المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

متابعة نقدية .. الدراما التلفازية العراقية..(السرداب)
 

د. عواطف نعيم

لم تكن مسيرة الدراما التلفازية في العراق آمنة ومستقرة، بل هي قد تعرضت خلال عمرها الى كبوات وعثرات ووقفت في طريقها الكثير من المعيقات والمحبطات مما جعلها تتراوح في حركتها ما بين نكوص والتماعات وفي احيان كثيرة كانت تتعرض لشلل تام يضعها في سكون ويباس غث ومرفوض، رغم ان خارطة الدراما التلفازية العراقية تتوافر على اضاءات وإشعاعات متميزة ومؤثرة لاعمال درامية بقيت في الذاكرة الجمعية للمتلقين كما حفظتها حية ذاكرة الدراما العراقية عبر الاشرطة والتسجيلات المصورة والكتابات التقييمية، وكانت جل هذه الاعمال لمخرجين وكتاب دراميين اثروا تلك الذاكرة وغذوها بمنجزاتهم وابداعاتهم فمن بين المخرجين العراقيين الذين رفدوا الدراما التلفازية بالعطاء المؤشر المخرجون عما نوئيل رسام، حسين التكريتي، عبد الهادي مبارك، علي الأنصاري، صلاح كرم، فردوس مدحت، رجاء كاظم حسن حسني وجمال عبد جاسم، وعلى مستوى الكتابة والتأليف نتوقف عند اسماء مهمة لكتاب مبدعين كيوسف العاني وصباح عطوان وفاروق محمد وعبد الباري العبودي وعبد الوهاب الدايني وعلي صبري وعادل كاظم.
توفرت للدراما التلفازية العراقية الكوادر الادائية العالية والمتمكنة على مستوى الاخراج والتمثيل والتقنيات وبقي الجانب الانتاجي والرقابي هو المعوق الاساس لانطلاقتها بعافية وامان لاسيما ان القطاع العام هو الممول والمهيمن على تلك النتاجات الدرامية، وحين بدأ القطاع الخاص يزاول عمله بعد فترة انقطاع وتوقف وكان ذلك في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي، ابتلى القدر الدراما العراقية بمعوقات جديدة وهي ظهور منتجين أو منفذي انتاج (مصادره في اغلب تلك النتاجات شركات عربية) سعوا للربح والاثراء على حساب حقوق الفنانين العراقيين الذين حوصروا بالرواتب المتدنية وقلة فرص العمل أو السقوط في براثن العروض المسرحية الهابطة التي بدأت تنتشر ويستشري شرها في الوسط الفني العراقي، تاجر هؤلاء المنتجون الجدد بالدراما العراقية واثقلوها باعمال فقيرة متعثرة تفتقر لابسط المقومات السليمة للدراما الحقيقية الهادفة التي تستطيع ان تعلن عن ذاتها وان تطرح خطابها الفني والجمالي والفكري وان تكون قادرة على مضاهاة الدراما العربية أو منافستها، كل هذا التردي جاء على حساب تاريخ الدراما العراقية تلفازياً وعلى حساب طموح واحلام وحاجات الفنان العراقي الذي حوصر من كل الجهات في حلمه ورزقه وحرية اختياره !! ومما زاد الطين بلة ان بعضا من اولئك المنتجين في حمى سعيهم وراء الاثراء والربح السريع السهل عهدوا بمهمة الإخراج التلفازي للاعمال الدرامية الى عدد من مساعدي الإخراج الذين يفتقرون بدورهم الى الثقافة والمخيلة والطموح وبذلك دفعوا الدراما العراقية المسكينة الى أسوأ حالاتها في تلك المرحلة وحتى لحظة كتابتنا هذه المقالة إذ ان هؤلاء لم يصدقوا تحولهم، بقدرة قادر وباطماع أصحاب الشنط الإنتاجية الصغيرة الى مخرجين تتصدر أسماؤهم تلك الاعمال والمسلسلات التي نفذوها، وقد عمد هؤلاء المخرجون الجدد الى تأكيد قصورهم بالتحديد والتسطيح في العمل الفني لإرضاء المنتج وزجوا بعدد كبير من أنصاف الموهوبين توفيراً للأجور مستحوذين على نسب من تلك الاجور المالية لانفسهم مقابل منح فرص المشاركة والظهور لأولئك العاملين والذين كانوا في اغلبهم لا يمتون الى الفن بصلة!
وقد كان الغطاء الذي برر به هؤلاء المخرجون وجود تلك الأسماء العاملة في مسلسلاتهم واعمالهم انهم يسعون للتجديد واتاحة الفرص امام الطاقات الادائية غير المختبرة حتى وان كانت تلك الوجوه لا تمتلك المؤهلات الفنية والثقافية أو كانت نمطية وتقليدية متكلسة، لذا جاءت الكثير من تلك الاعمال الدرامية التلفازية المنتجة مسطحة بمواصفات متواضعة وامكانات ضعيفة لا تجعلها قادرة على التأثير أو الاضافة أو الصمود في وجدان المتلقين ولا البقاء على خارطة الدراما التلفازية العراقية !! وبعد الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله وتفاقم محنة الوطن امام هجمة شرسة تستهدف بنيته الاجتماعية وتهدف الى النيل من لحمته الوطنية لغايات لا تخفى على ذي عقل نير وأولها التجزئة والتقسيم تحقيقاً لهدف الغزو الأمريكي في الأراضي العراقية والثروات الوطنية.
وقد جاء هذا الغزو كما يعرف الجميع تحت غطاء الحرية والديمقراطية وكل تلك الشعارات البراقة التي اثبتت زيفها وبطلانها من خلال الواقع اليومي للنزف العراقي في زمن الخراب والاوجاع هذا، ظهرت موجة من الاعمال الدرامية العراقية بتمويلات لاتعرف مصادرها وكلها بشكل أو بآخر تكرس وتركز العنف والجريمة وزرع روح الفرقة الطائفية واظهار الجانب المظلم والسيئ من المجتمع العراقي من خلال شرائح اجتماعية تشكل الطبقة الدنيا في ذلك المجتمع العراقي المتماسك والنبيل وكان يبدو للرائي ان ما يقدم لم يأت اعتباطاً أو مصادفة بل بتعمد ودراية وهدف!! وقد ضاع في زحمة هذه الاعمال الهزيلة في قيمتها الفنية والخطرة في أهدافها وتوجهاتها الاجتماعية والأخلاقية عدد من الأسماء العراقية لفنانين مهمين فكأنهم غادروا وعيهم وتمحيصهم السليم ليسقطوا في فخ الدراما المفخخة المغلفة ظاهراً بالنقد والمبطنة بالسموم الممرضة، وكان أصحاب تلك النتاجات الدرامية لم يكتفوا بكل ما اصاب العراق من جراح وما ابتلاه القدر به من محنة الغزو والاحتلال والفتنة حتى جاؤا بخناجرهم ليجهزوا على ما تبقى من إرادة العراقيين وآمالهم بتلك النتاجات الدرامية التي جاءت متنوعة ما بين كوميدي ساذج وسطحي ومباشر وما بين ميلودرامي فج ومفتعل، وفي اغلب تلك الاعمال ضاعت القيمة الفنية والجمالية للاخراج والاداء وغابت في تلك الفوضى المعالجة والرؤية الفنية، اما التأليف فقد جاء هو الاخر بعيداً عن أرض الواقع وعمق المأساة العراقية إذ اهتم بالمظاهر السطحية وتغافل عن الحقائق الأساسية المسببة لكل تلك الكوارث والمفجرة لها!!
وفي خضم هذه الفوضى واضطراب الرؤى وخلط الأوراق وضبابية الآفاق جاء العمل الدرامي العراقي (السرداب) ليعلن عن مغايرته ببساطة وتواضع وانتماء وطني رغم بعض المآخذ والملاحظات التي سوف نسوقها تتعلق بالاعداد والمعالجة الإخراجية، لكن وقفتنا ستكون أمام الأداء التمثيلي لنخبة طيبة من فناني الدراما العراقية.
السرداب
يعتمد المتن الحكائي للمسلسل التلفازي (السرداب) والذي يقع في خمس عشرة حلقة على رواية أدبية بالاسم ذاته للكاتب والشاعر الراحل يوسف الصائغ، وهي تروي ذكريات مجموعة من المعتقلين السياسيين من أصحاب الأفكار التقدمية التي تقف بالضد من الجهات الرجعية والعميلة في فترة الحكم الملكي للعراق آنذاك وهي تشكل جزءاً من ذاكرة النضال العراقي ضد الظلم والاستبداد، وتقدم شرائح اجتماعية مختلفة ومتنوعة في توجهاتها وانحدارها الاجتماعي ومشاربها وأهوائها الفكرية والانسانية، ما بين المثقف التقدمي والمحامي صاحب الفكر المتنور والشخصية الشعبية ذات الحس الوطني، نماذج بشرية متعددة في علاقاتها وتطلعاتها الا انها في ذلك المعتقل تلتقي مع بعضها في هدف وطني واحد هو حب العراق والنضال من اجل حريته وسيادته.
ولم تكن شخصية الراوي الا شخصية الشاعر يوسف الصائغ ذاته وذكرياته في معتقل (نكرة السلمان) وقد كتب الصائغ روايته معتمداً لغة السرد من خلال شخصية الراوي بلغة فيها الكثير من روح الشعر وبلاغته وبحبكة درامية هي مزيج من الأحداث المتداخلة والصراعات الدراماتيكية الذاتية والمواجهة ما بين أكثر من مستوى، المستوى الأول هو السلطة بكل ما تمثله من جبروت وتعسف وفساد، المستوى الثاني هو الذات النضالية بكل ما تحمل من اصطراعات خاصة لا تخرج عن نطاق الذات الداخلية وعلاقتها بالآخر في دائرة العلاقات المحيطة بها وبين تلك الذات النضالية ومعطيات البيئة التي تتعايش معها وتتعامل حياتياً، المستوى الثالث هو العلاقة الجديدة التي تنشأ في اطار بيئة أخرى محاصرة وفارضة لشروطها واخترافاتها وتسيدها وتتمثل في المعتقل ودائرة علاقات مكتسبة كرستها واوجدتها طبيعة الحالة المفروضة وتشعباتها المستحدثة من علاقات وارتباطات ناجمة عنها والتي تجمع هي الاخرى بين مستويين هما:
1- المعتقلون انفسهم مع بعضهم بكل ما في التواجد من تنافر وتقارب وحذر.
2- المعتقلون والجهة المضادة والمتمثلة في الأدوات المنفذة للسلطة الفاسدة والمستبدة وهم حراس المعتقل ومسؤولوه.
تصدى لاعداد العمل الأدبي السراب وتحويله الى عمل درامي الكاتب عباس الحربي وتصدى لاخراجه الفنان محمد شكري جميل، وكلا الفنانين يسبقهما تأريخ حافل ومعروف في العمل الابداعي، فعباس الحربي كاتب مسرحي مرموق له مشاركاته الجيدة وله اسهاماته في الكتابة الدرامية من خلال عدد من المسلسلات والسهرات التلفازية، اما الفنان محمد شكري جميل فهو مخرج سينمائي له تأريخ حافل منذ بدايات السينما العراقية التي وضع فيها بصماته المتمثلة في عدد من الأفلام العراقية المتميزة، لاسيما فيلم (الظامئون)، وله ايضاً عدد من المشاركات الدرامية التلفازية ذات الاثر المحدود على مستوى التأثير والحضور في خارطة الدراما. انتجت مسلسل (السرداب) قناة البغدادية وأوكلت امر تنفيذه وتجسيد شخصياته الى نخبة طيبة من فناني الدراما العراقية المعروفين كالفنان الكبير يوسف العاني والفنان سامي عبد الحميد والفنان مقداد عبد الرضا والفنان عبد الخالق المختار والفنان عبد الجبار الشرقاوي والفنان رائد محسن والفنان ستار خضير، وعدد آخر من فنانين معروفين لهم حضورهم واسهاماتهم في مجال العمل التلفازي، ورغم ان الرواية تتحدث عن مكان بعينه هو معتقل (نكرة السلمان) الا ان هناك اماكن أخرى تمثل بيئات تلك الشخصيات التي تلتقي في المعتقل، المكان سلطة كبيرة، وفي المكان يقول افلاطون (حاوياً للشيء وقابلاً للشيء) إذ ان المكان وظيفة تعبيرية قادرة على التشكيل الدرامي تجسد مكان الحدث وتملك القدرة على الايحاء الدلالي والتأثير النفسي في المتلقي عن طريق التنظيم الجمالي الشامل لجميع عناصره، وسلطة المكان لها اشتراطاتها وهي عندما لا يتم التعامل معها بوصفها قادرة على توليد الدلالة وتفجير العوالم التعبيرية والتصويرية داخل العمل الفني فانها تسقط في الرتابة والسكون والتكرار، ولعل المشكلة الأساس في مسلسل (السرداب) هي السرداب ذاته الذي وقع في التكرار والمتوقع، فالمكان واحد ثابت والمتغير فيه هو حركة الشخصيات مع بعضها ومع ذواتها ومع ما يحيط بها. أغفلت الكاميرا وهي العين القارئة والراصدة لما يدور جمالياً وفكرياً وفنياً، العميق والمضمر والمسكوت عنه في داخل الذوات وردود الأفعال واكتفت بالظاهر العام والمعلن والطافي امام العين، فاصبح تكرار مشاهد مثل الدخول والخروج لوجبات الطعام والدعوة الى الحمام والاغتسال والمناداة على الشخصيات شيئاً متوقعاً، لم يحاول المخرج ان يقدم معالجة درامية النص المعد عن الرواية عبر استخدام الكاميرا وزوايا اللقطة وتركيب المشهد وفق دلالة تعبيرية وحركة المكان والشخصيات واكتفى بان يكون منفذا لنص بدا مترهلاً، مفككاً، فيه الكثير من الثغرات وعلامات الاستفهام، فالشخصيات تدخل المعتقل وتخرج منه دون ان نتعرف عليها بشكل كاف أو كأن المخرج والمعد يتوقعان ان يملأ المتلقي فراغ الكلمات بين السطور، أو يقرأ عن الشخصية في الكرة البلورية، ثم ان تلك الشخصيات تتحدث عن مقاومة ونضال دون ان تتعرف على الجهة التي تنتمي اليها!! فلم تكن هناك دالة واضحة تشير الى فترة زمنية أو الى جهة سياسية أو الى سلطة قمعية ما تتيح للمتلقي ان يتعرف اليها ويدرك ابعادها وحجم مساوئها. لقد تم تعويم الزمان والمكان وتم التلاعب بالحقائق ونفدت بعض المشاهد بطريقة فيها الكثير من السذاجة التي تبدو غير مبررة، وبقينا امام شخصيات سقطت في التناقض والغموض كشخصية العجمي (التي اداها الفنان مقداد عبد الرضا) والتي تذبذبت ما بين انتهازية مرة ووطنية!! ولولا فضاء الاداء المؤثر لعدد من الممثلين البارعين لسقط المسلسل في آفة السكون والميلودراما والشعارية وقد تفاوتت حلقات المسلسل في المستوى الفني وكان المخرج مع بداية كل حلقة يعمد الى اعادة مشهد بأكمله من الحلقة السابقة ويراوح في الحديث المكرر لاكثر من حلقة فاقداً الزمن في تركيبة المشهد، فليس من المعقول حتى في الزمن الافتراضي ان يستغرق الرجوع من مقابلة مأمور السجن زمناً يعادل زمن مشهد آخر طويل!! ليعود بعده الى السجين وهو يصل الى مكانه في المعتقل والمسافة ما بين موقع الحمام وموقع السرداب محددة!! لكننا حين نتوقف في مرحلة التقييم لعمل السرداب في خضم فوضى المسلسلات العراقية التي ركبت موجة العنف والقتل والمؤامرة ضاربة بقيم المجتمع العراقي عرض الحائط متاجرة بمحنته وجراحه لا يسعنا الا ان نحترم الجهد المبذول والنيات النبيلة في انتاج عمل درامي كالسرداب لنظافته ووطنيته وللمستوى الأدائي الرفيع الذي قدمه الممثلون بدءاً من شيخنا الجليل يوسف العاني ورفيق مسيرته سامي عبد الحميد والجميل مقداد عبد الرضا وصولاً الى عبد الجبار الشرقاوي وعبد الخالق المختار ورائد محسن وستار خضير وعبد الاله الذين قدموا اداء متميزاً ويقف معهم شباب جدد كان لهم حضورهم مثل علي قاسم واحمد طعمه واياد الطائي، لقد قادوا المسلسل عبر تناغمهم وفهمهم لفن الدراما نحو بر الامان، فكانوا مقنعين، ولعل ما منح هذا المسلسل قيمته الفكرية والجمالية هو تاكيده على كل ما هو وطني ونبيل وراق في الشخصية العراقية على اختلاف شرائحها الاجتماعية وعكسه للصورة الاجتماعية العراقية في تراحمها وتداعيها لبعضها واتساع افقها المعرفي ووعيها الإنساني. تبقى الدراما العراقية بحاجة الى دعم حقيقي وعناية كبيرة على ان تخرج من دائرة الارتزاق والربح غير المشروع، وان تتحول بها من تجارة للكسب والنفع الى مشروع ثقافي يؤرخ ويشير الى حضارة وطن ووعي مثقف.
فمتى نفعل ذلك ياعراقية ويافضائيات جديدة تتبارى في تقليد البرامج الأوروبية وتتسابق في تطبيق العولمة بوجهها السلبي المقيت وتجهد في استنساخ ثقافة استهلاكية تسيء الى الذوق العام وتسفه معاناة الناس بحجة النقد الساخر والكوميديا الفجة !!! في الوقت الذي لا يستطيع فيه مذيعو ومذيعات بعض هذه الفضائيات نطق اللغة العربية بشكل سليم أو يدركوا انهم بظهورهم على الشاشة انما يعكسون من خلال الحوار والأداء والسلوك مجـــتمعاً باكمله!!


مقاطع من قصيدة:مشاهد
 

أديب كمال الدين


مشهد يوميّ
*************
كلّ يومٍ تجيء قصيدتي مليئةً بالشمس
لتصعد الى الطابقِ الخمسين
من عمارتي : عمارةِ الحروف
ثم تبدأ في غرفتي العجيبة بتمشيطِ شعرها
وتضع أحمرَ الشفاهِ فوق شفتيها
ثم تتعرّى تماما
وتذهب الى النافذة
لتحدّق طويلاً في المدينة :
في طيورها السود التي ملأت السماء .

مشهد عاطفيّ
**************

قالَ لها وهو يركع أمامها
قالَ لها والدموع تنهمرُ من عينيه :
إنْ كنتِ أنتِ الشجرة الكبيرة
فإنني أنا الفأسُ الصغيرة
ياحبيبتي !

مشهد مسرحيّ
*****************

" ليكنْ حبّكَ متوهجاً الى الأبد ! "
هكذا صرخت الممثلةُ المحترفةُ بالممثلِ الهاوي
فوق خشبة المسرح
ثم قبّلته بعمق
فارتبكَ الممثلُ الهاوي أمامَ حرارة قُبْلَتِها
وسقطتْ كلماته على الخشبة
كالأحجار
كلمةً إثر كلمة .

مشهد الجنون
**************

فوق الجبل الكبير انحنى المجنون
على النبعِ ليشربَ الماء
لكنه بدلاً من الماء
شربَ القمرَ والنجوم .


الروائي نور الدين فرح يتحرى جحيم الصومال
 

دينيتا سميث
ترجمة/ نجاح الجبيلي

قال نور الدين فرح، الذي يدعى أحيانا الروائي الأول في الصومال، مبتسماً و بإنكليزية رقيقة :" لقد جرى استعماري فكرياً عدة سنوات". كان السيد فرح أصلع جلده أسمر مصفر وله عين بنية غامقة والأخرى زرقاء مخضرة، وكان يلبس الجينز الأزرق ويستعد لرحلة بالطائرة لترويج روايته.
مع نشر روايته العاشرة بعنوان "حلقات" (الصادرة عن دار نشر "ريفر هيد بوكس) أصبح السيد فرح مرة ثانية يذكر كمرشح لجائزة نوبل.
ومنذ عام 1976 حين نفاه الدكتاتور محمد سياد بري، عاش السيد فرح في غامبيا والسودان وأوغندا وأثيوبيا ونيجيريا والآن يعيش في كيب تاون / جنوب أفريقيا وهو يتكلم الإيطالية والإنكليزية والأمهارية والصومالية وبعضاً من الفرنسية.
قال في أثناء مقابلة معه في مطعم مانهاتن :" أعيش في عالم بلا حواجز ثقافية أو فكرية". موضوعاته هي أزمة ما بعد الكولونيالية، نهاية الدولة القومية،التحزب،العزل، الرحيل والعودة.
الصومال دولة دمرتها الحرب الأهلية والمجاعة الدورية. سقط نظام سياد بري عام 1991 ووقع البلد في حالة من الاضطراب بسبب النزاع العشائري. وفي عام 1993 تدخلت الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة لوقف العنف الذي عرقل جهود تخفيف المجاعة. وقد جرى إسقاط طائرتي هليوكوبتر من نوع بلاك هوك وسحب الجنود الموتى في شوارع مقاديشو العاصمة. ومنذ عام 1996 كان السيد فرح 58 عاماً- يعود إلى الصومال بشكل دوري، ليجد الفوضى فقط.
تجري أحداث رواية "حلقات" في مقاديشو الآن. كتب السيد فرح في مستهل روايته مقتبساً من جحيم دانتي :" من خلالي يمر الطريق إلى مدينة المعاناة، من خلالي يمر الطريق إلى الألم الأبدي، من خلالي يمر الطريق الذي يجري بين المفقودين".
كانت مقاديشو في الماضي جميلة، كوزموبوليتانية ومركزاً تجارياً مع العالم العربي. يكتب :" مرتبة، نظيفة، آمنة، مدينة تعيش حياتها الخاصة بسلام. الحاضرة المحبوبة بسواحلها ومقاهيها ومطاعمها وأفلامها السينمائية في آخر الليل". والآن "هي مدينة الموت"، يسيطر عليها المراهقون المسلحون الذين يمضغون القات.
يصف السيد فرح مدينة بلا حكومة مركزية ولا خدمات بريدية أو مدارس عامة أو نظام للهاتف. إحدى شخصيات رواية "حلقات" لها ثلاثة تلفونات تملكها شركات تابعة لأخرى مقراتها في الولايات المتحدة والنرويج وماليزيا. الرجال يتغوطون في الشوارع. ويحتاج السفر بأمان حراساً مسلحين. وعضو العشيرة بلا حماية إذ أن أقاربك سيقتلونك إذا هم طمعوا بما عندك.
إن دانتي الذي يقاد عبر الجحيم هو "جيبلة" وهو سجين سياسي سابق وبروفسور كانت أطروحته في الدكتواره عن "الجحيم" لدانتي الذي حاول أن يترجمها إلى الصومالية ففشل في ذلك. يصل "جيبلة" من بيته في نيويورك بعد منفى طويل ليزور قبر أمه ويساعد في العثور على "راستا" المختطفة، وهي طفلة ذات طيبة صوفية تقريباً وابنة أخ صديقه الطبيب "بايل".و "جبيلة" يشبه السيد فرح في أنه رجل ذو ثقافات متعددة. إذ يدرس في جامعة بادوا ويشرب القهوة ويطلب السباغيتي والسَلَطة في فندقه. ( والنادلة تجلب شريحة لحم بدلاً من ذلك). وفي أحدى اللحظات يفكر بأسطورة صومالية، وفي لحظة أخرى يقلق بشأن الكهرباء. ويقود "جيبلة" خلال جحيمه "فرجيل" كاذب، "أفلاوة" الذي يدير ما يقول أنه تجارة خيرية للجثث لكنه يتضح فيما بعد أنه يتاجر بأعضاء الجسم. وما أن يترجل من الطائرة حتى يرى صبياً يطلق عليه قطاع الطرق الرصاص ويردونه قتيلاً.
يكاد هيكل رواية "حلقات" يشبه رواية بوليسية أو رواية إثارة لغراهام غرين مع شيء من كافكا. من اختطف راستا ؟ هل هو "كالوشا" الأخ غير الشقيق لـ"بايل" وصديق طفولة "جيبلة" الذي هو الآن قائد عسكري؟ أم أبوها "فاهيتة" ؟ يعثر "جيبلة" على جزء من الحقائق أو الأوهام التي من خلالها يحاول أن يكافح في طريقه. بينما يبحث يصبح تدريجياً مشتركاً في العنف بين القبائل ويتحول نحو الأسوأ لا نحو الأفضل تماماً إذ أن السيد فرح نفسه ولد عام 1945 في "بايدوا"، ثم في المنطقة الصومالية الإيطالية المحتلة من قبل بريطانيا، والآن في جمهورية الصومال. لكنه تربى في أوغادين وهي منطقة بين الحدود الصومالية الأثيوبية تحت الاحتلال البريطاني من عام 1941 حتى عام 1948 وهي الآن تحت السيطرة الأثيوبية، وهو واحد من أحد عشر طفلاً لفرح حسن وهو مزارع مسلم. وعلى الرغم من أن والده متعلم تماماً إلا أنه كان مترجماً شفوياً للحكومة البريطانية المستعمرة. وأمه فطومة عليلي كانت شاعرة في العرف الشفاهي.
لم تصنف الصومالية كلغة مكتوبة حتى عام 1972، وكان تعليم السيد فرح بالعربية والأمهارية وهي اللغة الرسمية لأثيوبيا. وحين كان مراهقاً دخل المدرسة المسيحية الإيفانجيلية. دخل جامعة البنجاب في شانديغار/ الهند وتزوج من امرأة هندية ولديه منها ابن يدعى "كوشين"، وهو في الثلاثين من عمره ويعيش في ديترويت. وقد انفصل الزوجان.
وبعد أن تخرج في الجامعة عمل السيد فرح مدرّساً ومحاضراً في الجامعة الوطنية للصومال. روايته الأولى "من ضلع منحن"- 1970 تدور حول امرأة تتعرض للقمع في المجتمع الصومالي الأبوي. في عام 1976 أصدر رواية "إبرة عارية" وهي نقد لسياد بري. وحين كان السيد فرح في روما تسلم نداء هاتفياً يقول أنه مطلوب ووضع ثمن لرأسه. فعاش في المنفى وأكمل ثلاثية "تنويعات على ثيمة دكتاتورية أفريقية" تتكون من ثلاث روايات هي "حليب حلو حامض" و "ساردين" و "سمسم حبيس".
لقد وجّه نقد إلى السيد فرح الذي يكتب بالإنكليزية بأنه صاحب أسلوب متحذلق. فمثلاً في رواية "حلقات" يقول السائق الذي يلتقط "جيبلة" من المطار:" أتذكر القصة التي يستقبل فيها فولتير في فراشه عند موته الشيطان. ولأنه متشوق لتهيئة الفيلسوف الفرنسي إلى نهايته يقدم الشيطان متعاً لا محدودة ستجعل من حياته الآخرة أكثر راحة بكل وسيلة ممكنة. لكن فولتير يرفض الطلب ويتكلم إلى الشيطان معنفاً إياه بشدة قائلاً أن الوقت غير مناسب لخلق الأعداء، شكراً".
ويدافع السيد فرح عن كتاباته. يقول أن السائق كان في السابق رجلاً متعلماً جداً، لكن الحرب أجبرته على أن يمارس كل الأعمال ولهذا فإن لغته مناسبة.
في عام 1998 حاز السيد فرح على جائزة "نوشتات" وعدّت أحياناً تبشيراً بجائزة نوبل. والفائزون الآخرون كانوا أوكتافيو باث وغابرييل غارثيا ماركيز وشيسلاو ميلوش وكلهم أحرزوا بعد ذلك جائزة نوبل.
في السنة نفسها، نشر رواية "أسرار" التي جلبت له الشهرة. وهي الرواية الثالثة في ثلاثية "دماء في الشمس" (والجزءان الآخران هما "خرائط" و "هدايا").
تدور أحداث رواية "أسرار" تماماً قبل انهيار نظام سياد بري. كالامان شاب نسله غامض وغير متأكد من رجولته يقترب من صديقة طفولته شولونجو "مزدوجة الجنس" التي تطلب منه أن يخصبها. إنها مجرد واحدة من عدة نساء قويات عملت على شهرة أعمال السيد فرح. إن مساواة المرأة هو موضوع مركزي في أفكاره.
في رواية "خرائط" هناك صبي يتربى في حضن امرأة غامضة ذات قوة استثنائية على التنبؤ بالمستقبل. وفي رواية "هدايا" هناك امرأة مطلقة تدعى "دنيا" تحاول أن تربي أطفالها لوحدها في مقاديشو.
قال معبراً عن أفكاره بشأن حقوق المرأة :"الديمقراطية تنشأ من القاع، كاحترام متبادل ضمن العائلة، فإذا لم توجد الديمقراطية ضمن وحدة العائلة ولا اختلاف مفتوح دون الخشية من العواقب لن تستطيع أن تحوز على الديمقراطية".

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة