اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الأيديولوجيا والهيمنة

 

(2-2)

ترجمة: محمد حبيب

عندما لاحظ لاكلو و موف أن لا شيء يعتمد على كيف يمكن تصوّر الأيديولوجيا، ألهمهما تفسير غرامشي للأيديولوجيا والهيمنة أمرين مهمين:أولاً, بالنسبة لهما, يعترض غرامشي على القراءات الأيديولوجية ذات " البنية الفوقية" باعتبارها وعيا زائفاً بإبرازها الأيديولوجيا كشكل من " الرابطة العضوية" التي تدمج كتلة تاريخية مع مبادئ أو أفكار معيَّنة. ثانياً, إن تفسير غرامشي ضد الاختزالية، أي أنه لا يعتبر الأيديولوجيا مرتبطة بالضرورة وحتما بالطبقة. ويلاحظان أن (المواضيع السياسية) ليست خطابات قوية أو دروساً، بل " إرادات جمعية" معقدة. وبالتالي لاتمتلك أيديولوجيا الهيمنة الطبقية أي " انتماء طبقي بالضرورة". وهذا يسمح للاكلو و موف أن يجادلا في مفاهيم مادية حول الأيديولوجيا, أي أنها, رغم ذلك, ليست ببساطة وبالضرورة مرتبطة بالطبقة. وإذا لم يكن دور الأيديولوجيا مرتبطاً بالطبقة، يحمي ويطوّر مصالح الطبقة الحاكمة (كما تتصورها الماركسية)، فما هو دورها إذن؟ من الواضح أنها طريقة لتلفيق فهم اجتماعي مسيطر تخضع له غالبية المجتمع. ما ضرورة ذلك؟يكمن جزء من الإجابة على هذا السؤال في طريقة مفهمة المجتمع عند لاكلو وموف.

وفقا للنسخة الاجتماعية المتضمنة في المخيلة اليعقوبية التي أوجزناها آنفا، أنشئ المجتمع ككل إجمالي متكامل يمكن فهمه وتحليله بتحليل بنيته الطبقية, نمط الإنتاج وما شابه ( يمكن معالجته كنتاج لقوانين التطور الاقتصادي, وعلى أنه نظم بهذه الطريقة لضمان مصالح الطبقة الحاكمة- ويمثلها من يملكون ويسيطرون على وسائل الإنتاج). بالمقارنة، يرى لاكلو وموف كشيء" مستحيل"، يقصدان بهذا أن هناك مبدأ واحداً مكوّناً من تكتلات.ويمكننا القول, بطريقة أخرى, أن المجتمع لا يمكن فهمه فقط في ضوء الطبقة, بل أنه يجب أن ننتبه إلى الطرق التي يعمل وفقها الجنس( ذكورة/أنوثة), العرق/الإثنية، الجنسانية وما شابه.وبدلا من الجدال بأن المجتمع مدعم بمنطق لازب ( منطق الرأسمالية), يجادل لاكلو وموف بأن تلك الترتيبات عرضية( محض صدفة).

هنا تصبح الأيديولوجيا ضرورية، لأن المجتمع ليس وحدة متكاملة. فيكون دور الأيديولوجيا محاولة فرض القيود عليه، أي أنها محاولة لتقديم طريقة لإيجاد معنى للعالم الاجتماعي الذي يتناوله وكأنه محدود ويمكن معرفته في حين أنه ليس كذلك. وهنا تدخل الهيمنة ميدان اللعب. لم تكن هيمنة غرامشي  بحد ذاتها مضمونة وغير أكيدة، نضالاً متواصلاً بين كتل متنافسة هدفها فرض هيمنة أيديولوجيتها.  هذا يوحي لكلٍ من لاكلو وموف, في مغالاتهما بأفكار غرامشي, بأن الاجتماعي يُجسّّد عبر خصومات متقاطعة. تحاول مشاريع الهيمنة أن تخلق من مستنقع الخصومة شكلاً من النظام الاجتماعي بجمعها أولا ثم بتعديلها(بمفصلتها, حسب تعبير لاكلو وموف), عناصر مشتتة. وهكذا يمكن للمشروع الديمقراطي الراديكالي أن يقرِّب بين المجموعات النسوية, الحركات العمالية, المجموعات المناهضة للتمييز العنصري وهلمّ، يمكن أن تجادل في أن المجتمع عموماً متفاوت, وقد يجادل بإمكانية تحقيق الديمقراطية الكاملة فقط عندما يتم إقناع كل العناصر الاجتماعية المناهضة للديمقراطية بحق الديمقراطية في الوجود. وهكذا يتم إنتاج أيديولوجيا ( فيما يخص المساواة) مؤازرة لهذا المشروع.

إن لاكلو وموف ما بعد ماركسيين، بمعنى أنهما يمزجان أفكار ما بعد بنيوية داخل إطار ماركسي منقّح، ويفسران الخطاب- بوصفه أساس الأيديولوجيا. إشارة إلى فكرة أن كل المواضيع والأفعال لها معنى, وهذا المعنى مشتق من منظومة أحكام لها خصوصية تاريخية. هكذا يرى الخطاب النسوي الراديكالي النساء موضوع اضطهاد المؤسسات البطريركية كالعائلة، حيث يرى الخطاب المحافظ في النساء أنهن خلقن طبيعيا من اجل حياة الأسرة.يؤسس هذان الخطابان نظام علاقات( عارضة) بين ممارسات ومواضيع مختلفة. علاوة على ذلك, إن كل موضوع قد أُسّس كموضوع خطاب. لكن هذا لا يعني أن لاكلو وموف ينبذان فكرة وجود عالم مادي خارج الخطاب. كل ما يعنيه هو أننا لا نستطيع أن نفكر في ذلك العالم   أو نفهمه أو نعمل داخله بدون استخدام خطاب ( منظومات قوانين اجتماعية مؤسساتية).

يجادل لاكلو وموف, مرددين فوكو, بأن الخطابات تؤسس مواقع الموضوع التي يمكن للبشر داخله أن يطابقوا( النسوية الراديكالية, المرأة, الأم, أو المحافظة- إذا أردت أن أكرر مثالي السابق). وكما هو الأمر لدى فوكو، يرى لاكلو وموف أن الخطابات بنى سياسية. إنها محاولات لتأسيس معنى ولتثبيت ممارسات بطرق خاصة.وكما يبيّن ديفد هوارث: العناصر التي تصنع خطاباً, والخطابات ذاتها, لا تنطوي على أية جوهر ثابت, بل يمكن للأفعال السياسية أن تعدلها باستمرار‘. الخطابات طارئة، تعود إلى النقطة الأولى بخصوص محاولات الأيديولوجيا لتثبيت المعنى, ويجب أن يكون واضحاً الآن أن الأيديولوجيات بحد ذاتها خطابية. قد نراها كمنظومات معنى ينتج حقيقة اجتماعية ودليلاً سياسياً.

وبدلاً من التفسير الماركسي للأيديولوجيا كمحدد اقتصادي, يقدّم لاكلو وموف تفسيراً ما بعد ماركسياً للأيديولوجيا باعتبارها عارضة واستطرادية. يعيدان صياغة فكرة غرامشي عن الهيمنة باستئصال  كل العوامل الطبقية منها.ذلك أن نشاط الهيمنة, بالنسبة لهما لا يرتبط بالطبقة, بل يبيّن بجلاء مواقع مواضيع مختلفة وهويات في مشروع سياسي عام.جزء من هذا المشروع السياسي هو جيل الخطاب السياسي أو الأيديولوجي الذي يحاول أن يقرر معنى الاجتماعي. إنه يحاول تفسير طبيعة السياسي في أي زمن معطى.بما أن تفسير لاكلو وموف يلغي معظم, إن لم يكن كل, الملامح الأساسية للماركسية, يناقش النقاد أن لقب ما بعد الماركسية مضلل: ومن الأفضل إسقاط كل مزاعم الماركسية. هذه نقطة موضع نقاش. من الواضح أنهما ينجحان في تقديم إعادة مفهمة مقنعة حول الأيديولوجيا مناسبة أكثر للعالم السياسي إذ يبدو الصراع الإثني أكثر أهمية من الصراع الطبقي، حيث تمزق كل المجتمعات من قبل الفئات المتصارعة. 

 

 


اسطورة النص أو:ميثولوجيا الخطاب السياسي

مقاربة نظرية في نقد اليسار العراقي الجديد

علاء جواد كاظم

باحث أكاديمي

"… لقد جذبتنا الماركسية اليها و بدلت شيئا فشيئا افكارنا , و طردت منها كلما ثبتته محاكمات المنطق البرجوازية , و لكنها لم تستطع ان تروي كل ظمئنا لفهم العالم , فليس للماركسية ما تقوله هنا في هذا المجال الخاص الذي وضعنا انفسنا فيه , و ليس لديها ما تعلمنا اياه من جديد , لان الماركسية قد توقفت"

جان بول سارتر ..1946/   المذهب المادي و الثورة

 

 "…ان ما اعطى الماركسية قوتها و غناها, هو انها كانت اكثر المحاولات جذرية لايضاح التطور التاريخي في جملته .و على العكس من ذلك , اخذ ظل الماركسية منذ عشرين عاما يلقي الغموض على التاريخ .و علة ذلك ان الماركسية قد كفت ان تعيش مع التاريخ لتحاول بدافع من نزعة محافظة بيروقراطية ان ترجع الحركة الى الهوية …"

جان بول سارتر ..1946/  المذهب المادي و الثورة

 

يتفق أو ينُظر بالاجماع الى الفلسفة الماركسية على انها بناء نظري او منظومة معرفية متكاملة تنم وتنطوي على رؤية شاملة تضبط او تبين العلاقة بين الانسان ( بتجرد عن هويته و قوميته و انتماءاته المختلفة )من جانب و العالم من جانب اخر , هذه المنظومة المعرفية مطالبة بتوضيح الخطوط العامة التي تتحكم بمسيرة المجتمع و تكشف عن المحركات الحقيقية و الموجهات الاصيلة للتأريخ و التقدم الاتساني برمته ، على ان تكون هذه الفلسفة قادرة باستمرار على تقديم تصور شامل ووصف حقيقي لطبيعة المجتمعات او العلائق الانسانية فيها و شرحها بشكل يمكٌن حاملها من تنمية او تطوير او تعديل او حتى فهم الية سير وتفاعل و نمو تلك القضايا مجتمعة  …

 و الامر المفروغ منه تماما ان ليس ثمة نظرية تحمل المزايا المشار اليها في اعلاه والتعقيدات الاخرى التي تمكن النظرية الاجتماعية ان تفسر "تماما و بشكل كلي جميع مظاهر الاجتماع البشري والابعاد التاريخية  لهذا الاجتماع , او حتى جميع العوامل و الاسباب و القوى التي تنطوي عليها مرحلة او قضية تاريخية ما , فهناك  دائماً ما يخرج عليها وما لا ينسجم معها او يقف خارجها , و لكن هذا لا يعني اننا لا نستطيع الوصول الى نظرية علمية في الاجتماع و التاريخ , فالمقياس العلمي  للنظرية الاجتماعية في هذا المجال هو في الواقع "مقياس نسبي و يرتبط بدرجة بما يوفره لنا من ناصية من امساك بناصية الواقع التاريخية الاجتماعي الذي نعانيه . فبين النظريات التي تفسر قضية او مرحلة تاريخية ما , تكون النظرية التي يتوجب علينا اعتمادها هي التي توفر اكبر درجة ممكنة من هذا الامساك. " (1)

هذا بايجاز ما يبتغيه المرء المنتمي الى هذا الحقل الفلسفي و المتعامل معه من الداخل او الخارج و لمن هو بحاجة ماسة لنموذج معرفي متكامل …او من يبحث عن وجهة معرفية تنتهي عندها رحلة التسكع المعرفي و يضاء له  منها ما بقي من رحلة العمر الثقافي الماضي سريعا الى حتفه و نهايته في الشرق , ناظرا اليها و مكتشفاً فيها ايماناً جديدا و رؤية تهديه و لا تضلله بعد ذلك…

ويذهب جان بول سارتر الى ابعد من ذلك مشيرا الى ان من ينتمي الى الفلسفة الماركسية او يتبنى اليسار هو بحاجة ماسة الى فلسفة " تغير وضع الانسان و تقول له : بان التاريخ قابل للتوجيه , وان بمقدور الانسان صنع التاريخ ….أن الفلسفة التي ينتظر عليها ان تؤكد له"  ان وضعه غير محتوم , لا مقدر عليه , وان قيم الاسياد التي تفرض عليه ليست مطلقة ولا محتومة , و انه حر و قادر على تجاوز اوضاعه في مشروع ثوري يهدف لصنع مستقبل ترتسم امامه ملامحه …(2)"

ما تجدر الاشارة اليه ان  كل فلسفة تشكل وتتشكل نظرياً بأستمرار   في نفس الوقت الذي تشكل النظرية فيه في الاجتماع و التأريخ او السياسة الاساس الحقيقي والبناء الفعال الذي تستند اليه الايديولوجيات فيما بعد،  وبالتالي  فأن كل نظرية  فلسفية –أجتماعية هي جزء من بنية اساسية او خطوة لبناء مشروع  ايديولوجي كلُي لجماعة معينة  او تيار او أتجاه او حتى منظمة  صغيرة ....بمقدار ما لهذا المشروع القدرة على حزم أشيائه وأستنفار قابلياته في التحول والصيرورة الى فلسفة جديدة مفتوحة على الافاق المختلفة …

والان ماهي القيمة  الحقيقية لفلسفة ما …!؟

والاجابة جاهزة الى حد بعيد انها تلك الفلسفة التي لها كل القدرة على الانفتاح على الافاق البعيدة والقريبة .. والتي لها القابلية على الاندماج مع الانسان في حالاته المختلفة و التكيف " بصورته الايجابية وليس السلبية على الاطلاق "مع  كل الظروف والاحوال ..وبالتالي اذا كانت الفلسفة الماركسية تلبي وتحقق المرتجى منها والمعول عليها وتحقيقه ..عند ذاك فقط  نعيد  الاجابة جاهزة فعلاً وبكل شجاعة  ان الفلسفة الماركسية هي فلسفة او رؤية أو نظرية ذات قيمة حقيقة ..ولسنا نأبه بجدل أخر …

ومازلنا نتذكر جهود و محاولات انطونيو غرامشي لتحديد الاهمية التاريخية للفلسفة التي تملك فعلاً قيمة تاريخية عن المذاهب الفلسفية ذات التعبيرات الفردية الصرفة  أو التجزيئية اذ ان هذا التمييز غالبا "ما يبدو كنقطة غارقة في بحر من التعميمات ذات مصدر ذهني تجريدي .

ان معيار القيمة التاريخية لفلسفة معينة هو فاعليتها العملية ( بارحب معنى ممكن لهذه الكلمة ) . و اذ كان صحيحا ما يقال بان كل فلسفة تعبر عن المجتمع الذي انتجها , فلا بد لها من ان تفعل بدورها في هذا المجتمع مولدة اثارا معينة , سلبية كانت ام ايجابية . و مدى فاعلية هذه الفلسفة في مجتمعها هو معيار قيمتها التاريخية , و البرهان على انها ليست مجرد جهد فردي و انما هي ((واقعة تاريخية )) ( 3 )

"و الماركسية وفقا لذلك هي تحديد دقيق للممكن انطلاقا من التناقضات الحاضرة في كل فترة تأريخية "

في ذات الوقت تعامل  النظرية  بأعتبارها النموذج الأخير  المتشكل عبر  بناء متناسق  ومنسجم لمجموعة  من النصوص المتفاعلة  والمنسجمة مع نفسها  وبالتالي مع بعضها البعض  بهيئة  بناء  نظري مؤد لج او مشروع للادلجة فيما بعد.. من الجهة الأخرى فأن النص الوضعي" المقدس فيما بعد " او قبيل   تقديسه هو نتاج  العقل المفكر  والأخير هو ملك وارث  وشيء من مفرزات وتفاصيل  البناء التكويني/ الفسيلوجي لدىالانسان العادي و هذا ما جعل البعض يذهب الى تأكيد الاتجاه أو المبدأ القائل بان جميع البشر ((فلاسفة ))- أي انه لا يوجد بين الفلاسفة المحترفين  او ((الفنيين)) من جهة و سائر البشر من جهة اخرى فارق ((نوعي)) وإنما يوجد فارق كمي و حسب (و للكمية هنا معنى خاص لا يجوز الخلط بينه وبين المعنى الحسابي للكمية , لانه يشير بطريقة او باخرى الى ((الاتساق )) و ((التماسك)) و ((الامكانات المنطقية )) و ما شابه، أي انه يشير الى كمية من العناصر النوعية ). يبقى علينا الان ان نحدد هذا الفارق . ( 4)

اذن، فالانسان العادي يمتلك قدرة جيدة على التامل  والتجريد والتحليل  والتعميم والقدرة على الخوض في ثنايا وتفاصيل وخفايا الواقع  الموضوعي الذي يشكل  بتحولاته  وانقلاباته - مع او ضد  هذا الانسان  الذي يمارس  عملية التفكير – الهاجس  الاول والاخير  والمقرر لماهية الإنتاج  المعرفي لدى  الإنسان بل يمارس  دور صياغة  وتكييف وبلورة  الافكار  في رؤوسنا  وادمغتنا  بهذا الشكل  او ذاك ..

واذا شئنا تحليل البنى التحتية – للمعرفة النظرية فانها نتاج طورين من العمليات الفكرية، الاول منهما  ادراكي حسي ,أي طور ينقل فيه المفكر انعكاسات الواقع و كيفية رؤيته لها , الى افكار ونظريات عامة . و لكن الطور الثاني هو الطور الذي" تدخل فيه الافكار و النظريات في الواقع , ترتد عليه و اليه , فان كانت صحيحة كانت احداث الواقع و التحولات التي يتمخض عنها منسجمة معها , و مع ما كانت تراقبه منه ؛ اما ان كانت هذه الاحداث و التحولات غير منسجمة معها , كانت مغلوطة و خاطئة , ووجب تغييرها . هكذا عن طريق الممارسة و التطبيق يستطيع الفكر ان يكشف عن صحته او خطئه , كما انه يستطيع ان يتجاوز ذاته و يحقق قفزات متتابعة الى الامام .(5)

ما نريد تأكيده من وراء كل هذا هو ان الاصل في العمل المعرفي  والفكري والتأسيس النظري والفلسفي هو العقل،والعقل هو جدلية المواجهة الحقيقية والصراع  بين الذات –الانسان العادي- والموضوع –الواقع- وليس غير ذلك...

وبالتالي  فأن جدلية  المواجهة والصراع  بين العقل والموضوع المنتج "بالكسر" مستمر.. قادر على ان ينتج  النص تلو النص...هذه المواجهة  المستمرة ..العنيدة  تتكفل في صيرورة  الحياة اليومية بعملية انتاج النص كما تتكفل بالغاء النص  او تعديله او تطويره  او تحويره ....وفقاً للضرورة الملحة..

    نحاول ان ندعم من خلال هذا  اسبقية  وجود الانسان المفكر –العقل – على النص  ومن ثم أسبقية  النص على "مقدس النص "او النص المقدس ...ومن ثم نحاول قطع الطريق على اعتماد النص الماضي في صياغة ايديولوجيا معاصرة..بمعنى ان نقف ضد عبادة النص أو المحاولات الجارية لأسطرته في ممارستنا الفلسفية أو خطابنا السياسي المعاصر…!؟

  ….تلك البدايات الحقيقية للإشكالية التي يجب تشخيصها أو تحديدها  بدخول عنصر جديد للمعادلة  يتمثل بطرف ثالث وهو -الآخرون وهم هنا : الاتباع- المقلدون ..ومدى قدرتهم على بناء فهم خاص لهذا النص المنتَج "بالفتح".. وعملهم وتعاملهم مع هذا النص المنتج من غير وعي منهم  ولهم نص جديد هو "النص المقدس " بمعنى المشحون  بلغة أنفعالية وعاطفية وأيحائية غير محسوسة والمتعامل معه على انه ليس نصاً منتجاً من قبل أنسان عادي وعقل قد يخطيء او يصيب انما شيء لا يقبل الجدل والتحليل ..

يزيد هذا من قدرتنا على تشخيص جانب من أزمة اليسار المعاصر في العراق وهو ان هذا اليسار يجابه تحولات الواقع المعاصر بإعادة  قراءة نصوص الماضي وتحليلها والتأمل فيها بدلاً من تحليل علاقات الواقع وأعادة قراته بعقل  جديد..بينما كان يجب أن يتميز بما يمكن تسميته " بحساسية " تأريخية حادة تضمن له التجاوب المستمر مع هذه الضرورات المتتابعة و المترابطة ، فيدرك أن المواقف التي كانت صحيحة البارحة أو حتى في الامس القريب قد تكون لاغية غدا أو في المستقبل القريب . المواقف السياسية التكتيكية و حتى الاستراتيجية تسقط جانبا ليس بسبب ضعف منطقي و عقلاني متأصل فيها ، بل بسبب تحول هذه الضرورات الموضوعية المترابطة المتتابعة …" (  )

اذاً كيف يفهم هؤلاء (الاتباع)النص  الجديد ؟

-  كيف ينظرون اليه..؟

- وكيف يمارسون حياتهم اذا ما كان لهم موقف  سلبي من النص  او ايجابي منه او كان للنص  تاثير  في حياتهم  العادية وغير العادية..

مرة اخرى نؤكد  ان الاخرين هنا ووفق  هذا التحليل  يعيدون  انتاج النص سلبا او ايجابا ًوالجدوى من هذا محاولتهم اعادة "تنسيق او تجسيم او تنغيم "علاقة  النص مع /في الواقع النامي والمتحول..

وهذا بالتحديد ما جعل من اليسار العراقي يعاني إلى اليوم في خطابه السياسي في الاقل ازمة حقيقية خانقة على مستوى النظرية كما على مستوى الممارسة الواقعية للتفاصيل النظرية .تحدد هذه الازمة بما يعانيه هذا الخطاب في التعامل بقدسية مع النص الوضعي او تقديسه له و بالتالي رفعه الى مرتبة فوقية متعالية على الإنسان وعقله و قدراته المختلفة .

وهذا بالتحديد ما جعل تراث اليسار العراقي مليء بما يغرق العقل فيه من نصوص  لاتعد و لا تحصى ،جميلة ومريرة قاسية أو رحيمة  لكن في الجانب الآخر ثمة موضوع او تحولات أو حركة موضوعية تعمل خارج وعينا بل متمردة على حساباتنا و قراءاتنا لها ..تحولات و حركة دائبة و تناقضات تحكم مجتمعنا و حياتنا و عالمنا بقسوة غير قادرين على تحجيمها و ضغطها و تجميلها و تزويرها بمنظومة النصوص العادية و المقدسة التي زودنا بها و وحكمنا بها بطائلة القيم الاجتماعية او قواعد السلوك الاجتماعي  التقليدية.

رغم اننا ندرك تماماً آن اليسار العراقي يمتلك تراثا عظيما و إيديولوجيا مركبة ومعقدة و مجربة في قدرتها على فهم الواقع الموضوعي و آليات تحويله و التحول الاجتماعي و يمتلك أيضا تاريخا مجيدا و قائمة من رموز النضال و الفكر و العقل  و خبرة عالية في التعامل مع أسوأ الظروف و اشدها مرارة , كما يمتلك كفاءة عالية في الانفتاح على مختلف ثقافات العالم المتحضر , ومشاريع كبيرة و عظيمة لتحويل و تغيير و قلب العالم رأسا على عقب و ليس المجتمع العراقي فحسب...

 يمتلك العقل الجدلي هذا اليسار و الفهم المعبر عنه في رؤية  رصينة قادرة على رص الصفوف و جمع المختلف في العنصر و القبيلة و الطائفة و الدين ... تحت شعار و طن حر وشعب سعيد

-         ما كان من كل هذا ..؟

-         وما تحقق و منه ؟

-أين اليسار في العراق اليوم ..؟

          العلة الحقيقية حسب ما نظن في كل هذه التساؤلات هي ديماغوجية المحلل الماركسي وعطب الأداة التي يعمل بها( والمقصود هنا العقل ) تلك الأداة التي عليها اكتشاف النص  أو اختباره وحتى تطويعه وتحويره بما يتناسب مع الواقع المتجدد ..هذه الاشكالية التي  انسحبت  واتسعت لتصيب اليسار و بالتالي خطابه و الأخيرين يستندا أصلا الى النظرية و هذا ما جعل منهما ميثيولوجيين…بل و أصابه بالعجز ..و عندما يعجز هذا اليسار عن ممارسة مسؤولياته في تحويل الانسان و المجتمع و صنع التاريخ في زمن ما و مرحلة ما فان ذلك يدل على عجز الافكار و المواقف و التفاسير و بالتالي الخطاب برمته الصادر و المعبر عن تلك المرحلة …ما يعرض النظرية برمتها الى سخط الاخرين و الخروج عليها او نقدها ... ويصبح هذا شيئاً عادياً اذا ما فهمنا وأخذنا بتأكيدات علماء الاجتماع الماركسيين في أن جميع مجالات  النشاط الانساني ، من الفلسفة  الى الفن ، ومن الاقتصاد الى الايديولوجيا ، تكشف بوضوح  ان كل شيء جديد  يتفرع من الشك في المفاهيم والانظمة  وقواعد السلوك السائدة ...ومن النقد والرفض  الذي يعبر عنه .. لكن من جهة أخرى فأن كل جديد يؤدي الى أقامة  مفاهيم  وأنظمة جديدة يتحول بعد ذلك  الى الثبات والاسقرار ويصبح بدوره  هدفاً للنقد ، والشك ، والرفض ..."(6)

          تلك الإشكالية أصابت قدرتنا على التحليل منذ العصر الستاليني ...والصدأ أصاب العقل الديالكتيكي فينا.. ولدى محللينا و منظرينا و من ثم تهميش الفعل و مساحة الفعل و الانقلاب على العقل و الممارسة باتجاه طقوس عبادة الفرد و تقديس النص , وتقويل الآخرين و تأليه المقولين بينما كان جديراً بنا آن نلاحظ نقطتين أساسيتين في ذلك :

1- من هو صاحب النص و أين موقعه في خارطة النظرية الماركسية  ؟ و أي واقع موضوعي حمل هذا النص مسوؤلية مواجهته و تحليله و تفسيره ؟ ونشير هنا الى الهجوم العنيف الذي قاده سارتر على النظرية الماركسية في كتابه المذهب المادي و الثورة عام 1946 بينما كان هجومه موجهاً اصلا و تحديدا ضد نصوص روجيه غارودي في فرنسا و جوزيف ستالين في روسيا و جورج لوكاش ، وفق تأكيده في مقدمة كتابه المذهب المادي و الثورة   .او الهجوم الذي قاده الدكتور  علي الوردي على مسطرة حمزاتوف او الحرب التي قادها اينو روزي و هربرت ماركيوز عام 1985 في كتابه الماركسية السوفيتية و هو في الحقيقة موجه ضد الخطاب الستاليني في تلك المرحلة وغيرهم كثيرون......

2- هل صالح هذا النص عبر الأزمنة  ؟ آو مر على جدليته زمن طويل لقراءة واقع موضوعي مختلف متمايز عن مرحلة و زمان النص المنتج !؟ وهذا مستحيل و غير منطقي و الا قد نسقط فعلا" في شرك الفلسفة المثالية من جديد …

  وإذا كان الزمن مختلفاً جذرياً و الرؤية و الوقائع يختلفان نوعيا  و المتطلبات غير المتطلبات فأننا أمام خيارين :

الأول : أن نبحث في النصوص و نغرق فيها والنصوص بحر فيه العتيق و المعتق و من ثم نضطر إلى جر النص و الاستدلال بالأحكام على واقع مختلف أو جر الواقع ( بمعنى تزويره أو تزويقه ) ليناغم النص وهو بالتحديد ما نفعل اليوم وما فعلته قبضة ستالين الحديدية مع المجتمع السوفيتي انذاك و تلك هي الكارثة ...!؟

الثاني: أن نقرأ نحن بتراث اليسار و كفاءته و قدرته و أيديولوجياته و خياراته و رؤيته  واقعتا نحن – بمعنى حياتنا و مصيرنا و مشاكلنا و مجتمعنا بكل تفاصيله الصغيرة و الكبيرة و من ثم مواجهة كل هذا بكل الممكنات النظرية و المعرفية و الرمزية لنستدل على ما يناسب ويتلائم مع التحول و التغيير و الحركة ومن ثم صياغة نصوصنا نحن مثلما فعل كارل ماكس في زمنه ولم يقدس النصوص الخاصة بسان سيمون الاشتراكية ومادية لودفيج فيورباخ و اقتصادية ادم سمث و ريكاردو ومثالية هيغل و فلسفته مع الدولة ..

اذا علينا ان نشخص المشكلة بالضبط و هي وفق ما نرى تحديداً في القدرة على التحام النص بالتحول الذي يصيب الواقع الموضوعي المقروء في العقل الثقافي …..!؟ 

و نفعل مثلما فعل انجلز بعد موت كارل ماركس باصراره على إعادة قراءة الوقائع من جديد فعدل و غير ونسف و اعترف بالتقصير و سجل نصوصه و اكمل بعقله هو ما تركه ماركس ولم يسع او يحاول صناعة الصنم وعبادة ماركس او التقيد بنصوصه عندما ادرك أن الواقع مختلف والقضايا مثل ماء النهر ليست هي هي في المرتين ..

او نفعل مثلما فعل لينين في رؤيته الخاصة عن واقع المجتمع الروسي واسراره وتكويناته و تقسيماته انذاك و اضافاته الكبيرة التي سجل من خلالها خطوة جديدة تنظر الى الماركسية على انها الدليل  ليس أكثر قائلاً في أكثر من مناسبة  :اننا نفكر ..بأن تطويراً مستقلاً  للنظرية ضروري بشكل خاص  للاشتراكيين  الروس ،لان هذه  النظرية  تقدم فقط المباديء التوجيهية العامة ... التي تطبق بشكل مختلف من مجتمع الى أخر في فرنسا.. وفي فرنسا بشكل مختلف عن تطبيقها في المانيا ، وفي المانيا  بشكل مختلف  عن تطبيقها في روسيا ..." الا يسجل هذا أنتصاراً عظيماً لتراث الماركسية  او مثلما فعل بعده ليون تروتسكي وما قدم للنظرية من اضافات كبيرة عن الثورة العالمية و نظريته في القفز على المراحل او نفعل مثلما فعل ماوتسي تونغ في قراءته للمجتمع الصيني او ما فعله انطونيو غرامشي للمجتمع الايطالي او ما قدمه هربرت ماركيوز و اضافات فرانز فانون و ريجيس دوبريه عن الثورة الاشتراكية و تغيير مجتمعاتهم و العالم ...!

لماذا لا يحاول اليسار لعراقي اليوم ذات المحاولة لماذا لا يمتلك القدرة على انتاج النص البديل او المعدل لواقع معدل ؟ لماذا لايجيد صياغة النص"نصه هو " الذي ينسجم مع نمو الواقع الاجتماعي و السياسي الجديد في العراق في خطوة جريئة الى امام ..؟

لماذا ما زال البعض الى  اليوم غارقا حتى اذنيه في طقوس عبادة النصوص الستالينية و الخروشوفية و الماوية وعبادة اصحابها بعد موتهم...!؟ بينما ينتظر البعض الاخر في احلام اليقظة ولادة طبقة البروليتاريا المخلصة في الوقت الذي شاخت فيه و سحقت منذ زمن  بعيد بينما يحلم هو بالغد المشرق ...!

والبعض الاخر غارق في موجة مقولات الامبريالية و فائض القيمة الكلاسيكية بينما يهرب مذعورا ..هاربا من مواجهة العولمة وتحدياتها المعرفية !؟

لقد غيب المجتمع العراقي بتفاصيله و تعقيداته  وخصوصياته الى اليوم كما غيب العقل و الانسان العراقي و القوة الحقيقية الفاعلة في المجتمع العراقي المعاصر في جميع الدراسات و القراءات الخاصة باليسار العراقي في الخارج كما في الداخل و شوهت القضايا، والحقائق حرفت و غاب الفعل مع العقل ..و لم نفهم الى الان العوامل المؤثرة الاصيلة من الطارئة في زحمة اللهاث وراء الدراسات الغربية الحداثوية …!

-      ترى هل  من يسعف المجتمع العراقي بقراءة عراقية خالصة ...!؟

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة