين يكبر، ويكبر ولا يجد سوى المداد وسيلة لاستعادة الصباحات المشرقة التي تشربتها دجلة الخير، ويوثقها فوزي كريم بلغة سلسة تروي النفوس العطشى الضائعة في غروب هذي الحياة، وغربتها.


الراقص

ترجمة  جودت جالي

كولم ماكان الروائي أرلندي الأصل أمريكي الجنسية يبلغ من العمر الآن تسعة وثلاثين عاما، له أعمال قصصية وروائية عديدة. وروايته (الراقص) أعتبرت أفضل رواية طبعت عام 2003 في الولايات المتحدة ونزيد اليوم أنها أعتبرت أيضا واحدة من عشر روايات هي الأكثر مبيعا في العالم.                                                           

هذه الرواية محاولة لأعادة خلق حياة نورييف أبتداءا من طفولته البائسة حيث ولد لعائلة تتارية في أوفا عام 1938 وصولا الى رحلة العودة الى بلاده عام 1991  ليرى أمه بعد فراق ثلاثين عاما قضاها في الغرب منفاه الأختياري ليعود بعدها فيقضي أيامه الأخيرة في مستشفى بباريس ويموت بمرض الأيدز عام 1993 . لكن ماكان لم يتطرق الى هذه النهاية فقد صعب عليه أن يصور راقص الباليه العبقري في أنحطاطه البدني. يستحضر حشدا مذهلا من الشهادات، حقيقية أو متخيلة، تصور الصفحات الأولى جنودا سوفييت في الجبهة وسط البرد والخوف. يقول الروائي أنه أمضى ستة أشهر يكتب هذه الصفحات ويعيد كتابتها ليعيش تلك الظروف وأيقاع الحياة فيها، ثم مشهد الجرحى في المستشفى العسكري يحضرون عرضا فولكلوريا يقدمه أطفال بينهم رودلف نورييف البالغ من العمر ست سنوات حيث يكتشف الطفل قدرة فنه الخارقة. ثم تظهر في الرواية أصوات أخرى.. تمارا شقيقته ويوليا الرائعة أبنة أول مدرب قاد خطواته في الرقص، ومارغوت فونتين زميلته في الرقص الأكثر شهرة وربما على وجه اليقين كانت حبيبته الوحيدة وهي التي كانت عند دخول نورييف حياتها تكبره بتسعة عشر سنة وعلى وشك الأعتزال، وفكتور أحد أصدقائه وهو فنزويلي داعر سيء السمعة ويمثل في الرواية قرينا لنورييف بشكل ما، وأريك برون الراقص البارع صديقه في الحياة وغريمه في الفن، وتوم الذي يصنع له خف الرقص، وأوديل مدبرة منزله.. كل واحد من هؤلاء هو وجه من وجوه نورييف ومع ظهور كل وجه ( أو عنصر) ينضاف لون آخر الى البورتريه ليختلط بالألوان الأخرى ويظهر كم هو الراقص معقد ومتناقض، وكم هو أكثر غموضا وأكثر أنسانية معا، مخلوق نرجسي وأناني وفي الوقت نفسه كريم الى درجة الجنون، واثق من تفوق فنه وعديم الرحمة مع نفسه، صافي الروح، مولع بالثقافة، وشره في ممارسة الجنس، ولكي يبعث الحياة في هذه العبقرية يستنفر الروائي كل قدراته وموهبته خالقا شخصيات لاتنسى واضعا أياها في بناء متعدد الأصوات. 

يقول ماكان أنه أمضى أوقاتا طويلة يتأمل الصور الفوتوغرافية ويتخيل مايمكن أن يكون وراءها، ولكي يكون داخل جو الرواية شاهد أيضا كثيرا من الأفلام الوثائقية عن الأتحاد السوفييتي من بينها فيلم عن المستشفيات العسكرية ألهمه أول فصول الرواية ، وقرأ بشكل مستفيض دواوين من الشعر الروسي ، ولكي يحافظ على حريته كروائي لم يلتق أحدا من الشهود ، وبالمقابل سافر الى مسقط رأس نورييف وتجول فيها ثم ذهب الى سان بطرسبورغ ليزور معهد كيروف حيث خطى الفنان خطواته الأولى. رودلف (أو روديك).

يقدم لقارئ حياته الكثير من الوجوه المختلفة.. الطفل والمراهق والرمز السياسي وفتى الأيقونة والراقص والعالمي ومرض الأيدز. روديك في الأتحاد السوفييتي وفي فرنسا بعد قراره أستغلال وجود فرقة البولشوي في باريس لتقديم عروضها ليعلن بقاءه خارج بلاده عام 1961 وفي الولايات المتحدة حيث أقام  حيث بقي خمسة عشر عاما خائفا يتوقع مطاردة المخابرات الروسية له ويخشى أن يعاد بالقوة الى روسيا، ولم يرجع اليها ألا باتفاق بين الولايات المتحدة والأتحاد السوفييتي ليزور أمه ويعود . كان المشروع في البداية هو كتابة كتاب عالمي ومنح الناس الصغار الذين يحيطون بأحد أساطير القرن العشرين صوتا مسموعا، الناس الذين لاتذكرهم السير عادة، لم يكن مهتما حقا بنورييف بقدر ماكان يستثمر قصة حياته ولكنه كلما توغل في القصة كلما أحبه وأحتلرمه أكثر من ذي قبل وأصبح هو المهيمن على أيقاع القصة. أن الكتب تعجز عن التعبير عن الجمال الخرافي الذي أوجده نورييف برقصه مما جعله واحدا من أهم الفنانين في تأريخ الرقص، ولقد قالها بوشكين حين عبر عن أرتفاع الراقص في الهواء بأرتفاع الروح الهائمة.        

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة