شاعرية الجمال الموحش في عازف
البيانو لرومان بولانسكي
احمد
ثامر جهاد
يشكل رومان بولانسكي مع المخرجين البولنديين (أندريه
فايدا، كريستوف كيسلوفسكي) اتجاهاً سينمائياً خاصاً من
لحظة اختيار الموضوعات حتى آخر اللمسات الإخراجية في
أشرطتهم . وخلال محاولته استخراج شراكة فاعلة بين حكاية
الفيلم و متلقيها، يؤمن بولانسكي بالطابع الخلاق للرغبة
الذاتية في الابداع و بالعناية المحفزة لخيال الإنسان،
بصفتها طاقة كامنة ونزوعاً عميقاً لإجتراح الجمال، يظهر
رغبته في التعبير عن جوهر الأشياء وتصويرها مهما بدت غامضة
أو مستحيلة ، ويمكن للمشاهد ان يلمس ذلك في العديد من
افلامه السينمائية مثل : الحي الصيني ، الموت والعذراء ،
القمر الساخر ، البوابة التاسعة ، اوليفر تويست .
فيلم (عازف البيانو) الحائز على جائزة السعفة الذهبية في
مهرجان كان السينمائي عام 2002، يعد أحد أهم أفلام
بولانسكي ، خاصة اذا ما نظر اليه بوصفه مشروع المخرج
الشخصي في توثيق فترة الاجتياح النازي للعالم وما تسببت به
من ويلات وكوارث للانسانية في اكثر من مكان ، من هنا يحاول
بولانسكي استنطاق ذكرياته عن مناخات تلك الحرب ومآسيها ،
وبدافع انساني يرتفع بالخاص الى العام لتكون ماساة العازف
اليهودي ماساة للانسانية جمعاء في ظروف مماثلة . وهناك من
يعتبر فيلم عازف البيانو أهم ما قُدم عن الاجتياح النازي
للعالم بعد فيلم ( لائحة شيندلر-1993) إخراج ستيفن
سبيلبيرغ، فقد حظي باهتمام كبير في جميع المحافل
السينمائية العالمية ، كما استحوذ على اهتمام نقدي واسع ،
والاهم منذ لك ان فيلم بولانسكي تخطى الحس التوثيقي لفيلم
سبيلبرغ الموغل في تمرير دفاعات عقائدية يتحفظ عليها
الكثيرون وان منحت المخرج مكاسب عدة .
يروي فيلم (عازف البيانو) المقتبس عن كتاب يحمل العنوان
ذاته ، ألفه ، عشية الحرب العالمية الثانية ، زبيلمان
فلاديسلاف الذي توفي قبل بضع سنوات ، مصير شاب يهودي موهوب
خلال اجتياح المانيا لبولندا في سبتمبر 1939. فبينما كان
يعزف سمفونية "نوكتورن" للموسيقي تشوبان في الإذاعة ، يسمع
دوي الانفجارات القوية التي تدمر كل شيء شيئا فشيئا ،
لتبدأ حكاية الفليم من هنا ، حيث يتفرق شمل العائلة بسبب
تهجير العوائل اليهودية الى مصائر مجهولة يوجهها رعب الموت
.
الفيلم بشكله العام لا يتحدث عن الحرب بشكل توثيقي ، إذ
يظهر ولاول مرة بين سلسلة الأفلام التي عالجت شخصية
اليهودي بسلبياتها ونقاط ضعفها في لجة المواقف الحياتية
المتناقضة ، والبحث عن سبل لائقة للنجاة من جحيم الموت
المحتم . يعطي الفيلم مساحة واسعة لاظهار الألمان المحتلين
لبولندا بقسوتهم وعنفهم السادي بلغة بصرية وحوارية مصورة
ومستلة من وثائق التاريخ الرسمي لاوربا ، وهو ما جعل البعض
يشكك في نوايا صناع الفيلم من زاوية انحيازه لمحنة يهود
بولندا، ولكن هذا التناول الإنساني العميق لمأساة عازف
البيانو وكيف يرى الحرب ويتعامل معها عن بعد وبسلبية
احيانا مع أنه يعيش في قلبها لفترة طويلة ، يوازن ذلك
الهاجس الى حد ما ، خاصة ان الصورة هذه يتم استعراضها
تباعا بدقة واناة من قبل المخرج الذي وان استسلم للاطالة
غير المحبذة في عدد من مشاهد الفيلم ، الا انه أعطى في
المقابل كل مشهد من مشاهد الفيلم حقه من الواقعية المدهشة
والصادمة، ما يجعلنا نتعاطف مرغمين مع هذا العازف الذي
تحول بفعل الحرب إلى الى نافذة لخلق الحياة عبر نغام
الموسيقى التي ترفض الموت بزخمها الروحي الخالد ، والمعبرة
بايحاء دال حتى في اشد لحظات الصمت وحشة ، وسط مشاهد
الخراب والعزلة المريرة ، فتلك لا ريب لحظات العاطفة
البشرية وهي تجهد للامساك بفسحة امل وسط الوجع المهول
للاحداث المآسوية .
الى حد كبير نجح سيناريو الفيلم بالحفاظ على افضل خواص
النص الادبي الاصلي في الدقة والإحكام واستخدامه المفردات
التعبيرية الكلامية والصورية البليغة التي تبرع في وصف
الاحداث والشخصيات ، ومن جانبه لعب الاخراج دوراً اساسياً
في السيطرة على عناصر الفيلم كافة باحتراف وجمالية عبرت عن
نفسها بلغة سينمائية مبدعة تناغمت بتشكيلها الجمالي
والبنائي مع الموسيقى والإضاءة وأحجام اللقطات ، فقدم لنا
المخرج مشاهد لا تنسى تصور قسوة الحرب ومجانية الموت وسمو
روح الانسان المبدع الذي يصبح فنه حصنا ضد تشوهات العالم
الخارجي واداة خلاقة لصناعة الجمال. (عازف البيانو) عمل
سينمائي كبير لمخرج مبدع لم تكن الروائع السينمائية جديدة
او
طارئة عليه ، سيما وهو يحمل نضجاً سينمائياً متكاملاً في
ايقاعه وموسيقاه وأداء ممثليه المحترف والذي اعطى الممثل
ادريان برودي فرصة الانضمام بجدارة الى صف كبار الممثلين
في السينما العالمية .
|