المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

انطباع ناقد عن مهرجان قرطاج الأخير جمهور التلفونات المحمولة

باريس / صلاح سرميني

من أكثر الملاحظات التي لفتت أنظار ضيوف الدورة العشرين لأيام قرطاج السينمائية، هي إقبال الجمهور التونسيّ على متابعة الأفلام التي عُرضت في المُسابقة الرسمية، وخارجها، وخاصّةً التونسية منها.. إلى درجة لم يتمكن الصحفيّون، والإعلاميّون، والسينمائيّون من مشاهدة بعض الأفلام بسبب الزحام الشديد أمام الصالات، وداخلها، وحالة القاعات، وظروف العروض. 

وقد لاحظنا جليّاً، بأنّ مشرفي القاعات يفضلون دخول المتفرجين الذين حصلوا على تذاكر مدفوعة على ضيوف المهرجان الذين حضروا تونس لهذا الغرض، وكانوا يرفضونهم بشدة، وعنف، وفظاظة، ومن أجل هذا السبب، إتسمت أجواء المهرجان بالتذمّر، والفوضى، إذّ‍ لم يعدّ بالإمكان الإنضباط في برمجة يومية مُحدّدة، تتفق مع المواعيد، واللقاءات الإحترافية، والشخصية، وأصبحت متابعة الأفلام حالةً ثانويةً  تعتمد على المصادفة، والمزاج .

ومن حالفه الحظّ بالدخول إلى إحدى القاعات لمُشاهدة فيلم ما، أصابه الإحباط سريعاً بسبب تأخير العرض مرةً، والأجواء الحارّة، والخانقة مرةً أخرى، ورنين الهواتف المحمولة، والتعليقات، والأحاديث الجانبية في مرات كثيرة،..وهي الإشكالية الرئيسية التي تشغل بالي منذ وقت طويل، ويبدو بأنّ هذه السلوكيات هي بمثابة ظاهرة عامة في كلّ الوطن العربيّ من مشرقه إلى مغربه، وهي وحدها تحوّل أي ّ (تظاهرة سينمائية) أساسها الصورة إلى (ظاهرة صوتية) مناسبة للحفلات، والأعراس، والسهرات الترفيهية.

في الدورة الماضية لـ(مهرجان القاهرة السينمائيّّ)، وفي القاعة المُخصّصة للصحفيين، كنتُ أخرج من الصالة بعد الربع الساعة الأولى من العرض، ومع المرة السابعة، قررتُ بأن لا أشاهد أيّ فيلم، وليكن مايكون،..

فقد تبيّن لي، بأنه لا فائدة من النرفزة، ولا الطلبات اللطيفة، أو العنيفة بغلق التلفونات المحمولة، والإمتناع عن الأحاديث الجانبية، ولا داعي للتعبير عن الغضب، والضيق بعبارات من نوع : ماهذا السلوك المُتخلف ؟..

أو إنكم تستخدمون أحدث تقنيات الاتصال، ولكن، مازلتم متخلفين في عقولكم، ودواخلكم...

لقد إنقلبت عبارات الإستيّاء هذه ضدّي، وإنتقلت فوراً إلى (شريف الشوباشي)ـ مدير المهرجان ـ، مع قليل من التعديل، والبهارات، فوصلت : أنتم شعبٌ متخلف.

ولولا تقديم نفسي لـ(الشوباشي)، وإفهامه بأنني درستُ في مصر، وجمعتني صداقات مع الوسط السينمائيّ المصري، وإحتفظتُ باللهجة المصرية مع المصريين، وحتى اليوم، يعتقد البعض منهم بأنني مصريّ، آخرها الصحفية المصرية (ماجدة موريس)، عندما قالت لي قبل ساعات من مغادرتها تونس : والله، كنت فاكراك مصريّ يا صلاح .

لولا ذلك، ربما أدرج شريف الشوباشي إسمي في اللائحة السوداء للمهرجان، وربما في مصر كلها.

نفس الحالة الإنفعالية حدثت معي في قاعة (المُجمّع الثقافي) في أبو ظبي خلال متابعتي للدورة الثالثة لـ(مُسابقة أفلام من الإمارات)، لم أستطع إكمال مشاهدة فيلم (زائر) لمخرجه البحرينيّ بسام الذوادي، فقد كانت أحدث التلفونات المحمولة ترّن في أرجاء الصالة، وبنغمات مختلفة، تختلط مع الأحاديث المُتبادلة بين شلل الأصدقاء.

في ذلك اليوم، خرجتُ، وأنا أشتمُ، وألعنُ التقنيات الجديدة، والسلوكيّات المُتخلفة، وكان يقف أمام باب القاعة بسام الذوادي نفسه، ومحمد أحمد السويدي الأمين العام لـ(المُجمع الثقافيّ).

بعد تلك المُعاناة الصوتية، نصحني مسعود أمر الله آل علي -  مدير المُسابقة - بمشاهدة الأفلام من البلكون، وفعلاً ، تخيّرت ذلك الحلّ، وفرحتُ كثيراً، فقد كنتُ لوحدي تماماً، حتى جاء أحد أفراد الشرطة، وجلس على بُعد مقاعد مني، وحمدتُ ربي بأنه سوف يحميني من (التلوث الصوتيّ)، وبعد فترة هدوء، كنتُ أستمتعُ فيها بمشاهدة أحد الأفلام، وفجأةً، إنطلقت أصواتٌ عالية غير مفهومة من جهاز لاسلكيّ بحوزته، كانت أكثر غرابةً، وصخباً، وإزعاجاً من كلّ التلفونات المحمولة التي كنتُ أسمعها في الصالة، وبدوره، بدأ بالردّ عليها، ولم أتجرأ على الإستنكار، إنه شرطيّ، وأنا أرتعبُ من خيال أيّ شرطيّ عربيّ، فنهضتُ، ولعنتُ حظي، وذهبتُ مباشرةً إلى مكتب (مسعود)، لأحكي له عما حدث، كان يتربّع على كرسيه خلف الكمبيوتر، ويستمع لي بهدوء قاتل، وما أن إنتهيت، حتى وجدته يقهقه بصوت عال.

وفي أحد عروض الدورة الرابعة لـ(مهرجان الفيلم العربي) في روتردام، وأثناء مشاهدة فيلم (طيارة من ورق) لمخرجته اللبنانية رندة شهال ـ صباغ، كان أحد المصريين يتحدث بإستمرار مع صديق يجلس بجانبه، ولم يتوقف عن إستقبال المكالمات الهاتفية، أو الإتصال، حتى إنفجرتُ، ووقفتُ في الصالة المُعتمة أطلب منهُ بأن يكفّ عن هذا الإزعاج، فما كان منه، إلاّ أن صرخ في وجهي :  وإيه يعني لما نتكلم في التلفون، إحنا بنشوف فيلم، ولاّ بنقرا قرآن،..

ولكم أن تتخيلوا ماذا حدث بعدها، وكلّ من حضر ذلك العرض يتذكر ردود فعلي نحوه، ولم أعفه منها خلال فترة الإستراحة مابين فيلم وآخر.

وبصراحة، لم يكن موقفي بطولةً مني، فقد كان رياضياً،  قوياً، ضخم الجثة، ولكن تعاطف الآخرين معي شجعني على تلقينه درساً لفظياً لن ينساه طوال حياته.

الغريبُ في الأمر، أنّه في كلّ الحالات، وعلى الرغم من ردود فعلي الغاضبة، والعنيفة، والعدوانية أحياناً،.. يأتي هؤلاء للإعتذار، ومُصالحتي، ودعوتي إلى غداء، أو فنجان قهوة.


الجدل اللوني في الفيلم الأمريكي

أحمد ثامر جهاد 

محنة رجل ابيض!

عبر التاريخ الطويل للسينما الأمريكية واسعة الانتشار حاول الفيلم الهوليودي طرحَ العديد من المفاهيم العنصرية والتصورات العرقية في حشدٍ من الأشرطة والنجوم. وكلها تُفيد بتفوق الرجل (الأبيض)*، لكن المُسلح والمتأهب للقتل دونما كلل أو رأفة، على بالرجل (الأسود)، لكن الأعزل. ومن ذلك التعاضد الآيديولوجي بين التاريخ الواقعي والأعلام السينمائي، بدا الرجل (الأبيض) - صاحب رؤوس الأموال والسلطة - عنصراً مساهماً ومتفانياً في تشكيل وعي (القارة الجديدة) بكل ما تحتاجه الأرض البكر من رجال أشداء مخلصين للوطن والسيادة فيه، بغض النظر عما يلحقه ذلك الإخلاص المتعصب من خلل فتاك في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو ما يلعبه من دورٍ فعال في تكوين الأُطر الثقافية لجماعة بشرية لا تتوانى عن تشويه العنصر غير المرغوب فيها، مهما حاد مسعاه عن مشروعها أو مسارها المهيمن. ومع اختلاف الألوان والصور ستمتد هستيريا جماعية يقودها (الكوكلاس كلان) في حملة تطهيرية لا تختلف كثيراً عن جرائم القرون الوسطى في   لاعقلانيتها، مُقصية (السود) خارج دائرة التأثير والامتياز التاريخي أياً كان نوعه.

في مقابل ذلك التاريخ الفعلي والفني لاحقاً، حاول نفرٌ من الكتاب والمخرجين الملتزمين المشاركة في صناعة أفلام سينمائية ذات مناخ تحرري مغاير، تزامن ظهورها مع تيار صاعد يعبر عن التقدمية والراديكالية في الفن وبتأثيـر من حركات اليسار الأوربي. انتهى المطاف ببعضهم إلى جحيم اللعنة (المكارثية) التي خَيمَ رعبها على   أمريكا - عاصمة السينما في العالم. كشف البعض من تلك الأفلام مدى القهر الواقع على (السود)، فوجهت كامل إدانتها صوب المؤسسة القانونية والإعلامية الأمريكية صاحبة التاريخ الحافل بتمويه الحقائق، ناهيك عن الحقوق.

بين ذاك المد وهذا الجزر، تراوح جدل (الصورة السينمائية)، تارة يعلن عن لون غريب من التصادم والتآلف، وأخرى يقدم مزجاً مفتعلاً من النمطية الهوليودية ونادراً محاولة تجاوزها. فاعتدنا من جانبنا (كمشاهدين) أن نرى النموذجين معاً بتفاوت استجابتنا لمصداقية ما يطرح في السينما من وقائع وقصص، لكننا دائماً مشاهدون غير حياديين (للصورة) وهل يسعنا غير ذلك؟

وعبر تاريخه لفظَ الفيلم الأمريكي زمناً طويلاً من (الصورة والصورة المضادة) جعل من غير اللائق أو المقبول الحديث عن بعدٍ واحد فقط يصور اضطهاد الزنوج أو تفوق الرجل الأبيض (الكاوبوي). حيث يروّج إعلامياً -منذ زمن- لوطنية أمريكية يحالفها النجاح في مستويات عدة بفعل استيعابها الواقعي لمشكلاتها التاريخية. وباعتقادهم ليس ثمة أحد بعد اليوم يحق له الاعتراض أو التذمر من هذا (التحالف الجديد) بين فئات المجتمع ككل، مثلما من غير اللائق أن يوصف بالفئوي أو غير المتحضر.

وبتلخيص مقتضب لقصة الفيلم: نرى (جون ترافولتا) - الرجل (الأبيض) - عاملاً في مصنع يملكه مستثمر زنجي كبير (هاري بيلا فونتي) وهو الرجل (الأسود) الذي يتمتع بحياة عائلية رغيدة، ويظهر كشخص متزن يرعى الأعمال الخيرية ومساعدة الأطفال. وبعد جملة مَشاهد تصعّد الحكاية الفيلمية، يفقد (ترافولتا) مهنته لسبب تافه لا يتجاوز نظرة عابرة ألقاها على ابنة الرجل (الأسود) في منزله، حيث كان متوجهاً إليه كي يسلمه طرداً من إدارة المصنع، مع حفاظه على قدر من الدهشة لرؤيته تلك الحياة الباذخة!

ومع إن الرجل (الأسود) لم يره بعينيه بتاتاً، إلا أن أحداً من كبار موظفيه وشى بذلك العامل من غير سبب واضح.وما أن يُخبر الموظف مديره بذلك الجرم متمنياً لـ(ترافولتا) أن يطرد (لدافع سايكولوجي على الأكثر) يشير الرجل (الأسود) بلامبالاة إلى فصله، ويجد المبررات جاهزة أمامه تومئ إلى تطفل العامل ووقاحته. يجاهد العامل (الأبيض) في كتمان انهياره عند سماعه قرار طرده من العمل ويحاول على مضض استعادة وظيفته بوسائل شتى تُوصله إلى نتائج عكسية، اقلها إهانته وتعرضه للضرب من قبل البوليس. مما أضاف جرحاً غائراً آخر لما تعرضت له عائلته من طرد خارج المنزل عنوة وبقوة القانون الذي لا يجامل شخصاً ليس له ما يدفعه لصاحب البيت. فهو كصورة متحصلة لاجتماع هذه الظروف "رجل عاطل عن العمل مع زوجة    (كيلي لينش) وأولاد يشعر في قرارة نفسه انه بريء مما لحق به من   أذى، يرفض - بالطبع - شعوراً باليأس يليق بآخر ارتكب جرماً يُودي به ". ذلكم هو - على وجه التحديد - وضع الرجل (الأبيض) في مسار نمو الأحداث.

وخلال تطورات درامية شيقة يجد (الأبيض) نفسه في قلب المأساة ... أن تكون وحيداً، ضائعاً تماماً، فاقداً لأبسط حقوقك، بينما يستمتع الآخرون بحياتهم (لاسيما فئة من السود) والمجتمع من جهته (مجتمع البيض) لا يأبه لك بتاتاً ولصنيعك مهما كان، ما الذي عليك فعله ؟ إنها أجمالاً مفارقة المأساة ذاتها حين كان الرجل     (الأسود) ضحيتها يوماً ما.. وهو الآن بطلها.

لقد أوصلنا ذلك الجدل اللوني الأمريكي إلى محنة فريدة من نوعها والى نتائج خطرة شكلت الرأي العام وتشكلت به، بطريقة تسمح لغالبية اجتماعية -على اختلافها - أن تستعيد ذاكرة الإحساس الجمعي بواقع تلك الإشكالية أو  واقعيتها. فيمكننا أن نرى كيف كشفت سردية (محنة رجل ابيض) عن منحى آخر مفارق، يقلب المعادلة الفيلمية المعتادة والقريبة إلى أذهان المشاهدين، ليوقظ بصيرتهم قبل أن يخترق ذاكرتهم التي تعودت على أن (قلب الرجل الأبيض اسود، وقلب الرجل الأسود ابيض) هكذا دائماً حـرب وسلـم، كـراهية وحـب، حـوار وصِدام، شكل الحضارات والثقافات والأفراد.

ولكي نبقى قريبين من الخط الدرامي للفيلم، نشير إلى محاولة الرجل (الأسود) مساعدة الرجل (الأبيض) بعد أن اختطفه الأخير بلا تخطيط أو تدبير مسبق، ليسأله فقط عن السبب في إعدام حياته وطرده من وظيفته ! حينها يستمع (الأسود) إلى حديث (الأبيض) فيعتذر جاداً عما سببه له ولعائلته من متاعب لم يكن يقصدها أو عَلِمَ بها حتى ! لكن الرجل (الأبيض) هو من يفقد سيطرته على الموقف آنذاك، فيؤزمه مستسلماً لمأساة حادثة لا محالة تؤكد عدم استطاعته معالجة الأمر أو الخروج آمناً من خطورته.

على أية حال يبدو (ترافولتا) في الفيلم، رجلاً ذا كرامة، لا يقبل هبات رهينـة، مع إن الفيلم لا يجيب إن كان السبب من وراء ذلك لأنها رهينة (سوداء) أم أنها الضرورة التي يفرضها موقع المتحكم بالموقف ؟! بعد توالي عدة مَشاهد محبوكة، تصبح نتيجة الصراع ذروة درامية، حيث يُقتل الرجل (الأبيض) على أيدي الشرطة، في الوقت الذي يخرج الرجل (الأسود) متأثراً من تلك التجربة المثيرة وهي تُلقي بظلها المرير على حاضر حياته ونمط تفكيره. ليست هذه الواقعة نهاية للفيلم، إنما التفعيل المحسوب لمشهد لاحق يُلخص رسالة مضمونه، يتمثل في زيارة الرجل (الأسود) لزوجة القتيل بعد مرور وقت على الحادث، لأجل مواساتها وإيضاح التباس الموقف عليها، ولتأكيد براءته مما جرى لزوجها الذي بنفسه قاد مصيره الفاجع، حسب تصور الزائر. وكتعبير عن ثقته بنفسه ورغبته الحقة في مساعدة هذه المرأة، يعرض عليها مبلغاً كبيراً من المال،تعويضاً عما لحق بها من متاعب. إلا أن الزوجة - وبواقع حزنها - ترفض تلك العطايا بشدة، فيما ينسحب هو وحيداً، مكتئباً، حتى نهاية الشريط السينمائي.

لكثرة الدلالات المبثوثة في لقطاته، يستحق هذا الفيلم مناقشة جادة على نحو تفصيلي يتخطى توصيفاته، ليس لأنه بَدّل وجهة النظر المعتادة في هكذا نمط من الموضوعات السينمائية (اضطهاد السود في أمريكا) والتي وُظفت أيضاً لرواج الفيلم الهوليودي وتحقيق أرباحه، وإنما لأنه حاول مخلصاً طرح تصوراته عن الموضوع بصدق في المعالجة قلما نرى مثيلاتها. حتى انه بدا للوهلة الأولى كأنه سخرية من اعتقاداتنا الراسخة حول الزنوج وربما انتصار لصورة الرجل (الأبيض) التي سبق لها أن تحطمت في أفلام عدة: " درس البيانو " " ومسيسبي يحترق " مثلما في السينما السوداء التي ابرز دعاتها المخرج " سبايك لي ".

بعض النقاد في أمريكا وصفوا الفيلم كفنتازيا أو كوميديا سوداء أو حكاية سريالية، تُنسيك دراميتها التشديد على (لون) الشخصية. ويحق لنا أن نرى ابعد من ذلك في عنصر اللون الذي وُضع كمفارقة أولى للأحداث، تؤطر الحوار المتقدم كثيراً على الصورة في الفيلم.. فنتساءل: ما الذي يحدث لو أبدلنا مواقع الرجلين، واعدناهما إلى ما كانا عليه في الخطاب السينمائي المعتاد؟

من ذلك المنحى التأويلي، يظهر أن الشريط السينمائي (محنة رجل ابيض) لا يُصر على أن ينتصر لأي من طرفي الصراع (الأبيض، الأسود) بقدر ما يعتقد بواحدية تاريخهما المريع (انتصار البيض صورة دالة عن كفاح السود أو إبادة الهنود الحمر). وبمقاربة تحليلية لحكايته يمكن القول: أن الفيلم لا يعتقد بحل ممكن لتلك المحنة ! ففي المشهد الأخير يُترك الباب مفتوحاً أمام العديد من الأسئلة: حيث يغادر الرجل (الأسود) يائساً على نحو ظاهر من تنقية الأجواء بينه وبين زوجة القتيل.. تلك - لا ريب - لحظة صميمية، واقعية غير متفائلة بمعيار ديمقراطية الناخب الأمريكي!

فإذا كان الشريط يحاول أن يقول ما هو ابعد من نهايته "كصورة متحركة"، سيعني لنا ذلك أن المجتمع الأمريكي إذ يعلن أن لا مشكلة حقيقية بين البيض والسود، إنما يعبر فقط عن استحالة وجود حل ممكن لجذر صراعهما المديد، ويؤكد بوسائله الخاصة صعوبة اجتراح الطرفين لهوية واحدة تتجاوز واقع التناقضات العديدة، من دون أن تستعير شيئاً مما تشكّلَ عبر تاريخهما الفعلي الطويل من صور ودلالات.

لكننا أيضاً وقعنا في مأزق الإيهام السينمائي حين زاوج بين فنتازيا المضمون وواقعية الشكل الذي يساعدنا أثره المصاحب في النظر بجدية إلى محنة الرجل، أياً كان. ربما يشكل ذلك أبدية للصورة لا يمكن التعبير عنها في الجملة المكتوبة.

إن (السود) الذين يحملون على الدوام جذورهم الأفريقية في تكوينهم الثقافي والاجتماعي، يشغلون اليوم مواقعهم الحساسة في الأمة الأمريكية. وبطريقتهم الخاصة يتفاعلون مع المزحة ذاتها التي تسخر من غباء (النيكرو) كما يشعرون - كلما اشتدت الحرارة - أن بشرتهم غاية في الاختلاف عن  الآخرين، بلا خصوصية تُلزمهم انضباطاً في الأخلاق أو ميزة في الممارسة، حيث يُصهر الجميع في مشروع الفرد الاستهلاكي الذي ينخرط اكثر في دوامة الأعلام السياسي الأمريكي، مع الإبقاء على فتيل (اللون) المؤهل للاشتعال دون الخيال بقليل.

مع كل ما قيل يبدو المشكل الجوهري بعيداً كل البعد عن ظاهر الأحداث والوقائع المعروضة على الشاشة، على الرغم مما امتازت به من أمانة ووثائقية. فالمشكل الأساس ليس في أن يكون هذا (ابيض) بينما الآخر(اسود) بقدر ما يتعلق بما هو كائن عليه واقعاً. وبمعنى أوسع: من يملك ومن لا يملك. لذا لن يكون مستبعداً أن الفيلم قصدَ ذلك المعطى الثيمي حينما حاول إبدال مواقع اللونين (الأبيض، الأسود) اللذين اعتدنا رؤيتهما في إطارهما التقليدي.

يبدو الجذر الاقتصادي بمثابة الأساس الفاعل في محيط تلك التناقضات، وهو مؤشر التفرقة والفئوية في مجتمعاتنا (ماضيها وحاضرها) مع التأكيد على ما يستتبعه من أسباب أخرى تسهم بدورها في تكريس واقع تلك المحنة.

هل يُمكننا باستعادة سريعة لأحداث الفيلم أن نتساءل: أيهما محنة " الآخر ": الرجل الأسود محنة الرجل الأبيض أم العكس ؟

هامش:

*صورة لخطاب سينمائي مغاير:

استعرنا عنوان قراءتنا هذه من اسم فيلم أمريكي متميز هو (WHITE MAN ’S BURDEN - عبء الإنسان الأبيض) للمخرج (ديزموند ناكونو - من اصل أمريكي ياباني) يناقش الفيلم على نحو غير مألوف موضوعة تقليدية تحظى باهتمامنا، كونها تعيد للسينما حيويتها مــرة أخرى عند قراءتها صورة (الأبيض / الأسود) من زاوية مختلفة تماماً. يطرح الفيلم تصوراته الخاصة عن المحتوى بصيغة تخرج - بنسبة معينة - عن مألوف ما اعتدناه في الخطاب الهوليودي.

 


اسرار الكتب المسروقة

مهدي النجار

كنت كلما اراه، الرجل المربوع القامة صاحب الوجه البابلي الجميل يبتسم، كـأن وجهه محكوم عليه بابتسامة ابدية، خلال عقدين تقريباً من السنين حين التقيته. يسألني بمرارة: أين الكتاب؟ اركن إلى اعذار مشبوهة وأبادر بتسيير الحديث إلى جهة أخرى، يستجيب الرجل لرغباتي الماكرة ويفتح مثل مشتل أزهار يتحدث بصفاء عن التاريخ وعن معضلات الثقافة وعن احلام الناس بلهجة لم يهزمها ضغط الواقع الذي لا يطاق، يمتلك موهبة "روزخون" ماهر في سرد الاحداث، لم أر واحداً مثله في حياتي به شغف جنوني للكتاب، يتأسى، للكآبات التي صبت فوق رؤوس البشر، يتأسى للمصائب التي نزلت على الصحارى والاهوار، يتأسى  للأهوال التي اجتاحت الجبال، يخبئ بكتمان شديد الحزن لوعاته الخاصة ومصاعبه الاقتصادية، في نهاية مطاف لقاءاتنا القصيرة الشحيحة أتهيأ لاعذار اخرى، اتوقع سيسألني بمضض: اين الكتاب الذي استعرته مني... انه كتاب علي؟

يمضي بعينين مثل بركتين ذاهلتين في طريق الاحلام من دون وجل او خوف، إلى ابعد الحدود، لا اشعر بوحشة دروب الحرية لقلة سالكيها، ما زال وجهه في ذاكرتي كأنه نخلة.

حين التقيت شقيقه علي، الشاعر القلق والاعلامي المتوتر مثل سهم على وشك الانطلاق في مدخل جريدة "بغداد" في يوم مضى، مثلت امامه مثل متهم عرفته بنفسي كسارق، انا سارق كتابك "مائة عام من العزلة"، تأملني بدهشة من خلف عدستي نظارته الكبيرتين اللتين تجعلانه يبدوهرماً اكثر بكثير من سنه، بعد قليل اطلق كركرة بلورية: أهو أنت! ضمني إلى صدره بحنان اخوي.... فجأة خُطف منك يا علي ومنا ذاك البهي، عاشق الكتاب قاسم عبد الامير عجام في غمرة الخراب الجميل، خطفته طلقات لئيمة عجز اصحابها عن ان يكونوا في يوم من الأيام نشطاء في حقل الوئام الانساني، هناك صُرع قاسم وهو يبذر الحب لأجل ان ينبعث في جميع الاخاديد والطرق عابقاً برائحة النبل وخلف في قلوبنا سلاءات حزن، وانا اعترف ما أزال الكتاب بحوزتي يتدفق منه الضوء ولكن ما عساي أن افعل، سأذهب إلى المقهى العتيق، "حسن عجمي" وكما التقيته اول مرة في قيظ ظهيرة غابرة لنبدأ  صداقة ستستمر حتى الفراق، اجلس انتظر وانتظر محتبساً كرة من الدموع، لعل الرجل المربوع القامة يأتي، أعطيه الكتاب واعتذر، لا سوف لا اعتذر  لاننا جميعاً اصبحنا مثل كتب مسروقة!!.

بغداد- تشرين الاول 2004

 

 


 

البيت العراقي للثقافة والفنون يختتم فعاليات ملتقى البصرة الاول للشعر

البصرة- عبد اللطيف الراشد

احتضنت البصرة وعلى مدى ثلاثة ايام نخبة من المبدعين والشعراء والكتّاب والنقاد والشخصيات من رجال الفكر والمعنيين بحقول الابداع والمعرفة التي تساهم في خلق فضاءات واسعة للحرية وتأسيس جديد لحياة ثقافية بعد زوال الكابوس بدعوة من ملتقى البصرة الاول للشعر من اجل ثقافة حرة وبدأت فعاليات الملتقى على قاعة عتبة بن غزوان يوم الجمعة الماضي بكلمات ترحيبية بالحضور الواسع من الهيئة التحضيرية التي يشرف عليها الناقد حاتم العقيلي رئيس اتحاد ادباء البصرة تلتها كلمة وزارة الثقافة التي القاها ابراهيم الخياط الذي اعرب عن سروره بالمشاركة بهذا النشاط المتألق الذي يحيه البيت العراقي للثقافة والفنون والاداب والاعلام في البصرة مدينة الشعر والشعراء.

وعبر عن أمله باعادة الامان إلى ربوع بلاد وادي الرافدين واشار إلى ان الملتقى علامة من علامات حياتنا التي ستصبح في الانتخابات القادمة حياة يكون للمواطن فيها صوته وارادته وحق اقرار شكل ما يتمنى من عيش على صعيد مستقبل زاهر، فضلاً عن طموح الوزارة إلى بناء علاقات بالجامعات والسعي لمد الجسور المتينة من الابداع والمبدعين، بعدها القيت كلمة محافظ البصرة والبيت العراقي ثم استمع الحضور إلى قراءات شعرية اسهم فيها عدد كبير من الشعراء الشباب.

وفي الجلسة المسائية قرأ عدد من شعراء المحافظة والمدعوين من بينهم كاظم غيلان وغانم هاشم وعلاء عسكر وآخرون.

واستكمل الملتقى جلسته الشعرية الصباحية الثالثة وقرأ خلالها نخبة من شعراء العراق، فيما كرست الجلسة النقدية المسائية لتجارب الشعراء الرواد والمجددين في الشعر العراقي المعاصر وجرى العديد من المداخلات النقدية في قراءات قصائد الملتقى.

كما تلقى الشاعر كاظم غيلان خلال الامسية الثانية لملتقى البصرة اتصالاً هاتفياً من الشاعر مظفر النواب الذي حيى فيها المشاركين في الملتقى وبارك جهودهم كما اعلن عن عودته القريبة للعراق متمنياً النجاح بفعاليات الملتقى، وبعد توزيع الجوائز والشهادات التقديرية على المشاركين اختتم الملتقى وبقراءة البيان الختامي للمؤتمر الذي اشارت فقراته إلى ضرورة التذكير بأهمية الشعر خطاباً للابداع ومن هنا جاءت الخطوة التأسيسية الاولى للبيت العراقي للثقافة والفنون والاداب والاعلام في البصرة.

وتلقت لجنة الملتقى المزيد من برقيات التهنئة وباقات الزهور والتبرعات من مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب والمنظمات الثقافية والكلمات التي تحيي هذا المؤتمر الشعري الناجح بحضوره الرسمي والشعبي والاعلامي الذي اختتم فعالياته بشكل  فعال ومؤثر.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة