ثقافة شعبية

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

عتبة الدار .. حُسن يوسف ونذور العافية
 

عبد الرحمن جمعة الهيتي

استكملت كل مستلزمات الانتقال من بيت والدها الى بيت عريسها وزوجها والتي طال انتظار هذا اليوم.. فقد خصفت من خوص النخيل سلة (الهدوم) ذات قبغ ولونتها بالالوان السبعة وسلة الرفع (الفضل) وسفطاً ذا قبغ لوضع مخشلاتها البسيطة فيه ومكحلتها وقطعة من (حسن يوسف) وخصفت طبقا ملونا ومزخرفا بزخارف متعددة الالوان والاشكال. وباطية عجين.. وسفت من الخوص حصيرة توضع تحت الفراش وصغيرة للصلاة.
تتحرك بهمة عالية ويبدو على حركتها وقار واحلام وردية تداعب خيالها.. وصاحباتها يتهامسن بفرح وحبور تتخلله قهقهات وضحكات ليست بالعالية الصوت.. انه يوم غد يوم زفافها. وقد سافر والدها منذ يومين في سفرة استحياء ليس الا. وامها ترمقها بين الفينة والفينة وهي ترتب وصديقاتها اشياءها التي اعدتها ومراحل الزينة.
وفي الليل استسلمت امينة لعمتها وهي تضع الحناء على كفي قدميها ورسمت في راحتي يديها قلب الحب.. والبنات يتمازحن واهل العريس من النساء يرقصن على ضوء الفوانيس واللالة التي حرصت على تنظيفها بجعل زجاجتها اكثر صفاءا ونقاءا.
ودعها الاقارب والجيران الا صديقة عزيزة بقيت معها تؤنسها في ليلة ما قبل العرس، لم تكن الام بالتي تملك الشجاعة الكافية لتتحدث مع ابنتها الوحيدة في كيفية التعامل مع عريسها في اول لقائها معه.
الا انها محتفظة بكلمات حاولت ان تصوغها في شكل ديباجة او مقولة قصيرة.. لكنها استجمعت كل قواها العقلية لقول وصيتها وهي مستعدة لملاقاة عريسها. فهمست بأذني ابنتها قائلة لها : العتبة يا ابنتي.. حافظي على عتبة بيتك حافظي عليها. فالعتبة يا ابنتي هي انت الزوجة الودودة وان شاء الله الولود. وما تدري الام ان العتبة هي قول سيدنا ابراهيم لزوجة ابنه اسماعيل حينما زار بيت ابنه وسألها : كيف العيش ؟ قالت الزوجة: ليس عندنا زاد ولا مال. فطلب منها ان جاء زوجها ان يغير عتبة داره. كررت ام العروس القول لابنتها.العتبة يا ابنتي. اجعليها نظيفة وبخريها بالبخور عصر كل خميس.
واردفت: العتبة يا ابنتي لاتخرجي سر زوجك خارجها واجعلي ما يقوله في البيت داخل البيت.. وكرري انك وزوجك تملكين الكثير من الزاد والمال ولا تنقصي من حق زوجك امام الضيوف والسائلين. العتبة يا ابنتي هي المكان العالي لتدخلي البيت. فاجعلي بيتك ذا سمو ورفعة وشرف ولا تدخلي عتبة دارك احاديث السوء وما يعكر صفو عيش زوجك ولا تمنعيه من العطاء. وتذكرت العروس.. بأن ام عريسها ستضع سيفا عند عتبة الدار حينما تدخل بيتها الجديد ويسرح ماءا عند قدميها كي لا تخرج منه متكدرة.
لقد حفرت الام هذه الكلمات في ذاكرة ابنتها. وقبل ان تستسلم للنوم تذكرت وصديقاتها اغاني العشاق وما قيل عن عتبة الدار.. فهي مكان للقاء البريء، ومبكى العشاق المغرمين المحرومين من رؤية الحبيب.
نذور العافية
في اماسي الصيف الهيتي.. يفترش الشباب والفتية الرمال الناعمة الممتدة والمحتضنة الفرات المنساب في خدر من قدام مدينة هيت التي تشرفت بعطائه الوفير لها.. وما يمنحه من هِبات.فهو سر سماحتهم وملهم افكارهم وعالي ثقافتهم وسجاياهم الكريمة. وجرافة ملاعب الفتيان والشباب والفتيات اللاتي كن يسبحن فيه. وسبيل تنقلهم في التجارة والابحار الى المدن القريبة والبعيدة ومنظف جيد للافرشة وادوات طبخهم واجسامهم. وعذوبة مائه الذي لا مثيل له من مياه ثلثي الكرة الارضية.
كان الشباب يقضون جل ليالي الصيف عند جرافه متكئين على رمال نظيفة.. تحيط بهم (بقج) بساتين الرمان والسفرجل والخوخ والتي تسقيها نواعير ولكل بقجة ناعور.
كان القمر يمر عليهم بأشعة فضية بمحاقاته الاربعة.. يؤنسهم في الليالي حين تنساب اشعته البرتقالية اول ظهوره وهو بدر من خلال اشجار النخيل والرمان في قرية الدرستانية يضفي على الماء الفراتي جمالا أخاذا يداعب صفحة الفرات والشباب الذين يتكئون على مقاعد زوارقهم المنسابة مع مجرى النهر الهادئ الوديع، او وهم جلوس على معبر المدينة الخشبي.
ففي الاماسي وهم جلوس يتبادلون احاديث في الشعر والادب الشعبي واحاديث في الحب والسفر. وبالتحديد ليالي أيام الخميس يمتعون نظرهم وتسرح افكارهم بمناظر الشموع المضاءة الموضوعة بعناية فائقة على صفحة كرب النخيل او في بواطي العجين المقيرة وهي تطوف جذلاته مضيئة صفحة الماء تنساب منها اشعة تتماوج مع حركة الماء.
انها نذور ترسلها نساء المدينة قرابين عافية لاطفالهم الذين تشافوا وتعافوا من سخونة انتابت اطفالهم او من اوجاع الرأس، او من بكائهم الذي لا ينقطع في الليل. كان هذا المنظر يمر من امام الشباب وهم يمتعون فيه نظرهم وتسرح افكارهم وتمنحهم سرورا بالغا.. ويتبعونه بامتداد نظرهم الى ان يصل الى باب دوالي نواعير الدوارة.
ليلة الزكريا
كانت الطفلة مريم اكثر اخواتها احتفاءاً بالمناسبة المفرحة واكثر التصاقا بالصينية الكرنفالية المزين وسطها بأغصان الياس والرمان المضيئة ب جنار الرمان المتفتح حديثا.. ومريم هذه الطفلة الوديعة اكثر اهتماما بالمواعين الصغيرة التي تحوي الزبيب والحمص واصابع العروس والخرفيش.. وهي الاكثر اهتماما بالشموع المنتصبة الملونة وخاصة شمعتي والديها ذواتي اللون الأحمر. كانت تستعجل العائلة بالجلوس حول صينية الزكريا وبانتظار والدها الذي سيتلو ايات من الذكر الحكيم من المصحف الذي وضع بعناية فائقة وسط الصينية.
وبعد صلاة المغرب تجتمع العائلة حول الصينية المضيئة بالشموع الملونة والتي تكلل حاشيتها الملونة المدورة بهالة ضوئية تنير ارجاء البيت القديم في يوم استثنائي لا يتكرر الا مرة واحدة بالسنة وهو يوم اول احد من شهر شعبان تبركا بقدومه ومن ثم احتفاءا بمقدم شهر رمضان الكريم.
تقدم الام صحون شوربة العدس (الميدمة) بالدهن وبالبصل الاشقر لتضفي على صحون الحساء شكلا جميلا ورائحة زكية.. وقد لا يمر على هذه الصحون الا من به جوع انهكته السباحة او الركض او اللعب، لكن العائلة شأنها شأن كل عوائل المدينة محتفلة بيوم الزكريا.
الكل بانتظار رب العائلة ليبدأ الاحتفال.. يتقدم محسنا الوضوء ومتقنه يجلس على (دوشك) الذي عد له متعوذا ومبسملا ويتلو ايات كريمات وافراد العائلة جلوس. فرحون ومبتهجون بهذه الأمسية وبالصينية المملوءة شموعا متلألئة والتي تتوسطها أغصان الياس والزيتون والرمان والمواعين التي صفت بانتظام وتناسق. اصرت الطفلة مريم واختاها على ترتيبها بشكل لامثيل له. وبعد انتهاء الوالد من التلاوة تختتم بالشكر والدعاء لله نعمه على العائلة وسائر المسلمين وان يعم الخير والرخاء اهل المدينة وسائر المدن.
ثم تبدأ العائلة بالسمر والأحاديث الشيقة على ضوء الشموع وهم يتبادلون ما في المواعين كل حسب ما يفضل ويشتهي من الزبيب الاسود او الاشقر او الحمص او أصابع العروس او الحنطة "المسهاة " على النار ثم ينشد الأطفال.
يا زكريا عودي عليه
كل سنة وكل عام ننصب صينية
ويتمنون العمر المديد للوالدين والاخوة الكبار حتى صلاة العشاء، ولقد كان التهيؤ والاستعداد للاحتفال بهذه الامسية السعيدة يلقى اهتماما خاصا من لدن الفتية والفتيات في كل بيت وحي.. ولقد كانوا يتسابقون في شراء الشموع الملونة والحلويات وما يوضع في الصينية وهم يتفاخرون بشراء ووضع اجود انواع الحلوى والورود وهم يتبادلون وجيرانهم ما وضعوه في صوانيهم وفي ذلك توثيق لعلاقات الصداقة والمحبة بين ابناء الدرب.


خليل الرفاعي

باسم عبد الحميد حمودي
شكل وجود الفنان الكبير خليل الرفاعي على خشبة المسرح وفي الدراما التلفزيونية لسنوات خلت حضوراً مبهجاً للشخصية الشعبية العراقية بكل طيبتها وصراحتها وشجاعتها واقترابها من إيقاع الشارع.
وكان خليل الرفاعي الذي رحل عنا حديثاً واحداً من النماذج الفنية التي لا يتكرر تكوينها وحسن أدائها وتلقائيتها في تشخيص الأعمال الفنية سواء على صعيد المسرح أو السينما أو الإذاعة أو الشاشة الصغيرة.
ولاشك في ان القدرة على تحريك التضاد وتناقضات الحياة عبر الشخصية الفنية للحصول على البسمة، عمل لا يعد سهلاً إذا ابتعد عن التهريج والإخلال بشخصية الفنان على حساب النكتة والمفارقة، وقد كان خليل الرفاعي دائماً قادراً على تشكيل حضور قوي في الساحة الفنية التي يعمل فيها دون إخلال بشخصيته كفنان ملتزم يحترم اداءه قدرما يحترم جمهوره.
منذ أربعينيات القرن الماضي وخليل الرفاعي الشهير بأبي فارس يعتلي خشبة المسرح في أداء مميز ومنذ بواكير التلفزيون وخليل الرفاعي يقدم شخصية (زعتر) على الشاشة الصغيرة ببث حي ومباشر ويقدم البرامج التلفازية الأخرى بمشاركة زملائه جميل الخاصكي ومحمد القيسي وكامل القيسي وإبراهيم الهنداوي معتنياً بالمشاركة في مسرح الطفل وبطلاً للعديد من مسرحيات الفرقة القومية.
ولد خليل الرفاعي ببغداد سنة 1928 وتوفى يوم الأحد الماضي في احد مستشفيات اربيل وقد كان عازماً قبيل رحيله على التحضير لمسرحية خاصة بالأطفال مليئاً بالأمل الذي غاب برحيله رحمه الله لكن احداً لن ينسى عنايته بتقديم الشخصية الشعبية المميزة عبر اعماله المتعددة التي لن يستطيع احد اختراقها بكل حيويتها وبساطتها العصية على التقليد وتأكيدها الدائم على حس الإمتاع الذي تتمتع به هذه الشخصية المليئة بالكثير.


كتب: الحياة والموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة
 

المدى الثقافي
الدكتور نائل حنون مؤلف الكتاب أستاذ جامعي عراقي وباحث في تاريخ الحضارات القديمة، له العديد من الأبحاث والمقالات المنشورة في الصحف والدوريات العربية، من كتبه:

"عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة"، "المدافن والمعابد في حضارة بلاد الرافدين القديمة"، "نظام التوثيق الآثاري"، "المعجم المسماري للغات السومرية والأكادية والعربية"، "عقائد الحياة والخصب في الحضارة العراقية القديمة"، "شريعة حمورابي، ترجمة النص المسماري مع الشروح اللغوية والتاريخية".
وفي كتابه الجديد: "الحياة والموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة" يتناول الباحث موضوع "التكوين والخلق" وأصل الآلهة وخلق الإنسان بحسب تصورات سكان بلاد الرافدين القدماء.
كما يتناول موضوع "الحياة والخصب" ويلقي فيه الضوء على العقائد الخاصة بالخصب وضمان ديمومة الحياة، كما ينتقل إلى بحث "الآلهة والموت" ودراسة صلة الآلهة بالموت. وفي موضوعه الأخير المخصّص لدراسة الأفكار الخاصة بموت البشر، من حتميته عليهم واستحالة حصولهم على الخلود إلى تصورات عن الروح وما ينتظرها في العالم الآخر، يتناول أيضاً عالم الأرواح (العالم السفلي) وآلهته وحالة الأرواح فيه.
يتألف الكتاب من مقدمة وأربعة فصول، في الفصل الأول "التكوين والخلق" يؤكد الباحث أن هناك ثمانية نصوص مسمارية، باللغتين السومرية والأكادية تتناول موضوع خلق الكون بحسب معتقدات حضارة بلاد الرافدين القديمة، من هذه النصوص ما كان التكوين موضوعه الرئيس، ومنها ما يتطرّق إلى هذا الحدث الكوني، أو إلى ما يتعلّق به، عرضاً. والصنف الثاني هذا كان قد دُوّن أصلاً لغاية أخرى غير رواية أحداث خلق الكون.
ويروي الباحث أشهر قصة للخليقة ألا وهي قصة الخليقة البابلية بعد سفر التكوين الوارد في الكتاب المقدس (العهد القديم)، وهي من أهم وأطول قصص التكوين في الحضارات القديمة وأوضحها فكراً على الرغم من التجزؤ الذي وجدت عليه ألواحها الطينية.
كُتِب نصّ هذه القطعة الأدبية الأسطورية باللغة الأكادية، وبحسب تقليد أدبي رافديني قديم اعتبرت بداية السطر الأول منها عنواناً لها، وهذه البداية تُقرأ بالأكادية: "أينما اَلِش" وتعني بالعربية "حينما إلى العلى".
يتألف نصّ "حينما إلى العلى" من حوالي ألف سطر مدونة بالخط المسماري على سبعة ألواح طينية. وقد استنسخت هذه الألواح لأكثر من مرّة في عصور بلاد الرافدين القديمة. تصف قصة الخليقة البابلية البدء بأنه كان قبل وجود الكون والآلهة المعبودة.
وكان كل ما وُجد كتلة هائلة من المياه البدائية يصعب تحديد ماهيتها، فهي العماء والسكون، الشمول والغموض، وهي العتق الذي كان مقدراً ان يزول وإن بعد لأي. وكانت بوادر حدوث ذلك مرتبطة بوجود الحركة، التي هي حصيلة عمليتين خارقتين هما خلق الكون وانبعاث الحياة.
فكتلة العماء الأولى أزلية الوجود ولم تسبقها حالة تمخّضت عنها ولكنها تواجه حتمية الاستنفاذ في خضم هاتين العمليتين الخارقتين اللتين ما كانتا لتتما بدون وجود كتلة العماء الساكنة. في تلك الكتلة البدائية وُجدت المياه ممتزجة، إذ لم تكن مجسّدة بقوّة واحدة وإنما بثلاثة طواغيت أو، بحسب التعبير البابلي، "آلهة عتيقة" هي: آبسو، ممو، تيامة.
وفي الفصل الثاني "الحياة والخصب" يعرّفنا الباحث على تصورات حضارة بلاد الرافدين القديمة عن ثبات الكون، وديمومة الحياة ومقوماتها، وتكاثر البشر ووفرة مصادر قوتهم، وهي المتطلبات الأساسية للحياة. وطالما نحن نتعامل مع حضارة قديمة ازدهرت في ظل بواكير الوعي الإنساني في العصور التاريخية الأولى. إن ما يلي الخلق هو الإنجاب، وما يلي البزوغ هو النمو، وما يلي الظهور هو الوفرة. وهي مظاهر اعتبرت في العقائد القديمة من مسؤوليات آلهة الأمومة والخصب.
لقد كانت /ننخرساك/ الآلهة - الأم، و/انكي/ إله الخصوبة الرئيس. ولكن وجود آراء شائعة ومتداولة من قِبل الباحثين حول كون /انانّا/ (عشتار) الآلهة - الأم، وزوجها /دموزي/ (تموز) إله الخصب، جعل الباحث الدكتور نائل حنون يقوم بشرح العقائد الخاصة بآلهة الأمومة والخصب، ويقدم تفسيراً لطبيعة عبادة الإلهين /انانّا/ و/دموزي/ وصلتهما بالامومة والخصب.
ولا يشكّ الباحث في ان مبعث الاعتقاد بخلود الآلهة في أنها اعتُبرت مسؤولة عن إدارة الكون بجميع ظواهره المعقدة التي تفوق، في تعقيدها، طبيعة الحياة البشرية البسيطة في مظهرها. من هنا فلا بدّ من ان تتفوّق الآلهة على البشر بقدراتها وخلودها، بغير ذلك فإن الكون يصبح عرضة للفوضى والدمار فيما إذا تعرّضت للموت.
وهو أمر لا يُستساغ حدوثه بالنسبة لمعتقدات السكان القدماء. ومن أجل التوصّل إلى فهم مغزى موت الآلهة وتأثيره في حياة البشر، وبيان مدى صحّة الرأي السائد حول علاقة ذلك بخصوبة الطبيعة. وقد حدّد الباحث الحالات التي حدث فيها موت الآلهة أو مقتلها. ومن دراسة هذه الحالات توصّل إلى تقسيمها على أربعة مواضيع مختلفة في سياقاتها ومغزاها وتأثيرها في الحياة. هذه المواضيع هي:
1- موت الآلهة في أساطير التكوين والخلق.
2- الانتقال إلى مجمع آلهة العالم السفلي.
3- موت الآلهة السنوي.
4- موت الآلهة في حوادث متفرقة.
في الفصل الرابع (الروح والعالم السفلي) يأتي الباحث على شرح نظرة سكان بلاد الرافدين إلى حتمية الموت على البشر. ويرى الباحث بأنه وثيق الصلة بالتراث المدوّن لحضارة بلاد الرافدين القديمة، ففي مواجهة الموت كانت هناك معاناة وقلق لدى الفرد حينما يفكر بما سيخلفه موته من أثر على أحبائه ومعارفه وبالفراغ الذي سيتركه غيابه عنهم. وأوضح ما يعبّر عن ذلك ما ورد في إحدى مراثي (تموز) وهي صدى لمراثي الناس، بقوله إنه حين يموت سوف تبقى أمه بلا معيل .
وليس لها مَن يُعنى بها ويُستدلّ على عمق هذه المعاناة الإشارة التي ترد في نصّ "موت أور
نمو" بخصوص معاناته من الألم والحزن بعد موته، على زوجته وابنه اللذين تركهما في عالم الأحياء. وكل ما هو مُكتشف حتى الآن، يخلو من أي إشارة إلى تخلّص الإنسان من حتمية الموت باستثناء (أوتانا بشتم) وزوجته.
ولكن حتى في هذه الحالة نلاحظ ان المنظرين القدامى كانوا حريصين، من خلال الأدب الأسطوري، على بيان ان (أوتانا بشتم) وزوجته لم يخلدا لصفتهما البشرية وإنما حُوّلا إلى إلهين، وبذلك توجّب ان يكون الخلود نصيباً لهما. ومنذ ان تحوّلا إلى إلهين أُبعدا عن البشر ليعيشا حياة الآلهة الخالدة بعيداً حيث لا يصل إليهما إنسان سوى في السياق الأسطوري الخارق الذي يتطلبه لقاء الآلهة، وهو السياق الذي أوصل (جلجامش) إليهما في الحوادث الأسطورية التي ترويها الملحمة.
وبهذا السياق تمكن المنظّرون القدامى من تجنّب خرق القاعدة الأزلية في ان لا يكون بين البشر مَن هو خالد. أي أنهم، بعبارة أخرى، رأوا تحقّق المستحيل من غير خرق قاعدة استحالته. ولكي يبقى ذلك الاستثناء على هذه الحالة فقط فإنهم جعلوا من خلود (أوتانا
بشتم) وزوجته نتيجة لسبب وقع مرة واحدة ولن تتكرّر.
ويقصد الباحث حدوث الطوفان وإنقاذ بذرة الحياة للبشر وسائر الكائنات الحيّة. فقد كان الخلود الاستثنائي الذي حصل عليه (أوتانا
بشتم) وزوجته بصيرورتهما الهين المكافأة الكبرى لهما على الدور الذي قاما به في إنقاذ الكائنات الحيّة من الفناء بالطوفان.


شعراء: كاظم المنظور الكربلائي
 

كاظم السيد علي

من يظن ان شعراء الجيل السابق من رجال ادبنا الشعبي لم ينظموا غير الرثاء ولم يبدعوا الا في ميدانه فقط، فظنهم هذا ضرب من الوهم حيث طرقوا كل ابواب الشعر واغراضه، فالشاعر الشعبي الكبير الراحل (كاظم المنظور الكربلائي) واحد من اولئك الرجال الذين ابدعوا ورفدوا الساحة الشعرية كتب أكثر قصائده الرثائية في حب العترة النبوية الشريفة لكونه نشا نشأة دينية وحضر المجالس الادبية لانه ولد في مدينة لها تاريخها الديني العريق. ولقب بالمنظور لكونه تخصص في نظر مراثي اهل البيت.
وهو واحد من الشعراء الذين برزوا في احياء الحركة الثقافية والادبية في مدينتهم كربلاء التي ولد فيها عام (1892) وترعرع وعاش حتى مات فيها.
اولع الشاعر الشيخ كاظم المنظور، بالشعر الشعبي منذ الصبا وجالس الكثير من الشعراء وحفظ شعر الكثير ممن سبقوه في هذا الميدان امثال حسين الكربلائي والحاج زاير الدويج وعبود غفلة وعبد الامير الفتلاوي حتى اصبح شاعراً معروفاً يعرف كل الناس في مدن البلاد.
طبع له ديوان في 21 جزءاً باسم (المنظورات الحسينية) وعرف بكثرة النظم والارتجال وهو سريع النكتة وقد ثبت ذلك في مواقف عدة منها انه طلب منه ذات يوم توليد (ابو ذية) من البيت الشعري للشاعر احمد شوقي الذي يقول فيه:
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
فاجابهم شاعرنا المنظور:
حلاة الولف ما يرخص بسوماي
يخف جدمه ويتابعني بسوماي
نظره في سلام في بسوماي
كلام وموعد وكعده سوية
وقد انشد شاعرنا الكثير في حق الامام علي (ع) ومنها انشودة رائعة جاء فيها:
لالا تعذل الروح خلها بهواها
لازال تهوه حيدره خلها بهواها
عن بني عذره أو هواها تضرب الوادم مثلها
اتهوم بدروب الموده والهوى يجمع شملها
ضيعت عذره أو هواها روحي وتقدس محلها
اشتد غرامي.. اوعز مقامي.. ابسر هيامي
والتزامي.. بحب امامي
اليحضر الشده أو يحلها
واصبحت روحي اليوم عذري هواها
خلها بهواها امعذره خلها بهواها
والمنظور واحد من الذين استهوتهم قصيدة الشاعر النجفي المرحوم السيد عبد الحسين الشرع التي كتبها عام 1937
ياطبيب اصواب دلالي كلف
لا تلجمه بحطة السماعة
فأخذ ينظم قصيدة رائعة امتداداً لقصيدة الشرع يقول المنظور فيها:
يا طبيب اسمع والك بالسر ابيح
لو تعاهدني على كتمانه
لا تظن بدواك كلبي يستريح
ادواك مثل العلج للبطرانه
بس طبيب الهوه ايعرف ام صحيح
ويعرف شنهو دوه الوجعانه
هواي مثلك ضيعوا بيه العرف
آه من دروب الهوه ومضياعه
فكاظم المنظور كتب ما كتب في باب الابوذية وفي جميع الاغراض من غزل ومدح وهجاء ونصائح وحكم في قسميها المولدة والطليقة.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة