الاخيرة

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

صورته هناك

شاكر الأنباري

اكثر من عشرين سنة، وصورته تهيمن على الذاكرة. انهض من النوم وطعم أحلامه في فمي. أقرأ وتذكّرني الكلمات به. اختلي بنفسي فأسرح في أرضه وسمائه. عشرون سنة وهو بعيد. كاد ان يتلاشى في لجة اليأس وفقدان البوصلة. رأت العين مدنا كثيرة، وأنهارا، وجبالا مثل جباله. لكن رائحة تمر الملك والطلع وزهر البرسيم، تسبح دائما في الفضاء. لهجنا بوجهه ليالي وأياما، وكان الحاضر الغائب في كل حوار وندوة وخبر.

وددت له ان يختفي عن شاشات التلفزة، ويتلاشى من شفاه المذيعين. ثم لا يلبث ان يحضر باصرار، كل يوم، وسنة بعد سنة. في لحظات التفرد، والشرود، كنت احس كما لو أن نهريه يصبان في قلبي. نهران بكل ما فيهما من سمك وقواقع ورمال وحلفاء وغرين وقوارب وشباك. ولم اكن الوحيد.

ثمة الآلاف، وربما الملايين عاشوا هذه المشاعر. لأنه ظل نجمة بعيدة في افق سادر في غيابه.

كان أبعد من مجرة. وللزمان دورته. واذا بي اعود اليه ثانية، وأنا مكتظ بالمدن والوجوه والقصص والأحلام. لم يفاجئني. لقد تتبعت مسيرته دقيقة بعد دقيقة. شربت من مائه وسامرت شبابه وعشقت نساءه من مسافة نائية. لم يفاجئني حضوره، وهو يكشف لي في كل يوم عن وجه.

الأخاديد ملأت شوارعه وبناياته. الآلام لفّت مدنه، ولفعت حكاياته. وفي كل حكاية منها اهوال وأعاجيب.  كبر الموت فيه وراح يتجول في الشوارع والأزقة والساحات. كان يضرب بغتة ويغدر. وبقيت مثلما تعودت، اسامره كل غروب، وأبادله الحجج والهواجس. نخيله يسمق وسماؤه تتجمل. فصوله، ماطرة او ساحنة، ظلت كما عهدتها، ذات طعم خاص. شاب مما رآه وعاشه من مآس وأهوال. ولم أكف عن الانجذاب اليه، الى سحره في النهارات، وروعة ضيائه المنسكب قبل كل مغيب. قلت لنفسي لايمكن البقاء متفرجا وهو يدعونا جميعا الى بناء صورته من جديد. او على الاقل رسم صورة ثانية علّها تأتي اكثر جمالا من ذي قبل.

أدخلني في معاركه دون اي استئذان. معاركه اليومية التي لا تنتهي. كل يوم لا يغيب عنه النور ازداد ايمانا بعودته. كل يوم ارى اطفالا يذهبون الى المدرسة يعيدني الى زمان الطفولة السعيد. كل يوم يسكن موته ويغيب، احس انني اقترب من رسم ملامحه كما حلمت بها ان تكون. كل يوم يسهر الناس فيه ليملأوا شوارعه صخبا، تنضاف لبنة الى ذلك الفنار الذي ظل، ويظل، يجذب السفن التائهة الى مينائه. يقول بعض الاصدقاء: لم لبثت في كنفه، وشفرة الموت معلقة على الرؤوس؟ أرد: انها الرسالة التي كنا نرغب في ايصالها طوال عشرات السنين. لقد حان وقت العمل. حانت اللحظة التي ينبغي فيها الاختيار بين الراحة والفرجة والكلام، وبين الفعل وتعب الحركة والمشاركة في الصنع. سأحمل  فرشاتي مثل رسام، وأحاول ابتكار شكل جميل.

لايهم ان أتلوث بالأصباغ والفحم ونشارة الخشب، اذ تكمن المتعة في الرحلة. اما هدف الوصول فشيء ثانوي. اشهد اليوم اجمل الغروبات وأجمل الحورات. امتع نظري بمرأى الشغيل وهو يعيد طريقا الى الحياة، وبمرأى الفلاح الذي يسقي برتقالا وتينا وقمحا. ويشغلني ذلك الذي يمتلئ بالحماسة كي يقول الحقيقة. رغم انه ليس ثمة من وجه واحد للحقيقة. حتى صورته ليست واحدة. انها تتغير كل يوم وساعة.

وربما لكل واحد منا صورة له مختلفة. هذا التعدد هو ما اعيشه اليوم، وأنا اعود اليه بعد عقود. الموت لم يعد يرهبني. فالأحلام التي امتلأت بها سابقا زالت من ذهني.

 انا اعانقه وألمسه وأراه.  

وجوده اغناني عن سواه. وهذا ما دفعني الى البقاء بين ذراعيه.  


اشهر بائع صحف رئيسي في العمارة

العمارة-محمد الحمراني

مثل الكثير من الاطفال الذين نكبتهم حروب النظام السابق كان (حيدر كريم) قد اكتشف الحياة من دون ان يعثر على ابيه في المنزل وعندما سأل عنه، قالوا له لقد فقد في الحرب، فامتزج الالم مع الخوف في مواجهة سنوات مريرة، طوق بها الفقر عائلة (حيدر). ولكن من حسن حظه ان احد اقربائه السيد (حيدر حسين) صاحب المكتبة (العصرية) الشهيرة في العمارة..كان يبحث عن باعة صحف جوالين في حينها فعثر على (حيدر) الصبي صاحب الخمسة اعوام ومن تلك بدأت رحلته كبائع صحف جوال وصاروا يسمونه في المنطقة (حيدر ابو الجرايد).

الحروف تتكلم

كيف بإمكان شخص لا يقرأ ولا يكتب ..ان يعمل في مهنة بيع الصحف؟ وكيف بإمكانه ان يميز بين صحيفة واخرى؟..بهذه الاسئلة ابتدأ حديثي مع (حيدر كريم) الذي قال: كانت الحرب قد ابتدأت والكثير من الاولاد الذين في عمري.. لم تعد عوائلهم تشجعهم على الدخول الى المدرسة وكانت عائلتنا بحاجة ماسة الى المال.. ثم اضاف: لقد لاقيت صعوبة كبيرة في عملي في البداية.. فأنا لا اجيد الحساب وهذا ما جعلني اقع في شرك الاشتباه مع البعض. وعن كيفية تمييزه بين الصحف قال: انا اعرف الصحف من خلال تصاميمها والوانها المميزة في الاغلب..وفي بعض الاحيان عن طريق رسم الحروف الذي تتميز به بعض الصحف..قلت لحيدر: من وجهة نظرك هل هناك فرقاً بين الصحف التي كانت تصدر في عهد الدكتاتور وصحف اليوم فأجاب: على الرغم من انني لا اعرف محتويات الصحف جيداً ولكنني كنت اتشاءم من صحف النظام السابق فأغلب صحف اليوم ذات الوان براقة ولا تضع صور رجال الحكومة على واجهتها وهذا يدلل على أننا لم نعد نقرأ صحفاً تابعة لشخص واحد، قلت له كيف تبرهن على نجاح صحف ما بعد الدكتاتور فأجاب ان النجاح اكتشفه من خلال الاقبال الكبير على انتقاء الصحف ونفادها بسرعة ، وعن الصحف التي لها رواج كبير قال: انها صحف المدى والشرق الاوسط والزمان.. اما باقي الصحف فيكون الاقبال عليها اقل.

الادباء لا يقرأون

وحين سألته عن زبائنه الدائميين قال ان اغلبهم من الاطباء الذين احرص ان اوصل لهم الصحف في عياداتهم وكذلك بعض الاساتذة في كلية المعلمين وحين قلت له بأن المهنة ربما لا تكون ذات فائدة له مستقبلاً قال: انا احب هذه المهنة ولا اريد ان اتركها لانني من خلالها تعرفت على شخصيات مهمة في مدينة العمارة و طلب مني اشخاص كثيرون ان اترك هذه المهنة واعمل معهم ولكنني رفضت ليس لانني لا اريد ان احصل على مردود مادي جيد ولكنني اتحسس ان الصحف وحدها هي التي ستعلمني القراءة والكتابة! اما عن مردودها المادي فقال: مردودها المادي لا يتناسب مع الجهد الذي ابذله ولكنني احصل على متعة كبيرة وانا اتجول في الشوارع الرئيسة لمدينة العمارة وفي بعض الاحيان اجلس في الحدائق ويأتي بعض القراء ليشتروا مني. وحين سألته عن مشاكله مع القراء اجاب: طبعاً اغلب القراء في العمارة من الرجال وفي الاغلب يأخذون صحيفة وحين يشاهدونني اتجول مرة اخرى يقولون لي (بلكي تبدلهه). وايضاً يقول البعض وخاصة الادباء لانهم يشاهدون اكثر من خمس صحف ويقلبونها وفي النهاية لا يشترون ولا واحدة.  

رحلة العمل

يومياً يبدأ عمل (حيدر كريم) من الساعة التاسعة صباحاً الى التاسعة مساءً حيث يعود الى المكتبة العصرية، ليرجع الى الاستاذ (حيدر حسين) الصحف التي لم تبع في ذلك اليوم. وفي هذه الرحلة اليومية يردد (حيدر) العديد من الاغاني ويخفي في جيبه رزماً من دنانير ما بعد الدكتاتور.. فهو يعتبر اليوم الاول لعمله هو اليوم الاكثر سحرية مع عالم الحروف.. حيث كان يبيع الصحيفة بـ (250) ديناراً ويستمتع بمشاكسات الباعة الجوالين والاطفال والمجانين واصحاب المتاجر الكبيرة ويقول ان هذه المشاكسات هي التي صنعت شهرتي.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة