المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

هل بالإمكان تفعيل دور المثقف العراقي ؟

محمد شفيق
كيف يمكننا تفعيل دور المثقف في هذه المرحلة؟ سؤال توجهنا به الى عدد من المثقفين العراقيين، ما بين باحث وناقد مسرحي، وشاعر واعلامي، فكانت اجاباتهم تعبر عن حجم المأساة التي يشعر بها المثقف، وهو يرى نفسه مهمشاً بعيداً عن دائرة القرار السياسي، أو المشاركة الفعلية في ترسيخ دعائم المجتمع الجديد.. وبرغم هذا الاستطلاع الذي قمنا به، الا اننا نجد أهمية في الرجوع الى الموضوع ثانية ورابعة ، كونه يشكل حلقة في جمع الكثير من المفاهيم والرؤى الصحيحة، باتجاه بناء المجتمع، ووضع الأسس الصحيحة التي من شأنها، خلق حالة من الصيرورة، والسعي وراء الاهداف المتعالية التي تدفع بنا جميعاً نحو اعالي الوطن.
الناقد المسرحي عدنان منشد
اضطرب المشهد وتلاشت الرؤية السليمة

كتب على المثقف العراقي، ان يكون مسلوب الجاه، مفتقداً المنصب الرسمي الفاعل والمؤثر في المشهد السياسي، منذ تأسيس الدولة العراقية في مطلع القرن العشرين وحتى الآن، بفعل عوامل موضوعية وذاتية، لعبت فيها السياسات الاستعمارية والديكتاتوريات العسكرية والتوليتارية دوراً كبيراً.. وبرغم ان المثقفين العراقيين لم يعرفوا محاكم التفتيش اللاتينية إلا لماماً، فانهم ظلوا يدورون في الحلقة المفرغة، وهي على العموم، حلقة الثرثرة والحشو بفعل ما يكتبون وما يصرحون وما ينتجون من جانب، وحلقة السجون والمعتقلات والتوقيف أو الانتهاك القسري من جانب آخر، تحت جريرة أنهاك السلطات أو الحكومات المتعاقبة من الاثقال والاعباء فوق ما تحتمل.
ليس بالمستطاع هنا، ان نذكر الامثلة والشواهد التي تعرض لها كبار الأدباء والمثقفين العراقيين، خلال أكثر من ثمانية عقود منصرمة في سجون الحلة والكوت وبعقوبة وابي غريب والموقف العام ونقرة السلمان وخلف السدة، الى جانب القلة القليلة من السياسيين العراقيين- باستثناء قادة كوادر الأحزاب الوطنية المعروفة- حيث سرعان ما يتعرض هؤلاء الساسة الى عملية غسل دماغ لمعتقداتهم السياسية بفعل الجاه والمنصب، وهذا ما يفسر نجاحهم الخارق المذهل السريع في كل عهد وزمان، بعد ان اصبحوا جزءاً من التقاليد والموروثات، ورسخوا في النفوس عادات وانماطاً من السلوك والتفكير تقف حجر عثرة في وجه كل مثقف عراقي لامس السياسة عن قرب أو بعد.
إن من البساطة بمكان اعتقال الشاعر محمد مهدي الجواهري، بفعل قصيدة يندد فيها بمدير المعارف العام ساطع الحصري الذي كان يعمل بوازع طائفي مقيت ومعروف تحت وصاية الملك فيصل الأول، من دون محاسبة الحصري الذي يرضيه الحديث عن أمجاد الماضي وروعة الماضي والعيش في بحبوبة الماضي، بل من البساطة اعتقال الشاعر رشدي العامل، وكسر رجليه وقدميه وجعله كائناً شبه مشلول، حينما كتب مقالاً حول أزمة معجون الطماطا في جريدة (التآخي) في مطلع السبعينيات، من دون محاسبة وزير الصناعة المجرم طه الجزراوي وقتذاك، عن أسباب هذه الأزمة وحيثياتها ومسوغاتها، بل من السهولة ان يقبع شعراء ومثقفون كبار في (نقرة السلمان) أمثال مظفر النواب والفريد سمعان وفاضل ثامر وصادق جعفر الفلاحي ويوسف الصائغ ودينار السامرائي وجمعة اللامي وسميع داود والعديد من المناضلين الآخرين في الوقت ان جلاديهم أو من ساهم في اعتقالهم يسرحون ويمرحون في ارض العراق، وتقدم لهم الأضاحي والنذور والبخور.
تلك هي المأساة التاريخية التي يعيشها اليوم المثقفون العراقيون منذ القدم والتي ما فتئت تتعقد وتتعاظم فهناك من يقول بالعودة الى الاصول، وهناك ايضاً من يقول بالخروج على الأصول والانخراط في الحداثة ودوامة العقول.. وهذا يقول بالتوفيق ما بينهما توفيقاً يقضي على الخمول. هذا يدعو الى الانفتاح على الآخر، وهذا يدعو الى الانغلاق وتدمير الآخر. هذا ينادي بالابداع، وهذا يطالب بالإتباع، وهذا لا يتخلى عن الإتباع، ولقد مضى على هذا الجدل الكلامي قرابة قرن، ولا يبدو أنه سيتوقف!
إن أسوأ ما يحدث لنا اليوم، هو سوء علاقتنا بالعالم والعصر، فنحن لا نزال نعيش في اشكال ثقافية بآلية وانماط حضارية بائدة، دونما أي اعتبار لهجمة رجال السياسة الجدد، الذين اصروا على السراح والمراح واختلاط الحق بالباطل، والكمال بالنقص.
وهكذا اضطرب المشهد في العراق، وضاع الوضوح، وتلاشت الرؤية السليمة وقوة التجلي، خصوصاً، وان الكثير من مثقفينا العراقيين لا يريدون اللعب بالنار في كتاباتهم وتصريحاتهم ايثاراً للعافية وحباً بالسلامة على العكس من القلة القليلة المولعة باللعب بالنار، التي سيكثر بعدها اللاعبون، فالنار هي التي تحرق الشوائب العالقة بالذهب، وتأتي على جميع ما فيه من غث .
الباحث د. خليل محمد ابراهيم: الشعب الذي لا يكرم مثقفيه يتضرر كثيراً
أي شعب بلا ثقافة، شعب بلا وعي، من هنا تبدو اهم مهمات الشعب، ان يخلق من ابنائه مثقفين، وان يهتم بهم اهتماماً كافياً، وان يعطيهم حقوقهم المناسبة من الاعتراف والتكريم، وان يستفيد منهم بوصفهم وعي الأمة وفكرها.
فاذا ما احتاجت الأمة شيئاً، يدخل ضمن إمكاناتهم، التجأت إليهم فبدون ذلك لن تفعل الثقافة فعلها.
فالماء يجري في النهر، فاذا لم يحاول الفلاحون استثمار هذا الماء في زروعهم، ومشاربهم، واطعمتهم، ضاع الماء هدراً في بحر كبير، فلن يضير الماء شيء، لكن الفلاحين يتضررون وهكذا الشعب الذي لا يكرم مثقفيه ولا يستثمرهم قد يضر المثقفين لكنه يتضرر أكثر منهم لاسيما إذا ما ضيعهم!
د. شاكر اللامي: على الانظمة الديمقراطية اللجوء الى المثقف
سؤال يطرحه المثقف نفسه في ظرف يحاول البعض والبعض الكثير الغاء دور المثقف بل الغاء دور الكلمة ومسخ كل ما يمت للثقافة والابداع.. بدءاً من التضييق على مؤسسة المثقف- اتحاد الأدباء- واذلال المثقف ذاته بتجويعه وحرمانه من أبسط حقوقه.. ومع هذا ان دور المثقف مرتبط ارتباطاً لا ينفصل عن (العملية) الحركة الثقافية عموماً.. بل الواقع السياسي العام وهنا، لست متشائماً، ولست محبطاً رغم مرارة ما يجري في عراقنا الحبيب.. فضلاً عن الشرخ الكبير الذي أصاب العملية التربوية في كل مراحلها.
ان الحكومة والمؤسسات ذات الاهتمام عليها ان ترتقي الى مستوى المسؤولية.. وذلك بفتح كل سبل الحياة الكريمة امام المثقف وبالملموس واحتضانه ودعمه وتسيير ودعم سبل منجزه الإبداعي.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى عليها (الحكومة) ان تحسب الف حساب للمثقفين .. أي مشاركتهم في الحياة السياسية، وفي أقل تقدير سماع صوتهم في كل القضايا الساخنة.
ان مثقفا، أي مثقف يكون بعيداً عن الحياة السياسية والعامة، وكل ما يخص الوطن، يجف ويرتد ويمسي عقيماً.. ومن ثم ستهزأ وتجف الحياة العامة. ان نظاماً- أي نظام- يدعي الديمقراطية ويدعي الخير للانسان لا يمكن الا ان يرتكن الى المثقف!
الشاعر سبتي الهيتي: المثقف عين باصرة ونية حسنة
إذا ما أخذنا بصدق الرأي القائل بان الفكر ينبغي ان يتقدم في المسيرة على السياسة لا العكس سنرى دور المثقف العراقي في هذا الظرف الصعب لا يقل عن دور السياسي، بل قد يكون هذا الدور أبلغ وأكثر، لاسيما إذا ما اعتمد المثقف الدور المنوط به في الحياة، واذا اتصل هذا الدور بالجوانب الأكثر التصاقاً والأكثر مساساً بحياة الطبقات الأوسع في المجتمع، وهي الطبقات المسحوقة التي تتأثر بالأحداث ، وتقلبات الأوضاع، لان هذه الأحداث والأوضاع تنعكس على حياة هؤلاء ووسائل كسبهم.. ولتوضيح دور المثقف في هذا الظرف لابد من ان نعطي للمثقف الحرية التي يتطلبها القاء الضوء على معوقات عمل السياسي وعلى التصحيح الذي يتطلبه تغيير الأحوال في تغيير الأحداث مما يتبعه تغيير المواقف والآراء التي يعتمدها السياسي كثوابت لابد من عدم المساس بهيبتها كونها جزءاً من سياسة قطاع، أو حزب أو جهة، معينة لان الثبات على الأشياء يعني عدم الاعتراف بالخطأ، وعدم إعطاء فرصة للنقد والنقد الذاتي الذي أعطي المثقف من قبل السياسي حكمة تميزه كونه العين الثاقبة التي تنظر الى الأشياء والأحداث غير المؤطرة بالأنا، أو غير المدفوعة بالنوايا الخبيثة إلا تلك التي تخدم الواقع وتتساوق مع الحدث .
الشاعرة نجاة عبد الله: المثقف هو الأهم دائماً
تضطرب الرؤية الصحيحة الآن، في خضم الوضع المأساوي الذي نعيشه، والطامة الكبرى، ان المثقف العراقي مبعد عن الساحة السياسية، ولا من احد يسمع صوته، برغم انه الأهم دائماً عبر كل العصور، فاذا ما ذكر سياسي واحد ، من فترة زمنية محددة، فان عشرة مثقفين وربما أكثر سيذكرون في الحال، لديهم انجاز متميز ورؤية واضحة.
لذلك فالمثقف برغم سكوته الآن، والمرغم عليه، فان دوره لا لبس فيه، ويأتي الوقت الذي يتم اللجوء اليه، للخلاص من أشياء سلبية كثيرة، وإبداء رأيه بما يجري!


قصة قصيرة : لوحة
 

محمود الظاهر
كان الانتظار طويلاً، تطلعت الى لوحات متعددة في صالة مستطيلة الشكل تنتشر فيها رائحة اوراق الجرائد والايدي المغموسة بحبر الشيطان!!
لفتت نظري لوحة متكئة على مدخل باب زجاجي، كان العامل منغمساً في تنظيفه بين الحين والآخر مما ادى الى حجب التمنع لحظات عن سادية الوان اللوحة.
كانت اللوحة تفترش مساحة مربعة، تعكس اضاءات المصابيح على متغيرات اللوحة لتضيف جمالية فنية فاتت على الفنان خاصة مثلثات الضوء، وزوايا الظل، وايهام النظر، ولانعكاسات خلفية الالوان على عيون المتأملين فيها.
اصابتني عدوى تبادل الامكنة، كان المكان الذي جلست فيه اجبرني على ان احاوص إحدى عيني وابقي الثانية سوداء لترسم في القزحية الواناً لا علاقة لها باللوحة.
تغيير المكان اضطرني الى النظر اليها من رباعية الزوايا زائداً زاوية العين الواحدة.
1- زاوية منفرجة
امرأة تنظر الى المستقبل من خلال قوقعة لونها ناري في داخلها دوائر سود خيل اليها بانها امام تنين فاغر فاهه، لاحظت حينها ان انفها قد تقلص هرباً مما شاهدته .
2- زاوية حادة
استقبلني منذر الرديني في مقهى حسن عجمي جلسنا معاً يشدنا حزن مقيم .
انتبه الى عيني تحدقان بمرآة المقهى وهي تعكس رقبة المرأة مقوسة وكأنما تندب احداً مما اظهر حاجباً مقوساً على عين بيضاء.
قال لي
- هل تنظر الي ام اليها ؟
- من هي ؟! انا لا أرى شيئاً
- ولكني أرى
- اين ؟!
- في المستقبل
- لم افهم
- ولا انا
- انظر
- لا أرى شيئاً
- ولكن هو الذي يرى !!
- رجل امام لوحة بينهما قرن من الزمن
- اهو
رجعنا الى خيالك الجامح
- قل الواقع اللامرئي
3- زاوية قائمة
نظرت الى الطاولة الزجاجية التي أمامي فاذا بي أراها قد كونت مربعاً ضوئياً، على شكل نوافذ صغيرة زاد من جمال اللوحة، وواحدة من هذه التشكيلات التصقت على وجه المرأة، على مرآة مقهى حسن عجمي ، مرة أخرى انحرفت زاوية النظر لتظهر على وجهها النصفي متكاملاً بين المرأة والمرآة في عيني التي أخذت زاوية قائمة.
تركت الألوان تتناقل وتمتزج وتتفرع في عيني مرة صفراء وأخرى زرقاء، لتستقر على الأسود !!
4- وقفة على شكل عمود مرمري
اصابني دوار نتيجة التركيز، وقفت تلافياً للاصطدام، خطوت خطوتين بعيداً عن اللوحة الا أنها فاجأتني بصدرها الذي جمع منه الفنان كل محفظة الوانه، اختلط عليّ الأمر، أشرت الى الرديني في المرآة لم يفهم، ولكن بيني وبينها سنوات من بؤس لازم الآخرين ومازال.


النجاح الادبي قد يكون وليد الصدفة

توم بيسيل
ترجمة/ عادل العامل
لم يعد المفهوم القديم الجذاب بأن الاشياء تحدث كقضية ضرورة يحتفظ بالكثير من سيرورته الفكرية ، غير ان الاثر المثير لحب الاستطلاع يبقى لدى الكثير من المفكرين المتشككين بطريقة اخرى، ولا شيء يُظهر هذا الايمان اكثر من الكيفية التي يتفحصون بها الادب.
فبالنسبة اليهم، يمكن ان يكون القضاء والقدر
desting، كما ينطبق على الحياة، مبطلاً تقريباً، لكنه كما ينطبق على اعمال الادب القصصي والشعر يسري من دون تنفيذ الى درجة كبيرة فلندعه القضاء والقدر الادبي: أي الايمان بأن الادب العظيم سيواصل الحياة ويحقق الاعتراف والتقدير وفقاً لقيمته.
فنحن نقرأ عن التماس كافكا وهو على فراش الموت من صديقه ومنفذ وصيته الادبية، ماكس برود، بأن يلقي بقصصه في الموقد، فنبتسم بارتياح الى ان كافكا قد قُدر له ان يبقى (ولا بأس في حقيقة ان صديقة كافكا، دوريس ديمانت، كانت تحبه الى حد انها اخذت التماسه المماثل لها على محمل الجد واشعلت النار بقسم كبير من المادة الادبية) وفي اطار هذه النزعة، نقرأ المطالعات النقدية المعاصرة التي راحت تشهِّر بميلفيل "هراء عائد إلى أسوأ مدرسة لادب المجاذيب" وويتمان "إن إخفاقه في فهم عمل الشاعر امر مذهل على نحو واضح". أجل، واننا لنعزِّي انفسنا، ان العمل الادبي العظيم يمكن ان يُستقبل بازدراء ويمكن حتى ان يختفي لامتداد ما من الزمن، لكن العملية البطيئة للتقدير الادبي تؤكد ان القشدة الاطيب ترتفع الى اعلى في نهاية الامر.
إن المشكلة البسيطة هي ان هذه القصة السعيدة، سواء في الفن او في الحياة، ليست حقيقية فما يحدد تعمير عملٍ ما هو في الكثير من الحالات تراكم حوادث غير ادبية في حيوات افراد بعد سنين واحياناً عقود من رحيل الكاتب. وكما يخبرنا إيكليسياستيس، فإن "السباق ليس وفقاً لخفيفي الحركة، ولا القتال بحسب الاقوياء.. لكن الاوان والفرصة يحدثان لهم جميعاً وليس هناك ما يصدق عليه ذلك اكثر من البقاء الادبي. وهناك من الاعمال ما لا يحصل له ذلك، لا لعيب ينطوي عليه فلو كان ماكس برود مطيعاً لكافكا مثل صديقته دوريس ديمانت، لكان القرن العشرون سيفقد كاتبه الاكثر رمزيةً، وعلى الرغم من هذه المصادفة المقبولة على نحو ملطف، فإن عظمة كافكا التي لا تقبل الجدل عامل باهت في واقع الحال.
وتقف شركة
w.w.Norton بين آخر دور النشر الأمريكية المستقلة، وقد جئت للعمل هناك بالصدفة تقريباً فقد استأجرتني نورتون هذه كمساعد تحرير، وهو احد اقل الاعمال مكافأةً، واكثرها نكراناً للجميل، ومع هذا فهو عمل ممتع للغاية وبرؤيتي لعملية النشر بعين دودة، اصبحت عارفاً بالكثير من المحددات غير المرئية في رحلة الكتاب الى الظهور، الاجتماعات التحريرية، مثلاً اذ يلتقي، حيث اعمل، محررون وعاملون في مجال البيع في كل اسبوع ليقرروا أي كتب سيشترون وقبل الاجتماع بأسبوعٍ او اسبوعين، يقوم محرر او محررة بإطلاع الآخرين على مخطوطة أو مشروع يهتم به. ويقدم في الاجتماع مطالعة للكتاب وتتلو ذلك مناقشة وفي هذه المرحلة تلقي نزوات الذوق والشخصية بظلها الطويل. كما يكون لمدير مبيعات الدار تأثيره الهائل، وهو مرغم على ان يصدر احكاماً قاسية، مباشرة بشأن اية كتب سيبيع وبأي سعر وانا، في الحقيقة، أظن ان كتاباً كثيرين قد يشنقون انفسهم يأساً اذا ما تسلموا نسخة من اجتماع تحريري كهذا حتى في دارٍ أدبية للنشر.
ولم يحدث لي ابداً حتى الآن ان اتقصى آليات البقاء الادبي وانا، من دون شك،اعتقد، آنذاك والآن، بأن صناعة النشر عموماً لا تقدم للأدب إلا افضالاً قليلة.
"فالنشر هو المزاد العلني لعقل الانسان"، كما قالت إيميلي ديكينسون، وانا اشك في ان هناك محرراً حياً كان سيعارض، أو وكيلاً كان سيريد ذلك" لكن كان لدي ايمان بالكتب نفسها فكل عمل عظيم، كما شعرت بالثقة في ذلك، يرتفع في نهاية الامر فوق التجارة الخسيسة واللامبالاة المطلقة. وكيف يمكن للمرء ان يباشر دراسة جادة عن الادب من دون الاعتقاد بهذا؟ ان الحادث او المصادفة يمكن ان تحرف ممرات التاريخ والعلم، لكن مسار الادب ترسمه قوىً أكثر انتباهاً (حتى لو كانت هذه القوى عنصرية وجنسية، كما يصر جنرالات التصحيح السياسي).
وكنت قد قضيت خمسة أشهر في نورتون عندما دعيت للالتحاق بلجنة الغلاف الورقي. وكانت الاضافة المنحوسة ان لدي "أفكاراً" وكما حدث كانت لدي بالفعل فكرة فعندما وصلت للمرة الاولى الى نيويورك، تجولت في جزر الستراند
Strand، الدار المشهورة للكتب المستعملة، أتصيد "شخصيات يائسة" لبولا فوكس وكنت قد اكتشفت الكتاب اولاً في مقالة مجلة "القيثارة Harper" لجوناثان فرانزين "Perchance to dream"، التي كنت قد قرأتها وأُعجبت بها وانا طالب لم اكن قد تخرجت بعد وعند ذاك، لم تصبني إشارة فرانزين الى "الرواية القصيرة الكلاسيكية" لفوكس بذرة من الذعر. فهل يمكن ان يكون هناك عمل كلاسيكي لم اسمع عنه ابداً؟ لقد هرعت لاشتري نسخة، لكنني وجدت انه قد نفد فبعد سنتين من قراءتي لمقالة فرانزين، حتى الستراند لم يكن بإمكانه ان ينفع. والآن، مع الفرصة التي قدمتها نورتون، فإني كتبتُ الى فرانزين للحصول على عنوان بولا فوكس، وارسلت لي بدورها، نسخة من "شخصيات يائسة" فقرأت عن أوتو وصوفي بينتوود، أربعين بروكلينياً تتفجر حيواتهم المتسمة بآضطرابٍ مرير هادئ على مدى عطلة نهاية اسبوع طويلة بعد ان تعض صوفي قطة سائبة ومن مثل هذه المادة اليومية العادية، تستمد فوكس استكشافاً مشرباً بالفزع لحياةٍ أمريكية لا تناظرها أية رواية حديثة عدا "them" لجويس كارول ويتس Oates وبعد أسبوع، جلستُ عند طاولة خشبية ملمعة كبيرة وشرحت بارتباك لزملائي لماذا فكرت بان العودة الى طباعة رواية عمرها ثلاثون عاماً حول عضَّة قطة هي فكرة جيدة ولدهشتي، وافقني زملائي على ذلك.
وبعد أشهرٍ، أعيد نشر (شخصيات يائسة)، وقد دُعمت بمقدمة جديدة من فرانزين وثناءٍ طازج من ديفيد فوستر والاس، وجوناثان ليثيم، وروزيلين براون، وشيرلي هازارد واندريه باريت ونالت قدراً من شهرة لم يسمع بها احد فعلاً بالنسبة لعمل ورقي الغلاف يُعاد طبعه واستناداً الى هذه، تعاقدت دار نورتون على نشر روايات اخرى نافدة لفوكس، مثل (اطفال الارملة)، التي ظهرت في تشرين الاول من السنة الماضية، وكذلك رواية فوكس الرائعة الاولى (المسكين جورج)، التي كتبتها عام 1967.
ويمكن ان يفترض المرء ان هذا كله سيجعل محرراً شاباً غايةً في السعادة وانا كلما فكرت بشأنها طويلاً، على كل حال، اصبحت اكثر اضطراباً، فأنا لا يمكنني التوقف عن تأمل كم كان الامر كيفياً
غير أدبي- بكامله.
فقد بدت لي اعادة نشر (شخصيات يائسة)، وبالرغم من روعة الكتاب، مجرد ناتج لحصيلة صدفة لا فعالية فيها وشعرتُ بشيءٍ ما قريب مما اتصور انه ينتاب لاعباً يستقبل تمريرة كرة لم يكن مقصوداً بها هو ولا غيره ويقطع بهجة النصر خواء مروع والنتيجة آستثنائية فتعديل ادق المتغيرات يمكن ان يعني دماراً.
ونحن، في كرة القدم، نقبل بهذا لكن بالنسبة للكتاب، والمحررين، والقراء، الذين ينظرون الى الادب بتوقير شبه ديني، فإن هذا امر لا يطاق.
وبالطبع، فإن أي كتاب جيد يرى النشر هو معجزة بالتكافؤ مع الخبز والسمك، والكتب الجديدة، بطبيعتها، عرضة للحالات الطارئة فقد تصدم حافلة روائياً، او روائية، وهو متأبط مخطوطته، في طريقه الى البريد غير ان اكتشاف عملٍ أدبي من جديد يخلق مأزقاً
quandary مختلفاً تماماً فتهريب عناوين منسية لانجاز طبعها بجد هو امر اصعب على الاطلاق وعندما تقدم فرصة كهذه نفسها، فإن قهرمانات النشر الحديث سيصدرون على نحو موثوق به تخويلاً فيما يتعلق بواحد من موضوعات عديدة: انه المال الذي يُنفق بطريقة يائسة انه الجهد الذي يُبذل على نحو خاطئ انه نبذ نقطة على القائمة التي ادخرت بشكلٍ افضل لمجموعات من القصة القصيرة تفصل مغامرات نساء شابات.
ان النشر عمل ذو عزاء قليل عدا الكتب نفسها وقد جعلتني اعادة نشر (شخصيات يائسة) اتساءل عمل اذا كان هذا عزاءً سريع الزوال.
فهل العظمة، في النهاية، ان لا ضمان للاستمرار في البقاء أتم مما هي الرهبة بالنسبة لرسالة سريعة؟

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة