نحـن
والثقـافـة الثـــالثـــة
وليد
كاصد الزيدي
*كاتب وباحث عراقي
باتت
ثقافة اليوم تختلف كثيراً عن ثقافة الأمس، إذ إنها في
أيامنا هذه غدت منظومة شديدة التعقيد وهي في أمّس الحاجة
إلى العمل في اطار منظومة تكنولوجيا المعلومات، بعد أن
تـأثرت كثيراً بثورة الاتصالات والمعلومات الحديثة التي
شهدها العالم منذ الربع الأخير من القرن الماضي والتي لم
يألفها المجتمع الإنساني من قبل.
يؤكد المفكر السياسي الفرنسي موريس دوفرجيه
Maurice Du Verger: (أنه
يجب أن تندرج ضمن مفهوم الثقافة أو (الحضارة) التقنيات
المادية والفكرية أيضاً). وهناك من يعرّف الثقافة من منظور
معلوماتي بأنها ما يبقى من معلومات بعد أن ينتهي كل شيء،
والمعلومات هي من الموارد الإنسانية التي لا تنضب والتي
تزداد بتقادم الزمن.
لذا
بدأ الحديث عن "الثقافة الثالثة"
Third Culture
التي يراد بها ثقافة
العلم والتكنولوجيا، كبديل عن الثقافة التقليدية التي كانت
سائدة في ما مضى، ولعل هذا التحوّل يعّد التحول الثالث في
تأريخ البشرية بعد الثورتين الزراعية والصناعية.
لقد أصبحت الثقافة في عصر المعلوماتية صناعة قائمة بذاتها
تجاوزت مصطلحات عفا عنها الزمن، من قبيل الحداثة والمعاصرة
والتحديث وغيرها، فظهرت مصطلحات (المابعديات)، مثل ما بعد
الحداثة، وما بعد الكولونيالية، وما بعد الصناعة، وما بعد
الكتابة وما إليها، فضلاً عن مصطلحات (النهايات) مثل نهاية
الذاكرة، ونهاية التاريخ، ونهاية الدولة، ونهاية القومية،
ونهاية الكتاب، ونهاية الوسطاء وغيرها، تلك التي بشرت
بانتهاء سلسلة من البنى والأفكار والمقومات لتحل محلها
سلسلة أكثر تطوراً يعمل على بناء أسسها ويطوّرها مفكرون
ومثقفون جدد أطلق عليهم مفكرو الثقافة الثالثة (Third
culture Thinkers)،
فأصبح الكتاب الإلكتروني والمكتبة الإلكترونية ووسائل
الأرشفة الإلكترونية ومنتديات الحوار على الإنترنت وغيرها
من وسائل المعرفة الرقمية الحديثة تحل يوما بعد آخر بديلاً
عن الكتاب الورقي والمكتبة ذات الرفوف والمنتديات
والصالونات الأدبية التقليدية القديمة.
وهذه الثقافة لا تقتصر على ولوج العمل الإلكتروني في إطار
المنظومة المعلوماتية في جانب معين فحسب، بل تشمل جميع
جوانب الحياة، فالعمل في إطار المنظومة المعلوماتية يفوق
كثيراً العمل التقليدي الذي كان يمارسه الإنسان منذ القدم
حتى وقت قريب من يومنا هذا، إذ أن الذاكرة الآلية تخلّد
المعلومات ولا تسهو عنها، لاسيما إذا ما اتخذت التدابير
الاحترازية لتفادي ضياع أو إتلاف وتدمير الملفات التي
تحتوي على المعلومات، وذلك من خلال الاستعانة بوسائل حماية
الحواسيب واتخاذ تدابير الحفظ الاحتياطي والأرشفة
الإلكترونية في الأقراص المدمجة وغيرها.
لقد قطعت الثقافة الثالثة أو ما سّمي أيضاً بـ ((الطريق
الثالث)) أشواطاً طويلة كانت قاعدتها الرئيسة تقانة
المعلومات بشقيها (هندسة البرمجيات، وهندسة المعرفة)،
فالأولى انتقلت في طفرات نوعية من صناعة العتاد المعرفي
إلى تطوير البرمجيات، ومن مغامرات الهواة إلى المؤسسات
العملاقة، ومن قواعد البيانات إلى قواعد النصوص، ومن
الاعتماد على لغات البرمجة الاصطناعية إلى اللغات الطبيعية،
في حين اتجهت هندسة المعرفة إلى الجانب التطبيقي في تقانة
المعلومات، مثل تطبيقات معالجة البيانات، وتطبيقات معالجة
المعلومات، وتطبيقات معالجة المعارف، وتطبيقات التعلم
الذاتي.
إن التوجّه نحو سلوك الطريق الثالث أو ولوج عالم الثقافة
الثالثة لم يعد اليوم خياراً بين عدة خيارات، بل اصبح
ضرورة لامناص منها في سبيل مواكبة ركب التقدم العالمي.
ولعل مجتمعات العالم الثالث ومنها المجتمع العربي معنية
بهذه الانتقالة النوعية المتمثلة بالتفاعل الحيوي مع
تكنولوجيا المعلومات، وبعكسه سوف يبقى منعزلاً يعيش في
عالم آخر بعيداً عما يدور في العالم المتقدم، فالتفوق
التقني في استخدام شبكة الإنترنت مثلاً، يؤدي إلى تفوق من
يرغب باختراق وتشويه الثقافة العربية على مواقع الشبكة
الدولية، في الوقت الذي بقيت فيه تلك الثقافة غائبة عن
الساحة الثقافية العالمية.
وعلى سبيل المثال يعطي دخول اللغة العربية إلى عالم
الثقافة الثالثة دعماً كبيراً لهذه اللغة من خلال ما توفره
تكنولوجيا المعلومات من أسس متطورة لبناء مصارف مصطلحات
ونظم دعم للمؤلفين واستخدامٍ لقواعد البيانات المعجمية
التي تساعد على توحيد المصطلحات ووسائل التحليل اللغوي،
ولاسيما في مجال الدلالة، مما يجعل من هذه اللغة جسراً
للتواصل المعرفي والتكنولوجي ويعطيها فرصة للانتشار في
إطار المنظومة المعلوماتية وعلى وجه الخصوص على شبكة
الإنترنت الدولية. ومن الجدير بالذكر أن ولوج عالم (الثقافة
الثالثة) هو بمثابة درع واقٍ ضد ما يهدد تراثنا وهويتنا
وقيمنا، إذ أن محاور الثقافة المتعددة مثل نظام المعتقدات
والقيم والمحافظة على التراث والتنمية السياسية
والاقتصادية والتنمية العلمية والتكنولوجية والتنمية
التربوية وتنمية الفكر والإبداع وغيرها، لا يمكن لها أن
تتطور وتتقدم إلا بالاعتماد على الثقافة الثالثة، فضلاً عن
التكنولوجيات أنفسها مثل تكنولوجيا الزراعة وتكنولوجيا
الطب والدواء والنقل والمواصلات وغيرها، لا بد لها أن تدور
مع عجلة تكنولوجيا المعلومات، ذلك أن تكنولوجيا المعلومات
تعّد قاسماً مشتركاً بين جميع أنماط الثقافات ما يجعل منها
جسراً للتواصل المعرفي والتكنولوجي، فوعاء الثقافة الثالثة
على سبيل المثال، ينضوي في إطاره أعمال الإدارة
الإلكترونية المّحرك الرئيس لمؤسسات الدولة الحديثة، وهو
ما يسمى اليوم بـ " الحكومة الإلكترونية "الرامية إلى جعل
جميع التعاملات بين المؤسسات فيما بينها أو لدى تعاملها مع
الأفراد تنجز الكترونياً.
عالم الثقافة الثالثة لا يتوقف على مجال معين فحسب، بل شمل
مختلف جوانب الحياة، فمثلاً يساهم العمل الطبي الإلكتروني
في إنقاذ حياة إنسان في حالة خطرة حينما تظهر المعلومات
بسرعة فائقة أنه يتحسس من أدوية معينة، فضلاً عن
الاستخدامات الطبيبة الأخرى المتقدمة في مجال الليزر
والاستعانة بالحواسيب وشبكة الإنترنت، في حين أن الإدارة
الإلكترونية المصرفية تمكّن من وضع أكبر قدر ممكن من المال
المتوفر لدى الناس قيد الاستثمار وتسهّل التعاملات
المصرفية مثل استخدام بطاقات الائتمان الإلكترونية والدفع
الإلكتروني والتوقيع الإلكتروني وغيرها، وفي الجانب
القانوني يتطلب العمل في إطار عالم الثقافة الثالثة سن
تشريعات تحمي التعاملات الإلكترونية عبر الشبكة الدولية،
وكيفية إثبات صحة التوقيع الإلكتروني، فضلاً عن التهيؤ
لمكافحة القرصنة المعلوماتية ومواجهة هجمات العابثين
والمخربين (الهيكرز) الساعين إلى مهاجمة المنظومة
المعلوماتية وإيقافها عن العمل، كما هي قطاعات الزراعة
والصناعة والتجارة الإلكترونية (e-commerce)
التي باتت بديلاً
من التجارة التقليدية التي كانت سائدة لعدة قرون، أما مجال
التعليم فيكتسب أهمية بالغة في أجندة الثقافة الثالثة، بعد
أن أصبح التعليم عن بعد بواسطة الإنترنت والقنوات الفضائية
مثلاً هو البديل عن التعليم بالمراسلة المعتمد منذ عدة
عقود. ففي فرنسا مثلاً يهتم المركز الوطني للتعليم عن بعد
(CNED)
منذ سنوات بالتعليم
الإلكتروني عن بعد ابتداءً من المستوى الابتدائي مروراً
بالمستوى الثانوي حتى تعليم المرحلة الثالثة (Emmergation).
ولعل جميع
الخدمات بأمّس الحاجة إلى التعامل مع تقنيات المعلومات
التي توفر تجاوزاً في الزمن والمسافات وتفتح آفاقاً جديدة
للعمل، فضلاً عن إحداث تغييرات جذرية في مجالات انتشار
المعرفة والأفكار وسياسات الرفاهية والبيئة وحقوق الإنسان
ومختلف جوانب الحياة الأخرى.
إن التخطيط الوطني للمعلوماتية ومسألة دعم توجهات التطوير
المعلوماتي في بلدان العالم الثالث تقع في أولويات السبل
الكفيلة بدخول عالم الثقافة الثالثة الرامية إلى تحقيق
تنمية مدنية وسرعة في التوّجه نحو إنتاج تقنيات المعلومات
وفي مقدمتها البرمجيات، وهذا ما شرعت به الهند مثلاً التي
زاد إنتاجها من البرمجيات على نموها السكاني أكثر من ست
عشرة مرة وعلى نمو دخلها القومي أكثر من عشر مرات. ومن
أمثلة ما يجري في الدول النامية الطموحة الطريق الذي
أنشأته ماليزيا عام 2000 م كجزء من خطتها الوطنية
للمعلوماتية المسمى (الطريق المعلوماتي السريع) الذي يخدم
منطقة صناعية وتجارية وإدارية تعمل باتجاه دعم صناعات
المعلوماتية بما في ذلك تطبيقات (الوسائط المتعددة) وتنفيذ
مفاهيم الحكومة الإلكترونية والتجارة الإلكترونية.
إن ولوج عالم الثقافة الثالثة يتطلب من الدولة النامية
الطموحة أن تضع خططاً وطنية للتطوير المعلوماتي، ذلك أن
الانتقالة النوعية في عصر المعلوماتية تتطلب سلوك ما سمّي
بـ (الطريق الثالث)، ذلك الطريق الذي أطلق عليه (ببل جيتس)
قبل عقدٍ من الزمن(طريق المعلومات السريع)
Information Highway،
وهو طريق المعلوماتية الذي من بين أبرز أدواته استخدام
الإنترنت في التعاملات، وذلك بعد تنامي الهوة بين دول
الجنوب والشمال، وهذا ما أشار إليه تقرير التنمية البشرية
الصادر في حزيران عام 2000 عن برنامج الأمم المتحدة
الإنمائي، الذي دق ناقوس الخطر محذراً من اتساع الهوة بين
أغنياء العالم وفقرائه ودعا إلى التوجه نحو التحديث
التكنولوجي في مجال ما بات يعرف اليوم بـ (الاقتصاد الجديد
أو الاقتصاد الرقمي)المعتمد على ثقافة تكنولوجيا المعلومات.
وتبعاً للإحصائية التي أوردها التقرير لم تتجاوز حصة بلدان
الشرق الأوسط وشمال أفريقية على سبيل المثال 2.5 % من
مستخدمي الإنترنت في العالم.
لقد سعت الأمم المتحدة إلى دعم الدول النامية من أجل مدّ
جسور التكنولوجيا الرقمية وذلك من خلال اعتماد خدمة
تكنولوجيا معلومات تابعة للأمم المتحدة أقترح تسميتها (Unites)
تتولى تدريب
مجموعات من أبناء الدول النامية على استعمالات تكنولوجيا
المعلومات، في حين أنشأ البنك الدولي إدارة تدعى (إدارة
تطوير المعلوماتية) لتعزيز تقدم الدول النامية في خطوة نحو
إعداد تلك البلدان لولوج عالم الثقافة الثالثة، التي باتت
ضرورية اليوم أكثر من أي وقت مضى.
وبرغم تلك المبادرات الدولية وغيرها، إلا أن دول العالم
الثالث تبقى أسيرة العزلة عن كل ما هو جديد ومتطور في
العالم المتقدم، إذا لم تلجّ بنفسها عالم الثقافة الثالثة،
لاسيما نحن على أعتاب الألف الثالث، فالعالم الثالث يجد
نفسه اليوم أمام مفترق طرق بين الدخول إلى عالم الثقافة
الثالثة من خلال نافذةٍ تطل على العالم الجديد أو العيش في
ظل اطلال الثورة الصناعية، بعد أن باتت الخيارات المتوفرة
اليوم، إما بالانعزال على الذات أو بالاندماج الكلي في
الثقافة الثالثة أو التفاعل الإيجابي المدروس والرشيد.
ولعل هذا الخيار الأخير يعّد أفضلها بالنسبة للعالم الثالث
ولا سيما البلدان العربية التي تتمتع بخصوصية في اختيار
الطريق الأنسب بما يتلاءم وقيمها وتراثها وحضارتها العريقة.
|