المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

محاولات استعادة الذاكرة العراقية  إلى جامعة بركلي مع التحية

صافي الياسري

أطلقت جامعة بركلي في كليفورنيا، أواخر آب عام 2003 برنامجاً رائداً ومهماً على موقع الجامعة على شبكة الانترنت، ونرى هنا أن من المفيد الإشارة إلى بعض الأغلاط التي وقع فيها منفذو البرنامج على أمل تصحيحها.

والبرنامج يتحدث عن العديد من القطع الآثارية والمواقع والمعالم العراقية المهمة وبضمنها القطع التي سرقت من المتحف العراقي، وتلك التي هشمت وتعرضت للتخريب والعبث، وشارك في صياغة هذا البرنامج متخصصون فنيون في الحاسبات وعلماء آثار ومؤرخون من أساتذة الجامعة وخبرائها، وتفكر الجامعة كما أعلنت في توسيع البرنامج ليصبح مشروعاً يجمع حوله جهداً دولياً يهدف إلى حماية أرث العراق الذي يضم أغنى المجموعات الآثارية في العالم، ومن المعلوم أن هناك 48 قطعة من أهم القطع الأثارية فقدت من المتحف الوطني العراقي وتم استرجاع بعضها، إلى جانب آلاف القطع الأخرى الأقل أهمية، وتسعى كذلك جامعة بنسلفانيا والمتحف البريطاني والأمم المتحدة ومؤسسات عالمية أخرى في جهود حثيثة لتهيئة ببلوغرافيا افتراضية قريبة من الواقع للأثار والمواقع الأثارية العراقية وموجودات المتحف الوطني العراقي، وكانت جامعة مشيغان قد سبقت جامعة بركلي في إطلاق موقع على الانترنت يختص بالآثار العراقية وسبق لجامعة مشيغان أن أجرت في العشرينيات من القرن الماضي حفريات في مواقع أثارية مهمة في العراق، ولديها واحدة من أهم مجموعات الصور والرسوم والتخطيطات للآثار والمواقع الاثارية العراقية لكن مركز بركلي للانترنت، في الحقيقة، هو الأكثر والأوسع تفصيلاً وقد أقام قاعدة معلومات أكبر بكثير مما فعلته بنسلفانيا ومشيغان وسواهما، وبذل جهداً واسعاً وواضحاً يتضمن صوراً وخرائط ورسومات ونصوصاً تعرض كافة كنوز الآثار العراقية، ويمكنك دخول موقع الجامعة لتشاهد تلك الآثار وكأنها موجودات حقيقية بأبعادها الصحيحة، تساعد على ذلك طاقات الكومبيوتر في الرسم والدقة، وتقول روزيتا باجسي المشرفة على البرنامج ومديرة مركز المعلومات التكنولوجية والبحوث في رسالة خاصة: إن كل أكاديمي وطالب على سبيل المثال يمكنه الاتصال بقاعدة المعلومات للحصول على صور جميع قطع الأثاث أو القطع الفنية أو غير ذلك من المواد التي كانت في غرفة ما في قصر عراقي في زمن محدد، ويشمل ذلك القطع الأثارية المعروفة.

ومن بين تلك القطع الأثارية التي رسمها وصورها البرنامج، الرأس الرخامي لسيدة الوركاء - الذي سرق ثم أعيد فيما بعد إلى المتحف الوطني العراقي.

وقد اصطلح على تسمية هذه التحفة بـ(موناليزا السومرية) ويعود تاريخها إلى خمسة آلاف عام وهي من لقى الوركاء، وكذلك تمثال نصفي لأمرأة من نفس العصر، والقيثارة الذهبية التي عثر عليها في أور وهي برأس ذهبي لثور وقد تعرضت لأضرار بالغة.

وعلى الرغم من الجهود المضنية التي بذلت لإخراج وإنتاج هذا البرنامج فإن هناك عدداً من الملاحظات المهمة والأخطاء التي وقع فيها المشرفون على البرنامج وأشرنا لها في رسالتنا الأولى إلى الجامعة وتم تلافي معظمها وبقي اليسير منها دون معالجة لأسباب غير معلومة كما هو الحال مع المنحوتتين اللتين ذكرناهما آنفاً "موناليزا السومرية والتمثال النصفي لامرأة من الوركاء) فقد تكررت أغلاط الإشارة إليهما، حيث إن المعلومات الواردة عن "الرأس" مثلاً لم تكن مكتملة بشكل تفصيلي كما يشير البرنامج، فهذه المنحوتة لم تكن في الحقيقة (رأساً) بالمعنى المتعارف عليه، إنما هي أقرب ما تكون إلى (قناع) وجه امرأة وقد عثر عليها في الوركاء في طبقة تعود إلى عصر (جمدة نصر) وهي تمثل بوضوح ما اصطلح عليه بفن (فجر التاريخ) وذلك ما لم يشر إليه البرنامج، ولا يزال احتمال كونه أقدم عمل فني نحت نحتاً مجسماً، قائماً، وهو مقارب للحجم الطبيعي وتم نحته بمهارة عالية، وهو في الحقيقة ليس قطعة مكسورة من تمثال كما يرجح البرنامج، إنما هو جزء من صورة مركبة لامرأة صنع الكثير من أجزائها من مواد متباينة، وربما كان هذا هو السر في ضياع القسم الخلفي من الرأس، وهو ما لم يتطرق إليه البرنامج.

كذلك تم نحت جانب المؤخرة مسطحاً وأحدثت فيه ثقوب بالمثقب، لأنه بالنتيجة كان مثبتاً بأجزاء أخرى كما ذكرنا ولأن الشعر حدد موقعة وحفر على سمت الرأس أخدود عميق أعد لكي يوضع فيه شعر اصطناعي ذهبي، ولم يكن هذا الأخدود (المفرق) قد حصل بفعل التقادم، فهو مقصود أصلاً، وكان الحاجبان اللذان انعقد فوق الأنف مطعمين أصلاً على أكثر احتمال بحجر اللازورد، في حين غرق البؤبؤان المصنوعان من مادة أخرى في محجري العينين العميقين - ويمكن تخيل مادة هذين البؤبؤين من نتاجات (الايشن) العراقية، ومن ذوق السومريين الذي ما زال سائداً في جنوب العراق.

وقد هيئ لهذين المحجرين بطريقة خاصة فأحيطا بحفنين رقيقين تماماً يمكن ملاحظتهما ما بسهولة، ويمكن الإفاضة حول هذه الناحية بإضافة ما كتبه حولها - انطوان مورتكات - في كتابه الشهير - فن العراق القديم - ص57.

وقد نحت الرأس من المرمر الجميل إشارة إلى البشرة الرقيقة الشفافة لصاحبته، وإذا ما تخيلنا إضافة الأجزاء الضائعة التي كان بإمكان البرنامج وضع رسم تخيلي لها، لأمكننا إدراك ما أراده أو تخيله مورتكات من التنافر الذي يؤثر في الشيء كله، والذي سبق لنا أن جابهناه في تلك الرسوم الناتئة التي أدمجت فيها الصور الفردية الطبيعية تماماً، في نهج منسق على طراز النهج الرمزي، لنجد ذات المفارقة في الأسلوب لفصل الجزء العلوي القياسي التقليدي في الرأس عن الفم الذي يشبه الصورة غالباً وعن الخطوط التي تفصل بين الأذن وزاوية الفم، فهذه الملامح تعكس تعبيراً اعتمد على شخصية معينة بذاتها، وأحسب أن مورتكات يشير هنا إلى شخصية رمزية لا شخصية واقعية، فلو أراد الفنان شخصية واقعية لكانت (كاهنة معبد) أو أميرة) أو (ملكة)، أما الشخصية الرمزية فهي حتماً ستكون (آلهة)، ذلك أن الفنان نفسه كان إما كاهناً كبيراً في المعبد، أو موظفاً مهماً في البلاط الملكي، وتنبع اهتماماته من محيطه وطقوسه ووظيفته، كما أن المنحوتات في اغلبها كانت "شعائرية" ولو فرضنا أن الشخصية كانت رمزية فعلاً، فإنها حتماً ستكون الآلهة (انانا) أو (انن) بالدرجة الأولى وهي ابنة الإله انو وزوجته في الوقت نفسه، وكانت عبادة كليهما قائمة في الوركاء حيث عثر على المنحوتة، ونسبت إلى عصر جمدة نصر، وهو عصر عبادة هذه الآلهة التي أصبحت منذ عصر فجر السلالات الآلهة الرئيسة للمدينة ويشار إليها بأنها إلهة الحب، ومن المعروف أن عبادة عشتار السامية قد امتزجت بهذه الآلهة السومرية فتطور اسمها إلى (نينا)، وهنا تبرز ملاحظة مهمة فالرمز الذي يشير إلى عشتار هو الزهرة أو نجمة دلبات الثمانية، وهو رمز له دلالته في الإشارة إلى الحرب بمعنى أن (نينا) هي إلهة الحب والحرب في آن واحد، فهي التي أشار إليها الملك السومري أوتو حيكال 2140 - 2114 ق.م عندما وثق حربه على الكوتيين، إن الآلهة "أنانا" لبوة الحرب كانت من الآلهة التي ساعدته على سحق الكوتيين، وهي أيضاً إلهة الحرب عند الآشوريين وهناك نصوص مثبتة بهذا الشأن تعود إلى زمن الملك اسر حدون 680 ق.م والملك أشور بانيبال الذي نشد نصرها على عدوه ملك عيلام كما يشير الدكتور فاضل عبد الواحد في كتابه "عشتار ومأساة تموز" وفي متحف اللوفر بباريس مسلة حجرية بارتفاع 47.5 انجاً عثر عليها في تل بارسيبا أعالي الفرات ويعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وتظهر فيه "انانا" أو عشتار الهة الحرب بكل اسحلتها على ظهر أسد في حالة سير بينما ترتفع يدها إلى مستوى الوجه في حركة توحي بإعطاء أوامر الزحف، وفوق رأسها تبرز النجمة الثمانية، ويمكننا بسهولة فهم سبب اختيار صدام حسين لنجمة دلبات ووضعية يده التي تشبه إلى حد بعيد يد آلهة الحرب (أنانا) في تماثيله التي نشرها في كل مكان في العراق، وبما إننا نتحدث عن برنامج جامعة بركلي فإن الملاحظة الأخيره قد لا تهم الجامعة ولكنها بالتأكيد تهمنا كعراقيين إذ لا يزال هذا الرمز الدموي (النجمة الثمانية) يحتل الكثير من المباني الرسمية وشبه الرسمية في بلادنا.

أما تمثال المرأة النصفي وهو ينتمي إلى نفس عصر المنحوتة الأولى، وله خصوصية مهمة جداً، تنبع من الأسلوب الذي استخدم في نحت الذراعين الذي يختلف عن اسلوب نحت الصدر تماماً، فالصدر يكاد يكون محاكاة لصدر طبيعي بينما يتدلى الذراعان على الجسم كما لو كانا كمين صنعا من قماش.

وذلك ما أغفله البرنامج، فقد أشار إلى أن أهميته تنبع من عدم تجانس الصدر الطبيعي مع بقية الجسد، دون الإشارة إلى الذراعين، وهما مكمن الأهمية، فأسلوب نحتهما المختلف يحمل إشارة واضحة إلى التجريد ومحاكاة الطبيعة. وهو خروج مقصود عن المألوف يمنح المنحوتة أبعاداً فكرية ومغزى عميقاً بأهمية استثنائية.

وتوجد في متاحف زيورخ وباريس، تماثيل تنتمي إلى نفس العصر وقد تمكنا من رصدها عياناً خلال زياراتنا لهذه المتاحف، وقد ذكرها الأثاري السويسري الفريد بواسييه قارئ المسماريات المعروف الذي نشر عام 1913 ابحاثاً حول التماثيل التي حملها التاجر السويسري فيبر - WABER - من مدينة النمرود وكان قد أقام في بغداد عام 1860م ولكن هذه التماثيل لا ترقى قيمتها الفنية والاعتبارية إلى هذه المنحوتة (الرمادية الحجر) (1).

ومن الغريب أن المنحوتتين قد اكشتفنا في الوركاء وتنتميان إلى نفس العصر، عصر جمدة نصر، وتكملان مجاميع عثر عليها في معبد "الألف عين" وهي التسمية التي أطلقت على أربعة معابد متعاقبة يعود تاريخ أقدمها إلى عصر الوركاء وأحدثها إلى نهاية عصر جمد نصر، وقد وجدت في تل براك الواقع في أعالي الخابور في سوريا وعرفت بهذا الاسم لأنها اكتشفت فيها الوف الخرز التي هي بهيئة عينين (2) ونقلت هذه المجاميع إلى أوروبا بواسطة التجار والمنقبين، وهاتان القطعتان وسواهما اكتشفتا وعاينهما في ذات الوقت خبراء أوروبيون نشروا أبحاثهم حولهما ومنهم - برويسر - المهندس الآثاري الألماني الذي اشترك في التنقيب في الوركاء - 1912 - 1913 - ومن ثم عام 1927 وكذلك بالتنقيب في آشور منذ عام 1903 وفي خفاجي عام 1930 والخبير الآثاري الألماني المعروف جوردان الذي كان أول من نقب في الوركاء عام 1912 وعين عام 1931 بمنصب مدير الآثار العامة في العراق. وآخرون وقد أوقفت شرطة الكمارك الأردنية بعد سقوط النظام ونهب المتحف الوطني ببغداد عدداً من مراسلي الصحف ومحطات التلفزة الأجانب واستعادت منهم مسروقات اثارية عديدة، وأفلت آخرون على الحدود السورية والإيرانية ما يثير كثيراً من الشكوك حول دور جهات أجنبية في الدفع باتجاه سرقة محتويات المتحف الوطني العراقي وضرورة قيام المؤسسات الثقافية والعالمية ومؤسسات الأمم المتحدة المتخصصة بملاحقة هذه المسروقات وإعادتها إلى مكانها الطبيعي، وما تفعله جامعتكم الموقرة (بركلي) وجامعة شيكاغو وبنسلفانيا والمتحف البريطاني وهيئة الأمم المتحدة ومنظمات أخرى بإطلاق مواقع على الانترنت تحوي معلومات وصوراً حول الآثار العراقية، جهد إنساني يصب في مجموع الجهود العالمية للحفاظ على التراث الحضاري للإنسانية جمعاء، وهو جهد جدير بالثناء والدعم.

صافي الياسري


 


صورة بطلات الحب في روايات الحب الصورة الفنطازية للعاشقات(2-2)

على بدر

تتعدد صورة العاشقة في ألف ليلة وتختلف اختلافا بينا من شخصية إلى أخرى، ولكن الصورة الثابتة هي قوة الحب وغموضه وإبهامه، وهذا ما يجعل حكاية الحب في الحكايات العربية فنطازية دائماً. ترتبط صورة الحب بالقوة التي يتملكها الحب وتمكنه من قلوب عذراواته، فالعاشقة المتيمة تخضع لخدر كبير وقد تملكتها عاطفة مدمرة تتحول إلى سحر هائل تمده إزاء الرجل الذي تسقط في غرامه، أما السحر فهو وسيلة للسيطرة على من تحب ومن تهوى، وحين تحب المرأة فإنها تفعل كل شيء من أجل محبوبها، ولا تختلف في هذا الأمر أميرة مثل مريم الزنارية بنت ملك الأفرنجة، عن أية جارية مسلمة أخرى مثل جلنار البحرية، ولا تختلف المسلمة في الحب عن نساء النصارى أو نساء الهند، العاشقة تذوب في أول لقاء وفي أول نظرة، وتنفتح عبقرية السرد في الليالي العربية لترسم على مدى الألف من حكاياتها صورة العاشقة المتولهة من نظرة واحدة، كما ظهر في تاج الملوك ودنيازاد، بدر باسم وجوهرة بنت الملك السمندل، فالعاشقة التي يتملكها هذا الحب الذي لا يعرف الرحمة فإنها تفعل كل شيء في سبيل من تحب، بل وتقاسي في سبيل هذا الوجه الذي عذبها وحرمها النوم من نظرة واحدة.

العاشقة في ألف ليلة وليلة تحب بإخلاص وتفان نادرين حتى إن لم تجد صدى لحبها عند الآخر، لكنها تذوب وتتحرق وتقاسي الأهوال، تسافر وتخاطر وتغامر، بل وتستخدم كل وسيلة من أجل امتلاك حبيبها، وحين تفوز به في نهاية الأمر تكرس كل حياتها من أجله، وحتى بنت الملك تنادي حبيبها الفقير ب"يا سيدي" مثلما كانت مريم الزنارية بنت ملك الإفرنجة تخدم حبيبها "نور الدين".

في سلامبو الرواية التي أبدعتها العبقرية الفلوبيرية، الرواية المحبوكة والمنسوجة والمبنية مثل قلاع وهياكل قرطاجة، نعثر على حب قريب من الحب الذي تصوره الليالي العربية، إنها تروي بلغة رمزية كثيفة واقعة حب من نوع آخر، واقعة حب منسوجة وسط صراع ضار بين روما وقرطاجة، وتدور حبكة هذه الرواية الغريبة حول ما يسمى بحرب المرتزقة، وسلامبو ابنة هملقيار التي تقدم نفسها إلى المحرقة لتنجو مدينتها من حصار المرتزقة تستطيع إبعاد الموت إذا ما توصلت إلى الفوز بوشاح الحياة الذي يحتجزه ماتو قائد أعدائها، هنا تلجأ إلى حيلة الحب لتصل إلى هدفها، غير أنها وهذا ما لم تكن تعرفه من قبل أبدا قد سقطت فعلا في حبه، ويوم حققت قرطاجة انتصارها، التقت سالامبو حبيبها ماتو عبدا ذليلا مسوقا إلى الموت، فتطلب العفو عنه، لكن صراخ الجمهور القرطاجي يحجب صوتها فيموت ماتو حبيبها بصورة بشعة، لم يكن لسلامبو أي أمل في الحياة بعد أن مات حبيبها، ولذلك فإنها تقرر الانتحار فور مشاهدتها له وهو يموت، ومن هنا تنتحر فوق جثته.

نعثر في مرتفعات ويذرنك لأميل برونتي على صدى واضح لهذه الصورة الملهمة من الحب، فالحب الذي لا يقاوم، الحب الذي يتملك الأبطال ويغيرهم، الحب الفوطبيعي الذي يتلاءم مع الأمزجة الحادة لدى الأبطال يهيمن على تفاصيل الرواية برمتها، وتبرز صورة كاتي ابنة أورنسلو التي يهيم بها هيثكليف بكل ما أوتي طبعه الشاذ من قوة، كعلامة على المرأة التي تستسلم لمصيرها حتى تموت، وبالرغم من أنها جرحت هذه الشخصية الغريبة بالأعماق وتزوجت من غيره، تزوجت من رجل تافه هو إدغار لنتن، فإن قوة الحب النادرة والمزاج الملائم لهثيكلف هو الذي جعل علاقة كاتي به علاقة استثنائية.

لقد احتفظت هذه العلاقة في رواية مرتفعات ويذرنك بطابعها التحطيمي، كان حبهما صرخة كبيرة وغير معقولة صنعتها امرأة غريبة الأطوار هي أميل برونتي، وحتى بعد أن عاد البطل وقد اغتنى إلا أنه يعيش من أجل الانتقام، ويربطه حب عنيف وكئيب بكاترين التي يضطرب كيانها كله بعد أن فتنت به، وحتى بعد أن تموت فإن امتدادات هذا الحب تبقى حية. في عرف برونتي: الرجل وحده الذي يعرف الانتقام في الحب، بينما تقبلت كاتي مصيرها بكل استسلام، لقد ماتت كاترين وتركت هيثكليف يموت بعدها ألف مرة، فالحب لدى برونتي المعزولة والمتوحشة هو قوة جبارة تدمر وتسحق، ولم تكن تعرف هذه المرأة من الحب إلا جانبه المؤلم والمأساوي، لقد صنعت بشخصيتها وأفكارها الغريبة الشاذة رواية عاصفة عن الحب، رواية هائلة عن عواطف تثور ولا تهدأ، كلها على مسرح الطبيعة المتوحشة الثائرة في منطقة وذرنغ.

صورة الحب بين ثقافتين

لا يعرف إحسان عبد القدوس الحب إلا مرتبطا بحياة الطبقات العالية، سحر الأماكن، النوادي، القصور، الشوارع الفارهة، صالونات الحلاقة الراقية، البوتيكات، الأثاث العالي البدل، عالم البرجوازية المصرية في الخمسينيات: نادي الجزيرة، ميامي، المعمورة، الزمالك، نادي السيارات. ولا ترسم ساغان صورة العاشقات في رواياتها إلا وهن يرتدين معاطف فراء المينيك، ولا يوجدن إلا في الحفلات، أو الرحلات إلى سان تروبيز، أو في فنادق اللوكس، لقد رسمت ساغان بطلات الحب في رواياتها وهن يعشن حياة المجتمعات المخملية، ومشاكل البورجوازية الأنيقة المرفهة، ومع ذلك فلا يعوض المال المرأة عن الحب ولا الإيقاع اللاهث لاقتناء سيارات السباق، ولا الجموح نحو المجازفات والمغامرات، الحب وحده الذي يخلص النساء من الضجر والمحاولات اليائسة للانتصار على الزمن وترويضه عن طريق المخدرات والكحول وقيادة السيارات السريعة.

لقد أثرت روايات فرانسواز ساغان بروايات إحسان عبد القدوس تأثيرا واضحا، فروايته (لا أنام) هي تقليد واضح لرواية صباح الخير أيها الحزن، ليس هذا حسب، إنما أثرت فضاءات رواياتها وشخصياتها برواياته: الوسادة الخالية، بئر الحرمان، أنف وثلاث عيون، وغيرها، وقد ارتبطت واقعة الحب في روايته بعوالم ساغان السحرية الجميلة، وبلغتها البسيطة وبتصويرها لعواطف الحب بصورة دقيقة ومرهفة.

لقد مهدت رواية زينب التي كتبها هيكل، وسارة التي كتبها العقاد، والأيام لطه حسين وإبراهيم الكاتب للمازني، الطريق إلى رواية حب خالصة، شبيهة بروايات الحب الخالصة، أو روايات الحب الأبدي التي أنتجتها العقلية الغربية مثل: بنات عمتي الحنونات Mes Tendres Cousines لباسكال لينيه، وقالعة القلب Arrachcoeur لبوريس فيان والحب العظيم Le Grand Amoure لآراش فيل، غير أن الثقافة العربية لم تتقبل هذا الجنس من الكتابة، ولم تنتج حتى الآن رواية حب خالصة، رواية حب دون سياسة، دون تفاصيل اجتماعية أو أخلاقية، رواية حب يموت الأبطال فيها من عذاب الحب، ولا يهيمن أو يسود على الوقائع السردية سوى تفاصيل الحب الصغيرة، أو ما يطلق عليه جورج باتاي "التفاصيل التي لا تنسى في الحب الأبدي". حتى حينما قلدت الرواية العربية الروايات الكبيرة فإنها أخفقت في استجلاء صورة الحب المأساوي في الرواية الغربية، الحب الذي لا يعرّف نفسه إلا بنفسه، الحب الذي لا يستقيم إلا بواقعته هو ولا يستند إلى الوقائع الحياتية الأخرى، مثلما هو الحب في رواية الطفل الخامس التي كتبتها دوريس لسنغ أواخر الثمانينيات، حيث تتعرف هارييت على وجه داود في حفلة صاخبة تقيمها الشركة التي يعملان فيها، وتراه من بعيد فتشعر بأن كيانها قد اهتز كليا أمامه ولم تعد كما كانت أبدا، وبالرغم من الصخب الذي يحيط بهما إلا أنهما يتقدمان إلى بعضهما حتى يلتقيا وسط الحفلة تماما، ويتعارفان على بعضهما، وتصور لسنغ في واحدة من أعذب روايات الحب كيف انعدم الصوت الذي يحيط بهما، وكيف اختفت الأصوات الصاخبة والفوضى عن آذانهما كليا، واتفقا وهما واقفان على الخروج من الحفلة وقضاء الليل البارد في شقته، وقد أمضيا الليل كله في الحديث حتى الصباح، وكأن كل واحد منهما يريد التهام الآخر بالكلام، وتكرس دوريس لسنغ روايتها برمتها لتحليل حالة الحب التي عصفت بهارييت وداود.

 


 

اسماء

رزاق عداي

هكذا ولدوا او قذفوا - دون علم سابق- الى بطن المنزل الواسع تلاحقهم اسماء، اغلب الظن سبقت ولادتهم، اسماء ملونة متنقلة في الغرف في رائحة الشباب، في الساحات، في رحلات ليست لها مكان محدد، تتصاعد احياناً من بروج الحمام اسماء تنمو وتتناسل وتذوي وتنسى، اسماء مشعة صائحة.

ينقطع دويها عند حلول الليل او حالما يهجعون في اسرتهم المنخفضة والمرتفعة والنظيفة والمتآكلة، سرير لا شبه سرير، سرير قد غزاه الغراب، تتضوع من وسائده رائحة ظلام رطب غاطسة من سواده الكثيف، اختي العمياء مستسلمة لستارة فاهمة مسدولة على عينيها -طوال الليل- لسرير شراسنت صفر اكتسح نضارتها وطمس معالمها غائط اطفالي المتكرر على الدوام، سرير ينوء بثقل سنوات متراكمة سميها عمر جدتي وبلقبها يذكرها بأوجاعها وحروبها وجناتها، وحتى ايامها السود الاخيرة المهيأة للانطمار بصرتها ومسحتها وظلام حجرتها المستديم، وسرير يضخ دفقاً متصلاً من سكون تبدو زوجتي الصامتة الابدية بشعرها الاشعث الطويل، وسرير عمي المجنون وابن اختي الايلة، وسرير اختي الاخرى القبيحة وسرير خالتي البدينة، وسرير بنت خالي، واماكن اسرة مهجورة تتصاعد من خرابها الموحش شلالات مرة الغبار والاشباح، ومخلفات خليقة قطنوها ذات يوم.

ورحلوا الى مدنٍ او قرى نائية على انهار وصحار او هاجروا الى بلدان بعيدة او غيبتهم ظلمات القبور - لا احد يدري الا ان رائحتهم ما زالت تحرث فناء الحوش، كما لو تسعى لمزق عزلتها كان لا يدلي وسط هذه الخليقة المتشبثة بالاسماء والساعية للانفصال من شرك اللاجدوى والعجز والكآبة المزمنة، اسم يميز رائحتي، لوني الذي يكاد يحمى او بتبخر تحت ضغط انتشار روائح الاسماء.

ولت تلك السنوات التي كانت فيها امي رائحتي في حفل اسماء البيت المنقرضة والمتوغلة في انفاق الغياب الطويل لم يبق لي من مخالفاتها سوى طيف وجه كأنه وفد من بقاع سرية لا اتبينه بوضوح، الا اني ما زلت اتنفس آثار رائحة فضة نشرتها قبل ان ترحل فمكث راسخة، اتحسسها عنيفة وهي تتصدى لروائح تركت ابي في مهب (العطونة) يلهث وراء اسمها في ساعاته الاخيرة الرهيبة، كان يبكي ايامه التي شهدت انا بنفسي - طغيانها- كان يزداد غموضاً في تصرفاته في - تلك الايام- حيال امي كلما خلفت سنة من عمري النامي الى الوراء تاركاً آثارها على الجدران والازمنة والدمى والارائك والاسواق، كانت تتجلى في سحنته المريرة، علامات من الريبة ازاء نموي وسلامة اعضائي، اهجسها من خلال تعنيف امي لسلوكه المشين، واضب على بذل كميات باذخة من حنان سامر بغدق به على خليقة المنزل من غير ان يلتفت لي قبل ان يسحله حبل الغياب، كان يناديني من غرفة طعامه المكتظ.

- الحنان المؤلم- باسم مستعار دون ان يأبه لتعنيفات امي المتواتر، ولكني شرعت للتحقيق مرة اسمي مفتشاً عنه في حيرة امي وقلق ابي وتكهناتي.

هل عثرت علي في بطنها مصادفة؟ كان ابي يتفرس في ملامحي بإمعان لعله يكتشف سلالتي ولكني في نهاية الامر لا اشبه احداً، وكان لا بد لي ان اجد اسماً، ماذا افعل بكل هذا العذاب الملقى امامي، ما ان يفتح الصباح عينيه خلال انهمار المنصب من النافذة حتى اجدني استمع الى لغط كائنات المنزل تشرب من شقوق الغرف الموصدة ومن فوق درجات السلم ومن حمّام  تتعثر مياهه المنسكبة بصراخ اطفالي ومن ركن متغلغلة اغلب مساحته في ظلام جراء انزوائه في مؤخرة المنزل، يأتي ضبط بكاء كئيب يتصاعد من صومعة جدتي متسلقاً الرواق بإتجاه غرفتي مع رائحة اختي العمياء القابعة جوار غرفتي في ثغرات السياج.

انفق وقتاً عسيراً على السرير في البحث عن اسمي وسط خليقة مشدودة الى ورطة لإفكاك منها، كيف وجدتني مرمياً في ظلامهم المريع، انقب عن مساقط الضوء، ولكن لا ضوء هناك في لجة العميان تتخاطف اشباحهم الفاضحة.. مدى هول الورطة التي تقودني كل يوم الى باحة المنزل اصبح بصوت عالِ كما لو الهو بأسماء النادبات ان يطلن عليّ مسرعات كي اعرف من اورثني كل هذه الحياة القديمة والمضجرة والعاصفة والحاسمة، ومن هدم السور فاطلقني خارج ظلمة بطن امي.

لا اكف عن مواصلة (الصياح) الا عند المساء وحالما تطأعتبة المنزل كلاب الدور البعيدة السائبة السالكة على مدى اعوام - ذات الجادة المفضية الى منزلنا ولا تعود بعد ان تملأ خياشيمها من رائحة جثة تكون قد نفقت من شدة الظلام المفترس الذي غالباً ما يسحبهم من جحورهم ارقبهم في ضوء المساء الشحيح  يدبون كحشرات رخوة يتعثرون في بأوان او ابراز او قطط (فاطسة) او جراء تسللت خلسة في الدار، تغوص اشباحهم في متاهات وسرعان ما تغيب، اسمع اصواتاً، اتعرف مرة خلالها على اختي لقد كانت تهاجم رغتبها المحمومة بالهرب المؤقت او ارتكاب المعاصي والنوم لصق الجدران تحت الظلام، كانت تبدو مثل شيء فائض يغري اطفالي الزاحفين من السلالم والمحجرات للعبث.

اسمع صوت جدتي مرورياً في عمق الظلام مع رائحة البخور المنساب اثر اختي، كنت اشم البخور بينما كانت زوجتي الصامتة الابدية تبكي، وتنوح مثل كلبة جرباء، انظر اليها بصمت ورائحة البخور تترافع تحشر عند ظلفة نافذة الغرفة، هاجت الرائحة اختي العمياء فتجر صراخها من وراء الباب الوحيد، ترتطم نيرانه كرنين بخشب الباب، تنبعث ذكرى عفونة اعماق اشباحهم في غرفتها الواسعة - كانت اوسع الحجرات - اقبلت جدتي من ظلامها تشتمني تطلق في الهواء الفاسد وصاياها، مواظبة بجنون على دعواتها في ادامة اللعنة التي حلت بنا، زوجتي تنظر بذعر وهي تستقبل حشداً من الاسماء ترسلها جدتي.

قطنت الى رقودها، بينما كانت الاسماء لاتزال تتوالى تسيل من انتشارها السريع بقايا معالم غاربة.

شرعت اشق لي مسلكاً وسط الاسماء المحتدمة يفضي بي الى زوجتي التي لم تعثر على اسم لي من تلك الاسماء العديدة التي نسجتها برمتها مع جدتي المنحدرة صوب عزلتها تنعم بسحر الاسماء.

لم اشم رائحة اسم يعود لي فتملكني حزن بائد، كما لو سأنخرط عنوةَ في سلك (الجندية) كم اسم غاب في فضاء المنزل، طمره الغياب، اسماء عديدة وفدت ذات يوم وغادرت ايضاً من يوم غائم او طويل او مشمس او مغمور بالظلام، اسماء طويلة ومحدبة وعرجاء وعمياء وسليمة متألقة وهرمة وعطنة وبليدة وجميلة ومجنونة ومضيئة ومسكينة وخضراء وشاحبة، اسماء ظهرت وتألقت وفرحت وبكت، عثرت عليها الحياة في بطون الامهات فأخرجتها من غيابها، اسماء لها رائحة سعال - السل- ودخان حروب طويلة وتاعسة، حروب وخسائر متوالية، اسماء فرقتها الحياة، شنتها في حجرات منزلنا الكبير.

حجرة منيفة واخرى على هيئة كوخ كما طردت اسماء الى ارصفة واقبية ومزارع وسجون ومنافٍ منحتها صفات عديدة، لص وفقير وثري وتاجر وقواد ورسام، وقصاص، وسائق وساعاتي وبائع اسماك.

هتفت بعيني زوجتي الساكنتين المطوقتين بألق خضرة ساحرة، ولكن من اين لي ان اجد اسمي بين كل تلك الاسماء؟

 


المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي في فيلمه الجديد (انتظار): أسعى إلى رسم خارطة إنسانية لا جغرافية للهم الفلسطيني. الاحتلال لا يستطيع ان يحاصر الحلم والخيال.

دمشق ـ ابراهيم حاج عبدي

لا يمكن فصل السينما الفلسطينية عن مسار القضية الفلسطينية وتعقيداتها، فمثلما ان الشعب الفلسطيني يعيش في ظل الاحتلال والحصار فان فنونه أيضا محاصرة، وتتأثر بطبيعة الظروف السياسية في كل مرحلة، غير أن ثمة مبادرات فردية تحاول أن تكسر هذه العزلة المفروضة، وتقول شيئا وسط هذا الخراب من خلال اللوحة أو المسرح أو الأدب أو السينما، ويعد رشيد مشهراوي واحدا من أولئك الذين تمردوا على الواقع وقالوا كلمتهم بلغة سينمائية رفيعة، فهو من العلامات البارزة في السينما الفلسطينية الجديدة التي ظهرت في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وهو ـ مع قلائل من مجايليه ـ استطاع إخراج السينما الفلسطينية من بيئتها المحلية الضيقة لتشارك في المهرجانات والمحافل الدولية وتستقطب الاهتمام النقدي والجماهيري.

ولد مشهراوي في مخيم الشاطئ في قطاع غزة 1962، وتعود جذور عائلته إلى مدينة يافا، وهو مقيم حالياً في رام الله حيث يعمل منذ عقدين في السينما أنجز خلالهما أكثر من خمسة عشر فيلما روائيا طويلا، وتسجيليا قصيرا منها: "جواز سفر" 1986، "الملجأ" 1989، "دار ودور" 1990، "أيام طويلة في غزة" 1991، وبعد أن أسس في عام 1990 شركة أيلول للإنتاج التلفزيوني والسينمائي أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول "حتى إشعار آخر" 1993 ونال هذا الفيلم جائزة الهرم الذهبي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي السابع عشر، وقدم مشهراوي بعد ذلك فيلمه "حيفا" 1996 الذي يعتبر، كما يقول الناقد السينمائي الفلسطيني بشار ابراهيم، "نقلة ذكية، وبارعة في مسيرته السينمائية، وهو فيلم مدهش، مشغول بهدوء، ودقة يتناول فيه عبر 72 دقيقة شخصية (حيفا) ـ وهو اسم بطل الفيلم ـ الذي أقصاه الاحتلال من مدينته حيفا وشرده إلى قطاع غزة لكنه لم يستطع نسيان مدينته حيفا، ولم يقبل ان يتخلى عن أحلامه، وفي هذا الفيلم يعبر المخرج بوضوح عن موقفه المعارض لاتفاقيات أوسلو 1993.

وقدم مشهراوي كذلك فيلم "رباب" 1997، و"توتر "1998 "، و"خلف الأسوار"2000، وفيلمه قبل الأخير "تذكرة إلى القدس".

يعمل مشهراوي الآن في تصوير فيلمه الجديد "انتظار" محاولا التركيز على (المخيم الفلسطيني) في الداخل، والشتات والذي اصبح رمزا لمعاناة هذا الشعب منذ أكثر من نصف قرن، وقد انتهى مؤخرا من تصوير الجزء الخاص بالمخيمات الفلسطينية في سوريا لينتقل بعدها إلى بيروت، وعمان وأيضا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث تتوزع المخيمات هناك، وهو يقول ان الهدف من هذا الفيلم هو "إلغاء الحدود والحواجز بين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وفي إسرائيل، وفي الشتات، فالفيلم لا يسير في الخارطة الجغرافية بل يحاول رسم الخارطة الإنسانية للهم الفلسطيني في عمان وبيروت ودمشق والأراضي المحتلة"، معتبرا "أن موضوع اللاجئين ليس موضوعا ثانويا، بل هو الموضوع الأبرز في كل التسويات السياسية التي تجري هنا وهناك، ولا يمكن ان يكتب النجاح لأي حل ما لم يأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار"، وأوضح مشهراوي "بعيدا عن أي مسائل تثار في الوسط السياسي العربي والفلسطيني، الفلسطينيون أمة واحدة ولا فرق بين لاجئي الداخل ولاجئي الخارج"، ويضيف مشهراوي الذي يعيش في مخيم الشاطئ في غزة ان "الفرق بيننا وبينهم هو ان فلسطين بالنسبة للاجئي الخارج حلم جميل، أما بالنسبة لنا ففلسطين واقع مر".

وأضاف مشهراوي في الندوة التي أقامها مع طاقم الفيلم في مخيم اليرموك الفلسطيني جنوب دمشق "ستكون مدة الفيلم قرابة الساعة والنصف، وهو يتحدث عن مصور، ومذيع، ومسرحي يقومون بجولة في المخيمات الفلسطينية سعيا لاختيار أفراد منها لإنشاء فرقة مسرحية للمسرح الوطني الفلسطيني الذي لا بد ان يشمل جميع الفلسطينيين، وتجرى الاختبارات وسط الواقع البائس للمخيمات، وثمة من يتدرب على فن التمثيل ليتم قبوله في الفرقة رغبة في العودة إلى فلسطين، وهذه الآلية تعطينا الفرصة لندخل المخيمات ونعثر على تفاصيل كثيرة خارج الفكرة الرئيسة".

ويتابع مشهراوي: أحد أهدافي في الفيلم الذي يلعب بطولته الفنان الفلسطيني محمود مسّاد "هو فضح وتفجير موضوع اللاجئين الفلسطينيين، ففي الفترات الأخيرة راح الإعلاميون والسياسيون يتحدثون عن أرقام، وعن إحصاءات وهذه ربما تناسبهم لكن في الواقع أن هذه الأرقام التي تطرح في الإعلام بصورة باردة، هي أرقام تتحدث عن بشر، عن معاناة، عن أفراد كل واحد منهم له حياة كاملة وأحلام وأماني، فخلف كل رقم هناك شخص له هموم، وطموحات وحكايات كثيرة، وهذا ما نحاول ان نتناوله بلغة سينمائية فنية، وبرغم ان السيناريو مكتوب لكننا وفي أثناء التصوير في المخيمات نكتشف أمورا جديدة، وتصورات مختلفة لم تكن تخطر في البال".

وردا على سؤال لـ "المدى" حول واقع السينما الفلسطينية ودورها في إبراز عدالة القضية الفلسطينية أمام الرأي العام العالمي، يرد مشهراوي بان "السينما الفلسطينية هي سينما أفراد، وليس مؤسسات والذين حققوا إنجازات وعرض أفلامهم في مهرجانات هم قلائل جدا ممن حملوا على اكتافهم مشاريع شخصية ونجحوا، وهناك مبادرات متواضعة تقدمها وزارة الثقافة الفلسطينية التي يشغل حقيبتها يحيى يخلف لدعم السينما، وهناك مؤسسات خاصة أيضا.

ويشير مشهراوي في هذا السياق إلى ان "الدول التي تكون السينما فيها تابعة للقطاع العام نجد أن سينماها ليست غنية، وليست معبرة، وليست حرة ونحن لا نطمح إلى هذه السينما، بل نعتقد أن على الدولة ان توفر المناخ الملائم، وتدعم جهود المبدعين، وألا تتدخل في خيارات المخرج الفنية والجمالية، كما هو الحال في الكثير من الدول العربية التي تفتقر إلى سينما بالمعنى الدقيق للكلمة، فما بالك بالسينما الفلسطينية التي تعيش ظروفا صعبة.

وختم مشهراوي حديثه بالقول: السينما الفلسطينية تشبه الشعب الفلسطيني المشتت، على أن الحصار يمكن أن يحاصرنا جغرافياً بحيث لا نستطيع التحرك من مكان إلى مكان أو لا نستطيع إنجاز أعمالنا السينمائية بسهولة، لكن السينما كحلم وخيال صعب أن يحاصرها الاحتلال الإسرائيلي، ولا يستطيع أحد أن يمنعنا من أن نحلم، وأن نطلق العنان لخيالنا، وأن نمتلك مواهب وطموحات.

 

 


وتبقى سراييفو مسكونة بأرواح الحرب

ترجمة جودت جالي

-أرى أنك جئت من سراييفو.

-جيد. ماالذي يدفعك الى هذا الظن ؟

-نصوصك مليئة بالجنس والدم.

-مع أني لم أعد أكتب عن الجنس.

-أذن لم يبق فيها غير الدم.

هذا المقطع مقتبس من (مرحبا بكم في الجحيم) وهي قصة بقلم أوزرين كيبو أقتبست لمسرح كارميرني 55 في سراييفو في أثناء اللقاءات الأوربية للكتاب أواخر أيلول وهو يلخص أضطراب وعذاب المبدعين البوسنيين.

مع أن المدافع سكتت منذ تسع سنين فان كل الروايات والمسرحيات تقريبا أو الأفلام التي صنعت في السنوات الأخيرة في البوسنة تستذكر الحرب التي أدمت البلاد مابين سنتي 1992 و 1995. يؤكد كيبو قائلا (سيكون الأنسان دائما قابلا للأنجراح بسبب الحرب، ولن يستطيع أن ينساها أبدا، طبعا من الممكن أن نكتب عن أشياء أخرى ولكننا لانفتأ نعود اليها بكل رعبها فكل منا يفكر أنه كان يمكن أن يكون ميتا منذ زمن طويل) ما زال الصراع يسكن العقول كلها. أضاف ميرساد بوريفاترا مدير مهرجان سراييفو للأفلام (مادام طغاة مثل راتكو ملاديش ورادوفان كارادزيش طلقاء  ولم تحكم عليهم محكمة الجزاء الدولية لما فعلوه أبان حكم يوغسلافيا السابق فلن تنتهي الحرب). السياسة قريبة دائما من الفن وبالنسبة للمخرج المسرحي والسينمي حارس بازوفيش (يجب مواجهة عواقب الأبادة الجماعية لمرحلة مابعد الحرب. السلام لم ينجز والحاضر يظل معلقا والمستقبل غامضا).

ليس الجميع بمثل هذه الكآبة فالكاتب والمترجم نهاد حسنوفيش يعتبر (الحرب ماكنة أعمال وحشية ولكنها أيضا ماكنة للأنتاج الأدبي، أسهاب كتبي فيه يبوح الكتاب بتجاربهم في الحرب الى القاريء) والكاتب كيبو متفائل برغم كل شيء (المشهد الثقافي في سراييفو مكتظ بالأفكار، بالحيوية، برغم أنه يبقى محدودا بسبب أنعدام الأمكانية المادية).

في الحقيقة يستطيع العالم الثقافي في سراييفو  أن يعبر عن نفسه دون وسائل كبيرة. الممثلة سانيا بوريش التي بدأت أحترافها منذ سنتها الأولى في دراسة المسرح عام 1993 في الوقت الذي فضل فيه الكثير من الممثلين مغادرة سراييفو تحزن لضيق وفقر المشهد المسرحي البوسني وتؤكد (لايوجد هنا غير أربعة مخرجين وأربعة مسارح، والجمهور الصغير نفسه تقريبا. شيء خانق) والممثلون الذين لم ينظموا في نقابات ولا جمعيات لاتدفع لهم أجور في أثناء التجارب المسرحية ولايوجد لهم الحد الأدنى من الرواتب.

المصمم بوجان هادزيهاليلوفيش الذي يدرس في مدرسة الفنون الجميلة يبدي أستياءه أيضا من الأفتقارالى الوسائل (جهازي أوردناتور لخمسة وعشرين طالبا) والأفتقار الى التفتح الذهني عند أدارة المدرسة (الشيء الوحيد الذي يمكن تصديره من سراييفو هو الثقافة) ويأسف لأن (الحكومة لاتريد الأقتناع بهذا) ويضيف حارس بازوفيش (في بلاد فقيرة كهذه تكون الثقافة في آخر أهتمامات السياسيين. الحال لابأس به في سراييفو ولكن في أماكن أخرى كتوزلا  وموستار فهي كارثة مطلقة أذ لايوجد أي نشاط ثقافي !) يعاني المبدعون غياب السياسة الطوعية عند الدولة. شلل المؤسسات مستحكم الى درجة أنه لايوجد كيان ثقافي يغذي الأنتماء الوطني مثل المتحف أو المكتبة العامة في سراييفو وقد أعلن المتحف الذي يضم مخطوطات نادرة مثل (هاجاداه) العبرية التي تعود الى القرن الرابع عشر في شهر تشرين الأول أنه سيغلق أبوابه.

برغم كل شيء تقام في سراييفو مهرجانات سينمائية ومسرحية وجاز ولقاءات أدبية سنوية عديدة ينظمها مركز أندريه مالرو وأحداث مهمة تسمح لسكان المدينة بأخذ فكرة عن الابداعات في أوربا كلها.

وإذا كان المسرح والأدب  مغبونين في البوسنة والهرسك فلم يبن أي مسرح جديد منذ خمسين سنة ولايتجاوز عدد دور النشر العشرين ولكن يبدو أن السينما أفضل تجهيزا فالحكومة والتلفزيون الفيدراليان يوزعان سنويا مايعادل 750000 يورو ليتمكن المخرجون من أنجاز مشاريعهم، سنة سيئة وسنة جيدة، ثلاثة أو أربعة أفلام سنويا، وأحيانا تصل الى ستة أفلام.

بوجود مخرجين مثل دانيس تانوفيش الذي غادر سراييفو عام 1994 أو بير زاليشا وسيدران فوليتيش فأن السينما منذ عدة سنوات عبرت الحدود الوطنية وحاضرة خصوصا في المهرجانات الأوربية، وحتى لو بقي أينفر بوسكا كاتب سيناريو فيلم أحمد أماموفيش القادم (أذهب غربا) ذي الميزانية الضخمة قدريا (كل مايجري صدفويا) دعمت الممثلة جان مورو فيلمه بالظهور في أحد المشاهد، ولكن الفيلم الطويل صار موضوع معركة صحفية لأنه يخرج حكاية شاذين جنسيا من قوميتين مختلفتين.

في البوسنة يواجه عالم السينما مشكلة صعبة هي التوزيع.يشرح ميرساد بوريفاترا مدير مهرجان سراييفو قائلا (الكثير من الصالات دمرت في أثناء الحرب، وفي الريف يكون الأعتماد على الصالات المتنقلة التي تسمح بعرض الأفلام للأطفال، وفي سراييفو بقيت سبع صالات فقط) برغم هذه المعوقات فالفيلم الوطني يلتقي بجمهوره، وقد شاهد فيلم بير زاليشا (النار) 300000  مشاهد.

بالنسبة لمدير المهرجان فإن (غياب الأستوديوهات وأماكن التصوير والعدد مثل الكاميرات وغيرها) دفعت الى السعي لإيجاد تعاون انتاجي عالمي مثل فوندا سيد وهو نظام مساعدات شعبية يحركه المركز الوطني الفرنسي للسينماتوغراف. ولكن البوسنة والهرسك ليست مؤهلة بعد للدخول في برنامج يوريماج أو ميديا الأوربيين وعلى المنتجين أن يواجهوا القرصنة الكبيرة على كل الأفلام فنسخ (الدي في دي) غير القانونية تباع علنا وأمام صالات السينما مباشرة وعليهم من جانب آخر توفير تأمين محدد للبلدان في حالة الحرب، وهذه علامة واضحة تشير الى أن الصراع لم يهدأ بعد.

 

 


تداعيات في السينما العربية المُهاجرة

باريس/ صلاح سرميني

كانت مبادرةُ جميلةُ، تلك التي أقدمت عليها (د.ماجدة واصف) ـ مديرة قسم السينما في معهد العالم العربيّ بباريس ـ بإشراكي في لجنتيّ إختيار الأفلام الروائية، والتسجيلية القصيرة، والطويلة للدورة السابعة لبينالي السينما العربية، حيث منحتني إمكانية مشاهدات مُكثّفة لكلّ الإنتاج السينمائيّ العربيّ خلال العامين الماضيين على تاريخ إنعقاد البينالي، كما كانت فرصةً لكتابة ملاحظات تفصيليّة عن الأفلام المُقترحة لنشرها لاحقاً، ومشاهدة ثانية، وثالثة لما أُختير منها في مهرجانات عربية أخرى روتردام، أصيلة، قرطاج، ومايُمكن أن يُعرض في مهرجانات قادمة (القاهرة، دبي).

ومن جهة أخرى، حققت لي إطلالةُ على المشهد السينمائيّ العربيّ، والمهجريّ، بدون ملاحقة الأفلام في هذه التظاهرة، أو غيرها، وحتى مشاهدة تلك التي لن تعرض في أيّ واحدة منها.

والسينما العربية المُهاجرة واحدةٌ من المحاور التي تكشّفت أمامي بوضوح أكثر مما مضى.

في بداية الثمانينيّات، كان السينمائيّون العرب ينجزون أفلامهم في إطار الفرانكوفونيّة، أو إتفاقيّات التعاون السينمائيّ مابين فرنسا وأوروبا بشكلّ عام والدول العربية، وقتذاك، كُنا نتحدث عن إنتاج مُشترك لسينمائيين يعيشون فترةً مؤقتةً في بلدان الهجرة، أو بالتناوب ما بين إحدى الدول الأوروبية، وبلدانهم الأصلية.

خلال التسعينيّات، وبعد أن كبر أبناء المهاجرين القُدامى، ظهر جيلٌ جديدٌ من السينمائيين الذين وُلدوا في أوروبا، وإخترقوا عتبات المشهد السينمائيّ الأوروبيّ بصفتهم مواطنين، وليسوا مهاجرين،..ولكن، في نفس الوقت، إكتسبت أفلامهم بدون أن يسعوا إلى ذلك جنسيات البلدان الأصلية لعائلاتهم، بعد أن إستقطبتها المهرجانات العربية كأمر واقع أمام قلّة الإنتاج السينمائيّ العربيّ.

وبعد مداخلات نقدية خجولة، ومتباعدة، فرضت تلك الإنتاجات نفسها، حتى بدأنا نتغاضى، أو نتناسى جهة التمويل، ونمنح أفلاماً إسرائيلية (أو بمُساهمة إسرائيلية)جنسية المخرج الأصلية إيليّا سليمان، ميشيل خليفي،علي نصار، توفيق أبو وائل.

وقد حسم البعض هذا الإلتباس منذ زمن، وبالنسبة لي، لم أستطع التعايش معه بعد، فمازلتُ مُقتنعاً بجنسية الفيلم إنطلاقاً من مصادر تمويله الرسميّة، بغضّ النظر عن الوضع الحاليّ للمخرج، أو أصوله العرقيّة، ويكفي أن تكون كلّ العقود، والإتفاقيات، موجودة بكاملها في بلد الإنتاج الغربيّ، ولن نعثر على وثيقة رسمية واحدة تُثبت مساهمةً ما من البلد الأصليّ للمخرج، أو بلد عائلته، وأجداده،..

وتأريخاً، سوف تدرج تلك الأفلام في قوائم بلد الإنتاج الحقيقيّ.

وبما أنّ الإنتاج السينمائيّ العربيّ يتناقص يوماً بعد يوم، فقد رضي السينمائيّون، والنقاد، وصُنّاع السينما العربية على مضضّ، أو إقتناع بالأمر الواقع.

ولو كان الإنتاج السينمائيّ الوطنيّ في حالة إزدهار مستمر، لما بحث مديرو المهرجانات، ومنظمّوها عن إنتاجات أجنبية لمخرجين من أصول عربية، كي يدرجوها في مهرجاناتهم.

ومن خلال هذا الإختطاف، التدوير، والتحوير، فقد منحنا السينما العربية إمتيازات لاتستحقها، وقدمنا لها أفلاماً لم تسعى أبداً لإنتاجها، ولكنها تبنتها، وإحتضتنها، بدون أن تكون طرفاً فاعلاً في ظهورها إلى النور.

ويكفي اليوم أن نفتح أيّ كتالوغ مهرجان سينمائيّ عربيّ، ونُحصي عدد الأفلام المُنتجة أوروبيّاً مقارنةً مع تلك القادمة فعلاً من البلدان العربية، لنتكشف حجم المصيبة التي تُعانيها السينما العربية اليوم، وما سوف تُعانيه مستقبلاً.

إعادة التدوير هذه لمصلحة السينما العربية، تقدم لنا أكثر من إستنتاج، وأكثر من تساؤل،

أولها، تجميل المشهد السينمائيّ العربيّ نفسه، كي تتحوّل أنظارنا عن واقعه الحقيقيّ، ويُظهر لنا صورةً خادعةً عن حجم إنتاجاته، ومستواها النوعيّ، وتمنحنا بعض الخدر، والإكتفاء، وتُفقدنا الرغبة بالتمرّد على الأوضاع السائدة، أو في الأقلّ، تُلهينا من الحديث عن واقع السينما العربية، وتُوهمنا بأنها في أوج إزدهارها، ونشاطها.

ولكن، عندما نتساءل عن مصادر التمويل، سوف يتكشّف لنا أنّ السينما العربية الوطنية لا تُنتج نصف العدد الذي تقترحه المهرجانات العربية.

وأمام الإحباطات المُتواصلة للسينمائييّن العرب في الداخل، تصبح الهجرة السينمائية حلاً مؤقتاً، أو دائماً، وتتوجّه أنظار آخرين نحو أيّ تمويل، وسنةً بعد أخرى، يتسرّب الإبداع السينمائيّ إلى الخارج، وتبدأ المؤسّسات الغربية، الحكومية، والخاصّة، بدعم، ومساندة المشاريع السينمائية المُلائمة فكرياً لتوجهاتها، وأطروحاتها، وسياساتها الثقافية، التعليمية، التربوية، الأخلاقية، والدينية.

صحيح، أنّ بعضها يفلتُ من شروط الغربلة، ولكنّ الواقع العمليّ يُقدم الكثير من الأفلام المُنجزة وفقاً لسياسة غير مُعلنة، وتتجلى في أبسط صورها، بلجان الإختيار نفسها، والمُكوّنة عادةً من أوروبييّن، من الطبيعيّ أن يختاروا دائماً ما يُناسب أذواقهم، وقناعاتهم الشخصية، فكرياً، وجمالياً، وهي القاعدة الجوهرية لأيّ لجنة إختيار، أو تحكيم.

ولكن، الأكثر خطورةً في ميكانيزمات (السينما العربية المُهاجرة)، هي عولمة السينما العربية نفسها، فمنذ سنوات، كانت الأفلام، ومازالت، تنتسبُ لبلدان إنتاجها، ومصادر تمويلها الحقيقية، واليوم، بدأت تقترب من الأصول العرقية لمخرجيها، وتضاءلت، بشكلّ، أو بآخر، أهمية الإنتماء الجغرافيّ، أو أُستبعد، أو تمّ التغاضي عنه، وهي حالة كلّ السينمائيين من أصول عربية، أولئك الذين لم يولدوا في بلدان أجدادهم، ولا يعرفونها أصلاً، ولا حتى يُجيدون لغتها، وبمعنى آخر، لقد إختفت أهمية الهوية الوطنية لمصلحة أخرى إفتراضية، وبدل من أن ينخرط، ويندمج الجيل الجديد من السينمائيين (أبناء المهاجرين القُدامى) في المجتمعات التي يعيشون فيها، تشدّهم السينما العربية مرةً أخرى إليها، وإلى أوطان وهمية، فانتازية،..وتُعيد إليهم جنسيات أجدادهم، وكأنهم بلا جنسية، وتجعلهم يتأرجحون من جديد ما بين بلد المولد، والنشأة، والحاضر، وبلد العائلة، والأجداد، والماضي، والأهمّ من هذا، لم ينطلق الإستقطاب، والجذب من رغبة حقيقية بربط أبناء المهاجرين مع بلدانهم، وثقافاتهم الأصلية، ولكن، فقط، لأنّ السينما العربية الوطنية غير قادرة على توفير حجم كميّ، ونوعيّ يكفي لمُسابقة في مهرجان، وبرمجةً إعلاميّة.

مازالت السينما العربية تتمسّك بأفلام (مرزاق علواش) الفرنسية، وتمنحها الجنسية الجزائرية، ومع أنّ موريتانيا لا تعرف السينما أصلاً، إلاّ أنّ السينما العربية تصرّ على (موريتانية) أفلام (عبد الرحمن سيساكو)، و(محمد عبيد هوندو)، وهي تتباهى اليوم بـ(دانييل عربيد) كمخرجة لبنانيّة شابّة، تُنجز أفلاماً أوروبية الإنتاج مئة بالمئة.

والأكثر خطورةً، بأنّه لم يعدّ بالإمكان تجاهل السينمائيين الفلسطينييّن الذين يعيشون الإحتلال، وينجزون أفلامهم بمعونات إسرائيلية رسمية، وفي الوقت الذي نتفاخر بهم، وبإنجازاتهم، تعبر السينما الإسرائيلية حدودنا، وتُزيّن شاشات صالاتنا، ونحن نصفق، ونمنح الجوائز.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة