اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الماضي أولاً مساءلة قضايا العنف والارهاب في المنطقة وفلسطين (1 - 2)

ـ 1 ـ

سهيل سامي نادر

دعا ديغول الروائي اندريه مارلو الى مكتبه وعاجله بهذه العبارة: الماضي أولاً!

كان الجنرال بصدد تعيينه وزيرا للمعارف ـ وهو ما تحقق ـ وكان يشك في ماضيه اليساري، ودفعاً لأي التباس وثرثرة لا طائل منها استفسر منه عن ماضيه.

لا أريد من هذه الحكاية غير تلك العبارة في مساءلة قضايا الارهاب في المنطقة العربية، ولاسيما في فلسطين . ودفعاً لأي التباس من جانبي أعترف بأنني من الناحية المعرفية لا أرى أن الماضي يفسر كل شيء، كما أنني لا أحب أن استخدم أدواته بل أدوات الحاضر والمستقبل. لكنني أزاء ماض جرى تصنيعه في منطقتنا وبات يعمل بقوة ساحقاً الحاضر ومشككاً في المستقبل. مثل هذا الماضي القوي المتعملق أزاح العمل السياسي وحل محله فكرة التصنيع والمؤامرة . فكيف حدث هذا؟

ثمة حدثان اليوم تجاورا مصادفة، الأول اجتياحات اسرائيل المنظمة للأحياء الفلسطينية في غزة، والثاني تفجيرات طابا الغامضة وغير المتوقعة. ما من علاقة مباشرة بين الإثنين وتجاورهما الزمني ليس موضوع بحث، لكن إذا ما بحثنا في السياق السياسي للمنطقة فلسوف يأخذان مكانيهما في ذلك الماضي المهيمن المستمر.

ما من شك في أن تفجيرات طابا ارهابية، لكن ما من شك في أن ما تقوم به اسرائيل في أراضي السلطة الفلسطينية لا يعد من قبيل مكافحة الارهاب، بل بجعل الارهاب اللغة الوحيدة. في لحظة الكتابة هذه تضرب اسرائيل القرارات الدولية عرض الحائط ببنائها مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، ومواصلتها بناء الجدار العنصري العازل، ولكي تنسحب من غزة ـ إن انسحبت منها ـ تمارس قمعا وتحطيما يجعل من غزة مكاناً غير صالح للعيش الآدمي، بلا سلطة قوية، ويعيش في فوضى خطرة .   

في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي الحالي قد يرى البعض أن العنف يتصادى، ويتماثل في النتائج، فهو يحصد الأرواح على الجانبين. لكن تلك هي نتيجة ما ثلة هنا والآن في حين أن الأمر يتعلق باحتلال قديم لم يفعل شيئا من الممكنات السياسية المتوفرة لديه غير هذه النتيجة المأساوية. ما أن نقترب من ماضي العلاقة بين الطرفين حتى نرانا أزاء حاضنة جرثومية مؤسسة على توليد العنف، واعادة انتاجه، مما يجعل المشهد الحالي ممكنا إن لم يكن مصمماً. إن موقع القضية الفلسطينية وقضايا الارهاب الجديد في هذه الحاضنة قديم ويحتفظ بكامل المزايا التصميمية لها.

لم تعد لحظة الحاضر، في غياب الأمل، مقياسا للحقيقة في قضايا ذات ماض مظلم يجري استخدامه بسهولة لأنه وحده المجرب. نكاد نتحدث هنا عن ماضي عاهرة لا تتوب وتدعي أنها ليست هي. لكنها هي، وتلك خرائبها ومزابلها، وهي ما زالت تحتفظ بشبابها بسبب بأسها ومقدرتها على انتاج يقينها الخاص عن نفسها من دون مشاعر بالذنب، بل هي قوية بذنوبها وبالشرطة التي تحرسها.

في السياسة الدائرة في الشرق الأوسط منذ مدة بعيدة جرى تشكيل المستقبل بارادة ماضوية. نحن لم نحصل في حاضرنا إلا على هذا الماضي الذي لا ينفد، لكأنه انتفخ واستولى على حياتنا. ليست من دون أسباب وجيهة إذن أننا أبتلينا بفكرة المؤامرة. فما المؤامرة غير أن نشعر بأن الظلم قديم، ويزداد وقاحة، وليس ثمة أمل، ولا انفراج، ولا توقف؟ إن ماضياً أفسد وظل معيشاً تتراكم فوقه الأخطاء والاخفاقات وينوء باليأس والخوف والتوجس لن نحسبه زمناً بل لعبة جهنمية موصلة بجهاز تحكم من على بعد بيد قوى متخفية شديدة القدرة. إن هذه الصورة قريبة من خيالات أبناء المنطقة، وهي تلبي احتياجات اللامبالين واليائسين والذين يحبون الألعاب الخطرة. إن فكرة المؤامرة تصنع متآمرين وستراتيجيين ويائسين ومحبي أجهزة التحكم من على بعد.

ـ 2 ـ

لكن.. الماضي أولا!

لم تعرف المنطقة العربية ارهابا قومويا أو دينيا في الأزمنة الحديثة بالمعنى السياسي للكلمة. حتى تفجير السكك الحديد تعلمه الحجازيون من الانكليز، وكان على أية حال جزءا من الحرب العالمية الأولى. لم يظهر الفاشيون والنازيون عندنا الا نكاية بالانكليز ولم يتحولوا الى عصابات الا بالتعلم من الصهاينة. في تلك الأيام كانت ( المثاقفة) ذات طريق واحد، وخاضعة بصرامة لميزان القوى العسكري والحضاري ( لعلها ما زالت). وهناك فروق ملموسة تؤكد ذلك: ضعف العمل الجماعي للعرب والفلسطينيين وخطابيتهم الهزلية أزاء روح الجد والتنظيم للعصابات الصهيونية. على يد هذه العصابات التي تحول زعماؤها الى قادة دولة اسرائيل تعرفت المنطقة على الأرهاب الحديث.                

إن حكاية دير ياسين ليست سوى تفصيل صغير في عملية طرد جماعية منظمة، والرواية الفلسطينية لها لا تختلف كثيراً عن رواية بعض المؤرخين الاسرائيليين الجدد، بل أن الفلسطينيين نسوا وقائع ما حدث من تطهير الساحل الفلسطيني من قرى الصيادين الفلسطينيين الفقراء فأعادها اليهم موثقة هؤلاء المؤرخون.

لا يميل حلفاء اسرائيل من الامريكيين الى قراءة التاريخ، وهم بالتأكيد لم يقرأوا ( اسرائيل شاحاك) المذموم مرتين، مرة من الصهاينة، ومرة من جماعة أوسلو من الفلسطينيين، فقد ذهب الى تواريخ أبعد، وكشف عن الثقافة التلمودية ذات الأسرار، وكيف تم اللعب بترجماتها الى اللغات الأخرى لطمس ما قيل فيها حقاً. لقد وجد شاحاك أن دولة اسرائيل تجسد تلمودية قائمة على احتقار الأغيار، وقادتها علمانيون مزيفون متطامنون مع أكثر التفسيرات العنصرية والدينية سخفا، واعتادوا رؤية السلام مع العرب والفلسطينيين من منظور الحرب المقدسة.

 والحال ليس من السهولة التمييز بين القادة العلمانيين واللاهوتيين حراس العهد، فكلاهما يعتقد أن اللحظة الراهنة محفوظة، واللحظات الآتية ولا ريب فيها يحيدان الباقي. ما من خطأ في هذه الوراثة والتوريث اللذين لا تحيدان عن برنامجهما الأصلي. ألسنا ازاء اديولوجية غير تاريخية تتضمن تسليم رسالة سبق أن أودعت في سالف الأزمان؟ ألا نسمع هنا شيئا من هرطقات بن لادن الأقل صوفية بكثير كما نعلم فهو محارب شرس للصوفية؟ وما الفرق؟ إن خطابات دينية من هذا النوع تعيد انتاج بعضها البعض من بعيد. هذا هو التصادي !

 لم نمنع أنفسنا من مسّ ذلك الماضي الذي جرى ابتلاعه غصباً، الماضي الأسطوري الذي ينكره علمانيو السياسة وهم يلبسون الطاقية. أما الماضي المدجن شبه العقلاني في اوسلو فقد جرى استهلاك مدلولاته السلمية، ولم نعد نرى غير حطام المجهودات التي يجرى الآن احراقها بتعمد لإبقاء المشكلات قائمة وتعمل بقوة، وتجهيزها بلغة التبرير الذاتي، ودعمها بأحداث دموية تهيج العواطف والأحقاد. ما الذي تبقى غير سلطة فلسطينية ميتة لا تحكم وارهابيين وفرق مكافحة ارهاب مجنزرة. إنه الوضع المثالي الذي تمناه وسعى اليه الشارونيين، ومن قبلهم اليسار المزيف لحزب العمل.

ـ 3 ـ

لا نمارس البلاغة حين ندعي أن تفجيرات الحادي عشر من أيلول ( كأنها) حدثت في تل أبيب. هذه أل ( كأن) تنتج بلاغياتها في السياسة على نحو يبدو طرفها الآخر مصمما لوصف خصم واحد، خصم قديم هو بالضرورة والقوة الخصم نفسه. الكأن الواصفة بمعايير انتخابية، الموصولة بالارشيف الكولنيالي القديم، المجددة لتعابيره بالفصاحة الدينية لأنبياء مكافحة الارهاب، تصل حد التماهي بالحدث الأصلي، مضيفة اليه طعم التذكارات الدموية، فـ ( كأن) أرادوها لهم. وثمة عبارات مضمرة لا تقال لأنها من الصنف العملي والاقتصادي وتلائم عقلية المصرفيين البلاغية المختزلة كما لو أنها همهمة : أنت حر في التصرف. لقد جيّرنا الحسابات!  

ولقد جيّرت الحسابات بتواطؤ اميركي وبتسهيلات من مصرف شعار مكافحة الارهاب، فهذا الشعار الخالي من أي تحليل اجتماعي وثقافي، والمجرد جدا بحيث تساوت فيه الفروقات بين قضايا مختلفة، زاده الاسرائيليون تجريدا، واستخدموه في حربهم غير العادلة ضد حركة التحرر الوطني الفلسطيني. لقد سهّل عليهم هذا الشعار الأمريكي امكانية التبرير الذاتي وتوفير الحجج واستفزاز الفلسطينيين مستخدمين يأسهم الذي هو صناعة اسرائيلية بامتياز، فبات رمي الحجارة على الدبابات ارهابا، والخروج بتظاهرة سلمية ارهابا، والدفاع عن النفس بالأسلحة الخفيفة مقابل الدبابات والطائرات ارهابا.

 ليس العنف الفلسطيني من دون حجة وتبرير، والقائمون به يمتلكون ذخيرة من التجارب التعيسة تشكل خطابا كاملا، فلطالما واجهوا بحجج وتبريرات وقحة تأتي من محتلين وليسوا مدعوين أو ضيوفا،  وما من تبرير لوجودهم في مكان لا يعود لهم، وما من قانون يبيح لهم التصرف فيه الا بالقوة التي لا تجيزها العلاقات الدولية اليوم. إن العدالة الدولية تنسجم نظريا مع هذا التقويم، وقد أكدته في قرارات أممية لها طابع الالزام والتي ضربتها اسرائيل عرض الحائط. واليوم نرى أن ما يقوله السياسيون الفلسطينيون الذين اختاروا الحل السلمي يقوله أيضا الملثمون، لكن الوسائل اختلفت بعد أن أوقفت اسرائيل خيار السلام، وهي من الناحية العملية تقوي منطق الملثم وتضعف صوت السياسي، وبهذه الوسيلة تحتفظ بالجميع رهائن حالة لا تطاق.

 السياسي بات ضعيفا ولا يشعر بالأمان، ولكي يقدم نصيحة للملثم فإنه سيبدو متلعثماًً، فهو مرتبط معه بمشروع التحرر الوطني، وأكثر من هذا مرتبط معه بالذكريات السياسية الواحدة، وبرائحة الدم المسفوح، أما وسائله التي هي موضع خلاف، وخلاف شديد، فبإمكان الملثم أن يثبت فشلها بالوقائع، ويستدعي التجربة المشتركة لكي يؤكد حجته، وفي هذه الحالة يطرح خيار المقاومة بين الاثنين كمشروع وطني عام ومن دون تحديد، أي أن كلا سيذهب الى حاله وهو يعلم بأن قاعدة النقاش المشتركة أصيبت بخلل ليس من السهولة إصلاحي، فبعد أوسلو اندمجت الوسائل بالمشكلة والحل، وما من خلاف بشأنها يستطيع أن يهد بترابطاتها، وأي اجتهاد هنا لا يستطيع أن يتجاوز السقوف السياسية إذا لم يرد أصحاب الشأن هدّ كل شيء في لعبة قمار خطرة اوراقها الرابحة ليست في اليد أزاء خصم قوي لا يريد أن يخسر ويمتلك اوراقا قوية، لا بل انه هو الذي يفرض الشروط. ما كان من الممكن أن تطرح خيارات فلسطينية اضافية تقع على التخوم لو أن الخصم نفسه لم يدفع بهذا الاتجاه، إلا أن الأخير لم يكن مخلصا لخيار السلام حقا، وقد اختلق كل الأسباب ليجعل منطق الملثم هو الذي ينتصر. إن مأزق جماعة اوسلو يتلخص في أنهم راهنوا على الدفعة الأولى وعلى التشجيع الدولي والعربي وحاولوا بالمستطاع أن لا يطرحوا قضايا الماضي فإذا بهم يدخلون في دوامة من المفاوضات استهدفت كلها تحويل السلطة الفلسطينية الى مكتب للعلاقات العامة في أرض مفتتة. وقد استطاعت اسرائيل أن تستغل الموقف، وتدفع بالأمور الى المواجهات العسكرية لإنزال العقاب بالجميع، مما جعل الغضب الفلسطيني يتحول الى انتفاضة استطاع الملثمون أن يكونوا أبطالها.

 إن العنف الفلسطيني المضاد يجدد خطابه في كل يوم بهذه الممارسات الاسرائيلية، و(كأن) اسرائيل تضع أمام الفلسطينيين خيارا واحدا: نريدكم ارهابيين جميعا! تصنع اسرائيل الارهاب لكي تقوم بشن الحملات العنيفة عليه. هذه الصناعة ذات التاريخ الطويل والتي شكلت الحاضر على صورة الماضي تتحجج بما تصنعه هي يوميا، بالبضائع التي ينتجها اقتصاد أضاع الكلف الانسانية، وبالاشخاص الذين ناضلوا من أجل قضية عادلة ثم جرى تحويلهم بالضغط والتيئيس الى باعة، أو الى منتجين بضائع خطرة تتفجر هنا وهناك، بما يجعل الدورة الانتاجية تتم بطلب فعال.

 ولّد رأسمال العنف القديم تراكمات رأسمالية جديدة اندمجت في دورة انتاج ذات شكل عالمي، وفي هذه الدورة يتماثل فيها بن لادن وياسر عرفات، الطالبان وحماس، منظمة التحرير الفلسطينية والديمقراطيون الفلسطينيون . إن عدم الرضى إذا لم يحسب على الارهاب فهو في الأقل يحمل جرثومته، وعلى عمليات البحث والاستئصال أن لا تدع لأي اصطفافات مهما كان نوعها أن تولد : يجب أن يتفسخ الجميع في هذه المصيدة .

علام هذه الدورة الانتاجية؟ لأنه بتحويل الفلسطينيين الى ارهابيين، والى جماعة رمزية للعنف، يفقدون موقعهم السياسي والاخلاقي، مما يعني تصنيفهم تصنيفا غير سياسي، ومن ثم تسحب منهم اهليتهم بوصفهم جماعة سياسية وانسانية، وسوف ينظر اليهم كمفخخين، أي أمواتا بالضرورة، فهل يحتاج مثل هؤلاء الى وطن؟

الماضي يسحب بعنت الى الحاضر. الحاضر يفعل فعل الماضي. إذا لم تصدقوا هذا فإني أدعو الى امعان النظر بالتطابقات المخيفة التي بات فيها الماضي يعيد انتاج المأساة القديمة نفسها في الحاضر. لاحظوا ما حصل ويحصل: الفلسطينيون الذين أخرجوا من أرضهم في 1948 و 1967 أخرجوا من الحل السياسي أيضا، والأمل بعودتهم بات ميؤوسا منه، وحل قضيتهم ترك الى مستقبل غامض، وثمة مشاريع مشبوهة رصدت لهم،  في حين تجرى اليوم عملية سحب اهلية من بقي على أرضه القديمة، وهم على أية حال وضعوا في دورة اعادة تقييم، في ما إذا كانوا يمتلكون وطناً سياسياً ( قابل للحياة). العبارة الأخيرة ما بين مزدوجين ليست من عندي بل قالها وزير الخارجية الأمريكية، وهي تستوعب إذا ما اختبرت في الحالة الفلسطينية الراهنة المعنى المعاكس: وطن غير قابل للحياة ! هذه الامكانية واردة. ما العمل؟ سيقال: الفلسطينيون أوصلوا أنفسهم الىهذا الخيار!

وطن غير قابل للحياة! وياله من تعبير يجد ترجمته الحقيقية بتدمير بناه التحتية وجعله ساحة تجارب للقتل والاكتساحات اليومية. لم تطرح المساعدة المصرية في غزة إلا بعد أن باتت غزة وطنا مشكوكاً في صلاحيته للحياة. لقد أفسدت الحياة هناك فمن يصلحها؟ لكن: هل تفجيرات طابا التي أشرنا اليها في المقدمة لها علاقة بهذا الأمر؟ إن أي مشروع يطرح في مناطق الخراب هذه تسبقه وتلحقه أعمال تآمر. الماضي المتآمر يتوّج بحاضر مماثل.

 إن فاشياً مثل شارون جعل من السلطة الفلسطينية (غير قادرة على الحياة) مثل وطنها المهدم والمحاصر يلوم هذه السلطة نفسها لأنها لم تعد قادرة على ضبط الأمن ـ والمقصود أمن اسرائيل. لكن ما يحصل أن الأمن الداخلي للفلسطينيين ووحدتهم الوطنية وسلامهم الاجتماعي بات مهددا. فهل هي مصادفة ؟ 

ـ 4 ـ 

صاغ شارون في الخراب الذي تسبب به هدفا اختباريا هو ازاحة ياسر عرفات حتى لو بالاغتيال. إن اختراع إهداف غريبة وسط الفوضى يعني تحويل الاهتمام من القضايا الرئيسة. لماذا ياسر عرفات؟ لأنه صلب. هذا مؤكد . لكنه معروف للاسرائيليين مرتين، مرة في انجراره الى اوسلو من دون ضمانات كافية، ومرة لأنه انجر الى الاستفزازات الاسرائيلية. هو نفسه صرح بأن زيارة شارون الاستفزازية الى الأقصى دبرت مع باراك. فهل كان يرد على ظلم أو شعور بالخيانة؟ هل راهن على أن الغضب الفلسطيني سوف يقلب ميزان القوى؟ هل راهن على الغضب العربي؟ لا ندري، لكن ما هو معروف أن الانتفاضة استمرت وجرّت معها السلطة الفلسطينية وقوى أخرى من دون الإلتفات الى ميزان القوى الحقيقي فتحولت المذابح لشعب أعزل الى مهرجان خطابي. لقد تطورت الإنتفاضة الى حالة شعبوية استسلم لها الجميع من دون أن يسهموا في تحويلها الى قوة سياسية منظمة موجهة نحو أهداف محددة. إن عرفات قائد من الطراز الذي يراهن على سياسة تولد من الأزمة، ولم يدرك أن مفاتيح الأزمة لم تعد بيديه. كان داخل أرض مطوقة تماما ليس على طريقة حصار بيروت، لأنها مطوقة الآن باتفاقيات ومشاريع هو نفسه وافق عليها، ومطوقة بالآلة العسكرية الإسرائيلية كلها، والمستوطنات وساكنيها، ثم بالضامن الأميركي المنحاز. على ماذا إذن عوّل هذا الثوري الذي حمل معه ثقافة الشتات الفلسطيني في المهاجر العربية المليئة بالخداع والخطابية؟ لقد تعلم هذا الاسلامي والعروبي من الحكام العرب أسوأ مناقبهم: التبسيط، اعتماد الحماسة، سرعة التصديق، وحماية الجماعة القريبة منه حتى لو كانوا فاسدين، وحماية الهالة التي تحيط بشخصه، وعدم الاعتراف بالأخطاء، واقتراح الأفعال التي لا يريدها أن تلصق بشخصه على آخرين للقيام بها بينما هو يراقب النتائج من بعيد. إنه ثوري حقا، لكنه الآن قائد سلطة ويقود شعبا من الداخل. لم يعد رئيس منظمة التحرير في الشتات ولا الرئيس الفلسطيني في اجتماعات القمم العربية، بل هو القائد العام والرئيس في فلسطين نفسها التي تناضل لكي تصبح دولة كاملة السيادة، وبهذا المعنى كان عليه أن يتحول الى سياسي من النوع المسؤول، السياسي الذي يخفي الأسد الذي في داخله ويناور كما يناور الثعلب في مكان مليء بالوحوش. لقد تغير الموقف أما هو فلم يتغير، وقد عرف الإسرائيليون كيف يتعاملون معه بوصفه صاحب حل مرة، وأن يختلقوا أوضاعاً تجعل منه صاحب المشكلة مرة أخرى، وكان في المرتين بمستوى التوقعات.

لا نصوغ هنا اتهاما ضد عرفات. فمن المؤكد أن الضغوط عليه كانت قاسية، وقد عرضت عليه مشاريع أمريكية واسرائيلية مع تشجيع عربي في شرم الشيخ، لكنها جاءت كما خمن لإحراجه وإسقاطه ولاسيما أنها تضمنت وعودا تتحقق في المستقبل بينما كانت هي استحقاقات طالبت بها الانتفاضة هنا والآن، وأي تأجيل فيها أو تقديم تنازل يعدان في ظروف ملتهبة خيانة،  ثم كانت الظروف غير عادلة، فالمجازر ضد الفلسطينيين كانت تملؤه مرارة، وكان يعتقد أنه مسؤول تاريخيا، أي ما يتجاوز بكثير مسؤولية سياسي مناور. ومن يدري لعل الفن الإسرائيلي كان يدرك هذه النقطة، ولاسيما أنه كان قد أوصل السلطة الفلسطينية الى اليأس.

 

 


 

تكوين الدولة والهوية الوطنية العراقية ومسؤولية الفعاليات السياسية

د. ثائر كريم

انطلق في فهمي حاضر العراق ومستقبله من فهم معين لتاريخه المعاصر. اقول- وأختصر- ان مشكلة العراق السياسية الاولى هي مشكلة اخفاق مسيرة اندماج مكوناته الاجتماعية المتنوعة اندماجا سلميا.

هناك ثلاثة اسباب رئيسة لهذا الاخفاق:

السبب الاول، على مستوى الدولة، قلة رجالات الدولة من الوزراء والادرايين والمسؤولين الذين يسهرون على تأسيس مؤسسات الدولة الوطنية اللاشخصانية. رجالات دولة يعملون لمصلحة انفسهم ولكنهم يتجاوزونها ايضا. هم يعرفون ان وجودهم من وجود الدولة. وهم جزء من كيان موضوعي يقوم ويحيا خارجهم. ويستمر بعدهم. كانت اعداد رجالات الدولة ابان العهد الملكي (1921-1958) قليلة لكنها اكبر مما اضحت عليه في العهد الجمهوري. فقد استلب العسكر بواسطة انقلاب 14 تموز 1958 مسيرة تكوين مؤسسات الدولة واحلّوا، بدلا عنها، ماكنة السلطة الحكومية. وشتان ما بين سلطة الحكومة وسلطة الدولة. اما بعد انقلاب 1968 البعثي فقد اُختتطفت عملية الاندماج كليا من قبل العشيرة. وانبثقت شمولية الدولة الطائفية.

السبب الثاني، على مستوى الفعاليات السياسية، هو تغلب اليات الصراع العنفي على موارد البلاد على حساب العمل السياسي، سلميا. تبادل العنف والسياسة السلمية اماكنهما ابان العهد الملكي بين فترة واخرى. وانتصر العنف مع انقلاب 14 تموز. وصار بعد انقلاب 1968 اسلوبا ثابتا لادارة السلطة والحياة، ايضا.

السبب الثالث، على مستوى الحكومات المتعاقبة منذ سنة 1921، هو احتكار القوى المسيطرة على الدولة موارد البلاد السياسية والاقتصادية. كانت مظاهر الاحتكار قائمة اثناء العهد الملكي. وصارت شرسة بعد انقلاب 14 تموز. واصبحت واقعا شاملا بعد الانقلاب البعثي 1968.

حصاد مسيرة الاندماج وتكوين الدولة

تبين تجربة اندماج المكونات الاجتماعية في دولة جديدة اسمها العراق انه لا يمكن إقامة الدولة في ظل قلة اعداد رجلات الدولة واهتمامهم بمصالحهم الانانية فقط على حساب المجتمع والدولة. ولايمكن اقامتها في ظل الاحتكار والعنف. واذ يسعى الكل لمصالحه الجزئية على حساب الاخر فانه لن تتحقق فكرة الوطن للجميع، لكل الناس. ولن تنشأ هوية وطنية جديدة.

ان تنوع مكونات المجتمع العراقي بطوائفه وقومياته ومذاهبه يشكل عنصراً غنياً ثقافيا وروحيا واجتماعيا. ولكن فقط اذا استثمرت هذه المكونات بعقلانية وعدالة وفي اطار سلام وطني بينها. بخلاف ذلك يمكن لهذه المكونات ان تحمل في طياتها قنابل قابلة للانفجار والتدمير. يحدث ذلك حينما يتسلط عنصر من عناصرها على الكل المتنوع محتكرا موارد الكيان المادية والسياسية والقيمية ليعيد تشكيلها وتوزيعها على هواه.

اساس تكوين الدولة: الولاء الوطني

عند النظر إلى الواقع الحالة السياسية في العراق ومستقبل تطوره على طريق وطني ديمقراطي فمن الضروري التمييز بين بعدين اساسيين مختلفين، تحليليا، وربما تكتيكيا ايضا ولكن مترابطين استراتيجيا. البعد الاول يتعلق بضرورة خلق اليات الحكم السياسي من حكومة ووزارات ومؤسسات ادارية وسياسية وغير ذلك مما يتطلبه أي نظام حكم. والبعد الأخر يتعلق بخلق اساس مرجعية وشرعية الدولة. أي خلق اسس التواجد المصيري المشترك لجماعات اجتماعية مختلفة يمكن ان تتفق او لا تتفق على العيش المشترك.

فقبل ان  يتفق اهل العراق على طريقة حكم الجماعة، عليهم ان يتفقوا اولا فيما اذا كانوا يشكلون حقا جماعة مشتركة.

وقبل ان يتفقوا على خلق اليات صنع القرارالسياسي المفروض على الجميع عليهم ان يتفقوا على مبدأ الانتماء المشترك.

 من هنا، فان  اي ترتيب مقبل لنظام الحكم السياسي للكيان يجب، بالضرورة، ان يتمفصل على تنظيم اسس تكوين وقيام ومستقبل هذا الكيان.

ان تكوين دولة قانون في العراق- أي دولة قائمة ليس على الاقرار الفعلي بالتعددية الاجتماعية والفكرية السياسية فحسب بل على مساواة سياسية تامة تصونها مؤسسات مستقلة- هو المرحلة الاولى والاساسية على طريق التطور السياسي لعصر ما بعد صدام حسين.

الاندماج السياسي القائم على مشروع الدولة الوطنية يفترض انخراط الناس والمكان والدولة في كلٍ واحد على اساس فكرة الولاء الواحد لمؤسسات سياسية لا شخصانية. علاوة على ذلك، فان آليات تكوين الوحدة والولاء السياسي الوطني في ظل تعدد وتشظ اجتماعي لا تنجح، بالضرورة، الا إذا تمكنت المكونات المختلفة من تعريف نفسها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية، طوعيا،  ضمن المشروع الوطني.

مسؤوليات الفعاليات السياسية

ما من هوية جماعية تتشكل وتنمو إلا مع نمو ولاء الناس لها ونشوء منظومة قيم ومعايير ورموز مشتركة تربطهم معا. وفي العراق ترسيخ العديد من القيم الاخلاقية والرموز الحضارية والمصالح الاقتصادية المشتركة منذ زمن طويل بين مختلف مكوناته الاجتماعية.

وفضلا على وجود قواسم مشتركة فان ثمة معطى معاصراً فادح المعنى يمكن ان يشكل، اذا استثمر بصدق وحماسة انسانية، عنصرا حاسما من عناصر منظومة القيم والرموز الموحدة لكل مكونات العراق. انه المعاناة الدامية التي مرت باهل البلاد، على أختلاف ولاءاتهم واصولهم، على يد ألاستبداد الشمولي الطائفي. فضحايا العنف والقهر هم في كل مكان في العراق. . ان اقامة محاكمات عادلة لمجرمي النظام السابق والعناية الخاصة بالمقابر الجماعية والسجون السابقة يمكن ان يقيم رموزاً مهمة على طريق خلق المعاني الوطنية المشتركة. ليس ثمة اسمى وامتن من اخوة المقهورين وضحايا الطغيان.

ان أي بديل سياسي، قائم، مثلا، على وازع اخلاقي ديني مثالي (الحركات الاسلامية) او مثال ثوري تغييري راديكالي (الاحزاب الماركسية واليسارية اللبرالية) او دافع قومي عربي (الاحزاب القومية) او وازع قومي استقلالي (الاحزاب الكردية) لابد ان يتغير، داخليا، ليستند إلى وينطلق من الولاء لدولة القانون الوطنية..

يفترض أي نمو لسياق سياسي، وطني ديمقراطي ان تنشأ احزاب عريضة تضع هدف التغيير الاجتماعي والتحويل الوطني الديمقراطي للعراق موضع الاولوية الحاسمة. ومن الضرورة القاطعة، بالطبع، ان يتوجه ولاء كل التنظيمات السياسية في العراق اولا وقبل كل شيء الى دولة القانون ومؤسساتها السياسية. مثل هكذا ولاء سيتطابق مع ماهية الهوية الوطنية المشتركة لمكونات العراق المختلفة. من هنا لابد للتنظيمات السياسية في العراق ان تكيف مراميها السياسية الهادفة- ضمنيا او بصراحة- الى تكريس نماذجها الخاصة للبديل السياسي والمرجعية السياسية ليتلاءم في الجوهر والاساس مع هذا الولاء.

العمل بدستور منبثق من اجماع اجتماعي ووطني عام. وانتخابات نزيهة والتزام قانوني ثابت بحريات الناس السياسية والمدنية، انتخابات يحترم نتائجها الجميع. هذا هو الطريق الوحيد المتاح لتأسيس شرعية الدولة الوطنية. والاساس الوحيد لتنمية الاندماج الوطني، سلميا وطوعيا.

 


 

 

نداء

لقد ترددت كثيراً في كتابة هذا النداء، حتى لا أتهم بضيق الأفق الديني أو الطائفي لأنني - منذ صغر سني - كنت ومازلت مؤمناً بشكل مطلق بمبدأ التآخي والمساواة بين القوميات والاديان والطوائف أينما وجدت سواء أكان في العراق أم  في غيره، وبما ان العراق بلد متعدد الاديان والقوميات والطوائف، فلذلك كنت واحداً من ملايين العراقيين الذين عملوا وباستمرار من أجل الوحدة الوطنية العراقية لبناء العراق الديمقراطي الذي ينعم به الجميع بالمساواة التامة أمام القانون بغض النظر عن القومية أو الدين أو اللغة أو الجنس أو اللون أو أي سبب كان . وكان هذا الهدف الذي عمل من أجله جميع العراقيين ينسجم تمام الانسجام مع ماجاءت به الاديان السماوية والمواثيق والمعاهدات الاقليمية والدولية التي تؤكد مبدأ العدالة والمساواة بين بني البشر وضرورة احترام الانسان وتقديس آدميته.

بعد سقوط النظام الدكتاتوري تنفس العراقيون الصعداء بازاحة الدكتاتورية عن صدورهم وبدأوا يمارسون وينعمون بنسيم الديمقراطية التي لم يألفوها من قبل، على الرغم من اقتران تلك الممارسات الديمقراطية  بسيل من دماء العراقيين الذي كان يجب أن يتوقف، ان اراقة وسفك دماء العراقيين من مختلف القوميات والاديان والطوائف من قبل القوى الارهابية الداخلية التي لم يرق لها فقدان مصالحها التي كانت تنعم بها أبان الحكم الدكتاتوري على حساب مجموع الشعب العراقي، اضافة الى قوى الارهاب والظلام التي دخلت العراق بعد سقوط الدكتاتورية بعلم وبغير علم من بعض الدول الاقليمية ودول الجوار تحت حجة محاربة قوات الاحتلال، التي تحولت في الواقع الفعلي الى قتل العراقيين من دون استثناء وتخريب البنية التحتية لمؤسسات الدولة العراقية.

مما يلفت النظر ان عمليات التهديد والاغتصاب والخطف قد اتخذت اسلوباًً منظماً ومبرمجاً من قبل بعض القوى الأرهابية نتيجة الافعال اللاقانونية التي تمارس ضد المسيحيين في العراق، وتضاعفت تلك الافعال في المحافظات التي يكثر تواجدهم فيها مثل محافظات الموصل وبغداد والبصرة وكركوك ، حيث شملت تلك الاعمال  الاجرامية خطف الرهائن واطلاق سراحهم مقابل مبالغ نقدية كبيرة والقتل والاغتصاب والتهديد باجبار الفتيات على ارتداء الحجاب ومنع الجزارين من بيع اللحوم في المناطق التي تتواجد فيها أغلبية مسيحية كون هؤلاء الجزارين" من الكفرة" ( حسب اعتقادهم) الى آخر العديد من التصرفات والافعال التي لم يألفها العراقيون في تاريخهم من ذي قبل.

ان القوى الارهابية التي تقف وراء مثل هذه الأفعال المشينة بدأت تروج في الاونة الأخيرة وبالتحديد منذ تفجيرات عدد من الكنائس في محافظتي الموصل وبغداد التي أطلق عليها بيوم الاحد الدامي،الى أن المسيحيين سوف يتركون العراق عاجلاً أم آجلاً وسوف نستولي ونستحوذ على بيوتهم وممتلكاتهم ويهددون الناس بعدم شراء بيوت وممتلكات هؤلاء "الكفرة"!

(كما يعتقدون). فقد استيقظ المسيحيون في بغداد فجر يوم السبت الموافق 16/ 10/ 2004 على تفجير عبوات ناسفة بالقرب من خمس كنائس والتي أصيبت مبانيها بأضرار مادية كبيرة وهي كنيسة القديس يوسف في غربي بغداد وبعد عشرين دقيقة استهدف انفجار آخر كنيسة القديس يوسف في الدورة وبعدها بدقائق انفجار ثالث استهدف كنيسة القديس بولص في الدورة أيضاً وبعد عشر دقائق انفجرت عبوة ناسفة بالقرب من كنيسة في الكرادة للروم الارثوذوكس وبعدها بدقائق انفجرت عبوة ناسفة أخرى قرب كنيسة القديس توما في حي المنصور .

وعلى هذا أطالب جميع علماء الدين الاسلامي وهيئاته ومؤسساته الدينية في العراق والعالم الاسلامي باصدار فتاوى تدين وتشجب جميع هذه الأعمال الارهابية التي لا صلة لها بالاسلام ضد المسيحيين في العراق، كونها مخالفة لتعاليم الدين الاسلامي الحنيف ولا تتفق مع قيمه ومبادئه السمحاء التي تؤكدها عشرات الآيات القرآنية الكريمة ومئات الأحاديث النبوية الشريفة.

كما ألفت أنظار جميع المسؤولين في الحكومة العراقية الى اتخاذ الاجراءات الرادعة ضد كل اولئك الذين يريدون زرع بذور الفتنة الدينية بين المسلمين و المسيحيين في العراق، الذين يعتبرون الحجر الاساس في بناء العراق الديمقراطي الجديد واظهار وجهه الناصع أمام العالم أجمع.

د. حكمت حكيم

عضو هيئة رئاسة المجلس الوطني العراقي المؤقت

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة