المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الوجدان

- 13 -

فائق بطي

لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن (المدى) بدمشق قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما رافقه من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.

(المدى الثقافي)

19 كانون الثاني 1990

اجتمع مع اثنين من اصدقائه في مكتب هادي منصور بمنطقة " ولزدين " بشمال لندن. جلس مع مجيد الحاج حمود وهادي منصور يتباحثون حول امكانية تأسيس حزب ديمقراطي تخلو الساحة العراقية منه داخل وخارج الوطن، سوى وجود تجمعات تتحدث بأسم الديمقراطية هنا وهناك. كانوا مقتنعين بأن مستقبل العراق يحتاج بعد تحرره الى حزب يحمل فكرة ومنهاج عمل يتمثل بدستور حكم واضح وان يكون حزبا منظما وفق قواعد تنظيمية سليمة، ولا يجوز ان يقبل في عضويته الا اصحاب السمعة الطيبة، ومن الذين يؤمنون بمبادئه. واتفقوا على عدم الاعلان عن تأسيسه الا بعد استكمال هيكلية الحزب، والبدء بالاتصالات مع الاشخاص الديمقراطيين، وعقد الاجتماعات الموسعة معهم من اجل انضاج هذه الفكرة.

وعد هادي منصور بالاتصال مع عبد الأمير الرفيعي والدكتور عبد الصمد نعمان، بينما وعد مجيد الحاج حمود الاتصال بابراهيم الشيخ نوري وهيثم محمد حديد.

حضر الاجتماع الثاني في 26 منه، اي بعد اسبوع، الذي انعقد في دار مجيد، هادي منصور، هيثم عجينة، عزيز الجصاني، ابراهيم الشيخ نوري ومحمد كبة.

اراد عزيز الجصاني ان يرشح الدكتور حسن الجلبي، للانضمام الى الاجتماعات، الا ان غالبية الحضور استبعدوه في الوقت الراهن. ثم تحدث ابراهيم الشيخ نوري وكان واضحا في حديثه، حين أكد على ضرورة عرض الأمور بجرأة امام الشعب العراقي، وان تعالج تلك الأمور جميع جوانب الحياة، ايده في ذلك، هيثم عجينة. كما ايد هادي منصور كلام ابراهيم وطالب بأن يكون للحزب تنظيم ديمقراطي واضح المعالم، يربط الجمهرة الواسعة من الديمقراطيين العراقيين في الخارج بالمئات من السياسيين الذين عملوا في احزاب ديمقراطية سابقة منذ الاربعينيات، داخل الوطن.

كانت الاجتماعات متقاربة ودارت المناقشات في جو ودي، تركزت الرؤى على شكل النظام السياسي وضرورة ان يعتمد النظام الجمهوري الفدرالي الديمقراطي نظاما للجمهورية العراقية. وان تشرع القوانين فقط عن طريق السلطة التشريعية المتمثلة بالمجالس التشريعية المنتخبة من قبل الشعب ديمقراطيا.

كان ابراهيم الشيخ نوري قد اطلع على ملاحظات سابقة واوراق عمل تناولت الشكل المطلوب للنظام السياسي والاداري في العراق بعد الاطاحة بالدكتاتورية، ووزع على المجتمعين،  الشكل النهائي للمشروع المقترح في جوانبه المختلفة، وفق التقسيمات التالية:

الديمقراطية - القضية الكردية - العلاقات الخارجية - الأمن الداخلي - القوات المسلحة - النظام الاقتصادي - القطاع الزراعي - الاخلاق والقيم الاجتماعية - الثقافة والتعليم.

في موضوعة النظام المهمة، كانت هناك نصوص عن الحقوق الطبيعية الاساسية لجيع المواطنين والانتخابات العامة، التي سيمارس من خلالها الشعب السياسة عن طريق مبدأ التعددية الحزبية وضمان حق تشكيل الاحزاب السياسية والعمل السياسي الحر.

وعن الديمقراطية، عدد الفصل المقدم كمشروع، المرتكزات والشروط  الواجب توفرها والتمسك بها من اجل تحقيق النظام الديمقراطي النابع من الواقع العراقي الحالي يكون حائزا على عناصر الديمومة والنمو الايجابي. وجرى التركيز على ضرورة تأصيل   وتنمية مفهوم المجتمع المدني في جميع مجالات الحياة الاجتماعية وبالاخص فيما يتعلق بما يلي:

- حرية المعتقد وخصوصيته وحرمته.

-  حرية بيان الرأي والتمسك به والدفاع عنه.

- - حرية الاختيار في كل المجالات المادية والفكرية.

- - حق المساهمة في ادارة الشؤون العامة وفي الحكم.

- حرية المعلومات وحق الحصول عليها ونشرها.

- حق مراقبة ومناظرة ومحاسبة وتبديل الحكام.

- قبول مبدأ التعايش الحضاري والتبادل بين المعتقدات والآراء المختلفة.

كانت وما زالت القضية الكردية من القضايا الهامة التي تتعلق بحاضر ومستقبل العراق. وفي السنوات الثلاثين الآخيرة، لم تنحصر كشأن داخلي عراقي، او تخضع لواقع او اعتبارات تتحكم فيها المصالح والمواقف الاقليمية، خصوصا في دول الجوار، ايران وتركيا، حيث تسكنها الملايين من ابناء الشعب الكردي، بل تعدت الى أن تحظى بالاهتمام، وتتحكم في سياسة الدول العربية والمجتمعات الدولية. فحل القضية الكردية في العراق يشكل الضمانة لوحدة العراق وتآخي قومياته واقلياته على ان يكون عن طريق تطبيق نظام لا مركزي فدرالي في الحكم، تمثل كردستان العراق احد أقاليمه ذات الاستقلال الذاتي وتحكم الاقاليم والمركز الفدرالي عن طريق مجالس تشريعية دستورية منتخبة بشكل ديمقراطي حر.

وفي مجال الأخلاق والقيم الاجتماعية، جرى التأكيد على اهمية التصدي الحازم للتردي الخلقي وتفشي القيم النفعية واخلاقيات الاثراء اللا مبدئي والانتهازية والانانية العدائية، والعمل على:

- تنمية الاعتزاز بالقيم الحضارية الاصيلة المتوارثة للشعب العراقي على اختلاف قومياته واديانه وطوائفه.

- القضاء علىالمحسوبية والتفسخ الاداري واستغلال المناصب الحكومية ومواقع المسؤولية.

- التصدي الفعال لابتذال الاخلاق واهانة الكرامة الشخصية وشراء الذمم بالمال والمنافع الذاتية.

- خلق وتنمية الوعي الاجتماعي باحترام العمل المثمر والنافع للمجتمع.

- تنمية النظرة والخلق الاجتماعي الايجابي في احترام اهل الفكر من العلماء والادباء والفنانين والمثقفين المخلصين لرسالتهم.

- محاربة وتعرية الرياء والنفاق الاجتماعي والمداهنة ونبذ من يمارس هذه الآفات الاجتماعية.

- خلق واحياء قيم سلوكية صارمة تثبت حدودا عرفية للحرية الشخصية ومواقع تداخلها مع حرمة الآخرين.

- التأكيد على اهمية الرابطة العائلية واصالتها.

- تنمية التآخي والتسامح واحترام الخصائص القومية والدينية والطائفية لجميع المواطنين، ومحاربة التفرقة والتعصب المبني على اي من هذه الخصائص.

في تلك الاجواء التي كانت فيها قوى المعارضة تتحاور وتلتقي لوضع مشاريع وبرامج وطنية، وتعقد اللقاءات والمؤتمرات لها في سوريا ولندن وفيينا وكردستان العراق، وضع الاصدقاء السياسيون الاربعة وهم هادي منصور، مجيد الحاج حمود وابراهيم الشيخ نوري، في اواخر شباط 1992، مسودة مقترح للدستور الجديد بعد الاطاحة بنظام صدام حسين، احتوى على 34 مادة.


 

صورة بطلات الحب في روايات الحب

(1-2)

*علي بدر

أمام صورة الأبطال التاريخيين، الصورة الحربية والهوميرية للقوة، هنالك بطلات الحب اللواتي يستمدن قوتهن من عذوبتهن ورعشاتهن الآسرة أمام الحب، لقد خلق مارسيل بروست في رائعة البحث عن الزمن المفقود شخصية "أوديت" من زمانه وحقائق وجوده ومن واقعة الحب التي هزته في إحدى الحفلات الموسيقية التي كان يحضرها في ليلة من ليالي باريس، وصنع من "جيلبرت" التي أحبها "سان لو" أعجوبة من طمأنينة ساذجة ومتلهفة وشهوات غامضة وإحساس بالبهجة تمكن منه في الختام وقضى عليه، كما جعل بروست من بطله صورة مطابقة له في الحب، فسوان" كان يحرص أشد الحرص على مشاهد الحب الكلاسيكية والتقليدية في الأدب المكتوب، وحين قطفت "أوديت" زهرة أقحوان وأعطته له، أمسك بها ملتصقة بفمه طوال الرجوع، ولما ذبلت خبأها بكل حرص في مكتبه.

 لقد تاهت "أوديت" بطلة بروست في عوالم سوان الغريبة والمتناقضة وعاشت كل خيبات الأمل الكاذبة وسورات الحب دونما أمل بامتلاك سوان، لقد عاشت ذائبة بحبه من دون أن تعرف لعذابها حدا أو توقفا وكانت تدرك أنها سائرة في طريق لا تؤدي ولا تفضي إلى طريق مفتوح، وكان خوفها على ضياعه يشبه خوف إيما في رائعة مدام بوفاري التي خلقها فلوبير من ضميره الخاص ومن تجاربه، خلقها من عذابه المتوقد في الحب والذي لا يعرف هو الآخر الحدود المعترف بها في مجتمع روان، خلقها وقد فاضت حنانا أمام كل الرجال الذين صادفتهم من دون أن تعثر على من يصل إلى قلبها، فبطلات الحب في الرواية الغربية في القرن التاسع عشر: أيما في مدام بوفاري لفلوبير، أنا في أنا كارنينا لتولستوي، فيلاباريسي في جان سانتوي لبروست، سونيا مارميلادوفا في الجريمة والعقاب لدستيوفسكي، أوجيني Eugénie التي صنعها بلزاك ملهاة إنسانية من طبائع الحياة الباريسية، وبطلات زولا وديكنز وبطلات مارتن دوغارت وهوغو هن ضحايا الرغبة المطلقة لامتلاك العالم عن طريق الحب، لقد كان إغراء الحب أعظم بكثير لديهن من إغراء الحياة فوهبن الرجال الذين أحببنهم أحلامهن المقطرة وسبل ضياعهن، وعشن على أمل في الحصول على الإله الأرضي بعد الانفصال الميتافيزيقي عن السماء، وتحول الأخلاق النبيلة في الحب التروبادوري من التقشف الملزم إلى الأنانية والجشع الجنسي بعد أن انهيار الإقطاع أمام الرأسمالية الظافرة، لقد آمنت بطلات الحب بالحب الذي يخدعهن على الدوام، ليس بصدد من أحببنهم فقط إنما يضفي الحب على المكان جمالا كئيبا لا يمتلكه، وتزيف عواطف الحب الأشياء وتظهرها بغير مظهرها الحقيقي، وتمكث بطلة الحب وحدها قيمة شعرية أعظم بكثير من حقائق الوجود، حقيقة داخلية مبنية على أحزانها، وقائمة في خيالاتها، لكنها أكثر صدقا من أية حقيقة أخرى.

زينب مثال هلويز الجديدة

 بدأت الرواية العربية بصناعة صورة بطلة الحب منذ رواية زينب (1912) لمحمد حسين هيكل، فبطلة هيكل هي صورة عن جولي بطلة هلويز الجديدة Héloise لجان جاك روسو وقد أرغمت رقتها وعذوبتها هيكل على تقليدها وتقديم صورة حرفية عنها في الثقافة العربية، فكانت أول خطاب روائي يحقق قطيعة كلية مع الخطابات السردية السائدة في زمانه أو التي كتبت قبل هذا التاريخ، وكان هيكل يدرك إدراكا تاما وهو في باريس أن صورة مدام ديناني ومدام داسايران ومدام دوتو ومدام ديكسلمو اللواتي يعتبرن أزوجهن عشاقا شرعيين قد تهدمت في الثقافة الغربية إلى الأبد، وتهدم الطهر القاسي الذي كن يؤمن به بعد أن حطمته "جولي" و"سان برو" بوصفه عائقا منافيا للطبائع البشرية، وأنتج روسو جيلا أباحيا رقيقا وموكبا ضخما من المؤمنين الذين أبدعوا نظرية رقيقة جديدة عن الحب هي التي ألهمت صورة زينب في الثقافة العربية. لقد صنع هيكل في أول رواية عربية صورة بطلة الحب على مثال أباحي جديد، ولكنه انفصل كليا عن مثال المومس الذي قدمته الثقافة الغربية في رواية آنسنت، والذي أنتجه ديفو وزولا فيما بعد، إن جولي هي أعظم مثال للحب في أوروبا انذاك وقد تلقفه هيكل ببراعة وأعاد إنتاجه في أول رواية عربية. زينب هي صورة الحب المحطم، الصورة المأساوية التي كان على الثقافة العربية على الدوام استرجاعها، أو البحث عنها، وما عاد بمقدورنا أن ننساها بعد أن أنتجتها هذه العبقرية الفطرية وهي مندهشة من القبلة التي طلبتها الفتاة من سان برو في هلويز الجديدة، فالقبلة الساحرة التي لم يكن يفهم سان برو سرها هي التي هزت هيكل من أعماقه، وجعلته يمثل شعريا وفي العمق أمام وجود مؤسس غير وجوده، وقد شعر هيكل وهو في باريس حين كتب روايته زينب أن القبلة هنا هي ضرورة قاهرة وليس مصدرها المزاج البحت وهذا ما يشير إليه خطاب سان برو لجولي وهو يقول: " ماذا عراني بعد لحظة من ذلك حينما شعرت..بأن يدي تضطرب..برعشة رقيقة بفمك ..فم جولي يلتقي بفمي وينضغط عليه وبجسمي بين ذراعيك ..كلا ليست نار السماء أقوى ولا أسرع من تلك النار التي أحرقتني فقد اجتمعت كل أجزاء وجودي لترشف هذا الملمس العذب، وتطاير اللهب مع تنهداتنا من شفاهنا المحترقة وهمد قلبي تحت حمل اللذة..نعم رأيتك فجأة وقد ذهب لونك، وقد أقفلت عيناك الجميلتان واستندت إلى لحمك ثم سقطت..". لقد دفع هذا المشهد العاطفي المتفجر على الرغم من بلاغته القديمة هيكل إلى ابتكار مشهد هو من أجمل مشاهد الحب في الرواية العربية على الإطلاق، قبلة حامد لزينب التي صورها بعاطفة صادقة على الرغم من ضعف صياغتها السردية، وتردده وضعف قابلياته الفنية:

  سارت زينب للقاء حامد وجعلت تحدثه حديثها المعتاد، وهو سعيد تائه في لذته بسماعها، وأحست به يمد يده يطوق بها خصرها، ويجذبها نحوه، فتركت نفسها له لحظة حتى إذا أحست بشفتيه تقابلان شفتيها وشعرت بكل ما في قبلته من حرارة، انبرمت مرة واحدة مبتعدة عنه ثم مالت برأسها نحوه وقالت: أختي تشوفنا وبعدين تروح تقول لابويه..".

كانت زينب صورة مشتهاة ومرغوبة من الأنتلجنسيا المصرية الشابة المتحررة التي وجدت في أفكار لطفي السيد والليبرالية السياسية المصرية آمالها، وكانت المرأة هي الرأسمال الرمزي الذي حاربت من أجله البرجوازية المصرية الناشئة والتي قادها حزب الأمة وجريدة الجريدة، فلا غرابة أن نجد هيكلاً قد نشر رواية زينب متسلسلة في جريدة الجريدة، وكان صدورها هو حدث مهم نسبة للشباب المتنور من جيله، لقد شعر هذا الجيل أن واقعة الحب يمكنها أن تغير مجتمعا بأكمله، فلم تكن صورة زينب رمزا للحب وحسب إنما هي رمز للشعور بامتلاك العالم عن طريق الحب، وضياع العالم مع ضياع الحب، وكانت هذه الرؤية الكلية هي أكبر أحلام العصر، الحب وهو يجمع في آن واحد اندحار الأبطال وانتصارهم من أجل عواطفهم الذاتية، لقد كانت أفكار جون ستيورات مل عن الروح الفردية والأحلام الذاتية ومكانة الفرد وحقوق الجسد هي ملهمة لطفي السيد بحق، وأثر الأخير بجيل بأكمله، وكان الغرام بمي زيادة من قبل ذلك في الجيل، وتصعيد صورتها بوصفها ممثلة لبطلة الحب أكبر رواية واقعية كتبتها أقلام الكتاب وعواطفهم في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة.

صورة الحب المفجعة وبطلة محفوظ

إن صورة بطلات الحب في روايات الحب هي صورة مأساوية ومفجعة، فالعاشقة في روايات ستندال ودستيوفسكي ومالرو هي نوع من المأساة الأخلاقية والميتافيزيقية، وتتقدم الرواية بخط واحد تقريبا لتنتقل من التصوير السايكولوجي لعواطف المرأة إلى النهاية المأساوية التي يصنعها القلق الدائم في عدم القدرة على امتلاك الحبيب أو حتى التهامه، على خلاف الرواية العربية التي تتقبل من الواقعية البدائية في الغرب بعض أسسها، فلا يسعى السرد وراء بطلات الحب كما تفعل روايات باسكال لينيه وبرنانوس، إنما تسعى سعيا واضحا خلف التأثيرات الفنية والإحساس العادي وتثبيت الأشخاص والديكور في أسلوب لا يخرج عن المألوف في تصوير واقعة الحب، إلا باستثناءات قليلة.

لقد صنع محفوظ في خان الخليلي واحدة من أروع روايات الحب والمصير في الثقافة العربية على الإطلاق، وعلى الرغم من أن مقصده في هذه الرواية هو رصد تحولات المجتمع المصري الثقافية والاجتماعية والسياسية في غضون الحرب العالمية الثانية إلا أنه صنع ببراعته المتمهلة وبخياله الذي لا ينضب بانورما هائلة للحب المأساوي العظيم الذي ينتهي نهاية فاجعة، إنها رواية مصير مفجع للبطلة التي تبقى على قيد الحياة دونما أمل في شفائها من الحب أكثر مما هي نهاية مفجعة للبطل الذي مات ودفنت أحلامه وآماله معه. تقترب ملامح بطلة محفوظ في خان الخليلي من أرمانس Armance بطلة أونريه ستندال التي تكتم حبها الجارف والقاسي لأوكتاف المغامر غريب الأطوار، وحتى بعد رحيله وشعوره بالخداع فإنها تدرك كما لا يدرك أوكتاف أن الحب لا يكافئ إلا بالموت، وهكذا تاهت أرمانس في حبها من دون أن تعرف أن هذا الحبيب الذي هجرها ورحل بعيدا عنها كان عنينا، مثلما كان رشدي عاكف في خان الخليلي مسلولا وبالتالي منعت حبيبته من معاودته أو الوصول إليه. لقد أدرك محفوظ مصير بطلته بعد أن كانت تطل من شباك صغير في منزل أهلها المؤجر في حي الحسين قادمة من حي السكاكيني بعيدا عن قصف الطائرات عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، من دون أن تعرف بأنها ستتعرض إلى عصف هائل في ضميرها ومشاعرها وهي تتملى بوجه الرجل الذي يبادلها النظرات من دون أن يتمكن من مكالمتها، كان محفوظ يريد لنا أن ندرك أن بطلته تريد أن تحب بأي ثمن، وهذا الحب هو الذي جعل الأبطال جميعهم تقريبا يقطعون صلاتهم الكاذبة بكل ما عدا المحبوب، لقد جعل محفوظ من الحب أسطورة فذة لكنها لا تفضي أبدا إلا للأفول.

  صورة بطلة الحب هي صورة محلومة في كل آداب العالم، صورة مشتهاة ومرغوبة بقوة لا من قبل الساردين وحسب إنما أيضا من قبل أولئك الذين يريدون أن يحلموا بالحب وهم على حافة النهاية والهلاك، وقد هيمنت صورة الحب على مشاهد الحرب والقتل والدمار لتلطف من الطبيعة البربرية للإنسان بآداب الحب التي صنعها الفرسان، لا في الغرب وحسب إنما في الشرق أيضا، فقد كان التراث الشعبي العربي المبكر يجعل من العاشقة نورا يضيء في شفق الليل، وحين يتوه الفارس على جواده الأشهب في الظلام الدامس في الصحراء الكائنة جنوبي البصرة يستدل عبر هذا النور من العينين المتوهجتين للعاشقة على طريقه. يخضع مفهوم بطلة الحب لتصعيد أكبر وهو يشع مثل شفق الليل الروحاني بعذوبته في الحكايات العربية القديمة لتتحول أهواء الحب عند العاشقة إلى نار تبيد وتحرق، ولكنها تحرق هبة الأعماق التي تسود كل حضور، تحرق صاحبته أولا.


بورديو مصورا فوتوغرافيا

عرف بورديو مفكرا وعالما للاجتماع وفيلسوفا وضع الكثير من النظريات الجديدة في علم الاجتماع والانثروبولوجيا الثقافية، فضلا عن اسهاماته في الاقتصاد ، ونقد الاتجاهات الاعلامية المعاصرة، لكن معظم العالم لم يعرفه مصورا فوتوغرافيا الا قبل مدة وجيزة من رحيله عام 2002 عندما قرر ارسال ارشيفه السري الى مؤسسة في جنيف والسماح بعرض مختارات من اعماله الفوتوغرافية التي عمل عليها اثناء وجوده في الجزائر كاشفا بذلك عن جانب مهم من اهتماماته مضفيا على تلك الاعمال الفوتوغرافية موهبته الكبيرة . ويقام الان معرض لاهم اعماله الفنية الفوتوغرافية في متحف الصور في مدينة اوميو السويدية تحت عنوان " في الجزائر" وعن المعرض وفكرته قالت فريز نغهيل  : سلمني بورديو أرشيف صوره الفوتوغرافية قبل وفاته بأشهر . ذلك الارشيف الذي احتفظ به طوال حياته ، فقد توصل هذا المفكر الى ان جميع اعماله توصل الى نتيجة مفادها ان اكثر دراساته النظرية اهمية في كل هذا الامتداد كانت دراسته في الجزائر . ومن هنا جاء الكشف عن هذه الاعمال الفوتوغرافية التي استخدم بعضها في دراساته على جانب من الاهمية. وربما كان بورديو خجلا حسب ما تقول فريز مما سيقوله العالم عن فيلسوف اصبح بين ليلة وضحاها مصورا فنيا فوتوغرافيا. لكنه من المؤكد انه فكر بنوعية الصور ومستواها الفني. ومن الجدير بالذكر ان المعرض اختار 600 صورة من اصل 2000 اصل نجاتيف صورها بورديو في رحلاته بين مدن الجزائر.


 

انطباعات هائمة في معرض فرانكفورت للكتاب

بتول خضيري

ترجمة / عادل العامل

دخلت معرض فرانكفورت للكتاب بدبوس للزينة على بلوزي يمثل خارطة العراق. وكانت الأضواء الكاشفة المسلطة من أجنحة الناشرين تتوهج في الورق المخرم والملصقات الصقيلة ووجوه الزوار. وقد أعادت لي رائحة الحبر الدخاني ذكريات أمي السكوتلندية الراحلة، وهي أمينة مكتبة في أدنبرة في الخمسينيات من القرن الماضي. وكانت تدعوني لأن أصبح كاتبة، وقد دعت الجامعة العربية الكاتبة إلى فرانكفورت.

لقد كانت تعتني بمئات الكتب: تنفض الغبار عنها، تؤرشفها، وتدللها، لكنها لم تكن لتحتفظ بها في البيت أبداً، وفي بغداد، كانت ترتب بفخر الانسكلوبيديا البريطانية، لكنها ما كانت لتعرض على رفوفها على الإطلاق أية روايات. وكانت فلسفتها: الروايات ينبغي أن تدور بين القراء. وعلينا ان نصرف أذهاننا عنها، إن ندع القصص تنتشر". وقد رحت، وأنا مسكونة بهذه الفكرة، أبحث عن روائيين زملاء.

لقد سلطت مناسبة الافتتاح الضوء على أهمية بناء جسر بين الشرق والغرب. وتناوب المتحدثون: المستشار الألماني، السيدة عمدة فرانكفورت، الأمين العام للجامعة العربية، رئيس اتحاد الناشرين الألمان، وممثل نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل.

ولم تدل السيدة الأولى مبارك بأي حديث. وبدلاً من ذلك، كان لها ملصق في الجناح المصري مع صورة لها، يقول: "القراءة للجميع". وقد زعموا أن 1.000 كاتب، وروائي ومفكر سيكونون هناك، منهم 300 من العالم العربي.

وقد أشير إلى الحدث باعتباره مهرجاناً لحب الاستطلاع، يرحب بالمجهول، الغريب، الأجنبي، المجهول، الفاقة والأزمة. وانتهى بالكلمات الأساسية، العالم الثالث. وقد تنوعت الآراء: "الإسلام معمم"، "إنه ليس عن الصدام بين الثقافات، إنه عن مكافحة الإرهاب"، "إن المسالة ليست عمن كان على صواب، إننا جميعاً مسؤولون الآن عن الاستقرار والديمقراطية"، "إن كل ما يحدث في العالم ناشئ عن الكلمة المكتوبة". وبدا الذكر الموجز لقضية فلسطين شبيهاً بالتاريخ، أما قضية العراق فقد بدت أشبه بالمستقبل.

وكان المتحدثون، وقد بدت خلفهم أزهار عباد الشمس، منهمكين بالمصطلحات النباتية، وهم يقولون: "إن الكتاب يشبه حديقة تحملها في جيبك"، "نريد أن نشم ورود حديقتك"، "أزهار الضوء"، و"ثمار الثقافة". وفي مقابل لورا أشلي، أصر العرب على أنهم كانوا مصدر المعرفة منذ فجر الحضارة، وهي واقعة سلم بها الألمان بطريقة دبلوماسية.

وقد أدركت أنا موضوعاً جانبياً: "هاي، أيها الغرب، دعنا نحسم الأمر. لقد حصلت على علومنا، والآن تمتلك التكنلوجيا. ونحن نكتب عن تعاساتنا، ويمكنك الآن أن تساعدنا على نشرها - وربما تكوين بعض المال".

لقد تعلمت أن أدرك مواضيع جانبية عندما كنت صغيرةً. فقد كنت مترجمة أمي. وكان واجبي أن أشرح لها المراد في لغة أهل أبي. وبذلك تعلمت فن التبسيط. وإنه لممتع ما ينتقي المرء وسط الاختلافات في الثقافات.

ومن نزاعات أبي وأمي تعلمت ما ينبغي وما لا ينبغي فعله.

وفي هذا التجمع الثقافي، حاولت أن اتذكر أن لا استعمل كلمة مستشرق بحضور باحثين في الثقافة العربية، ولا استعمل تعبير مستعرب بحضور فلسطينيين. وأعجبني تعبير مسؤول ألماني صنف الحدث باعتباره "مدنية المصارعة الفكرية". وأنا أحيي بوجه خاص جنوده المجهولين، المترجمين. وقد تتبعت زادهم الإعجازي في وقت قصير جداً، وهو يكاد ينفد في ترجمتهم الأعمال العربية إلى الألمانية، بعناية عظيمة. فهم بناة الجسور الحقيقة.

وعلى امتداد حفلات تبادل الآراء، أحسست بان هناك تأكيداً كبيراً على أسئلة مثل: من نحن؟ من هم؟ لمن تعود الرواية؟ ما الذي تعتبره موطنك؟ وقضية الهويات المزدوجة. وكانت الموضوعة تكرر نفسها إلى الحد الذي جعلني أقرر حين كان يسألني أحدهم "أين تعيشين؟"، أن أتخذ موقفي العالمي: "في رأسي، وعندما أود الكلام، افتح فمي لأدع نفسي تنطلق".

وخلال أربعة أيام غامرة من التشجيع الذاتي، أدهشني اختيار مواطني العراقي لما يقرأ. فقد كان قصة قصيرة عن جريمة شرف حيث يمسك الرجل بشريكته الأنثى وهي تعبث مع رجل آخر. وتنطلق النار من بندقية رشاشة في المشهد، وتتدفق دماء المرأة في السرير!

بعدها، حاولت أن أحرر نفسي من خلال حضوري لفعاليات موسيقية عربية. وكانت شهرزاد فكرة طيبة. لكن رمسكي - كورساكوف كان مطروحاً على الجمهور الغربي، سوية مع مقطوعة مبالغ فيها في الراقص الشرير الذي يقطع بخنجره العربي رؤوس عشر من النساء الجميلات!

والتقيت مصادفة، وقد هبط اندفاعي، خليل شوقي، وهو ممثل عراقي متمرس في الثمانينيات من عمره، فقلت: "لست واثقة من أن كتابتي ستسهم في تغيير العالم، كما توقعت كل هذه الخطابات". فرد قائلاً: "تعود لك الكيفية التي تستخدمين بها قلمك. فالكائن البشري مثل البخار: يستطيع أن يحرك قطاراً أو يحدد نفسه بغلاية".

عن / الغارديان

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة