اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

  

الماضي أولاً مساءلة قضايا العنف والإرهاب في المنطقة وفلسطين (2 - 2)

سهيل سامي نادر

- 5 -

الماضي أولاً! وهذه المرة يجب الدخول الى المخابئ التي تم اغلاقها وكان يترعرع فيها ارهابيو الحاضر. لا يمكن تغيير الماضي لكن ليس من الصعوبة  الخروج منه الى فضاء جديد، لكن هذا الماضي المصنّع المستولى عليه لأغراض لعينة والممتد بأهداف وجدها على الطريق استبدل الخطب، وجيّر الحسابات، وحول أصدقاء الأمس الى أعداء. فاسرائيل التي تحارب حماس وتصفها بأنها منظمة ارهابية هي التي صنعتها. لقد لعب الإسرائيليون لعبة الحرب الباردة الأمريكية بحذاقة : ضد الديمقراطية في الشرق الأوسط ومع القوى الرجعية والدينية. مع الإسلاميين وضد منظمة التحرير الفلسطينية والعلمانيين، مع المنظمات الخيرية التي انقلبت الى منظمات سياسية ضد التنظيمات السياسية القومية والديمقراطية المناضلة من أجل التحرير. لم تحاول اسرائيل ولا مرة واحدة فهم احتياجات المنطقة الى الحداثة والديمقراطية إنما بالغت الى حد الفاشية بتدمير القوى الحية التي تؤمن بالسلام العادل، إنها لم تبحث عن حل الا عند الرجعيين وأعداء الديمقراطية، وحتى عند هؤلاء اتخذت موقفا يتسم بالتعالي والشوفينية ووضع شروط مذلة باسم متطلبات الأمن القومي.  والأهم أنها خلال احتلالها الطويل للأراضي الفلسطينية  أبقتها مخيما كبيرا للبؤس والتعاسة والغضب.

أراد الديمقراطيون حلا شاملا للنزاع العربي الاسرائيلي على اساس من تطبيق قرارات مجلس الأمن وحل القضية الفلسطينية التي هي النقطة المركزية للصراع بالانسحاب من الاراضي الفلسطينية كلها بما فيها القدس الشرقية واعلان قيام الدولة الفلسطينية. لكن المسعى الاسرائيلي ظل يجزئ في هذه القضايا مجتمعة، مستبدلا المشكلة السياسية الحقوقية  بقضية واحدة وهي الأمن الاسرائيلي على نحو بدت فيه القضايا العادلة المستندة الى القرارات الأممية معزولة عن بعضها البعض، ومجرد قضايا قابلة للنقاش والتفاوض. حتى النتيجة التي تحققت في اوسلو جاءت عبر انسلاخ الجسم الفلسطيني عن العربي، وقد تركت في النهاية الى نزعة تفكيك القضايا الأساسية عبر مفاوضات مرعبة وسخيفة تؤجل فيها الاتفاقات كما يؤجل تنفيذها. في هذه الأثناء اكتشف أصحاب اوسلو قوى سياسية شعبية معدة لكي لا تتكيف مع مخططاتهم، قوى تعالج السياسة الوطنية وبرنامج بناء الدولة الوطنية بمقتضى التنافس على تصعيد السقوف وجمع الأنصار وتحويل العمل السياسي الى عنصر تأكيد عقائدي. هذه القوى كانت مهيأة لكي تكون منافسا وليس شريكا، ولأنها تمتلك شعبية فقد كانت في حل من أي تعهد لا يخدم مصالحها وأهدافها. لقد كانت حماس التي ترعرعت في الداخل والخارج كبديل عن منظمة التحرير، أو منافس لها، عبر مساعدة الاسلاميين الأردنيين ومعرفة اسرائيلية متواطئة ومشجعة، قد تكفلت بتقديم سقوف للأهداف شعبية جدا، وحين تفجر الوضع كانت في الطليعة، بل أنها حفّزت (فتح) لكي تتبارى معها ليس في رفع السقوف حسب، بل وتحطيمها في مهرجانات غاضبة يظهر فيها الملثمون والرشاشات في أيديهم وكأنهم في أرض محررة حقاً في حين أنها كانت مغلقة من كل مكان ولا تستطيع أن تديم امكاناتها وحربها إذا لم تعصف بالمجتمع الفلسطيني وتحيله الى وقود للمجنزرات الإسرائيلية. لقد دفعت اسرائيل بالأمور الى الخروج عن السيطرة مستدلة بقوى تعرفها جيدا وخبرت أفقها وقد آن حصادها وتخريب ما تم بناؤه وتحويل المشروع الفلسطيني المعروف بالارض مقابل السلام الى مشروع لا يحقق السلام ويفتت ما تبقى من الجغرافيا الفلسطينية الى كانتونات يقف الإسرائيليون على المعابر ما بينها.  

ما النتيجة من هذه السياسة القذرة وماذا أريد منها؟ لقد أريد تفكيك الفلسطينيين وجعلهم في نزاع مع أنفسهم واستغلال يأسهم وشذوذ ملثميهم الغاضبين الذين كانوا وقودا للموت وللإعلام.   

ـ 6 ـ

والماضي ثالثا ورابعا.. فالولايات المتحدة حليفة اسرائيل أقامت لها مخبرا كبيرا لتوليد ارهاب محسوب النتائج بالاعتماد على أكثر التخثرات التاريخية والثقافية توليدا للنزاعات الدائمة. ففي افغانستان استطاعت أن تحول حركة تحرر  ضد الوجود السوفييتي تعتمد الدين الى مركز اجتهاد سياسي في الدين. إن أولئك العرب الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة في قضايا التحرر الوطني العربي، ولم يقدموا أي اسهام في القضية الفلسطينية باتوا يجتمعون من كل مكان على أرض أفغانستان لمحاربة الشيوعية العدو رقم واحد لأميركا. هل حقا حاربوا الملحدين هناك؟ ولكن لماذا لم يتوقفوا بعد أن حقق (الجهاد) مبتغاه؟ لأن المخبر الذي أقيم هناك بات مخبرا لأصدار الفتاوى التي تحرم وتحلل وليس لأقامة نظام عادل. ليس في مشروع  المجاهدين اقامة نظام عادل تختبر فيه المبادئ الاسلامية في الحكم والقضاء والسلطة والنزاعات المدنية، بل تحويل أرض الهجرة هناك الى مستقر للقيام بشن حرب دائمة على أرض الكفر بصرف النظر عن النتائج، وأرض الكفر قد تحددها الظروف الفعلية وليس الشريعة بما حوّل حتى المجاهدين الى كفرة وجبت محاربتهم، والا لماذا الحرب الأهلية، ولماذا لم يتحقق أي انجاز على مستوى السلم الاجتماعي والتعليم والصحة؟ لعل هذه التساؤلات  تحتكم الى ادعاءات المجاهدين نفسها، وإن كانت غير غريبة عن ثقافة التكفير، أما الحقيقة الفعلية فإن كلا من القاعدة وطالبان تربيا على موائد المخابرات الأمريكية والباكستانية، في حين أن فصائل الشمال اعتمدت في تمويلها على العدو الروسي القديم. لقد كانت عشائر تحارب عشائر، وسياسة تحارب سياسة، باسم الإسلام، مقدمين أسوأ صورة عن ديننا وثقافتنا الروحية وانجازات حضارتنا العربية الاسلامية.

كانت الولايات المتحدة تعرف بتدني الثقافة المدنية للمجاهدين وضيق أفقهم واستعدادهم للقيام باعمال فظيعة، إلا أنها استخدمت هذه المزايا نفسها في تحويل ثقافة المنطقة كلها الى ثقافة عنف وتشرذم وحروب أهلية، ثقافة لا تعادي الشيوعية فقط، وكانت على أية حال قد غادرت ميدان مبادئها وتحولت الى دخان،  بل والديمقراطية والتقدم، فلا يحتاج اناس علقوا في التاريخ الى غير الاستبداد والقوة في الحكم والخوف من التقدم: هذا ما أريد اعمامه على المستوى الدولي، في حين أن المشروع الامريكي آنذاك احتاج الى الأنظمة الدكتاتورية القوية المهددة بين الحين والحين بنتائج ما تصنعه يدها من سوء التدبير وتبديد الموارد البشرية والمادية والتسلح والفساد.

 ثمة مثال آخر، فبعد الانقلاب العسكري التركي عام 1980 الذي باركته أميركا الريغانية، قامت هي نفسها بتوصيل أفكار غريبة لرؤوس الانقلابيين العلمانيين لكي يخففوا من غلوائهم الأتاتوركي العلماني ويتحدثوا عن هوية تركيا الاسلامية التي كانت منسية. وبواسطة أموال سعودية بنيت مئات الجوامع دفعة واحدة من أجل هذا الهدف الغريب والمفاجئ. الدلالة الزمنية مهمة هنا، فقد جرى هذا بموازاة الحرب العراقية ـ الايرانية، وحرب المجاهدين في افغانستان. كان من المهم أن تصبح كل الحروب مقدسة، بمعنى أن لا تحقق غير نتيجة واحدة : الموت والتفسخ ومعارضة الزمن الحي بزمن آخر. ومعلوم أن الحرب العراقية الإيرانية قوّت النزعة الدينية عند الجانبين بصرف النظر عن الأهداف السياسية والعسكرية والغالب والمغلوب.

لقد فكرت أمريكا على هذا النحو: لقد سيّست الثورة الايرانية الدين، والايرانيون يقاتلون العراقيين باسمه، والأخيرون ينازعونهم مرتين، مرة باسم القومية، ومرة باسم الدين نفسه، وثمة متدينون يقاتلون الشيوعيين باسم الجهاد الديني في أفغانستان. ما الحل؟ اختارت أمريكا دفع تسييس الدين الى النهاية وارباك النزاع السياسي بعوامل ثقافية وتاريخية معقدة وخطرة بانتظار أن تقطف الثمار في نهاية عبور هذا البحر الدموي.

من وجهة نظر سياسة تعبوية يمكن كل شيء أن يمر، لكن هذه الخطة أيقظت الموتى من قبورهم، غطت الصراع السياسي بالمثل والاستعارة واعادة تمثيل الماضي.

إن تركيا حالة شاذة، فعلمانيتها نتجت عن ملابسة تاريخية ورد فعل على تراث من الاستبداد العثماني الذي حكم باسم الاسلام. في ما عدا ذلك لم تكن سوى خفير يحرس بوابات آسيا وأوربا من التوسع الشيوعي بمساعدة أكبر تجمع للقواعد العسكرية الأميركية في المنطقة، وما كانت تعرف من الديمقراطية غير ديمقراطية الأزمات التي يصنعها العسكريون ويفككونها بأيديهم. وفي مثالنا هذا فوجئ هؤلاء العسكريون بأن ما زرعوه باسم الهوية الاسلامية أثمر ثمارا مرة، مما اضطرهم الى التدخل من جديد لمنع الاسلاميين الجدد من الوصول الى السلطة.

إن هذه الدورة المشؤومة لا تجد أحدا يبددها، هذا التجريب القاتل، هذا الماضي الذي لا يتوقف، هذه الستراتيجية السياسية والثقافية التي تصنع متعصبين لكي تتحجج بهم. الحاضر؟ وحدهم الأقوياء يعيشونه بوصفه من انجازهم، أما شعوب هذه المنطقة المبتلاة فهم يعيشونه برقع الماضي المهلهلة.

 وثمة مثال آخر قريب جدا: فالمشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير لم يأت الا بعد أن بات الديمقراطيون العرب أضعف من أن يصوغوا برنامجا للنضال الديمقراطي الموحد، وأكثر شكوكا في خطط الولايات المتحدة، وتحيط بهم شروط وقوى تبتزهم باسم الوطنية والقومية والاسلام. ازاء ذلك أضفى الحكام العرب على هذا المشروع التفسيرات والاعتراضات التي تجعله غير ممكن، وهي في الغالب معقولة، لأن المشروع لا يخلو من املاءات وتدخّل في الشؤون الداخلية، كما أن اميركا لم تعط شيئا بالمقابل، ولم تبذل أي مجهود في حل القضية الفلسطينية. لكن المثير أن الساسة في اسرائيل فعلوا ذلك أيضا ولم يأخذوا هذا المشروع بروح الجد. إن هذا الاتفاق المريب ليس غريبا بل هو تجسيد لصناعة الماضي السيئة في الحاضر. فاسرائيل في النهاية لا تريد دولا عربية ديمقراطية، لأنها بهذا تثير الخلل في ستراتيجيتها التي بنتها للمنطقة بالتعاون مع حليفها الاميركي. إنها تريد دولا قوية بالتعبير الدارج، أي بالتعبير الذي يريده أي حاكم عربي لحكمه من دون أن يخضع لأي مساءلة، دول ـ انظمة تغيّب شعوبها أو تعدهم برخاء مبني على استقرار يشبه استقرار القبور، واسرائيل لا تريد غير السلام مع الأموات الذين لا ينازعونها.

لكن مثل هذه الدول في المستوى الأممي الحالي، والتطلعات الخاصة لأموات يريدون أن يتحرروا، تولّد، كما أثبتت التجربة، ارهابيين، فما العمل؟ لكن من قال أن هذا الأمر يزعج اسرائيل؟ بالعكس، كلما زاد الارهابيون قلّ احتمال الوصول الى الديمقراطية. والروح الكلبية الاسرائيلية تحتاج الى أن يتفسخ العرب والمسلمون في أزمانهم القديمة الخاصة، وضمن حدود ثقافة لم تعد قادرة على تحقيق أي اسهام في الثقافة والعلم والتكنولوجيا، مما يجعل اسرائيل دائمة القوة ومتعالية وتفرض شروطها: ليتفسخوا إذن فهذا هو مستطاعهم وقدرهم !

ـ 7 ـ          

تتبجح اسرائيل بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، لكنها تكرر ماضي الدول الكولنيالية القديمة في تعاملها مع الشعوب التي احتلتها، إذ تتوقف الديمقراطية عن العمل ويحل محلها الاستبداد والاستغلال. وعلى حين استطاعت الكولنياليات القديمة أن تساعد على بناء الدول الوطنية وتجعل تطورها المستقل ممكنا على هذا النحو أو ذاك، وهو ما حصل في أكثر دول الشرق الاوسط، فإن الكولنيالية الاسرائيلية وحدها لم تفعل أي شيء يساعد الفلسطينيين على تلمس مزايا الديمقراطية ولا على تقديم المساعدة في بناء الدولة الفلسطينية الديمقراطية. ليس هذا بسبب الصراع العربي الاسرائيلي الطويل وحده، فهذا الصراع القديم، لم يأت من فراغ بل جاء بعد طرد شعب بكامله من أراضيه، كما أنه في اللحظة الراهنة حل نفسه على وقع الحلول السلمية، وايمان أكثرية العرب بالحل السلمي الذي ترجم بقرارات وأماني قممهم، والأهم أن الفلسطينيين استقلوا بقرارهم السياسي وذهبوا بأقدامهم الى هذا الحل. فماذا يراد بعد؟ ولكن اسرائيل ليست مجرد دولة كولونيالية، بل ودولة دينية لتجسيد العهد، ولقد تصرفت بأراضي الفلسطينيين، وبنت مستوطنات عليها، ضمن مشروع قومي ديني يستدعي الماضي بالحاضر ولم تستطع تخفيف فجاجته الأسطورية ولا تعارضه مع مفهوم العدالة المعاصرة. حتى في الأراضي التي احتلتها عام 1948 لا تعامل السكان من مواطنيها الذين تمسكوا بأرضهم وهويتهم العربية الا كمواطنين من الدرجة الثانية. كيف تحل اسرائيل تناقض شكواها من العنف الديني والقومي في حين أنها دولة قومية دينية ومارست الإرهاب واغتصاب الأراضي على الأسس نفسها؟ مستخدمة ميزان القوى الدولي لمصلحتها بالتضافر مع قوة عسكرية لا يستهان بها دفعت اسرائيل كينونتها القومية والدينية الى الظل لتدعي بأنها مجرد دولة معترف بها دوليا وتواجه محيطا لا يعترف بها على أسس الشرعية الدولية. لكن إذا أحصينا القرارات الدولية التي ضربتها عرض الحائط منذ عام 1948 وحتى الآن فلن يعود للشرعية الدولية من قيمة وسيبقى ميزان القوى العسكري وحده كافيا للبقاء في أراضي الغير، أما من الناحية الشرعية الداخلية كدولة ونظام فهي تغالي بمفهوم الأمن القومي لكي تغطي على ابتلاع الأراضي وإقامة المستوطنات لإرضاء النزعة الدينية القومية للمستوطنين ولإبقاء اليقظة على الاديولوجية الدينية والقومية التي تستند إليها الدولة، ومقيمة توازنا وظيفيا بين الديمقراطية والنفير العسكري والدين القومي.

ليست اسرائيل دولة كولونيالية فقط، بل ودولة عنصرية جعلت من الدين القومي أساسا لقيامها أيضا، مما يقيم تناقضا صريحا مع مبدأ الدولة الحديثة. لكن هذا التناقض يوزع نفسه ويضيعها داخل ميزان القوى في المنظومة الدولية الحالية، وعلى امتداد المزابل المتبقية من العصر الكولونيالي، ومبررا نفسه بالتخثرات التاريخية التي ما زالت قائمة، وبالحماقات التي لها عمق تاريخي، وبتاريخ الحماقات الانسانية الذي ما زال منتجا وفعالا.

ـ 8 ـ

ليست هذه السطور معزولة عن الأحداث في العراق، بل لعلها انبثقت منها، من ذلك اللقاء المشؤوم بين ارهاب وارهاب، بين اخفاق وآخر، بين احتلال هنا واحتلال هناك. يعتقد الاميركان أن لا علاقة بما يحدث في الاراضي الفلسطينية المحتلة وقضايا النشاط الارهابي. وجهة النظر هذه هي استمرار للستراتيجية الاسرائيلية القائمة على تفكيك القضايا الى أجزاء، وتحويل العمق التاريخي الثقافي والاجتماعي للمنطقة الى مسطحات تجريدية. من هنا فإنها لم تستطع أن تحقق تطبيعا حقيقيا لا مع الدول العربية ولا مع شعوبها، في حين نجد أن الكراهية للأميركان ظلت تتصاعد في المنطقة ووصلت ذروتها بعد احتلالها للعراق. وما من شك في أن حدوث الاحتلال أثناء تصاعد العنف في الأراضي المحتلة والقمع الوحشي للفلسطينيين أثار صعوبات حقيقية لم يستطيع الاميركان إخفاؤه. وعلى الرغم من تدني سمعة النظام العراقي السابق فإن إبقاء القضية الفلسطينية من دون حل، بل والرجوع بها الى الوراء، شكل حالة عاطفية ونفسية ضغطت على وجدان الشارع العربي.

 في حرب عام 1991 استغل النظام السابق هذه الحالة العاطفية نفسها وأطلق صواريخه على تل أبيب. من الوجهة الموضوعية استفادت اسرائيل من هذه الصواريخ لكن النواة العاطفية للعرب شعرت بأن من الممكن إذلال هذا الخصم المتجبر وتخويفه. إن فكر الأنظمة العروبية المتهافت والحالة الشعبية قد يلتقيان ما دام الأمر يتعلق ببعض الجسارة الموجهة الى دولة لم تحترم ولا مرة القانون الدولي وما زالت تغتصب الارض العربية وتقتل الفلسطينيين بدم بارد. لكن هذا اللقاء المؤقت كما هو واضح يقوي توترات تالية مليئة بالغضب واليأس، فهو معبر للأنظمة غير الجادة لأي معركة للتحرير، وعنصر تثبيت لحججها وتبريراتها في الإبقاء على حالة الطوارئ والتأجيل الدائم للتحولات الاجتماعية لمصلحة مشكلة قومية جرت خيانتها، كما جرى استخدامها ضد التطلعات الديمقراطية والتحولات الاجتماعية، واتفق الجميع على إنهم غير قادرين على حلها ضمن ميزان القوى الحالي الا بتقديم تنازلات. إن ثقافة الاستنفار والعسكرة التي لا طائل منها يقابلها يأس جماهيري من كل شيء، واحساس بالعجز السياسي الذي يجسد نفسه في ظروف مناسبة بالعنف والإرهاب.

حتى لو اعتقد الأمريكان أن لاعلاقة بين ما يحدث في العراق وأراضي السلطة الفلسطينية، فإن كامل السياقات السياسية الأمريكية في العراق لم تتخلص أبدا من السياسة المعدة منذ زمن بعيد للشرق الأوسط والقائمة على تجزئة القضايا وتجميد العمل السياسي لمصلحة أسلوب العلاقات العامة الذي طبق في العراق وترك فراغا سياسيا قام الارهاب بشغره. والحال أن الإحتلال الأمريكي للعراق ألغى الحراك السياسي في الشارع وجعله يتم داخل الكواليس، وهذا ما يفعله الارهاب من تحييد المجتمع وتفكيكه باستخدام العنف على مداه. وكما انتشرت اللامبالاة بين الناس، لم تعد حكومة معزولة أن تحمي الناس من الارهاب أو تحمي نفسها منه. إن السياسات الحمقاء في أراضي السلطة الفلسطينية والعراق تتصادى على نحو نجد بينها قواسم مشتركة ونفس النتائج الكارثية: تبديد الوقت السياسي والاجتماعي، تحطيم السلطة وعزلها وتحويلها الى شبح، حل القضايا السياسية بواسطة القوة المسلحة، تفكيك القوى الحية في المجتمع، اتباع سياسة الدهاليز والمماطلة والتأخير، وأخيرا خلق الظروف المواتية لنمو الارهاب ومن ثم خلق المبررات للتدخل السياسي والعسكري.

إن كل ما فعلته قوات الاحتلال منذ التاسع من نيسان (في ما عدا حرية مهددة) كان كارثيا ويثير الشبهة، لكن ما يدعو للاستغراب أن أي تحليل واقعي لهذه الأفعال سيجد أنها ألحقت أبلغ الأضرار بمصلحة الولايات المتحدة نفسها، بصدقيتها ومزاعمها، تماما مثلما ألحقه موقفها من القضية الفلسطينية من تدني سمعتها في الوطن العربي. ويبدو لنا أن ليس من السهولة لدولة عظمى أثقلتها الأخطاء وحدت من نموها على مستوى السياسة الأخلاقية أن تغير من صورتها في العالم إذا لم تتجدد وتتأمل جيدا فكرة انفرادها كقوة كبرى، فهذا الانفراد كثير التكاليف وهو محمل بتاريخ كامل من عروض القوة والأخطاء والظلم. والحال إن مفهوم القوة الكونية مكلف دائما على المستوى الإنساني، فهو يستبدل مفهوم الدولة الواقعية التاريخية بمفهوم تجريدي مطلق للقوة، وهذا بدوره ينعكس سلبيا على كامل المنظومة الإنسانية، ونعتقد أن المأزق الأمريكي لا يكمن في تصورات أمريكا التقليدية عن نفسها بوصفها حامية للحرية والديمقراطية في العالم فقط، بل وعن ضغط المفهوم التجريدي للقوة الذي تلبسها والذي قد يدفعها الى تبني لون من ألوان الفاشية. إن الكثير من تعابير المنافسة الانتخابية بين بوش وكيري محملة بأعباء دولة تتصارع فيها المثل ومبدأ الواقع وقوة زائدة في تمثيل العالم.

لن نذهب في هذا التحليل بعيدا، فما يهمنا هنا هو ذلك التراكم من الماضي السياسي المكوم على صدور أبناء المنطقة والذي لم تسهم أمريكا في رفعه مع أنه بات يهددها. فليس الحادي عشر من أيلول الذي تبنت الادارة الأمريكية بسببه سياسة جديدة الا نتيجة من نتائج تحالفاتها القديمة الغبية، وواحد من تعابير بيئات ثقافية واجتماعية ساعدت هي على ظهورها وتركها تتخثر وتتعفن وتصبح مصدرا للعنف، وبدلا من أن تفتح الطريق الى معالجات واقعية، أظهرت مع حليفها الاسرائيلي الكثير من العربدة وسياسة الابتزاز وليّ شعار مكافحة الارهاب نحو التجريد.                                


مفاضلة بين نظام الفصل أو الجمع بين سلطة الأتهام والتحقيق

زهير كاظم عبود

في العديد من الندوات القانونية  يتساءل العديد من الأخوة  من غير القانونيين عن الفرق بين النظام القضائي الذي تعتمده الشقيقة جمهورية مصر العربية مثلاً والنظام القضائي العراقي المعمول به في   العراق.

وبغية تبسيط المسألة وشرحها بالشكل الذي يصل الى فهم القارئ من غير الملم بالإصطلاحات القانونية أو الفهم القانوني للنصوص والنظريات،  ينبغي أن نبين أفضلية الأتجاهين ومعرفة أي منهما الأصلح لمجتمعنا وأنفع للمتهم، ومن أجل ذلك لابد من بيان مساوئ وعيوب ومحاسن كل نــــظام على حدة ثم بعد ذلك نفاضل بينهما بأيجاز  لكي نخرج بنتائج مقبولة.

أن موضوع إناطة التحقيق الابتدائي بجهة معينة تقوم به على الوجه المرسوم له قانوناً هو محل أتفاق بين غالبية قوانين دول العالم، ولكن هنالك أختلاف بين هذه القوانين حول مسألة تحديد الجهة التي تباشر التحقيق، فنرى أن قسماً من هذه القوانين قد أناط سلطة التحقيق بقضاة التحقيق والمحققين وأعضاء الضبط القضائي في حالات محددة، والقسم الآخر أناطها بأعضاء النيابة العامة والتي تختص أصلاً بتوجيه الأتهام ومباشرته أمام القضاء.

وسنتعرض أولاً لنظام الفصل بين سلطتي التحقيق والأتهام والمعمول به في العراق، وقد قيلت مبررات كثيرة بخصوص مسألة الفصل بين سلطتي التحقيق والأتهام ومن هذه المبررات :-

1-أن الفصل بين سلطتي التحقيق والاتهام وجعل كل واحدة منها مناطة بجهة معينة مستقلة عن الأخرى، يؤدي الى توزيع الأختصاص وتثبيته بصورة أكثر دقة، مما يوفر إمكانية أكبر في ترسيخ خبرة فنية عالية في التحقيق والأتهام معاً.

2-أن الفصل هذا يؤدي الى توفير أقصى حد ممكن من الضمانات للحرية الشخصية بخصوص حق الدفاع، وذلك لآن أجراءات التحقيق تتسم بروح الحياد، بخلاف ماهو عليه الحال بالنسبة للأتهام الذي يعتمد أساساً على الخصومة.

3-أن مهمة التحقيق تقتضي ثقافة خاصة تختلف عن تلك التي تلزمها وظيفة الأدعاء العام، حيث أن الخبرة الشخصية التي تكون عند قاضي التحقيق أوسع من تلك التي عند رجال الأدعاء العام، بحكم ممارسة القاضي لشتى أصناف الدعاوى وكافة أعمال القضاء، بينما يكون دور عضو الأدعاء العام محدوداً نسبة الى دور القاضي.

أما فيما يتعلق بالآنتقادات التي توجه الى هذا النظام، فلايمكن توجيه أي أنتقاد اليه سوى أنه يؤدي الى بعثرة الجهود المبذولة من قبل سلطة التحقيق وسلطة الاتهام والى مضيعة الوقت، حيث أن القضية التحقيقية تدور بين هاتين السلطتين، ولكن مثل هذه الأنتقادات يمكن القضاء عليها وذلك بتعميق التعاون بين أجهزة التحقيق والأتهام، والتأكيد على أن سلطة التحقيق وسلطة الأتهام هما من أجهزة الدولة الملقى على عاتقهما كشف الجرائم ومعرفة مرتكبيها بأسرع وقت ممكن وبصورة تضامنية.

أما ما يتعلق بنظام الجمع بين سلطة التحقيق وسلطة الأتهام فأن من مبرراته هو تعجيل الأجراءات وسرعة أنجاز التحقيقات وتوفير الوقت والجهد والمحافظة على القضية من الضياع أو التلاعب فيها وحصرها في جهة واحدة كما يقول الدكتور حسن صادق المرصفاوي في كتابه (أصول الأجراءات الجنائية - ص 331).

ولكن هذا النظام لقي الكثير من الأنتقادات منها:

1-أن القول بأن جمع السلطتين في يد واحدة يؤدي الى سرعة إنجاز التحقيقات وسرعة حسم القضايا إن صح فهو قول محفوف بالمخاطر وتحيط به المشاكل والصعوبات، لآنه من الصعب على الشخص الذي يباشر سلطة الاتهام أن يكون محايداً ولايتحيز في التحقيق لإثبات ماسبق أن أدعى به.

2-أن الأدعاء العام في حالة جمع السلطتين في يده يكون ذا مصلحة في إثبات الاتهام المسند للفرد، وعدم أتاحته الفرصة الكافية امام المتهم لتحقيق دفاعه.

3-أن الجمع بين السلطتين يجعل الادعاء العام خصماً ومحققاً في آن واحد، وهذا مما يوجب التفريق بين الأتهام والتحقيق لما بين الأثنين من تعارض، حيث أن الأتهام يضع الأدعاء العام في مصاف الخصوم، ولايمكن للخصم أن يحقق العدالة والحياد مع تحقيق مصلحته في آن واحد.

4-كما أن جمع سلطتي الأتهام والتحقيق بيد القاضي، قد يفتح له باباً للطغيان والتسلط يهدد حريات الأفراد، وهذه الخطورة تبرز أيضاً في حالة الجمع بين السلطتين بيد الأدعاء العام أو بيد سلطة أخرى مهما أختلفت التسميات.

وهناك بعض من الكتاب والفقهاء القانونيـــين من يرد على هذه الانتقادات الموجهة لهذا النظام، حيث يرى بعض أن الجمع بين السلطتين لايؤثر على سير التحقيق، وذلك لأن الأدعاء العام أو النيابة العامة تكون خصماً ومحققاً في آن واحد لايشكل عائقاً في التحقيق، لأن الخصومة هذه أن صحت فهي نظرية ولاأثر لها من الناحية العملية.

فالنيابة العامة أو الأدعاء العام هو خصم عادل، والشيء المهم لديهما هو براءة البريء أو أدانة المتهم، أما القول بأن عضو الأدعاء العام يخضع للسلطة التنفيذية من الناحية الأدارية في حين يتمتع القاضي باستقلال تام ولاسلطان عليه الا ضميره والقانون، فهو قول لاأثر له في الحياة العملية، حيث أن الضمير هو المرجع الأول والأخير لكليهما.

أما القول بأن عضو الأدعاء العام يتاثر بالشواهد الأولى للقضية فأن ذلك لايمنع من أن يتأثر القاضي بها وهو بشر مثله.

كما أن القاضي المنفرد يقوم بالتحقيق في القضية التحقيقية، فأذا كان فعل المتهم المخالف للقانون يشكل (جنحة) فأنه يقوم بأحالة القضية التحقيقية إلى نفسه ليقوم بمحاكمته، فيكون له دوران في التحقيق والمحاكمة.

وأما بعض آخر فيرى أن هذه المبررات تنتفي عند التعرف على الطبيعة القانونية لهيئة الأدعاء العام الذي يميزها عن بقية أجهزة الدولة الأخرى، فهيئة الأدعاء العام تنتمي الى الدولة (النظام القانوني) باعتبارها جهازاً إجرائيا يهدف الى أقتضاء حق الدولة في العقاب من مرتكب الجريمة بالذات دون غيره، مما يجعلها تمارس في الوقت نفسه مهمتين أولاهما مهمة الاتهام وما تقتضيه من الأجراءات اللازمة لتحريك ومباشرة الدعوى العمومية ضد مرتكب الجريمة، وثانيتهما مهمة الرقابة لضمان تطبيق القانون بصورة سليمة من قبل الأجهزة التي تمارس الأجراءات الجنائية.

بعد أن تبينت لنا عيوب ومزايا كلا النظامين، لابد لنا من أن نفاضل. فنقول أنه من الأفضل أن يصار الى تفويض التحقيق الى قضاة التحقيق والمحققين العدليين وأن يتم تثبيت عناصر من ضباط الشرطة الحقوقيين والمختصين بالتحقيق ومعرفة حقوق الأنسان، بأعمالهم التحقيقية تحت أشراف قضاة التحقيق، وتفويض الأتهام الى هيئة الأدعاء العام، لما لهذا من فوائد تتمثل في عملية ترسيخ الخبرات الفنية لدى هيئة التحقيق القائمة بشؤون التحقيق الأبتدائي وهيئة الأدعاء العام القائمة بشؤون الأتهام، ولما يؤدي اليه من حسن أدارة الدعوى العامة من تاريخ رفعها الى تاريخ أصدار القرار النهائي فيها، ولما يؤدي اليه ايضاً من ضمان حرية وحقوق الفرد المتهم وبما يكفل ضمانات تحقيق حقوق الأنسان، حيث أن الخصم لايمكن أن يحقق العدالة كاملة حتى ولو كان هدفه الكشف السريع عن الجريمة وعن فاعلها والشركاء فيها، لأن نفسيته تبقى نفسية خصم وأن وضعية الخصم هذه تؤدي بهيئة الأدعاء العام (النيابة العامة) سواء عن قصد أو دون قصد الى التشدد مع المتهم وأساءة الظن به، وأن تعتني هيئة الأدعاء العام بأدلة الاتهام أكثر من أدلة الدفاع، وهذه الأدلة قد تؤدي الى براءة المتهم فيما لو وجهت العناية الكافية لها، وكل هذا له تأثير سيء على القضية أذ قد يبني عضو الأدعاء العام رأياً بأتجاه معين، بينما الحقيقة تكمن في أتجاه آخر.

أن من الضروري أن تتناوب على القضية والدعوى الواحدة أيد مختلفة، مستقلة أحداها عن الأخرى، لتقوم كل يد بجزء من أجزائها برأي مستقل عن الآراء الأخرى، أو أن يتم حرمان من أضطلع بأحدى المهام من القيام بمهمة أخرى في الدعوى.

أن من المهم الأخذ بمبدأ الفصل بين جهتي الأتهام والتحقيق، وأن تقتصر مهمة قاضي التحقيق على التحقيق في الوقائع المقدمة اليه من الأدعاء العام، وتعزيز دور الأدعاء العام في مجال تحريك الدعوى العامة.

وقد سار القانون العراقي في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية البغدادي الملغي على مبدأ الجمع بين السلطتين، سلطة الأتهام وسلطة التحقيق، وكان يقوم بذلك النائب العمومي، وكان يشغل هذه الوظيفة من الناحية العملية رجال الشرطة، ولكن بصدور قانون ذيل قانون الأصول الجزائية البغدادي رقم 42 لسنة 1931 تم ألغاء وظيفة النائب العمومي وأستحدثت وظيفة الأدعاء العام، وبموجب هذا الذيل أنيطت مهمة الأتهام بالأدعاء العام وأستحدثت وظيفة المحقق ومنح صرحية االتحقيق في الجرائم تحت أشراف (حكام) الجزاء، حيث بمقتضى المادة السادسة منه أنشئت (دائرة الأدعاء العام) تحت رئاسة المدعي العام، وبمقتضى الفــــــقرة الأولى من المادة الخامسة منه أستبدل تعبير (نائب عمومي) بتعبير (محقق)، وبذلك انتقلت سلطة النواب العموميين في التحقيق الى المحققين وأغلبهم من ضباط الشرطة، وأما سلطة الأتهام وتعقيب الدعاوى الجزائية أمام المحاكم الجزائية فقد أنيطت بالمدعي العام ونوابه.

ثم أصدر المشرع قانون ذيل آخر لقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 56 لسنة 1933 وضح فيه أختصاص المدعي العام ونوابه، حيث بينت المادة الخامسة منه حق المدعي العام ونوابه في الأشراف على أعمال المحققين عندما يقومون بالتحقيق وعلى المحققين أتباع أوامره وتوجيهاته. 

وبموجب هذا الذيل فقد أستحدث المشرع وظيفة (قاضي التحقيق) وأنيطت به همة التحقيق والأشراف على المحققين عندما يمارسون اعمال التحقيق، وبهذا يكون المشرع أقر مبدأ الفصل بين وظيفتي التحقيق والأتهام بصورة تامة.

وبعد صدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الحالي المرقم 123 لسنة 1971، فقد أقر القانون ماكان سائداً قبل صدوره في ظل الأصول البغدادي وذيوله الملغى، حيث خول المشرع بموجب هذا القانون سلطة الأتهام لهيئة الإدعاء العام، وسلطة التحقيق لقاضي التحقيق وللمحقق تحت أشراف قاضي التحقيق .

وفي هذا الصدد خولت المادة (35) من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي ألغيت بقانون الأدعاء العام رقم 59 لسنة 1979 خولت الأدعاء العام بقولها ((أ- على المدعين العامين ونوابهم في حدود أختصاصهم حال علمهم بوقوع جناية أو جنحة هامة أن يخبروا بها رئيس الأدعاء العام، ولهم أن يحضروا محل وقوعها ويضعوا اليد على القضية ويتسلموها ممن حضر قبلهم من أعضاء الضبط القضائي، ويتخذوا الأجراءات المبينة في المادة (34) حتى يحضر قاضي التحقيق أو المحقق فيتسلمها ويباشر التحقيق فيها.

ب- تكون أجراءات التحقيق التي يتخذها الأدعاء العام بمقتضى هذه المادة والمادة (34) بحكم الأجراءات التي يتخذها قاضي التحقيق أذا قام بها رئيس الأدعاء العام أو كان المدعي العام أو نائبة الذي قام بها من صنف الحكام.)

أما إذا كان موظفاً مدنياً فتكون أجراءاته بحكم الأجراءات التي يقوم بها المحقق.

وقد تأكد هذا بصورة واضحة عند صدور قانون الأدعاء العام حيث وسع من صلاحية عضو الادعاء العام في مرحلة التحقيق فوردت في باب مهام الأدعاء العام (المادة الثانية / الفقرة ثانياً) فأجازت له مراقبة التحريات عن الجرائم وجمع الأدلة التي تلزم التحقيق فيها، وأتخاذ كل مامن شأنه التوصل الى كشف معالم الجريمة.

وأكد القانون في المادة الخامسة بأن يكون للأدعاء العام حق الأشراف على أعمال المحققين وأعضاء الضبط القضائي، بما يكفل مراعاة تنفيذ قرارات قاضي التحقيق وسرعة أنجازها، وللأدعاء العام الأطلاع على الأوراق التحقيقية وتقديم الطلبات بشأنها وعلى قاضي التحقيق البت في هذه الطلبات خلال مدة لاتتجاوز ثلاثة أيام من تاريخ ورودها اليه.

ورغم أن قانون الأدعاء العام خول الأدعاء العام مراقبة التحريات عن الجرائم وجمع الأدلة التي تلزم للتحقيق فيها، وأتخاذ كل مامن شأنه التوصل الى كشف معالم الجريمة، الا أن هذا النص جاء مبهماً وعاماً حيث لم يوضح كيفية قيامه بمراقبة التحريات عن الجرائم، ولم يحدد الأجراءات التي له أتخاذها للتوصل الى كشف معالم الجريمة.

أن مسألة متابعة قرارات قاضي التحقيق  وتدقيق الأوراق التحقيقية  من قبل عضو الأدعاء العام ترتبط بمدى فاعلية وجهد عضو الأدعاء العام وزياراته للشرطة ومتابعته للقضايا التحقيقية بشكل مستمر، وعدم الأعتماد على موظف يقوم بعرض الأوراق أو تسجيلها، وقد ألزمت وزارة العدل المعاون القضائي المختص في محكمة التحقيق عرض الأوراق على نائب المدعي العام، ولكن الأكثر فاعلية ومنطقية هو ألزام المسؤول في مركز الشرطة بعرض الأوراق على نائب المدعي العام ليطلع عليها ويعيدها الى مركز الشرطة بنفس الوقت.

يلاحظ أن مختلف القوانين  تخول هيئة معينة للقيام بمهمة التحقيق الأبتدائي وذلك لأنه أذا لم تمنح هيئة معينة للقيام به فأن ذلك يشكل أهداراً وعدم أكتراث بمصـــلحة المجتمع والمتهم معاً، لذلك فأنه أذا قام شخص من غير الجهة المخصصة قانونا للقيام بالتحقيق فأن عمله يعتبر غير مشروع ويترتب عليه البطلان، حيث أن أناطة التحقيق بهيئة معينة لحسن سير التحقيق وتحقيقا للعدالة الجنائية المطلوبة في تلك المرحلة.

ومن خلال ماتقدم نرى أنه من  الضروري الفصل بين سلطتي التحقيق والأتهام مع تعميق وتمتين العلاقة القائمة بين الأشخاص الذين يباشرون تلك السلطتين، وذلك بالتاكيد على أن كلا منهما من أجهزة الدولة الفعالة المتمثلة في عقاب الجاني وردع غيره، ومصلحة الفرد في صيانة حريتة وحقوقه مع التمسك باستقلال هذه السلطة (القضائية) عن باقي السلطات التشريعية والتنفيذية دستورياً لتحقيق الحرية والأستقلالية في تحقيق العدل.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة