متابعة
نقدية ..
الدراما التلفازية
العراقية..(السرداب)
د.
عواطف نعيم
لم تكن مسيرة الدراما
التلفازية في العراق آمنة ومستقرة، بل هي قد تعرضت خلال
عمرها الى كبوات وعثرات ووقفت في طريقها الكثير من
المعيقات والمحبطات مما جعلها تتراوح في حركتها ما بين
نكوص والتماعات وفي احيان كثيرة كانت تتعرض لشلل تام يضعها
في سكون ويباس غث ومرفوض، رغم ان خارطة الدراما التلفازية
العراقية تتوافر على اضاءات وإشعاعات متميزة ومؤثرة لاعمال
درامية بقيت في الذاكرة الجمعية للمتلقين كما حفظتها حية
ذاكرة الدراما العراقية عبر الاشرطة والتسجيلات المصورة
والكتابات التقييمية، وكانت جل هذه الاعمال لمخرجين وكتاب
دراميين اثروا تلك الذاكرة وغذوها بمنجزاتهم وابداعاتهم
فمن بين المخرجين العراقيين الذين رفدوا الدراما التلفازية
بالعطاء المؤشر المخرجون عما نوئيل رسام، حسين التكريتي،
عبد الهادي مبارك، علي الأنصاري، صلاح كرم، فردوس مدحت،
رجاء كاظم حسن حسني وجمال عبد جاسم، وعلى مستوى الكتابة
والتأليف نتوقف عند اسماء مهمة لكتاب مبدعين كيوسف العاني
وصباح عطوان وفاروق محمد وعبد الباري العبودي وعبد الوهاب
الدايني وعلي صبري وعادل كاظم.
توفرت للدراما التلفازية العراقية الكوادر الادائية
العالية والمتمكنة على مستوى الاخراج والتمثيل والتقنيات
وبقي الجانب الانتاجي والرقابي هو المعوق الاساس
لانطلاقتها بعافية وامان لاسيما ان القطاع العام هو الممول
والمهيمن على تلك النتاجات الدرامية، وحين بدأ القطاع
الخاص يزاول عمله بعد فترة انقطاع وتوقف وكان ذلك في مرحلة
التسعينيات من القرن الماضي، ابتلى القدر الدراما العراقية
بمعوقات جديدة وهي ظهور منتجين أو منفذي انتاج (مصادره في
اغلب تلك النتاجات شركات عربية) سعوا للربح والاثراء على
حساب حقوق الفنانين العراقيين الذين حوصروا بالرواتب
المتدنية وقلة فرص العمل أو السقوط في براثن العروض
المسرحية الهابطة التي بدأت تنتشر ويستشري شرها في الوسط
الفني العراقي، تاجر هؤلاء المنتجون الجدد بالدراما
العراقية واثقلوها باعمال فقيرة متعثرة تفتقر لابسط
المقومات السليمة للدراما الحقيقية الهادفة التي تستطيع ان
تعلن عن ذاتها وان تطرح خطابها الفني والجمالي والفكري وان
تكون قادرة على مضاهاة الدراما العربية أو منافستها، كل
هذا التردي جاء على حساب تاريخ الدراما العراقية تلفازياً
وعلى حساب طموح واحلام وحاجات الفنان العراقي الذي حوصر من
كل الجهات في حلمه ورزقه وحرية اختياره !! ومما زاد الطين
بلة ان بعضا من اولئك المنتجين في حمى سعيهم وراء الاثراء
والربح السريع السهل عهدوا بمهمة الإخراج التلفازي للاعمال
الدرامية الى عدد من مساعدي الإخراج الذين يفتقرون بدورهم
الى الثقافة والمخيلة والطموح وبذلك دفعوا الدراما
العراقية المسكينة الى أسوأ حالاتها في تلك المرحلة وحتى
لحظة كتابتنا هذه المقالة إذ ان هؤلاء لم يصدقوا تحولهم،
بقدرة قادر وباطماع أصحاب الشنط الإنتاجية الصغيرة الى
مخرجين تتصدر أسماؤهم تلك الاعمال والمسلسلات التي نفذوها،
وقد عمد هؤلاء المخرجون الجدد الى تأكيد قصورهم بالتحديد
والتسطيح في العمل الفني لإرضاء المنتج وزجوا بعدد كبير من
أنصاف الموهوبين توفيراً للأجور مستحوذين على نسب من تلك
الاجور المالية لانفسهم مقابل منح فرص المشاركة والظهور
لأولئك العاملين والذين كانوا في اغلبهم لا يمتون الى الفن
بصلة!
وقد كان الغطاء الذي برر به هؤلاء المخرجون وجود تلك
الأسماء العاملة في مسلسلاتهم واعمالهم انهم يسعون للتجديد
واتاحة الفرص امام الطاقات الادائية غير المختبرة حتى وان
كانت تلك الوجوه لا تمتلك المؤهلات الفنية والثقافية أو
كانت نمطية وتقليدية متكلسة، لذا جاءت الكثير من تلك
الاعمال الدرامية التلفازية المنتجة مسطحة بمواصفات
متواضعة وامكانات ضعيفة لا تجعلها قادرة على التأثير أو
الاضافة أو الصمود في وجدان المتلقين ولا البقاء على خارطة
الدراما التلفازية العراقية !! وبعد الغزو الأمريكي للعراق
واحتلاله وتفاقم محنة الوطن امام هجمة شرسة تستهدف بنيته
الاجتماعية وتهدف الى النيل من لحمته الوطنية لغايات لا
تخفى على ذي عقل نير وأولها التجزئة والتقسيم تحقيقاً لهدف
الغزو الأمريكي في الأراضي العراقية والثروات الوطنية.
وقد جاء هذا الغزو كما يعرف الجميع تحت غطاء الحرية
والديمقراطية وكل تلك الشعارات البراقة التي اثبتت زيفها
وبطلانها من خلال الواقع اليومي للنزف العراقي في زمن
الخراب والاوجاع هذا، ظهرت موجة من الاعمال الدرامية
العراقية بتمويلات لاتعرف مصادرها وكلها بشكل أو بآخر تكرس
وتركز العنف والجريمة وزرع روح الفرقة الطائفية واظهار
الجانب المظلم والسيئ من المجتمع العراقي من خلال شرائح
اجتماعية تشكل الطبقة الدنيا في ذلك المجتمع العراقي
المتماسك والنبيل وكان يبدو للرائي ان ما يقدم لم يأت
اعتباطاً أو مصادفة بل بتعمد ودراية وهدف!! وقد ضاع في
زحمة هذه الاعمال الهزيلة في قيمتها الفنية والخطرة في
أهدافها وتوجهاتها الاجتماعية والأخلاقية عدد من الأسماء
العراقية لفنانين مهمين فكأنهم غادروا وعيهم وتمحيصهم
السليم ليسقطوا في فخ الدراما المفخخة المغلفة ظاهراً
بالنقد والمبطنة بالسموم الممرضة، وكان أصحاب تلك النتاجات
الدرامية لم يكتفوا بكل ما اصاب العراق من جراح وما ابتلاه
القدر به من محنة الغزو والاحتلال والفتنة حتى جاؤا
بخناجرهم ليجهزوا على ما تبقى من إرادة العراقيين وآمالهم
بتلك النتاجات الدرامية التي جاءت متنوعة ما بين كوميدي
ساذج وسطحي ومباشر وما بين ميلودرامي فج ومفتعل، وفي اغلب
تلك الاعمال ضاعت القيمة الفنية والجمالية للاخراج والاداء
وغابت في تلك الفوضى المعالجة والرؤية الفنية، اما التأليف
فقد جاء هو الاخر بعيداً عن أرض الواقع وعمق المأساة
العراقية إذ اهتم بالمظاهر السطحية وتغافل عن الحقائق
الأساسية المسببة لكل تلك الكوارث والمفجرة لها!!
وفي خضم هذه الفوضى واضطراب الرؤى وخلط الأوراق وضبابية
الآفاق جاء العمل الدرامي العراقي (السرداب) ليعلن عن
مغايرته ببساطة وتواضع وانتماء وطني رغم بعض المآخذ
والملاحظات التي سوف نسوقها تتعلق بالاعداد والمعالجة
الإخراجية، لكن وقفتنا ستكون أمام الأداء التمثيلي لنخبة
طيبة من فناني الدراما العراقية.
السرداب
يعتمد المتن
الحكائي للمسلسل التلفازي (السرداب) والذي يقع في خمس عشرة
حلقة على رواية أدبية بالاسم ذاته للكاتب والشاعر الراحل
يوسف الصائغ، وهي تروي ذكريات مجموعة من المعتقلين
السياسيين من أصحاب الأفكار التقدمية التي تقف بالضد من
الجهات الرجعية والعميلة في فترة الحكم الملكي للعراق
آنذاك وهي تشكل جزءاً من ذاكرة النضال العراقي ضد الظلم
والاستبداد، وتقدم شرائح اجتماعية مختلفة ومتنوعة في
توجهاتها وانحدارها الاجتماعي ومشاربها وأهوائها الفكرية
والانسانية، ما بين المثقف التقدمي والمحامي صاحب الفكر
المتنور والشخصية الشعبية ذات الحس الوطني، نماذج بشرية
متعددة في علاقاتها وتطلعاتها الا انها في ذلك المعتقل
تلتقي مع بعضها في هدف وطني واحد هو حب العراق والنضال من
اجل حريته وسيادته.
ولم تكن شخصية الراوي الا شخصية الشاعر يوسف الصائغ ذاته
وذكرياته في معتقل (نكرة السلمان) وقد كتب الصائغ روايته
معتمداً لغة السرد من خلال شخصية الراوي بلغة فيها الكثير
من روح الشعر وبلاغته وبحبكة درامية هي مزيج من الأحداث
المتداخلة والصراعات الدراماتيكية الذاتية والمواجهة ما
بين أكثر من مستوى، المستوى الأول هو السلطة بكل ما تمثله
من جبروت وتعسف وفساد، المستوى الثاني هو الذات النضالية
بكل ما تحمل من اصطراعات خاصة لا تخرج عن نطاق الذات
الداخلية وعلاقتها بالآخر في دائرة العلاقات المحيطة بها
وبين تلك الذات النضالية ومعطيات البيئة التي تتعايش معها
وتتعامل حياتياً، المستوى الثالث هو العلاقة الجديدة التي
تنشأ في اطار بيئة أخرى محاصرة وفارضة لشروطها واخترافاتها
وتسيدها وتتمثل في المعتقل ودائرة علاقات مكتسبة كرستها
واوجدتها طبيعة الحالة المفروضة وتشعباتها المستحدثة من
علاقات وارتباطات ناجمة عنها والتي تجمع هي الاخرى بين
مستويين هما:
1- المعتقلون انفسهم مع بعضهم بكل ما في التواجد من تنافر
وتقارب وحذر.
2- المعتقلون والجهة المضادة والمتمثلة في الأدوات المنفذة
للسلطة الفاسدة والمستبدة وهم حراس المعتقل ومسؤولوه.
تصدى لاعداد العمل الأدبي السراب وتحويله الى عمل درامي
الكاتب عباس الحربي وتصدى لاخراجه الفنان محمد شكري جميل،
وكلا الفنانين يسبقهما تأريخ حافل ومعروف في العمل
الابداعي، فعباس الحربي كاتب مسرحي مرموق له مشاركاته
الجيدة وله اسهاماته في الكتابة الدرامية من خلال عدد من
المسلسلات والسهرات التلفازية، اما الفنان محمد شكري جميل
فهو مخرج سينمائي له تأريخ حافل منذ بدايات السينما
العراقية التي وضع فيها بصماته المتمثلة في عدد من الأفلام
العراقية المتميزة، لاسيما فيلم (الظامئون)، وله ايضاً عدد
من المشاركات الدرامية التلفازية ذات الاثر المحدود على
مستوى التأثير والحضور في خارطة الدراما. انتجت مسلسل (السرداب)
قناة البغدادية وأوكلت امر تنفيذه وتجسيد شخصياته الى نخبة
طيبة من فناني الدراما العراقية المعروفين كالفنان الكبير
يوسف العاني والفنان سامي عبد الحميد والفنان مقداد عبد
الرضا والفنان عبد الخالق المختار والفنان عبد الجبار
الشرقاوي والفنان رائد محسن والفنان ستار خضير، وعدد آخر
من فنانين معروفين لهم حضورهم واسهاماتهم في مجال العمل
التلفازي، ورغم ان الرواية تتحدث عن مكان بعينه هو معتقل (نكرة
السلمان) الا ان هناك اماكن أخرى تمثل بيئات تلك الشخصيات
التي تلتقي في المعتقل، المكان سلطة كبيرة، وفي المكان
يقول افلاطون (حاوياً للشيء وقابلاً للشيء) إذ ان المكان
وظيفة تعبيرية قادرة على التشكيل الدرامي تجسد مكان الحدث
وتملك القدرة على الايحاء الدلالي والتأثير النفسي في
المتلقي عن طريق التنظيم الجمالي الشامل لجميع عناصره،
وسلطة المكان لها اشتراطاتها وهي عندما لا يتم التعامل
معها بوصفها قادرة على توليد الدلالة وتفجير العوالم
التعبيرية والتصويرية داخل العمل الفني فانها تسقط في
الرتابة والسكون والتكرار، ولعل المشكلة الأساس في مسلسل (السرداب)
هي السرداب ذاته الذي وقع في التكرار والمتوقع، فالمكان
واحد ثابت والمتغير فيه هو حركة الشخصيات مع بعضها ومع
ذواتها ومع ما يحيط بها. أغفلت الكاميرا وهي العين القارئة
والراصدة لما يدور جمالياً وفكرياً وفنياً، العميق والمضمر
والمسكوت عنه في داخل الذوات وردود الأفعال واكتفت بالظاهر
العام والمعلن والطافي امام العين، فاصبح تكرار مشاهد مثل
الدخول والخروج لوجبات الطعام والدعوة الى الحمام
والاغتسال والمناداة على الشخصيات شيئاً متوقعاً، لم يحاول
المخرج ان يقدم معالجة درامية النص المعد عن الرواية عبر
استخدام الكاميرا وزوايا اللقطة وتركيب المشهد وفق دلالة
تعبيرية وحركة المكان والشخصيات واكتفى بان يكون منفذا لنص
بدا مترهلاً، مفككاً، فيه الكثير من الثغرات وعلامات
الاستفهام، فالشخصيات تدخل المعتقل وتخرج منه دون ان نتعرف
عليها بشكل كاف أو كأن المخرج والمعد يتوقعان ان يملأ
المتلقي فراغ الكلمات بين السطور، أو يقرأ عن الشخصية في
الكرة البلورية، ثم ان تلك الشخصيات تتحدث عن مقاومة ونضال
دون ان تتعرف على الجهة التي تنتمي اليها!! فلم تكن هناك
دالة واضحة تشير الى فترة زمنية أو الى جهة سياسية أو الى
سلطة قمعية ما تتيح للمتلقي ان يتعرف اليها ويدرك ابعادها
وحجم مساوئها. لقد تم تعويم الزمان والمكان وتم التلاعب
بالحقائق ونفدت بعض المشاهد بطريقة فيها الكثير من السذاجة
التي تبدو غير مبررة، وبقينا امام شخصيات سقطت في التناقض
والغموض كشخصية العجمي (التي اداها الفنان مقداد عبد الرضا)
والتي تذبذبت ما بين انتهازية مرة ووطنية!! ولولا فضاء
الاداء المؤثر لعدد من الممثلين البارعين لسقط المسلسل في
آفة السكون والميلودراما والشعارية وقد تفاوتت حلقات
المسلسل في المستوى الفني وكان المخرج مع بداية كل حلقة
يعمد الى اعادة مشهد بأكمله من الحلقة السابقة ويراوح في
الحديث المكرر لاكثر من حلقة فاقداً الزمن في تركيبة
المشهد، فليس من المعقول حتى في الزمن الافتراضي ان يستغرق
الرجوع من مقابلة مأمور السجن زمناً يعادل زمن مشهد آخر
طويل!! ليعود بعده الى السجين وهو يصل الى مكانه في
المعتقل والمسافة ما بين موقع الحمام وموقع السرداب محددة!!
لكننا حين نتوقف في مرحلة التقييم لعمل السرداب في خضم
فوضى المسلسلات العراقية التي ركبت موجة العنف والقتل
والمؤامرة ضاربة بقيم المجتمع العراقي عرض الحائط متاجرة
بمحنته وجراحه لا يسعنا الا ان نحترم الجهد المبذول
والنيات النبيلة في انتاج عمل درامي كالسرداب لنظافته
ووطنيته وللمستوى الأدائي الرفيع الذي قدمه الممثلون بدءاً
من شيخنا الجليل يوسف العاني ورفيق مسيرته سامي عبد الحميد
والجميل مقداد عبد الرضا وصولاً الى عبد الجبار الشرقاوي
وعبد الخالق المختار ورائد محسن وستار خضير وعبد الاله
الذين قدموا اداء متميزاً ويقف معهم شباب جدد كان لهم
حضورهم مثل علي قاسم واحمد طعمه واياد الطائي، لقد قادوا
المسلسل عبر تناغمهم وفهمهم لفن الدراما نحو بر الامان،
فكانوا مقنعين، ولعل ما منح هذا المسلسل قيمته الفكرية
والجمالية هو تاكيده على كل ما هو وطني ونبيل وراق في
الشخصية العراقية على اختلاف شرائحها الاجتماعية وعكسه
للصورة الاجتماعية العراقية في تراحمها وتداعيها لبعضها
واتساع افقها المعرفي ووعيها الإنساني. تبقى الدراما
العراقية بحاجة الى دعم حقيقي وعناية كبيرة على ان تخرج من
دائرة الارتزاق والربح غير المشروع، وان تتحول بها من
تجارة للكسب والنفع الى مشروع ثقافي يؤرخ ويشير الى حضارة
وطن ووعي مثقف.
فمتى نفعل ذلك ياعراقية ويافضائيات جديدة تتبارى في تقليد
البرامج الأوروبية وتتسابق في تطبيق العولمة بوجهها السلبي
المقيت وتجهد في استنساخ ثقافة استهلاكية تسيء الى الذوق
العام وتسفه معاناة الناس بحجة النقد الساخر والكوميديا
الفجة !!! في الوقت الذي لا يستطيع فيه مذيعو ومذيعات بعض
هذه الفضائيات نطق اللغة العربية بشكل سليم أو يدركوا انهم
بظهورهم على الشاشة انما يعكسون من خلال الحوار والأداء
والسلوك مجـــتمعاً باكمله!!
|