روافد المدى

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ندوة الاسبوع: الشعر العربي بين القديم والحديث
 

  • بدر شاكر السياب: ليكن الشعر مرسلا مع ديباجة وموسيقى ظاهرة
  • د.صالح الطعمة: علينا دراسة الشعر القديم لمجرد الدرس والفهم
  • عبد القادر الناصري: التجديد في الشعر قديم منذ الاندلس


مقدمة
الشعر العربي بين القديم والحديث من حيث الاخيلة والوزن والقافية والعمود الشعري، ومن جهة اخرى، من حيث ذاتية الشاعر، والتعبير عن آلام المجتمع وافراحه،.. واخيراً من حيث المعنى والاسلوب وصدق العاطفة ومن حيث اللغة والبلاغة وما اليها من اسس الشعر وميزاته..
هذه اغلب النقاط التي بحثت في ندوة الاسبوع التي اشترك فيها كل من الاساتذة الزملاء: عبد القادر رشيد الناصري وبدر شاكر السياب، وصالح جواد الطعمة، فقدموا تعبيراً صادقاً لاهم الآراء التي تجول في مخيلة عشاق الشعر.

خالص:
يسرني ان ارحب بكل الترحيب بالنيابة عن هيئة تحرير "الاسبوع" ويبهجني جداً ان تكونوا انتم اول من يفتتح الندوة الاولى.
والآن.. اضع امامكم اهم النقاط التي نود بحثها: الفرق بين الشعر القديم والحديث من حيث البناء ومن حيث المعنى ثم من حيث الاسلوب وما يتفرع من هذه النقاط من آراء وافكار.
عبد القادر:
البناء في الشعر اصلاً يختلف حسب طبيعة الشعر نفسه، ففي الحماسي مثلاً- نحتاج الى قوة في الديباجة واسلوب رزين وجرس جبار يصوت في آذان الجماهير حتى يجعلها تحس بما تريد، بينما نرى في الشعر العاطفي خلاف ذلك فهو يحتاج الى خيال، والى ألفاظ رقيقة وكلمات بسيطة تهيج الشعور.. لذلك نرى الشاعر الحديث يهتم بالخيال وصدق العاطفة، بينما الشاعر العربي القديم يهتم بالجزالة وقوة الديباجة لذلك نرى تفوقه من هذه الناحية في الشعر الحماسي.
بدر:
لي ملاحظة على قول الزميل عبد القادر حول معيار التفرقة بين الخيال في العاطفي الغزلي وبين عدمه في الشعر الحماسي..... اذ اني ارى ان كلا النوعين من الشعر يحتاج الى خيال... ولهذا وجب علينا دراسة الشعر القديم لأن فيه السبك الممتاز والبلاغة الرصينة واللغة السليمة.. وعليه فان في الشعر العربي القديم أشياء لايمكن الا تركها لمسايرة روح التطور في الشعر العربي.
صالح:
لقد قال الزميل بدر بأن في الشعر القديم أشياء مفيدة يمكن الاستفادة منها وانا اود ان اقول هنا انه لا ينبغي ان يخطر ببالنا ان خرجنا بأفضلية الشعر الحديث في نقاشنا هذا اننا ندعو الى اهمال الشعر القديم بل في رأيي ان على الشاعر لكي يسمى شاعراً حقاً: ان يدرس الشعر القديم دراسة جيدة لا لأجل السير على نهجه في التعبير عن عواطفه بل لانه تراث غني في كلماته وتراكيبه لذلك على الشاعر درسه، اذن فلا يهم ان تكون تراكيبه كالبناء الجديد في الشعر حتى نستسيغه بل علينا درسه لمجرد الدرس والفهم، لكي نتمكن بما لدينا من ثقافة حديثة وآراء نيرة ان نضعه بأشعارنا، باطار جديد.
عبد القادر:
اذن فمن هذا يتضح ان على الشعراء الجدد ان يفهموا الشعر القديم جيداً ويدرسوه اكثر لكي يتمكنوا من ان يجعلوا من انفسهم شعراء بكل معنى الكلمة.. وانني اقول اننا لا ندرس الشعر القديم لانه تراث كما يقول الزميل صالح بل ندرسه لأجل تقويم لغتنا اولاً ولنجعل منه اساساً ثابتاً نعتمد عليه في اشعارنا.
بدر:
ورثنا تراثاً شعرياً قديماً فيه الاشياء الثمينة وفيه الاشياء التي يجب هجرها لان ليس فيها فائدة تذكر. وعليه فلا يهمنا في الشعر الوزن الواحد بل، يهمنا وزن البيت نفسه، أي لا يخرج عن موازين الشعر المعروفة.. ولا يهم بعد ذلك ان كانت القصيدة في أبياتها ذات موازين متعددة.
عبد القادر:
نعم انا اؤيد الاخ بدر كل التأييد هل يرتاح القراء الى ذلك!؟
صالح:
لقد سأل الزميل الناصري، عن مدى ارتياح القراء الى هذا النوع الجيد من الشعر. انه من الطبيعي ان يقابل بادئ الامر، بشيء من عدم الارتياح، لا لانه غير موفق في التعبير عن أفكار الشاعر والتأثير في نفس القارئ، بل لان اعسر شيء على الانسان أن يترك تقليداً من تقاليده.. ولابد له من مرحلة تمهيدية تهيئ له قبول الشيء الجديد. وتلاحظ مثلاً ان الشعر المتحرر اليوم اخذ طريقه جيداً من حيث اوزانه المختلفة وتفعيلات البيت المتعددة.... اذن نحن نرى ان الشعر في العراق قبل ان يخرج الاستاذ بدر ديوانه المسمى "هل كان حباً" كان الشعر من هذا النوع لم يأخذ طريقه بعد جيداً... الا اننا رأينا مثل هذا النوع من الشعر يشق طريقه بسرعة.
(لم ينشر السياب ديواناً بهذا العنوان وهو عنوان اولي لديوانه انشودة المطر- ذاكرة".
عبد القادر:
من هذا أفهم ان الزميل صالح يقول بأن هذا النوع من الشعر اقدر في الوصول الى قلوب السامعين وافكارهم اذاً ماذا نقول عن شعر أبي العلاء وأبي تمام وابن الرومي وابي نواس وغيرهم.. هل كانوا لا يستطيعون التعبير جيداً عن ما يجول في خواطرهم؟
بدر:
نعم كانوا يستطيعون ذلك في حدود بسيطة من الاسلوب والمعنى.. اذ لم يكن تعبيرهم ذاتياً صادقاً بل كان هدفهم من الشعر الرزق على اكثر الاحوال ولم يكن هدفهم الشعر نفسه. أي ان شعرهم كان وسيلة وليس هدفاً أصلياً يرمون اليه. لهذا لم يكن هذا النوع من الشعر صادقاً في التعبير عن ذاتية الشعراء بل كان تعبيراً عن آمال الخلفاء وامانيهم وعن ما يريدونه منهم: كمدح فلان والاشادة بمآثر فلان.
عبد القادر:
انكم تقولون ان الشعراء القدامى لم يكن باستطاعتهم التعبير عن ذاتيتهم فاذا ماذا تقولون عن (ابن الرومي وأبي تمام) ان ابا تمام مرة.. كان يلقي شعراً فاعترضه احدهم واعتقد انه الكندي قائلاً (لماذا لا تقول ما يفهم؟!) فرد عليه (لماذا لا تفهم ما يقال؟!) اذ لو كان الشعراء في ذلك الزمن يتقيدون ببعض هذه القيود لما خرجوا على بعض الالفاظ والتراكيب اللغوية.
صالح:
ان بعضهم يسأل ... كيف استطاع شعراؤنا القدامى، في العصور الجاهلية والاسلامية المختلفة ان ينظموا قصائدهم ذوات القافية الموحدة دون ان يحول طول القصيدة، ووحدة القافية والوزن دون التعبير عن افكارهم بطلاقة.. والحقيقة ان احداً لا ينكر كيف كانت تحشر القوافي حشراً وترصف الاوزان رصفاً لا فائدة فيه هذا مع العلم ان مستواهم في اللغة العربية ومستوى القراء فيما يبدو لي ارقى بكثير مما نحن عليه اليوم.
وكان كل منهم يملك من الثروة اللغوية ما يعينه على القوافي اعانة لا يستهان بها.. نعم ان بعضهم يملك ثروة لغوية ويحفظ كثيراً من الكلمات التي ساعدته على النظم في قصيدة واحدة.. ذات وزن واحد وقافية واحدة، فأفاد واجاد كما عند أبي العلاء المعري.
عبد القادر:
اذن ماذا تقول عن الذين كانوا يخرجون الى البادية لتعلم اللغة.. هل كانوا لا يعرفونها ام لانهم يريدون الاجادة فيها حتى يستطيعون التعبير.. واذا استطاعوا التعبير فاذاً لا يكون امامهم عند ذلك عائق يمنعهم من التعبير عن ذاتيتهم.. وفي هذا اكبر نصر لآرائنا.. لاننا لا نريد من الشعراء الا حفظ اللغة وتعلمها جيداً.. اذن فالدافع الى الشعر المتحرر، مفضوح.
بدر:
انت تؤمن معي بأن "شكسبير"
يا استاذ عبد القادر- كان ضليعاً في اللغة الانكليزية جداً.. وانت تعرف ان (ملتن) كان كذلك، ضليعاً في لغته.
اذن، لمذا تحرروا من بعض الالفاظ والموازين عندهم... هل جهلا باللغة وهم اكثر الناس معرفة بها ام زيادة في التحرر، وزيادة في التمكن من الوصول الى ما يرمون اليه من ايصال معاني الشعر ومراميه الى الجماهير بصورة اكثر تبسطاً واكثر فائدة.
عبد القادر:
نعم هذا معقول، ولكن الذي يريد التحرر، نحن لا نقف بوجهه ولا نمنعه من ذلك، ولكن عليه ان يؤدي رسالة الشعر جيداً.. اذ اني ارى بعض الناس يكتبون شيئاً لا هو من الشعر ولا هو من النثر.
بدر:
اننا قلنا يجب ان نحتفظ بالاوزان، ولكن ليس معنى ذلك القول يجب ان نتقيد بوزن واحد وقافية واحدة. فاذا خالفنا ذلك فعند ذاك نخرج عن جميع ما يسمى شعراً وندخل عند ذاك دائرة وهمية من الشعر.
وعلينا نحن ان نحارب هذا النوع الذي يطلقون عليه "بالشعر" وهو ليس من الشعر بشيء.
اذن فليس هناك اعتراض على كل هذا واني انما اعترض على هذا النوع من الشعر بالذات.. فليكن الشعر مرسلاً، ولكن عليه ان يحتوي على ديباجة قوية وموسيقى ظاهرة واسلوب ممتاز ليمكن قراءته اولاً ولكي تستسيغه الاذن والروح ثانياً.
بقي شيء اقوله في موضوع ذاتية الشاعر: في العصر الجاهلي وفي عصر صدر الاسلام وفي الاسلام وفي الاموي والعباسي، لم يكن الشاعر يعبر عن ذاتيته تماماً بل كان شعره اقرب الى وصف ذاتية الغير ليصل الى نفسه.. اذ كان الشاعر مثلا يمدح قبيلته وعائلته لكي يصل الى هدف مدح نفسه، ولكن بعد الفترة المظلمة بدأ الشاعر يحس بآلامه وآلام شعبه.. فلا يصورها عن طريق معوج بل يصورها رأساً مندفعة من ذاته الخاصة...وسبب ذلك تلك النفحات في الشعر الاوربي.
وقد اقتصرت تعبيرات الشعر وفي العصور التي ذكرناها في اول قولنا على وصف البطولات والتمجيد في القبيلة.
صالح:
انا اعترض على هذا القول.. اذ ان الشاعر العربي القديم في جميع عصوره- كان يعبر عن ذاتيته كل التعبير، ولم تظهر الذاتية مؤخراً (كما ذهب اليه الزميل بدر) بل ان الذاتية اقوى ما تكون في ادبنا العربي القديم وهذا ما يعبر عنه العقاد في كتابه "ابن الرومي".
عبد القادر:
هذا معقول جداً، وصحيح لاننا في كثير من دراساتنا عن الشعراء تمكنا من اخذ صورة وقتية وصحيحة عن حياتهم من اشعارهم.
بدر:
لقد كررت كثيراً!! بأن الشاعر العربي لم يعبر عن ذاتيته بل كان يعبر عن غرض او ناحية معينة يرمي اليها أي كان يعبر عن سبب يوصله الى الدافع الذاتي.
واخيرا.... انا ادعو لا الى حياة افضل يعبر عنها الشاعر في شعره فقط بل ادعو الى شعر مجدد يواكب وعليه فليس على الشعراء ان يتهيبوا من التجديد ما داموا يسيرون على اوزان راقية واسلوب متين، ثم عليهم ان لا يتراجعوا خشية، النقد،.. لان "كولردج" قوبل بهجوم عنيف من النقاد لما اخرج ديوانه "الفضائل الغنائية" وكذلك "كيتس".
عبد القادر:
ان التجديد في الشعر العربي اخذ طريقه منذ زمن غير قصير ففي الشعر الاندلسي، وفي موشحاته واراجيزه نرى خروجاً كبيراً على القافية الواحدة والوزن الواحد، واقرب لذلك ما اخرجه لسان الدين الخطيب من الشعر.. وبهذا نكتفي.
على هامش الندوة
•    قال عبد القادر الناصري في معرض الحديث عن الصحف التي تقبل الغث والسمين من "الشعراء" الناشئين "علينا ان نحارب الصحف التي تنشر اشعاراً تافهة في معانيها واخيلتها وموازينها".
•    فقال بدر السياب: ان الذنب ليس ذنب "الشاعر" بل ذنب الصحفي الذي ينشر له: والسبب هو ان بعض اخواننا الصحفيين ليست لهم المعرفة الكافية في امور الشعر: وعليهم لتلافي ذلك ان يعهدوا بها الى من يفهمه جيداً.
•    فعلق صالح الطعمة: لماذا نهمل مثل هذا الشعر لنتركه للزمن وهو كفيل باماتته ان كان غير صالح، لان الشعر الذي سيخلد هو الشعر الحي الكامل.
•    اجمع الشعراء الثلاثة على ان الشاعر الناشئ يجب ان يكون فاهماً للشعر العربي القديم وكذلك ملماً بالآداب الاجنبية القديمة والحديثة.


من الذكريات والذاكرة

خالص عزمي

صفحات مطوية من ادب السياب
اصدر الاستاذ خالص عزمي رئيس مجلة (الاسبوع) الثقافية عام 1952 كتابه (صفحات مطوية من ادب السياب) عام 1971 وفيه يكشف عن جزء من ذكرياته مع الشاعر وينشر (ندوة الاسبوع) التي حاور فيها السياب مع الشاعرين د.صالح جواد الطعمة وعبد القادر الناصري وذلك في العدد الاول من مجلة (الاسبوع) الصادر في تشرين الثاني 1952 .

"ذاكــــــــــــرة"

ساعة باب المعظم تقترب من الواحدة بعد الظهر والحشد الهائل من الجماهير الثائرة ما زال يتدفق، يحتل مكانه في قلب الساحة وعلى شرفات (مصلحة نقل الركاب) و( قاعة الشعب) والمقاهي التي كانت تحيط بباب المعظم: والوثبة الشعبية الباسلة تدق اجراسها الضخمة بشكل متواصل لتهز الحكم من تحت الطغاة، ولترتفع بمواكب الكفاح المستبسل الى المزيد من التضحيات والشهداء.
في تلك الساعة من ايام الوثبة المجيدة عام 1948، وكنا نتقدم نحو ذلك التجمع الوطني الثائر، رأيت شاباً محمولاً على اعناق الشباب تحت الساعة التأريخية هناك، تبرز منه بوضوح سبابته المرتكزة بصلابة على تجمع اصابعه الاخرى، تتلوى، وتدور حول نفسها ثم تستقر لتنهض من جديد.
كان يبدو ان ذلك الشاب يخطب، اول الامر، ولكنني ادركت بأنه يلقي شيئاً من الشعر حينما صرخت الحناجر بأعلى قوتها "أعد... قرصة حمراء": هنا تبدد كل شيء غامض، واصبحت الصورة اكثر وضوحاً كلما اقتربنا نحو باب المعظم:... عرفت آنذاك من المرحوم الشاعر الوطني محمود الحبوبي، ان الشاب هو الشاعر الذي قرأنا له كثيراً، بدر شاكر السياب، هذه اللوحة ذات الاطار الثوري الدفاق بالاخلاص لتطلعات الشعب ومطامحه، ما زالت هي المنطلق الواقعي لمعرفتي بالسياب، والتي لم يكن لها ان تبدأ فعلياً الا عام 1952 في لقاء شعري لا ينسى.
كان مشروع اصدار مجلة ادبية ذات مستوى رفيع، في المادة والاخراج، يملأ علي تفكيري. وكان هذا المشروع يحتاج الى كثير من الاتصالات المستمرة لغرض استقطاب كل الادباء والشعراء البارزين في العراق وخارجه حول المجلة. وكان من جملة الاهداف المهمة، ان يتولى بعض ادبائنا وشعرائنا مسؤولية الاشراف المباشر على ابواب ثابتة في المجلة ويتحملون مسؤولية الاتصالات بشانها، ومن ثم تبويبها واخراجها، بعد اقرارها. وقد أيد العديد من الادباء المشروع وابدوا تحمساً له، وكان من اولئك الاخوان، المرحوم الشاعر عبد القادر رشيد الناصري الذي وافق بحرارة على تولي مسؤولية (باب الشعر) واجراء الاتصالات مع الشعراء حول تحريره. وحينما اخذ المشروع طريقه نحو التنفيذ العملي طرح علي الشاعر المرحوم الناصري الذي انيطت به رسمياً مهمة تحرير صفحة الشعر في "الاسبوع" ان نتصل بالشاعر السياب. وقد ابديت ترحاباً بالفكرة: وتركت للناصري مهمة تحديد الاوقات لزيارة السياب: وقبل ستة ايام من اصدار المجلة جاءني الناصري الى ادارة المجلة (وكانت في شارع حسان بن ثابت قرب مديرية شرطة النجدة الآن) ليبلغني بأن السياب سيكون بالانتظار في المقهى المجاور
آنذاك- لمديرية السجون العامة:
وفي الساعة المحددة
الخامسة على ما اذكر- وصلت الى المكان وكان الناصري بانتظاري قرب المقهى يتحدث الى صاحبها الرياضي الفلسطيني المعروف "الدسوقي": ثم دخلنا المقهى: فسحة واسعة الاطراف تدور حولها اقواس من الكراسي الخشبية و"التخوت": كانت الاضوية خافتة نسبياً او هكذا كان يبدو لنا ونحن ندخل من النور الساطع خارج المقهى الى فنائها الذي انتهى من غسله قبل لحظات: وفي ركن قصي، كان بدر شاكر السياب يجلس منفرداً: وضع ساقاً على ساق وامامه "طاولة" خشبية عالية: فوقها "استكان" من الشاي وبعض الاوراق وكتاب صغير الحجم باللغة الانكليزية يشبه الى حد ما مؤلفات آجاثا كريستي. اقتربنا منه فقام لمصافحتنا، وقبل الشاعر الناصري قائلاً له: لو عرفت أين ادارة المجلة لزرتكما.. وقبل ان يتم جملته قلت له: ان الادارة في شارع حسان بن ثابت وقد وقعت عقد ايجارها قبل ساعات، ونتمنى ان نراك كثيراً هناك: ثم جلسنا في جو من المجاملات الطبيعية.. كانت فرحتي كبيرة بلقاء السياب، فقد كان شاعراً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى: في كلامه، في حركاته، في سكونه: وفي تأملاته.
بعد لحظات من جلوسنا سالني.. الا ترى بانك ستتعرض الى خسائر مادية من جراء اصدار المجلة، قلت لعل ذلك اول ما تبادر الى ذهني.. ولكن لكل مشروع حسناته وسيئاته.. ولابد من المجازفة.. واظن ان الادب يستأهل ذلك.. ثم شرحت له الفكرة وطريقة واسلوب العمل. وامكانيات التوزيع والطبع ثم ذكرت له بعض اسماء الادباء الذين أبدوا رغبة في الاسهام في التحرير.. فأكبر العمل: وقال.. سأبذل كل جهودي لانجاح المجلة.. ماذا تريد مني ان اقوم به: قلت له:
لدي فكرة.. وهي ان نعقد ندوة اسبوعية في ادارة المجلة ونطرح فكرة ما امام المدعوين لمناقشتها وتسجيل ذلك النقاش وننشره في الصحيفة ليبدي القراء رأيهم فيه.. فتكون هذه الندوة اسهاماً مباشراً في تحريك الادباء وفي تنشيط الآراء وتبادلها. قال وهو يضحك ضحكته المعهودة وقد تصلب وجهه وارتفعت سبابته في وجهي.. "تحرير مجاني: بندوة مجانية" وهنا قال الناصري (لا الندوة ليست مجانية ستكون دعوة لتناول الشاي و"الكيك"...) وضحكنا جميعاً...
قلت له.. نريد ان تكون الندوة الاولى للعدد الاول من "الاسبوع" عن مختلف الآراء في الشعر... ونريدك ان تحدثنا "انت بالذات" عن الشعر الحر الذي بدأ يأخذ طريقه في المجلات والصحف بعض الشيء... قال: موضوع جيد وانا على اتم الاستعداد... قلت: وسيقوم الاستاذ الناصري بشرح اهداف الندوة وطريقة الكلام فيها... اذ اننا لا نملك مسجلاً: لتسجيل الحوار.. قال ومن سيسهم في هذه الندوة؟ قلت انت والاستاذ الناصري والاستاذ صالح جواد الطعمة، قال اختيار جيد.. متى سيكون ذلك؟ قلت، سأرسل لك بطاقة بالمكان والزمان فانني ارغب ان يكون نظام العمل في الصحيفة مسجلاً لا عفوياً.
بعد حديث طويل تناول حياته الخاصة وعمله والمشاكل التي يعاني منها.. افترقنا على سبيل اللقاء في الموعد الذي يتحدد.
بعد يومين من اللقاء الاول ارسلت الى المرحوم السياب بطاقة الدعوة وقد حدد الموعد فيها.. الساعة الخامسة من مساء يوم 31-10-1952 كما ارسلت اخرى الى الشاعر صالح جواد الطعمة. وفي الموعد المحدد حضر الطعمة الا ان السياب لم يحضر: فساورني قلق بسبب تخلفه سيما وان عدداً من الادباء قد حضروا ادارة "الاسبوع" ليتمتعوا بالنقاش المفتوح الذي تكلمنا معهم بصدده: وبعد نصف ساعة من الموعد حضر السياب. وقبل ان يذكر سبب تأخره سلمني بطاقة الدعوة وهو يقول: هذه (بطاقة الدخول). هل هناك (بطاقة خروج) ايضاً.. فضحكت وبطريقة عفوية تسلمت منه البطاقة ورميتها على المكتب بعد ان اكملت النكتة بأن قطعت طرفاً منها (لاسقاط) حق السياب بالدخول بها مرة اخرى: وبين ضحكات الجميع: جلس السياب وهو يقول: معذرة عن التأخر: لقد كنت عند صديق في الكرادة: وتوقف باص "الامانة" في منتصف شارع الرشيد وهرعت اليكم ماشيا بعد ان تركت الاخوان (يدفعون) الباص: فضحك الناصري وقال (لو دفعت معهم لكان الباص قد تحرك واشتغل فوراً!!) مشيراً بذلك الى جسم السياب النحيف جداً.
بعد ان شربنا الشاي وتمتعنا بطرائف السياب ونوادره التي طعمها بنماذج من الشعر: بدأنا الندوة التي دونها كاملاً
على ما اذكر- السيد خليل ابراهيم عبد القادر الموظف (حالياً) في مركز وسائل الايضاح في مديرية الشؤون الفنية العامة في وزارة التربية، والذي كان من انشط العناصر التي تعاونت معي في تلك الندوات وغيرها: ومن الملاحظ ان جميع الذين تطرقوا الى آراء السياب في الشعر لم يشيروا مطلقاً الى هذه الندوة التي تعتبر من بواكير آرائه في الشعر الحر. ومما لا أنساه مطلقاً، محاولاته الجادة في تصحيح بعض قصائد الشعراء الناشئين قبل نشرها: وقد نبه الشاعر الناصري الى ذلك، قائلاً له : ارجو ان لا تنشر القصائد مصححة من قبلك دون اشارة الشاعر الى الخطأ فانك بذلك تتستر على عيب في شاعريته او لغته. وبالفعل، فقد راح الشاعر الناصري يدون الاخطاء التي يقع فيها الشعراء وينشرها على صفحات "الاسبوع" ويترك للقراء والكتاب الاسهام في مناقشتها:
كما لا انسى ان السياب كان اول من نبه الى ضرورة تلافي الاخطاء المطبعية ورأى ان تكون (في الغلاف الداخلي من المجلة) عبارات تصحح ما يقع من تلك الاخطاء بعد انتهاء الطبع، لكي تكون الدقة في الطبع من المميزات الاخر للمجلة.
ورغم المشاغل الكثر- الادبية والوظيفية- التي احاطت بالسياب آنذاك فقد حرص على مؤازرة "الاسبوع" في مختلف المجالات ومن بينها نشر بعض نتاجه الادبي والشعري فيها.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة