كتب:
الحياة والموت في حضارة
بلاد الرافدين القديمة
المدى
الثقافي
الدكتور نائل حنون مؤلف الكتاب أستاذ جامعي عراقي وباحث في
تاريخ الحضارات القديمة، له العديد من الأبحاث والمقالات
المنشورة في الصحف والدوريات العربية، من كتبه:
"عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة"، "المدافن
والمعابد في حضارة بلاد الرافدين القديمة"، "نظام التوثيق
الآثاري"، "المعجم المسماري للغات السومرية والأكادية
والعربية"، "عقائد الحياة والخصب في الحضارة العراقية
القديمة"، "شريعة حمورابي، ترجمة النص المسماري مع الشروح
اللغوية والتاريخية".
وفي كتابه الجديد: "الحياة والموت في حضارة بلاد الرافدين
القديمة" يتناول الباحث موضوع "التكوين والخلق" وأصل
الآلهة وخلق الإنسان بحسب تصورات سكان بلاد الرافدين
القدماء.
كما يتناول موضوع "الحياة والخصب" ويلقي فيه الضوء على
العقائد الخاصة بالخصب وضمان ديمومة الحياة، كما ينتقل إلى
بحث "الآلهة والموت" ودراسة صلة الآلهة بالموت. وفي موضوعه
الأخير المخصّص لدراسة الأفكار الخاصة بموت البشر، من
حتميته عليهم واستحالة حصولهم على الخلود إلى تصورات عن
الروح وما ينتظرها في العالم الآخر، يتناول أيضاً عالم
الأرواح (العالم السفلي) وآلهته وحالة الأرواح فيه.
يتألف الكتاب من مقدمة وأربعة فصول، في الفصل الأول "التكوين
والخلق" يؤكد الباحث أن هناك ثمانية نصوص مسمارية،
باللغتين السومرية والأكادية تتناول موضوع خلق الكون بحسب
معتقدات حضارة بلاد الرافدين القديمة، من هذه النصوص ما
كان التكوين موضوعه الرئيس، ومنها ما يتطرّق إلى هذا الحدث
الكوني، أو إلى ما يتعلّق به، عرضاً. والصنف الثاني هذا
كان قد دُوّن أصلاً لغاية أخرى غير رواية أحداث خلق الكون.
ويروي الباحث أشهر قصة للخليقة ألا وهي قصة الخليقة
البابلية بعد سفر التكوين الوارد في الكتاب المقدس (العهد
القديم)، وهي من أهم وأطول قصص التكوين في الحضارات
القديمة وأوضحها فكراً على الرغم من التجزؤ الذي وجدت عليه
ألواحها الطينية.
كُتِب نصّ هذه القطعة الأدبية الأسطورية باللغة الأكادية،
وبحسب تقليد أدبي رافديني قديم اعتبرت بداية السطر الأول
منها عنواناً لها، وهذه البداية تُقرأ بالأكادية: "أينما
اَلِش" وتعني بالعربية "حينما إلى العلى".
يتألف نصّ "حينما إلى العلى" من حوالي ألف سطر مدونة بالخط
المسماري على سبعة ألواح طينية. وقد استنسخت هذه الألواح
لأكثر من مرّة في عصور بلاد الرافدين القديمة. تصف قصة
الخليقة البابلية البدء بأنه كان قبل وجود الكون والآلهة
المعبودة.
وكان كل ما وُجد كتلة هائلة من المياه البدائية يصعب تحديد
ماهيتها، فهي العماء والسكون، الشمول والغموض، وهي العتق
الذي كان مقدراً ان يزول وإن بعد لأي. وكانت بوادر حدوث
ذلك مرتبطة بوجود الحركة، التي هي حصيلة عمليتين خارقتين
هما خلق الكون وانبعاث الحياة.
فكتلة العماء الأولى أزلية الوجود ولم تسبقها حالة تمخّضت
عنها ولكنها تواجه حتمية الاستنفاذ في خضم هاتين العمليتين
الخارقتين اللتين ما كانتا لتتما بدون وجود كتلة العماء
الساكنة. في تلك الكتلة البدائية وُجدت المياه ممتزجة، إذ
لم تكن مجسّدة بقوّة واحدة وإنما بثلاثة طواغيت أو، بحسب
التعبير البابلي، "آلهة عتيقة" هي: آبسو، ممو، تيامة.
وفي الفصل الثاني "الحياة والخصب" يعرّفنا الباحث على
تصورات حضارة بلاد الرافدين القديمة عن ثبات الكون،
وديمومة الحياة ومقوماتها، وتكاثر البشر ووفرة مصادر قوتهم،
وهي المتطلبات الأساسية للحياة. وطالما نحن نتعامل مع
حضارة قديمة ازدهرت في ظل بواكير الوعي الإنساني في العصور
التاريخية الأولى. إن ما يلي الخلق هو الإنجاب، وما يلي
البزوغ هو النمو، وما يلي الظهور هو الوفرة. وهي مظاهر
اعتبرت في العقائد القديمة من مسؤوليات آلهة الأمومة
والخصب.
لقد كانت /ننخرساك/ الآلهة - الأم، و/انكي/ إله الخصوبة
الرئيس. ولكن وجود آراء شائعة ومتداولة من قِبل الباحثين
حول كون /انانّا/ (عشتار) الآلهة - الأم، وزوجها /دموزي/
(تموز) إله الخصب، جعل الباحث الدكتور نائل حنون يقوم بشرح
العقائد الخاصة بآلهة الأمومة والخصب، ويقدم تفسيراً
لطبيعة عبادة الإلهين /انانّا/ و/دموزي/ وصلتهما بالامومة
والخصب.
ولا يشكّ الباحث في ان مبعث الاعتقاد بخلود الآلهة في أنها
اعتُبرت مسؤولة عن إدارة الكون بجميع ظواهره المعقدة التي
تفوق، في تعقيدها، طبيعة الحياة البشرية البسيطة في
مظهرها. من هنا فلا بدّ من ان تتفوّق الآلهة على البشر
بقدراتها وخلودها، بغير ذلك فإن الكون يصبح عرضة للفوضى
والدمار فيما إذا تعرّضت للموت.
وهو أمر لا يُستساغ حدوثه بالنسبة لمعتقدات السكان
القدماء. ومن أجل التوصّل إلى فهم مغزى موت الآلهة وتأثيره
في حياة البشر، وبيان مدى صحّة الرأي السائد حول علاقة ذلك
بخصوبة الطبيعة. وقد حدّد الباحث الحالات التي حدث فيها
موت الآلهة أو مقتلها. ومن دراسة هذه الحالات توصّل إلى
تقسيمها على أربعة مواضيع مختلفة في سياقاتها ومغزاها
وتأثيرها في الحياة. هذه المواضيع هي:
1- موت الآلهة في أساطير التكوين والخلق.
2- الانتقال إلى مجمع آلهة العالم السفلي.
3- موت الآلهة السنوي.
4- موت الآلهة في حوادث متفرقة.
في الفصل الرابع (الروح والعالم السفلي) يأتي الباحث على
شرح نظرة سكان بلاد الرافدين إلى حتمية الموت على البشر.
ويرى الباحث بأنه وثيق الصلة بالتراث المدوّن لحضارة بلاد
الرافدين القديمة، ففي مواجهة الموت كانت هناك معاناة وقلق
لدى الفرد حينما يفكر بما سيخلفه موته من أثر على أحبائه
ومعارفه وبالفراغ الذي سيتركه غيابه عنهم. وأوضح ما يعبّر
عن ذلك ما ورد في إحدى مراثي (تموز) وهي صدى لمراثي الناس،
بقوله إنه حين يموت سوف تبقى أمه بلا معيل .
وليس لها مَن يُعنى بها ويُستدلّ على عمق هذه المعاناة
الإشارة التي ترد في نصّ "موت أور
–
نمو" بخصوص معاناته من
الألم والحزن بعد موته، على زوجته وابنه اللذين تركهما في
عالم الأحياء. وكل ما هو مُكتشف حتى الآن، يخلو من أي
إشارة إلى تخلّص الإنسان من حتمية الموت باستثناء (أوتانا
بشتم) وزوجته.
ولكن حتى في هذه الحالة نلاحظ ان المنظرين القدامى كانوا
حريصين، من خلال الأدب الأسطوري، على بيان ان (أوتانا
بشتم) وزوجته لم يخلدا لصفتهما البشرية وإنما حُوّلا إلى
إلهين، وبذلك توجّب ان يكون الخلود نصيباً لهما. ومنذ ان
تحوّلا إلى إلهين أُبعدا عن البشر ليعيشا حياة الآلهة
الخالدة بعيداً حيث لا يصل إليهما إنسان سوى في السياق
الأسطوري الخارق الذي يتطلبه لقاء الآلهة، وهو السياق الذي
أوصل (جلجامش) إليهما في الحوادث الأسطورية التي ترويها
الملحمة.
وبهذا السياق تمكن المنظّرون القدامى من تجنّب خرق القاعدة
الأزلية في ان لا يكون بين البشر مَن هو خالد. أي أنهم،
بعبارة أخرى، رأوا تحقّق المستحيل من غير خرق قاعدة
استحالته. ولكي يبقى ذلك الاستثناء على هذه الحالة فقط
فإنهم جعلوا من خلود (أوتانا
–
بشتم) وزوجته نتيجة لسبب
وقع مرة واحدة ولن تتكرّر.
ويقصد الباحث حدوث الطوفان وإنقاذ بذرة الحياة للبشر وسائر
الكائنات الحيّة. فقد كان الخلود الاستثنائي الذي حصل عليه
(أوتانا –
بشتم) وزوجته بصيرورتهما
الهين المكافأة الكبرى لهما على الدور الذي قاما به في
إنقاذ الكائنات الحيّة من الفناء بالطوفان.
|