المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

البلاد التي هجرها الصعاليك .. حكماء بغداد الشعراء... وجنون الموت
 

قاسم محمد عباس

كلّما مررت بالوزيرية أو باب المعظم وصولا إلى ساحة الميدان استوقفتني صور قديمة لصعاليك شعراء، طالما تركوا مسحة من الجمال واللامعقولية على إيقاع شارع شهد الكثير من حوادث الجوع والموت والخوف والحنين. خلفوا أثرهم بوصفهم كائنات متمردة على السياق الاجتماعي وذاكرته الثقافية، فسيرة حسين مردان والحصيري وجان دمو ونصيف الناصري صورة كبيرة ومؤثرة ومنتجة عن جنوح شخصيات أدبية تركت نتاجها كتابة وسلوكا في الحياة الأدبية في العراق،شخصيات يصعب درجها ضمن إطار المستقرات والمتعارف عليه، أو لنقل يصعب إخضاعها لمحدد التنميط والثابت، فهي دائماً تبحث عن صياغة وجود آخر، بشروط أخرى، وقد بدا هذا واضحا من المواقف التالية لنصيف الناصري وهو يؤرخ ويصوغ حقيقة هذا الموقف من الحياة والكتابة والصعلكة.
وبموت أو مغادرة تلك الأجيال البلاد تركت امتداداتها تتوالد على الرغم من اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية،فقد اقفلوا على حكاية نادرة من حكايات الصعلكة.
فبعد أن اختفى هادي السيد عن زوايا الكرنتينة والميدان وباب المعظم.. تحول الشارع الذي يربط جسر باب المعظم بكلية الفنون الجميلة إلى بقية من أحجار وروائح وأشجار يابسة.فطالما حفر هادي السيد هذا الطريق بخطوات مترنحة صارخا في وجه الأشجار والمارة والأدباء.
هذا المكان الميمون المزدان بشطحات شعراء تركوا حكمتهم وبكاءهم وسورياليتهم على مناطق انتظار الباص ومداخل المقاهي،ووجوه الجنود وكتب الطلبة ومدخل شارع جريدة الجمهورية، الأرض التي تحرك عليها هؤلاء الصعاليك، دخلت وعي وتاريخ أجيال من القراء ومحبي الأدب والكتاب والطلبة والجنود، صعاليك تناوبوا على سدانة شارع يمتد من جسر مشاة باب المعظم وحتى مدخل كلية الفنون الجميلة، ولم يزيدوا على تلك المساحة كي يدخلوا كافتيريات أنشئت فيما بعد، فهم يتحسسون من الألوان البراقة والموسيقى الهادئة،والملابس الأنيقة تستفزهم تلك الأكواب الفاخرة، أو فناجين تدار على رواد قاعات الرسم في الوزيرية.تربكهم تلك الأجواء والفضاءات التي تذكر بعالم آخر غير عالم شارع الرشيد وحسن عجمي والميدان.
لن آتي على مدح أو رثاء من رحل من هؤلاء.. لكنني سأستعين بواحد منهم هذه المرة... أعادني بقوة إلى ماض سيختفي بالتأكيد من أطراف الحياة الثقافية كما كان يحيط بها، حطم حواجز وثوابت هؤلاء الصعاليك الذي أسسوا لعالم من الجنون والكتابة والحب والحياة. واحد من هؤلاء بدا عصيا على موجة التغييب والإخفاء التي تفرضها وقائع حياتنا الآن.
فمثلما كان عبد اللطيف الراشد يرى فيَّ وفي علي بدر صديقين وفيين ليسلمنا ديوانه ذات يوم ليقدمه علي بدر وأراجعه أنا وأطبعه فيما بعد. اعتاد (صباح العزاوي) أن يسلمني كل مدة مجموعة من القصائد لأنشرها له هنا أو هناك.. أتذكر الآن صباح الذي سيفقد المكان بغيابه طرفا من وجوده، إن لم اقل طريقا من طرائق الحياة فيه.
قطعت الشارع الذي يربط الباب المعظم بكلية الفنون الجميلة نحو قاعة حوار، مارّا بمقهى الجماهير، وأرسلت التفاتة إلى زقاق المقهى فتقافزت وجوه هادي السيد، وعبد اللطيف الراشد وصباح العزاوي وغيرهم بوصفهم من كبار مؤسسي التيه والشجاعة والتمرد والضياع والحقيقة، لمرحلة ما بعد التسعينيات، لم أتأكد فيما لو كان صباح العزاوي حياً أم اختفى هو الآخر،لكنني تذكرت بوضوح دموع هادي السيد وهو يستقبلني من بعيد، تذكرت ابتسامة عبد اللطيف الراشد، وهو يوبخ الأصدقاء.. لم أجد في ذاكرتي صورة تلخص لي صباح العزاوي... فضحكته تنافسها مشيته، ودفتره ينافس جملا بلا معنى تتطاير فوق أشجار المطابع العسكرية، ولم انجح في العثور على علامة واحدة اجعلها تشير لصباح العزاوي. لم أكن اعرف أين هو؟ لكنني كنت مشدودا لعصيانه على التوثيق في ذاكرتي... قطعت الشارع وحنين جارف يشدني نحو مقهى الجماهير، ووجوه قافلة من التائهين تنعكس هنا وهناك، ترثي مكانا حمانا من جوع الحصار، وآمن لنا موطنا ضد سنوات الحاجة والقمع واليأس.
كنت على موعد مع الكاتب خالد جمعة في قاعة حوار... وصورة صباح العزاوي تنقصها الكثير من الملامح، لم اعرف لم لا انجح في تذكر صباح العزاوي بوضوح... قضيت ساعة أو اثنتين برفقة خالد في حوار. حتى تشجعنا لنخرج من القاعة الداخلية نحو حديقة قاسم سبتي ليخرج علينا صباح العزاوي من أرضية المكان كمومياء داكنة، هيكل عظمي غطته ملابس زرقاء... نظر العزاوي في وجهي وصرخ أين قصائدي؟
قفز قلبي من مكانه لوجوده في حوار..إذن أنت حي أيها التائه؟
أدين بالفضل لمعرفتي بعالم هؤلاء للشاعر خالد مطلك.. خالد الذي أعده أبا روحيا لاكتشاف المتوحدين، والمواهب المدفونة.. خالد الذي لا يشبهه أحد في التقاط الأذكياء من الصعاليك، نظرته وهو يرصد كلماتهم أو يختبر معارفهم.. تشير إلى شاعر جاء في زمن خاطئ، اندهش كيف لم يكتب إلى الآن تاريخا عن هؤلاء؟ فمنذ أن أسس نصيف الناصري الجزء اللاحق من تاريخ الصعلكة لمرحلة ما بعد الستينيات والسبعينيات متأثرا بجان دمو ومن سبقه، اندفع خالد مطلك بدفع هؤلاء إلى واجهة اليوميات الأدبية في العراق، فهو الأب الروحي لو جاز لي القول لصعاليك زمن الحروب  دون أن يعني ذلك  منافسة الشاعر نصيف الناصري، وأظن أن ضياع تراث الجيل اللاحق لهؤلاء بتفاصيلهم وكتاباتهم بسبب هجرة خالد مطلك من العراق، فهو مكتشفهم، ومن وضعهم على طريق الصعلكة، ومن نظّر لأفكار التيه والضياع في مواجهة الاندثار والقمع والظلم، ولو قدر لشاعر مثل خالد مطلك أن يدون شيئا عن التاريخ الاجتماعي للحركة الشعرية منذ الثمانينات لخصّهم بفصول ووقائع شاهدها الوحيد وصانعها هو لا غيره.
ولست هنا بصدد وضع مخطط عن حركة ودور وتأثير هذه الجماعة التي تتعرض هذه الأيام لحملة إخفاء وتضييع بسبب اختفاء مجال الصعلكة ذاته، بفعل يوميات العنف والموت والقمع التي يفرضها الإرهاب، فكيف يمكن لمجموعة من الحالمين أن يتصدوا لآلة التفخيخ والاغتيال والانفجارات، هؤلاء الذين ليس لهم من الحياة سوى قصائد وحقائب وشطحات، وحكمة عاجزة إزاء انقراض حياة بأكملها، اطمح هنا وعبر حادثة العثور على (صباح العزاوي) حيا أن انشر مجموعة من قصائد هذا الشاعر لأذكر بجانب حي وجميل وغني من وقائع حياتنا الأدبية، لعلني بهذا التذكير أحرض مخيلة وذاكرة أصدقاء آخرين ليدونوا سيرا ربما ستضيع لو لم نوثق تفاصيلها. والموضوع ببساطة ليس إلا مواجهة للصعاليك جديدة مع قوة غاشمة جديدة هي الإرهاب التي تحاول امتصاص نسغ حياة صعاليك بغداد، فوجدتني أفكر بسؤال ما الذي يمكن أن يفعله ما تبقى من جمعية الشعراء الصعاليك هذه في مواجهة منظري القتل الجديد؟
وسط حديقة قاعة حوار جلس العزاوي يتحدث عن العقل الأمريكي الضال، عن حياة خربها هؤلاء بمنتهى الوحشية، صارخا بين جملة وأخرى إن الذات الأمريكية تحتقر حقيقتها بلا شك وهي تعبث بالمتحف العراقي، أو تقتل شاعرا هنا، أو تدهس حديقة هناك بآلتها الحربية.
تأكدت من أن صباح لم يزل يعترض، كما كان يفعل وهو يقف وسط سوق الكتب ببغداد ويلعن جلاوزة الدكتاتور، فلم أفكر بشيء... مددت يدي لأسلم عليه فمد يده بتردد وما أن سمعت حشرجة صوته حتى تبين لي انه في طريقه إلى الموت.. سحب يده قائلا... أنا مصاب بمرض معد... أين القصائد؟
قلت له: نشرت جميع ما سلمتني من قصائد، هل لديك قصائد أخرى؟ اخرج دفترا ممزقا قال: خذ هذه بعض قصائدي، تصفحت تلك الأوراق الممزقة ورحت اقرأ فيها، فقام هو تاركاً المكان وهو يشير بأصبعه إلى ديوانه الممزق الذي لم يكن سوى قصائد بدا لي أنها كتبت وسط ظلام، أو تحت وطأة خوف، كان الخط عسيرا عند القراءة، فوجدت أن انشر منها بعض المقاطع.

طريقان ممتدان بينهما القتل
حياتي التي أحياها
.....
ضوءان متعامدان بينهما المطلق
هو ما خلفه الشعر


عني وعن أمريكا


بحرية الغنغرينا
سأمتص لحم قوانينك
سأضيء سرّ بلادي
أو أضيء الطين
أضيء أمماً فيَّ اعتصمت
نشيدا من الماس
وانشر عارك على شفاه الشيوخ
فقط أعلمك
عن حكمة الموسيقى
وأبدية الهندي الأحمر
ففضتك معتمة
وعويلك يتكرر
يضحك الأطفال عليك
ما بالك
تجندين الموت
تعبدين المسخ
أيتها الوقحة.
***
أنا اعرف
إن نيويورك
مذابح
تعقبها مذابح
لكن لا مذبوح هنا سوى الحقيقة.
***
لن تتغير نظرتي لبغداد
بكل ما جئت به
لن أصير واقعيا
حتى لو ذبحت نفسك أمامي
أيتها المخادعة
أتربص بشمس ظهيرتي
بطيورك اللاعنة
ولن يكون لدي صباح جديد
تبزغ آلام البغداديين فوق عيادتين شعبيتين
فيختفي الشك
فوق ما تبقى للغزالي حياة
لن يجد جندي من كاليفورنيا كيمياء هنا
عن السعادة.

قتلة زهور من هناك

مذ رأيتكم في الأسواق
تذكرت سجونا أخرى
تذكرت موتي مع الزنادقة
تذكرت جلدكم للأفكار
تذكرت ظهر ابن حنبل وهو يساقط
تذكرت ابن رشد وهو يحرق العقل
مذ رأيتكم في الأسواق
رحت اقرأ كيف قتلتم التاريخ
رحت اقرأ كرهكم للنور والذهب
كرهكم للزهور
كرهكم لصِباح الوجوه
كرهكم للحب
لكل زمان دراكولاه
انتم فعلا دراكولا هذه الأمة.

ما خطه التيه للمجد

المجد لي
أنا تكملة الأصدقاء
حارس شوارعنا من الفراغ
المجد لي
أنا متذكر السياب كل صباح
المجد لي
أنا ناشر الطمأنينة في وجوه النساء المعذبات
المجد لي
أنا موئل موتنا اليومي لأسرار جديدة
المجد لي
أنا مشرد عصر الإرهاب
المجد لي
أنا الابن المشتت بفكرة بغداد أخرى
المجد لي
أنا الذي رضعت من ثدي ارض
يسمونها
Iraq


من يتذكر كولن ويلسون؟


فاضل السوداني

في الرابعة والعشرين من عمره، كتب كولن ويلسون كتابه" اللامنتمي"، الذي أحدث دوياً هائلاً في بريطانيا واوروبا حين صدوره عام 1956، أي قبل خمسين عاماً، وانتقل تأثيره إلينا، نحن سكان العالم الثالث، وبخاصة العراقيين، حين ترجم إلى العربية في الستينيات على ما نذكر، في تلك الفترة المحتدمة بالثورات، وحركات التحرر الوطني، وتمردات الطلبة، والثورة الجنسية، وشعارات الالتزام السياسي والأدبي، ونفوذ الفكر الماركسي، الذي اقتحم حتى حصون الوجودية المنيعة، ممثلة بمنظرها الأول جان بول سارتر.
بعد قراءات هائلة، نقب كولن ويلسون في الأعماق غير المكتشفة لشخصيات ارتفعت إلى مستوى الأسطورة، فحجب ذلك عنا جانبها البائس، الرخو، الشقي، اللا منتمي إلى العصر": تي. إي. لورنس (لورنس العرب)، فان كوخ، نيتشه، البير كامي. كان يكتب في مكتبة المتحف البريطاني أثناء النهار، وينام في الليل في الشوارع، فلم يكن يملك ملجأ يؤويه.
لكن شهرة" اللا منتمي" غيرت كل شيء عند هذا" الصبي العبقري"، الذي كان يحلم، منذ الرابعة عشرة من عمره، أن يصبح اينشتاين آخر. أصبح صاحب" اللا منتمي" منتمياً. تزوج في التاسعة عشرة من عمره، وأصبح رائداً من رواد الحفلات الخاصة في مرابع لندن، حتي نصحه ناشره بالابتعاد عن العاصمة البريطانية، فاختار مدينة كورنويل، القريبة من لندن، التي يعيش فيها منذ خمسين سنة، مع زوجته الثانية في عزلة شبه تامة.
لكن العالم ما أن هدأت ضجة" اللا منتمي"، وخاصة في بلده بريطانيا، ولم يتذكره أحد إلا عند صدور مذكراته" أحلام من أجل هدف ما" قبل فترة، غير إنه كان تذكراً مشبوباً بالسخرية غالباً.
ماذا حدث خلال خمسين سنة تفصل بين" اللا منتمي" و"المذكرات"؟
لقد أصدر الرجل خلال هذه الفترة حوالي 110 كتب. وإذا استثنينا كتابه المتوسط القيمة" ضياع في سوهو"، لا نجد أيا من كتبه الأخرى على علاقة بالرجل الذي عرفناه في" اللا منتمي"، لا من ناحية القيمة الأدبية ولا من ناحية الموضوع. لقد كتب في التنجيم، وعن الكائنات الفضائية التي تهبط إلى الارض لتخطف البشر، والمجرمين المحترفين، ومدن الاتلنتس المفقودة، وغيرها من المواضيع حتى نصحه ناشره بالكف عن الكتابة!
ماذا حصل لذلك الفتى الذهبي؟ هل هو احتراق الموهبة المبكرة، كما حصل مع ذاك الفتى الذهبي الآخر رامبو، الذي غير الشعر إلى الأبد وهو في التاسعة عشرة من عمره، وسكنه الشعر إلى درجة الاحتراق، فلم يطق احتمالاً، ثم اختفى في جبال عدن السوداء؟ هل كان كولن ويلسون من"أصحاب الواحدة"، على غرار جي. دي. سالنجر صاحب" الحارس في حقل الشوفان"، التي لا تزال، منذ الخمسينيات ولحد الآن، تبيع ملايين النسخ، لكن صاحبها لم يستطع أن يكتب شيئاً مهماً بعدها فعرف قدره وصمت بعكس كولن ويلسون؟ أم إنه الوعي الشقي الذي تحدث عنه في" اللامنتمي"، والذي قد يؤدي إلى الجنون كما عند نيتشه، أو الانتحار كما عند فان كوغ، أو إلى التسطيح كما عند كولن ويلسون نفسه.
إنه لا يعترف بذلك، ويرى أنه عبقري، كما يقول بالحرف الواحد في مقابلة معه نشرتها جريدة "الغارديان" البريطانية في العشرين من هذا الشهر بمناسبة نشر مذكراته، ويتهم الإنجليز بأنهم ليسوا" شعب أفكار" مثل الفرنسيين!


رأي: شباب منمّط
 

د.سهام جبار
"لماذا يمتلئ العالم بأطفال اذكياء وكبار فاشلين؟" السؤال الذي أبداه الكاتب الانكليزي تشيسترتون، اجاب عليه كولن ولسن بأن الفشل يبدأ في العشرينيات من العمر ليكتمل عند سن الثلاثين، ففي سنوات الشباب الاولى تكون المعركة على اوجها بين النبوغ والضحالة، وفي العادة تفوز الضحالة، لا أظن ان هذا المدار من التساؤل والبحث عن الجواب ببعيد عنا، فنحن نشهد وعلى نحو متدرج سقوط المواهب (بل نفرح لذلك) غير متسامحين مع كل محاولة للتألق، لأن الانشداد الى التشابه رادع مفضل لكل مساع الى التفرد من اجل حجب النبوغ في المجتمعات التي تكره التميّز.
ويبقى الحلم بشباب مطلق يراود الشاب الذي انتهى الى الضحالة، باحثاً عن وسائل لادامة محاولة التغلب على الخسارة النهائية وتجديد المعركة، لذلك تكون الجامعات محطة توقف طويلة تستقطب الفاشلين والعائدين الى الدراسة (كما حدث مع كل اعادة للمرقنة قيودهم لمقاعد الدراسة والسلوك الى النجاح من كل طريق حتى ان كان غير مشروع)، يشبّه أمبرتوايكو ذلك بالرغبة في اطالة مدة الحضانة التي تعني البقاء تحت حماية الابوية والمؤسسات المجاورة لسلطة الابوين، ومن هنا يجيء التوسع في التعليم الجامعي اذ يوقف الطالب السن المتسعة لأن تكون سناً شبابية حتى ان وخط الشيب رأسه لكي يظل قاصراً في تناقض يشعره بحيوية غير متحققة على مستوى الواقع. وفي هذا التنصّل عن ان يعيش المرء عمره من دون مشاكل وعقد نفسية واجتماعية تجد الطالب مستمراً في اشغال موقع دراسي لم يكن ليتخطاه أصلاً في اوانه عبر الدراسة المسائية او بالرسوب المتتالي او باي شكل مماثل "وقد حلّت الدراسات العليا الآن وقد جذبت اليها انظار هؤلاء (الشباب؟) وسيلة مضافة في اطالة أمد محاولات تصحيح المسار الخاطئ لكسب معركة بائتة، مع ما يرافق مثل هذه المستويات من ضعف وقصور واضحين).
ان هذه المشكلة في التعامل مع الزمن باثبات القدرة في حينها دون تأجيل تعبّر عنها شاعرة رومانية اسمها آنّا بلانديانا، بطريقة مختلفة، فهي تقول "كان يجب ان نولد شيوخاً/ من أجل ان نكون أذكياء/ وبحالة تسمح لنا/ ان نقرر مصائرنا،/ من اجل ان نعرف/ أي الطرق تنطلق/ من تقاطع الطرق/ وبعدئذ،/ كان يجب ان نصبح اكثر شباناً/ بحيث نكون في ذروة قوانا الابداعية/ عندما نصبح ناضجين/ ثم شباباً يانعين/ كي ندخل محراب الحب/ ثم نكون اطفالاً في ساعة ميلاد اطفالنا/ هكذا/ من اجل ان يكون الاطفال اكبر منا/ لنقول بأنهم علّمونا/ وهزّوا مهدنا../ وبعدئذ نصبح تدريجياً اصغر واصغر/ مثل حبة عنب/ مثل بذرة وردة..."
ومع ان القصيدة تذهب الى معان اخرى، الا انها تلمح الى هاجس عدم تقدير المواءمة العمرية مع المراحل التي نقطعها.. قد تكون المسيرة مقلوبة ليمكن الاختيار، والا فان ارادة الاخرين وفروضهم هي السائدة على خصوصية الشاب وميوله ومراحل تفتحه في الاحوال التي يكون فيها طفلاً بين كبار، ولأننا لا نحترم الطفولة اذ نقرنها بالجهل دائماً نزداد تزمتاً في تقليل شأن الطفل والتضييق على مساحة الحرية واللعب لديه. هناك ايضاً تزمت المعلم في شد تلامذته الى حقيقة غير مطلقة غالباً لكنها مقدسة، التعليم في نطاق الاسود والابيض، الصواب المطلق والخطأ المطلق، تسخير الاجيال من الشباب الى معالم بعينها من صياغة الدرس ومدركات العلم المعلنة، الدعوة الى التماثل بجعلها وصفة النجاة للقطيع كله فالفرد وحده منبوذ وملعون والخير مع الجماعة، التمييز المفرط والمبالغ فيه بين الذكور والاناث واعلان التفضيل المبارك فيه للذكور والتبرؤ من كل سمة أنثوية في العابهم، التهيئة الى مصير مدروس لتولي مسؤوليات موروثة، وقتل التطلع الى المجهول ليس من سيئات العملية التربوية انها نظرت فقط الى انشتاين طالباً عادياً، ورفضت جموح سلفادور دالي ورفضه نمذجة المعرفة التي يتلقاها في درس الرسم، انما يمتد ذلك الى سلوك مجهز بكل لوازمه العدوانية في آلة تدجين والغاء ومحو التفكير منذ اوائل مراحل التشكل والبدء للشاب، والاعداد المحتوم لمستقبل لا يقبل أية ممانعة او عدم انصياع.. ان ذلك معبّر عنه في فيلم (الجدار) لالن باركر بالماكنة العظيمة التي تضرس أجيالاً من التلاميذ بين اسنانها لتحيلهم الى موت عقلي واحد.. لتكن هناك تفسيرات متعددة لهذه الماكنة الهائلة بشراستها وقتلها، لتكن هي الحرب،التلقين المستمر وفرض الطاعة، الالغاء للحرية والسجن.. كلها تصدق على ما يحدث من نتائج تعطي شباباً متأرجحاً بين العدوانية والرغبة في ايقاع العقاب وسن رد فعل دائم.. او الخنوع والانكماش والتواري خلف الشعارات والمسميات الكبيرة وسلطات الآخرين والسلبية.
هناك وسائل ابتدعتها المجتمعات المتدنية لتشديد القمع الممارس بخلق نمذجة مثالية لشباب دائم مطلق يُرحّل من جهة من عالم الاعلان والدعاية الاستهلاكيين اذ يبدو المرء على طول الخط فتىً قوياً وسيماً مزوّقاً وجذاباً قد اخضع لعمليات التحسين والتجميل عبر عوامل خارجية وادوات ومواد تخلق شكلاً جميلاً ومنظراً مدروساً باتقان ليكون محل التقليد والتبني من كل الراغبين وتبدو الفتنة في حلة الشهرة والاستعراض الجماعية غاية ما يمكن ان يصل اليه المرء من نجاح في ان يكون مقلداً عبر قنوات الاتصال المتعددة، فهو صورة اخرى لنجوم الغناء والدعاية لاستنساخ اشكالهم وحركاتهم ويتم ذلك بهوس عبر الدخول في مسابقات الترويج للجمال المثالي والرشاقة والازياء وتقديم الخبرات اللازمة لصوغ الشكل بالماكياج والموضة المتغيرة واعتبارات القبول التي تتلون لها الشخصية الانسانية لتسير ضمن أتيكيت عالمي مناسب للتسويق وللمبادلة الاقتصادية والاجتماعية في شتى ضروب الممارسة وقد امتد ذلك في مجالات قابلة للتبني مثل الادب الذي افتقر الى عوامل الابداع الخاصة به في انحياز الى لوازم الظهور المزوق والمحسن للأديب لا لنصّه، وتجد الجاذبية المثلى في ادباء نجوم لامعين قد تماهوا في النمذجة اللائقة بهم اجتماعياً بغض النظر عما تقدمه نصوصهم، واذا ما جئنا الى نوع من الاديبات منهم خاصة لوقع نظرنا على بارعات في اثبات اللياقة واللباقة والرشاقة ومعززات الظهور والنشر اجتماعياً والكترونياً وما الى ذلك..
في وسائل الموضة والرواج يتم تكريس صورة نموذجية لنجوم هم موضع اقتداء ونشر تعاليم الى آذان منصتة وعيون ناظرة وارواح خاضعة مستسلمة لمراهقين ومراهقات في حالة تشرب وتجهز بالروحية والذوق والانتماء في مقابل لغياب قدرات البناء العقلي والروحي والنفسي من مؤسسات التربية والتعليم والتثقيف التي تعطى لقواعد العيش أسرياً وبيئياً شكلها اللازم في العادة ومع غياب مثل هذه القدرات بانحرافها في مراحل سابقة وتهدمها في مراحل لاحقة تجد الشاب ضالاً تائهاً غير مستقر نفسياً ومعرفياً ليتلقفه الوجه الثاني للنموذج المقتدى به في المجتمعات المتدنية، وهو النموذج المتزمت في تبني الوجه الديني المنتخب بفعل عوامل عرفية متواطأ عليها ضمن سياق تاريخي واجتماعي خاص يُعطي طرحه الشكلي لهذه الفئة او تلك من مرّوجي التطرف الديني والتعصّب الاعمى التي تفرغ الدين من معطياته الانسانية لصالح معطيات محيطية ظرفية شكلية متشددة.
ولهذا الوجه نجومه هو الاخر من الموضوعين موضع الاقتداء والتشبه بوصفهم الصورة المثالية المعاكسة لاهل الدنيا وبين هؤلاء واولئك / بين الاسود مطلقاً والابيض مطلقاً/ بين الحرية والقداسة المشوهتين كلتيهما يُحتّل الفتى والفتاة ويُخضعان للتشويه والالغاء والقتل على نحو اجتراري محكم من الجميع المجتمع وكل سلطاته كبرت او صغرت..
ان الجهل اساس هذه الاختلالات في عدم تشخيص الادواء والمضي قدماً في الجهل بالنفس وتذويبها في الآخر المتسلط سواء كان شخصاً او فكرة او نظاماً او مؤسسة. ومما يعمق ذلك الهرب الى نوع من رموز عليا وقدسية غير قابلة للحوار والتفكير بها واعتماد شعارات رائجة ومثالات مفضلة تعمق التطرف وتسمح به طويلاً بوصفه العصا التي لا تتوازن ابداً على تضخم من طرف واحد اذ لا بد من طرف مقابل أشد ضراوة وعنفاً في تطرفه ومضيّه في سلك طريق التناقض.
ان هذا الواقع المتأزم هو نتاج اختلالات قديمة متراكمة لم تسمح بازالة الآثار السيئة لكل سلوك تربوي وثقافي قامع وعميق الاثر مما سمح باستمرار المصادرة والبحث عن اوهام اضافية تزيد من اغتراب كل جيل جديد متطلع..
وهكذا نئد النبوغ ونشيع الضحالة التي ستبحث لاحقاً عن وسيلة لادامة فرصة الصراع من اجل اثبات القدرة على النجاح!


بمناسبة تكريمه في مهرجان القاهرة الدولي .. د.صلاح القصب: التجريب حركات ثقافية متراكمة

  • صلاح القصب و نساء في الحرب في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي

المدى الثقافي - القاهرة

كرم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي أ.د.صلاح القصب حيث التقته المدى الثقافي هناك وكان معه هذا الحوار:

* ماذا عن المسرح التجريبي ودوره في تجسيد الواقع؟
- يشكل المسرح ثقافة جغرافية تمتد وتتحرك حول العالم كله المزدحم بواجهات ايدلوجية مرعبة تتسيدها الالة واقتحامها لكل مقومات الثقافة ووسط كل هذا الضجيج الفولاذي استطاع المسرح ان يشكل انبثاقاً اشبه بالانبثاق النووي ليؤسس تكويناً جمالياً لتجارب متعددة وقراءات متداخلة فكان التجريب هو المعادلة الكيميائية والفيزيائية لتأسيس خرائط مستمرة..
والتجريب هو قراءة معمارية تشكيلية تحلق باجنحة ذهبية نحو قمم مرتفعة.
والثقافة التجريبية هي تراكم لثقافات مضيئة ولمقترحات متداخلة اساسها الفلسفة والفن التشكيلي ومن خلال هذين المنطلقين تنطلق الرؤى التجريبية.. هناك اشكالية في فهم هذا المصطلح عربياً حيث يعني للبعض اختباراً تعليمياً للوصول الى مقترح فني متميز هذا تصوير خاطئ جعل المسرح مضطرباً عربياً من تفاصيله التشكيلية.
والتجريب مركب صعب تتداخل في محيطاته قراءات ابعد من اللحظات الزمنية التي نعيشها فالتجريب هو ابعد من حركة الفيزياء وابعد بقراءته من الفلسفة.
التجريب صعب لانه حركات ثقافية متراكمة، لذلك لابد من ان نفهم هذا المعنى كي تتم القراءة على المستوى العربي للمسرح تجريبياً من خلال قمة الابداع المركبة هكذا افهم التجريب
*وعن المسرح التجريبي والمشهد السياسي؟
- عندما تدخل القراءة الابداعية للفن ضمن جانب ذاتي واحادي فانها ستتلاشى ضمن دخيلة الفنان لذلك فان المشهد المسرحي هو جزء من تداخلات العالم، انه جزء من ذلك الاغتراب ولكن الفيضانات والاهتزازات التي تشهدها القارات الخمس لذلك لابد من ان يكون زلزالاً على مستوى الجغرافيا الفنية والسياسية عالمياً أي الموقع الانساني وسط هذا التراكم المجزر كيف سنرى مستقبل الانسان بعد سنين قادمة والتي هي نتاج وتخصيب لكوارث وحروب الديالكتك التصادم.
الفن قد تلاشى الان بمعنى ان القراءة السياسية للمشهد الثقافي متلاشية ايضاً ولا يمكن ان يكون هناك ارتقاء حضاري بدون ان تكون هناك مدن آمنة تستطيع ان تعيد قراءة كل رموزها الثقافية والفنية لتمجدها في نشيد انساني كبير.
ان التجريب هو قمة وحضور ثقافي حضاري وهو حلقة ما بعد الابداع واذن كيف ستكون المعادلة ما بين المشهدين الثقافي والسياسي عندما تقترح الذاكرة الجمعية لثقافة القارات الخمس حين ذلك سنشهد خلقاً يليق بالانسان وحكمته مثلاً كانت هناك الرموز في العراق ومصر حيث يشكل بابل والاهرامات قمتين حضاريتين مسبقتاً كل القرون وستبقيان مجداً لكل القرون القادمة
هل تستطيع الحضارة الحديثة ان تنشئ مثل بابل والاهرامات لا ونحن في الانتظار..
* ماذا عن التكريم الذي حضرت من اجله؟
- اعتبرت هذه الاحتفالية التكريمية بالنسبة لي شهادة للمنجز الذي اقترحته طيلة سنوات ممتدة استطعت من خلالها ان اكون مقترحاً مع ثقافة الاخر، والتكريم وليس لمنجز صلاح القصب تحديداً بقدر ما هو تكريم لكل الاصوات والحوارات التي تحاور معها القصب والآخرون تكريماً مشتركاً لابداع مشترك.
* الرؤية المستقبلية للمسرح التجريبي؟
- المسرح التجريبي هو مستقبل لحركة الإبداع الآتية وهو الفكر المؤدلج جمالياً لثقافة وحضور الاخر من تركيبة المنجز الثقافي على المستويين العربي والعالمي وعندما تكون هناك حركة متميزة هذا يعني بان الوجود مستمر وعندما تلامس وجوداً له بعمق هذا يعني انك تلامس الإبداع بشكل مستمر.
والتجريب هو المشروع لبناء المعمار الذي ستكون حوارات الآخرين مع خرائط مقترحة هي الأخرى تواصلاً وحدثاً مهمين.
السيرة
صلاح القصب مخرج مسرحي وناقد من مواليد العراق عام 1945 تخرج عام 1968 في كلية الفنون الجميلة لبغداد


فنانون عرب وأجانب يتحدثون عن (نساء في الحرب)

  • المخرجة النمساوية سوزانا بالوفر : العرض اوصل لي الكثير من الرسائل الانسانية
  • مجد القصص: حتما سيحصد العديد من الجوائز في مهرجانات اخرى
     

ضمن فعاليات الدورة الثامنة عشرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي قدمت الفرقة القومية للتمثيل عرضها "نساء في الحرب" من تأليف جواد الأسدي وإخراج الفنان كاظم النصار بطولة الفنانات آزادوهي صاموئيل بشرى اسماعيل ، زهرة بدن ، باسل شبيب سينوغرافيا العرض جبار جودي وموسيقى صالح ياسر، العرض من انتاج دائرة السينما والمسرح وقد قدم على مسرح الجمهورية بدار الأوبرا المصرية ليومي 17، 18 ايلول.
حضر العرض وليومين متتاليين جمهور عريض ومن خلال متابعتنا للعرض المسرحي خلال اليومين استطلعنا أصداء العرض لدى الجمهور والنقاد والمتخصصين.
سوزانا بالوفر (النمسا)
حيث ذكرت سوزانا تابيكا بالوفر مخرجة العرض النمساوي بأن العرض العراقي "نساء في الحرب" وصلتني عنه العديد من الرسائل رغم عدم تمكني من اجادة استيعاب اللغة العربية ولكن من خلال الاسم ومتابعة أداء الممثلات وعلاقاتهن بموتيقات العرض أحسست بمعاناتهن وتمكنهن من الأداء التمثيلي الرائع وقدرتهن على ترجمة العديد من المشاعر الإنسانية بالتعبير الحركي الا إنني استنتجت ان العرض كلاسيكي أكثر منه تجريبي فهو يعتمد اعتماداً كلياً أو اساسياً على اللغة بيد ان هناك صورة سينوغرافية رائعة للعرض وتقسيماً مبتكراً في العديد من المناطق لحركات الممثلات وعلاقاتهن بالإضاءة والموسيقى.
خدوجة صبري (ليبيا)
اما الممثلة خدوجة صبري سيدة المسرح الليبي والمدير الفني للبيت الفني للأعمال الدرامية فأشارت قائلة عن العرض ان اهم ما يميزه هو قدرة العراق في ظل الظروف الآنية التي نعلمها جميعاً على انتاج عروض مسرحية على هذا المستوى ولقد جذبني للعرض اسم "نساء الحرب" وهي دلالة قدمت الي بالعديد من الرسائل الخاصة بي ربما أو جعلتني أتشوق لمشاهدة العرض ولعل ذلك نفسه ما يجعل هناك تواجداً جماهيرياً للعرض وفي الحقيقة هذا يحسب للمهرجان التجريبي الذي سمح لي بمشاهدة عرض العراق لأنني ومنذ فترة لم أشاهد عرضاً عراقياً اما بخصوص تفاصيل من العرض فبحكم عشقي للتمثيل استمتعت كثيراً بالأداء الرائع لسيدة المسرح العراقي آزادوهي ولفريق العمل الذي شاهدته وهناك منطقة مهمة داخل هذا العرض هي ملاحظة وجود سينوغرافي متمكن من أدواته استطاع ان يستنطق قطع الديكور وحركات التمثيل وقدم لغة أخرى موازية للنص المنطوق بشكل يحسب له.
عبد الله باحطاب (السعودية)
من السعودية التقينا بالأديب والفنان عبد الله باحطاب رئيس الوفد الذي حرص على مشاهدة العرض وقد اشار قائلاً:
ان المسرح العراقي يمتلك قامات مسرحية أثرت في حياتنا المسرحية السعودية مثل المخرج العراقي امير الحسناوي الذي قدم نقلة للمسرح السعودي ويحسب له ان هناك جيلاً من السعوديين نذكر منهم د. شاوي عاشور وعثمان فلانه وهم نتاج تجربة المسرح العراقي وعرض "نساء في الحرب" ً امتاز بالاداء التمثيلي الرائع والصورة المسرحية القوية والمخرج المتمكن من أدواته .
مجد القصص (الاردن)
قالت المخرجة الأردنية مجد القصص: هذا العرض ربما كان يحصد العديد من الجوائز في مهرجانات عربية الا انه في التجريب يتنافس على منطقة ربما لم يخترقها مخرج العرض بشكل كاف ولكنه كان عرضاً مميزاً
فينو عبد الستار (بنغلاديش)
وترى الممثلة البنجلاديشيه الشابه فيتو عبد الستار ان العرض بعيد عن تمكننا من الحصول على ترجمة فورية للغة الا انه يمتلك بداخله قوة طاغية وحضوراً قوياً ومبهراً للممثلات الثلاث اللائي قدمن أدوارهن في هذا العمل كما انها التقطت من خلال أدائهم اجزاء متعددة من المشاعر الإنسانية المتباينة التي تعبر عن معاناة المراة .
واشارت الى انها لم تفهم لغة العرض لكنها فتحت قلبها واستنطقت الصورة المسرحية بشفرات ربما تكون خاصة بها وحدها لكنها سعيدة بمشاهدة عرض العراق.

حنان عوض الجاك (السودان)
اما حنان عوض الجاك الممثلة بالفرقة القومية للتمثيل بالسودان فقد قالت: انا مواكبة لتجربة المسرح العراقي وشاهدت له عمل مسافر زاده الخيال ومسافر ليل ولا أعرف العلاقة بين المسرحيات الثلاث فدائماً ما أجد فيها شخصية المسافر وهذا راجع من وجهة نظري للوضع السياسي الموجود وعرض الأمس كان غاية في المتعة واكثر مالفت انتباهي الأداء التمثيلي المتميز وخصوصاً بشرى اسماعيل وهي من وجهة نظري أكثر الممثلات طاقة بالعرض وجذبني اليها طريقة أدائها وتلوينها الصوتي والعرض مجملاً كناحية جمالية لا يختلف عليه شخصان والسينوغرافيا كانت لجبار جودي قرأت له بالنشرة قوله "بانه السينوغرافي الوحيد في العراق" وقد استفزتني هذه الآنية الموجودة لديه لذا ذهبت لأشاهد العرض وما شاهدته كان شيئاً جميلاً.


متابعات: ضمن نهارات المدى الثقافية - النهار الخامس .. مسرحية (الموت والعذراء) جرأة الخطاب المسرحي وجماليته
 

علي بصيص
قدمت جماعة الناصرية للتمثيل على قاعة المسرح الوطني ضمن نهارات المدى الثقافية عرضا مسرحيا حمل عنوان (الموت والعذراء) وهي من تأليف الكاتب التشيلي (ارييل دورفمان) وترجمة الفنان العراقي المغترب علي كامل وإخراج الفنان (ياسر البراك)، حيث تناول العرض وبجرأة ممارسات النظام السابق إذ استطاع البراك أن يسحب النص الى مساحات أكدت جانبين الأول واقعي، والثاني تجريبي واستطاع تخليص النص من أوربيته وإدخاله في عراقية تنسجم والممارسات القمعية للنظام الدكتاتوري السابق في العراق، هذا العرض امتلك تصوراً درامياً جريئاً محققاً بذلك الحضور المتميز لكادر الجماعة.
تقول بطلة المسرحية (ماذا سنخسر لو حققنا العدالة في قضية واحدة.. قضية واحدة فقط).. بهذا الحوار اختتم العرض وهي الرسالة التي بثها عبر تشكيل صوري متقن حيث أصبحت المفردات تحمل تأويلا ذا مغزى يضمن الإدراك الوجداني والإنساني مفاده متى سنصحو من هذا الألم الممتد عبر تاريخ العراق.. متى تعي الحكومات السابقة والآتية ألم الفرد العراقي... متى نكون منصفين مع أنفسنا إتجاه الآخر المعذب ؟
هذا العرض كان محاولة لطرح أفكار ذات قيم إنسانية تتسم بالجمال والصور المعبرة عن واقع عراقي داخل فن مسرحي تجريبي حديث.. طرحت المسرحية أيضا موضوعات معاصرة وآنية في واقعنا العراقي الراهن وهي تدعم بذلك مشروع المصالحة الوطنية على لسان أحد أبطالها الذي يقول (آمل أن تتوصل البلاد الى روح المصالحة والوئام).. وفي استطلاع لآراء بعض الفنانين والنقاد والإعلاميين قال الفنان المبدع (عبد الخالق المختار) : عرض مسرحية الموت والعذراء للمخرج ياسر البراك تميز بمنظومة أفكار جمالية رائعة وأداء تمثيلي متميز.. العرض كان عبارة عن خطاب جمالي مؤثر وصرخة مدوّية بوجه كل أشكال العنف والقسوة، أمنياتي لهذه المجموعة بالتواصل والإبداع.. أما الصحفي والإعلامي المعروف (عبد العليم البناء) فقد قال : العرض كان وثيقة إدانة صارخة لما صاغته وأبتدعته حقبة الدكتاتورية والاستبداد والطغيان للتنكيل والقمع والاضطهاد، كانت محاكمة ساخنة وصادحة بالحق بوجه جلاوزة النظام السابق الذين تجاوزوا كل الحدود في تصفية معارضيهم وتكميم أفواههم، هذا على صعيد المضمون، أما على صعيد الشكل والمعالجة الدرامية وباقي عناصر العرض من تمثيل وديكور وموسيقى وإضاءة ومؤثرات صورية فكانت جميعها سيمفونية في الإبداع للتعبير عن الوجع العراقي بأشكاله المختلفة، فطوبى لجماعة الناصرية للتمثيل وهي تتواصل وتتجدد على خشبة المسرح الوطني من خلال نهارات المدى التي وفرت لنا هذه الفرصة الابداعية النادرة والفريدة في زمن يحاول فيه الظلاميون العودة من الشباك بعد أن أخرجوا من الباب، في حين رأى الإعلامي المعروف (عماد الخفاجي) أن عرض الموت والعذراء من العروض القليلة التي ناقشت مرحلة ما بعد التغيير.. ناقشها بوعي جديد بعيدا عن الشعارات وعن إتهام الآخر.. هو محاولة إنتظار ومعرفة البطل الغائب الذي واجه الدكتاتورية، البطل المرتبط بالمعارضة، إن البطلة في هذا العرض عراقية بسيطة بالضرورة، إنها تشعر بالاستلاب، من يدافع عنها ؟ كأنها تقول لنا يجب أن ننبذ الدكتاتورية، لن نخضع لنظام بيروقراطي جديد، علينا أن ننسى تاريخاً سيئاً جداً، هناك ردع للشك، وخوف من انتظار دكتاتورية أخرى، شكراً لجماعة الناصرية للتمثيل على هذا العرض الجميل الذي أشعرنا بالبرد رغم حرارة المسرح الوطني.. بينما يرى الناقد التشكيلي (د. جواد الزيدي) أن العرض وقع في إخفاقات المباشرة والإيقاع المترهل على الرغم من عدم التوازن الموضوعي في كثير من مفاصله، الموضوعة هي محاكمة الماضي من خلال بؤر درامية تقارن بين الماضي الحديث، إلا أن معالجتها لم تكن بمستوى العروض التجريبية أو بمستوى الحدث أو المتغير العراقي الكبير، وعلى الرغم من إعتماده على تقنيات السينما، إلا أن هذا لم يكن شفيعا للمخرج البراك من تأسيس سينوغرافيا جمالية للعرض، وأن التمثيل وقع هو الآخر في شراك التقليدية والمباشرة والسرد الخطابي على طول العرض المسرحي، وهنا أتساءل هل أن المباشرة والإيهام جدي معادلة يحكمها الجمال أو تراجعه في الأولى في الخطاب المسرحي، أم أنه ضرورة واقعية، أعتقد أن التجريب له ضروراته الجمالية أيضاً التي تحاول التأثير على ذهن المتلقي وتستفز مخيلته في إتجاهات تأويلية جمالية وهو ما يطمح إليه متلقي ومخرج العرض المسرحي، أما رأي الفنان (باسم الحجار) فقد قال متحمساً : لايمكن أن أختزل بهذه السرعة تصوراتي حول الكم الهائل من الرموز والإشارات والتعبيرات التي يمتلئ بها العرض الصباحي الممتع للناصرية، ولكني توقعت حالما سمعت بالناصرية ممزوجة بأسمائها العظيمة، ياسر البراك، علي بصيص، شوبرت والآخرين، توقعت أنني أمام تابوت متحرّك وذكريات ممزوجة بالألم وعرض متقدم يطغي على كل كلام بغدادي ساكت، شكراً لكم إذ تجعلون المشهد يتنفس من جديد،في حين يرى الصحفي الأستاذ (جاسم الشاماني).. إن العمل كان رائعاً وفيه من الجرأة والإبداع ما لم أشاهده من قبل فقد جاء متجانساً رغم تناوله لأحداث عديدة وأستطيع أن أقول أنكم إختزلتم 40 سنة في ساعة واحدة، أتمنى لكم المزيد من الإبداع والتألق، في الأقل لكي تخلصوا المسرح مما علق به من أدران، وما أسعدني هو تعليق بعض زملاء المهنة الذين إستغربوا من وجود هكذا طاقات في الناصرية الحبيبة، ذلك أن المسرح في بغداد هيمن لسنوات على صالات العرض، فلكم حبي وتقديري وأهنئ الرائعة فاطمة الوادي ومن إشترك معها في الأدوار الرئيسية والثانوية.. أما عن رأي المصور الفوتوغرافي الكبير (فؤاد شاكر) فقد قال : يبدو لي ولأول وهلة أن عرض مسرحية الموت والعذراء عرض تفاعل فيه الممثلون مع النص وأعطوا أداءً جيداً جداً يقترب من الأداء العالمي، هذا بالإضافة الى أن مشاهد المسرحية قد شدّت الجمهور إليها بقوة، كما أن المؤثرات كانت على أفضل وجه وأعطت للمسرحية جوّها المثالي، وأتمنى أن تعرض المسرحية على جمهور أوسع من هذا الجمهور، فيما أبدى الصحفي (محمد شريف أبو ميسم) رأيه قائلاً : كانت رائحة الصدق المعفرة بالألم طافحة على جسد العرض المسرحي، وقد أبدع الممثلون بشكل كبير في تجسيد الشخوص والحدث الواحد بيد أن ثمّة ملاحظة قد تؤخذ على إعداد العمل، ألا وهي حالة الترهل التي إنسلّت الى العرض في ثلثه الأخير، وهذه ملاحظة
باعتقادي لا تقلل من قيمة العمل الرائعة في الرواية والحدث.. مبارك لكل القائمين والمشتركين في هذا العمل الرائع.
أخيراً.. نقول هنيئا لهذه الجماعة على تحقيقها لرسالة مسرحية مهمة في ظرف كهذا، مليء بالمفخخات، وحظر التجوال، وإنعدام الأمن والاستقرار، ومزيدا من التواصل والإبداع من أجل تأسيس مشهد مسرحي عراقي مُعافى.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة