اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

انبثاق جماعات عراقية للضغط السياسي: لجنة لندن نموذجا

سّيار الجميل

دعيت اثناء زيارتي لندن قبل اسبوعين الى لقاء عمل مع بعض الشخصيات العراقية من جماعة سياسية تسّمي نفسها (لجنة دعم الديمقراطية في العراق) ويشكلها سياسيون محترفون ومثقفون متميزون واعلاميون عراقيون يقيمون في بريطانيا ويشاركهم البعض الاخر من العراقيين ممّن ينتشرون في الشتات.. وكانت هذه اللجنة قد اصدرت في لندن يوم 17 ايلول المنصرم بيانا وقع عليه حوالي 120 من شخصيات العراق المعروفين بتكنوقراطيتهم العليا واستقلاليتهم السياسية. ولقد انبثقت هذه الجماعة أساسا من اجل رعاية العملية السياسية الديمقراطية في العراق الجديد من دون اي طموح الى نفوذ أو سلطة او جاه او مال او مصالح ومنافع مادية. وعليه، فهي تصّنف في العرف الليبرالي اذن من جماعات الضغط، علما بأن هناك اليوم اكثر من جماعة عراقية تنتشر في هذا العالم تخطط لاصدار بيانات سياسية او لعقد ندوات خاصة ومؤتمرات عامة لدعم عملية الديمقراطية في العراق الجديد.. لقد كان لي اكثر من لقاء مع شخصيات من هذه الجماعة في الهيلتون لندن وجرت حوارات جد مهمة على اعقاب البيان الذي اصدرته والذي تطمح من خلاله العمل على توسيع الدائرة من النشاط السياسي الفعال سواء بعقد الندوات او ممارسة الادوار على التراب الوطني العراقي خصوصا وان العراق مقبل لأول مرة بعد قرابة نصف قرن على الانتخابات العامة كجزء اساسي من العملية الديمقراطية في العراق خصوصا وفي تاريخ المنطقة كلها بشكل عام كما تؤكد وتشير كل دلالات التغيير والتحولات الجذرية.

وعليه، فأنني اعتقد بأن الايام القادمة حبلى باحداث تاريخية مؤثرة وانها ستتمخض من دون شك عن مشاركات سياسية من قبل عراقيي الخارج لدعم العملية السياسية في الدواخل العراقية قاطبة من اجل تكوين العراق الجديد وبناء مؤسساته وخلق عناصره وتطوير احزابه في القرن الواحد والعشرين. وهنا اود القول بأن الحياة العربية تتعّرف اليوم ولأول مرة على سيناريوهات العمل السياسي في اتاحة الممكنات الى حيز التنفيذ بعد ان عاشت قرابة خمسين سنة بعيدة كل البعد عن التطور الديمقراطي وعن تطور مجريات العملية السياسية.. كما يمكنني القول بأن نخب العراقيين تعرف لأول مرة نفسها متقدمة على غيرها من النخب السياسية العربية كجماعات ضغط مؤهلة سياسيا في مطلع هذا القرن لأداء مهامها من دون اي رقيب سياسي حكومي او اي رصد امني ووقائي – كما يسمونه -او متابعة جهاز مخابراتي عاتي. انني واثق كل الثقة بأن النخب السياسية العربية اليوم قاطبة لم تزل جميعها مقيدّة تقييدا محكما وليس باستطاعتها حتى وهي منتشرة في الشتات ان تعمل سياسيا بصورة علنية ونشيطة من اجل اوطانها في الدواخل. وعليه، فستكون تكتلات من الساسة والمثقفين العراقيين نموذجا فعالا في التغيير السياسي القادم ليس في العراق وحده حسب، بل سيمتد تأثيرهم على مجاميع من النخب العربية الفاعلة من اجل التغيير، وهذا لوحده كاف لأن تخشاه ليس الحكومات والادارات العربية اليوم، بل جملة من الاحزاب والتيارات السياسية وحتى التكتلات الاجتماعية والمؤسسات التقليدية القائمة حتى الان.

معنى جماعات الضغط

تتبلور جماعات الضغط (Pressure Groups)  او انها بالاحرى جماعات المصالح العليا، وذلك من اجل ممارسة الضغط سواء على الدولة / الحكومة او على جماعات اخرى او حتى على احزاب ومنتديات.. وانشطتها علنية لا مفر منها حيث تضمن العملية الديمقراطية حرية التجمع. ولقد قدم كل من فرانك بيلي في معجم بلاكويل للعلوم السياسية ودي ترومان في كتاب (حكومات الضغط)، تصنيفا مهما لجماعات الضغط، اشهرها التقسيم بين الجماعات القطاعية التي تهتم بالمصالح المادية والجماعات الترويجية التي تهتم بالدعايات والجماعات التوليفية ، فالجماعات الاولى يشكلها الشركاء الاجتماعيون ورجال الاعمال ومنهم البنتهاميون في حين تشكل الجماعات الثانية الاعلاميون وجملة من الصحفيين ورجال الدعاية والمواقع والشعارات.. اما

الجماعات الثالثة فهي التي يمثلها السياسيون والمثقفون المستقلون الذين يطمحون الى بناء توليفات البيت السياسي على اسس دستورية.

ان من ابرز انشطة جماعات الضغط في اي مكان في العالم سواء كانت في الداخل ام الخارج ممارسة استراتيجيات دائمة لتفعيل اجندة سياسية على المدى الطويل، ولكنها تمارس في الوقت نفسه عدة تكتيكات مرحلية في التسرب والتكيف في دواخل الحكومة او الاحزاب من اجل اهداف سياسية وطنية وتمارس شتى انواع الاقناع السياسي وخصوصا مع النشطاء في الاوساط السياسية للاجتماع على اهداف معينة تتطلبها ظروف معينة، او للمشاركة في الضغط على مؤسسات بعينها من اجل تشريعات محددة او قرارات موحدة او جمع احزاب في تكتل معين او جمع تكتلات في تيار واضح.. الخ وتصلح هنا سياسة النفس الطويل وممارسات السلم والاقناع وفرص الحوار اذ لا ينفع العنف وادوات القسر.. اذ تتحول العملية برمتها الى التطرف وتفقد هذه الجماعات مكانتها في الضغط السياسي او الاقتصادي او الاعلامي او حتى الثقافي والاجتماعي.. ان الجماعات العراقية التي بدأت تمارس دورها في الضغط خليط من التصنيفات الثلاثة، اذ ظهرت اكثر من جماعة لرجال الاعمال ومنها مجلس العمل العراقي في ابو ظبي مثلا، وهناك اكثر من جماعة عراقية اعلامية تنتشر بمكوناتها في كل من اوروبا الغربية وامريكا الشمالية ويكفي ان نراقب الكم الهائل من مواقعها الالكترونية على الانترنيت.. وهناك اكثر من جماعة عراقية سياسية للضغط تنتشر ايضا في شتات هذا العالم، نذكر منها : جماعة لندن التي اتحدث عنها اليوم، والمنظمة الوطنية للمجتمع المدني وحقوق الانسان، والجماعة السياسية التي تتبلور الان بعد عدة اجتماعات لها في دبي من اجل بناء العراق الجديد.

أهداف جماعة لندن

لقد اطلعت - كما هو الحال عند غيري من المراقبين والمحللين - على اجندة هذه (الجماعة) المتميزة بفاعليتها وحركتها وانشطتها ان من ابرز اهداف لجنة دعم الديمقراطية في العراق : اشراك كل العراقيين المقيمين في الخارج في الانتخابات القادمة واقناع العراقيين في الخارج للتصويت لصالح برنامج انتخابي ديمقراطي من اجل تأسيس دولة مدنية ديمقراطية تتحقق فيها فرص المساواة والحريات والعدالة الاجتماعية.. فضلا عن اقامة حوار واسع مع القوى السياسية في الداخل لتبّني برنامج انتخابي ديمقراطي موّحد من اجل خوض الانتخابات القادمة على اساسه.

وتحاول هذه (الجماعة) ايضا ارساء اساليب وبرامج عمل لها بعقد لقاءات وندوات للعراقيين في الشتات والاتصال بالديمقراطيين البريطانيين والبحث عن مصادر تمويل فضلا عن الاتصال بكل العراقيين المقيمين في بريطانيا ليكونوا مشاركين في الانشطة المزمع تنفيذها، ثم العمل المشترك مع جماعات عراقية اخرى للضغط السياسي في اوروبا وامريكا والدول الاخرى من اجل التنسيق في المواقف والانشطة المشتركة والتأثير على هيئة الامم المتحدة لانجاح العملية السياسية واشراك الهيئة بالاشراف على عملية الاقتراع في الانتخابات المقبلة. ولكن ليكن معلوما بأن هذه (الجماعة) لا تمّثل كل المغتربين العراقيين الموجودين في بريطانيا، اذ ان هناك جماعات اخرى لا تؤيد حتى بناء العراق الجديد وحججها في ذلك متنوعة فهي اما تنطلق ضد اي انشطة سياسية بحجة وجود الاحتلال ومن منطلقات قومية او دينية او طائفية او كما تسميها بالاسباب الوطنية !

التطلعات نحو المستقبل

لقد تفّرعت عن جماعة لندن لجان اتصال وعلاقات واعلام لممارسة انشطتها في الضغط السياسي على كل من الحكومة والاحزاب لخلق مناخ سياسي ملائم لتطوير الاساليب السياسية والاهداف المدنية في مشروع العراق الديمقراطي الجديد الذي يتفق عليه معظم العراقيين وخصوصا في بناء المجتمع المدني. لقد اتفق العشرات من الشخصيات العراقية الناشطة بضرورة تأسيس حركة واسعة ومفتوحة لدعم افكار ومستلزمات ذلك عبر جسور الانتخابات الحرة والنزيهة، وخصوصا من خلال وحدة الديمقراطيين العراقيين تطلعا لتحقيق ما يلي :

1- تأسيس دولة العدالة والمواطنة والحريات والضمانات الدستورية والتعددية وحقوق الانسان واستقلال القضاء والتداول السلمي للسلطة وحماية الاديان والطوائف وتحريم العنف واساليب الارهاب وحق التعبير وسبل الحوار والاحتكام لصناديق الاقتراع.

2- احترام حقوق الاكراد باقامة فيدرالية عراقية في اطار الدولة الموحدة وضمان حقوق كل القوميات والاقليات وتنمية العلاقات مع الجيران.

3-انهاء الرواسب الدكتاتورية باحتواء الاخطار واصلاح البيئة واعتماد الكفاءات ومكافحة الفساد واعادة تجنيس المهجرين وتصفية تركة العهد السابق واشاعة الحياة الديمقراطية والشراكة في صنع القرارات السياسية والمصيرية..

4- اطلاق وحماية فعاليات المجتمع المدني ومؤسساته وقطاعاته واشاعة ثقافة الحوار وتأمين حقوق الاختلاف وحرية الصحافة ..

5-اطلاق حرية الابداع والكتابة وتطوير البحث العلمي وتشجيع الانتاج الثقافي والانساني وتحصين الثقافات الوطنية بمواجهة التخريب والاخضاع والشمولية.

6- ترسيم الحقوق المتساوية للمرأة العراقية في تشريعات دستورية وتأمين مشاركتها في الحياة العراقية الجديدة.

 

واخيرا : ماذا نقول عن مدى نجاح او اخفاق التجربة ؟

اخيرا، يمكنني القول بأن هذه المجموعة لم تتشكل كتحالف سياسي ولم تنبثق كبديل عن اي طرف او اطار عراقي.. انها قامت من اجل تقريب القناعات حول القضايا الاساسية التي توجه عملية دمقرطة المجتمع العراقي وسبل التعجيل بها. نأمل ان تكون نموذجا حيا واداة متطورة في العملية السياسية الجديدة التي بدأت في العراق. ولكن هل تنجح مثل هذه الجماعات في مهامها او ينالها الاخفاق في مسيرتها ؟ انني اعتقد بأن الطريق ليس سهلا ابدا خصوصا ان المجتمعات العربية لم تزل مقيدة بالاغلال فضلا عن ان الانسان لم يدرك بعد من خلال الوعي بالتحولات ان ثمة آليات يمكنه توظيفها في انشطته السياسية ولكن المجتمع سيقيد حركته كثيرا حتى خلق المناخ الملائم لمزاولة الحريات.. وان التحولات لا يمكن ان تخلق في ليلة وضحاها.. نأمل نجاح بناء العراق الجديد لمؤسساته وان يخرج حرا مستقلا باطوار التقدم من المحن التي الّمت به ويغدو مثلا تاريخيا رائعا في القرن الواحد والعشرين. وانني واثق من ان ثمة جماعات عراقية سياسية اخرى ستطرح اجندتها في الضغط على المجتمع السياسي العراقي ولتأخذ لها دورها في التحولات التي ستمر بها المنطقة على امتداد المرحلة التاريخية في المستقبل المنظور ! فهل سيتعلم العرب شيئا منها ؟ نأمل حدوث ذلك.

 

 

 

 


 

تموت البيادق ويحيى الملك

سعدون محسن ضمد

مهما كان سقوط الاحجار كثيراً على رقعة الشطرنج، ومهما كانت تلك المساحة المرقطة مليئة بالهزائم، فان اللعب يظل مستمراً عليها، مادام الملك لابثاً في مكانه بعيداً عن التهديد، ولذلك يبقى الامل بالنجاح يراود اللاعب الاكثر خسائراً هناك، فيستمر محاولاً الفوز، ولاينهدم الامل وتفنى فرص النجاح الابعد سقوط الملك، بل حتى لو كان هذا الملك اول الضحايا على الرقعة وبقي جميع من عداه سالمين، فان المعادلة تبقى كما هي، المعادلة التي تقول: ان سقوط الملك على الشطرنج يعني ويساوي انعدام الفرص، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ماسر هذه الترابط بين الملك وكل هذا الفشل، لماذا لاتنتهي اللعبة الا مع نهايته، ولماذا لاتكترث هذه النهاية بسقوط جميع من عداه، لماذا يموت الجميع وتستمر اللعبة، ويموت الملك وحده، فتنتهي اللعبة؟

ان هذا الترابط هو في حقيقة امره ترابط رمزي بين الملك وكامل اللعبة، ولذلك فلا بد ان تعني نهاية الملك نهاية اللعبة ومن ثم نهاية حق اللاعب بالاستمرار، وهكذا يكون على المتباري طوال اللعبة ان يدافع عن نفسه من خلال دفاعه عن الملك، يكون عليه ان يضحي بكل شيء، وعلى مذبح هذا الملك يكون عليه ان ينحر الجميع، لان الملك يمثل للاعب كل اللعبة، كامل مساحة الرقعة، جميع مربعاتها السود والبيض، كامل العدة والعدد الخاص بالجند والفيلة والقلاع والاحصنة، بل وحتى نفس الجالس على مقعد التحكم بشخوص اللعبة، حتى اللاعب يختصر بهذا الرمز، وينصهر مع الجميع داخل بودقته.

هذه هي اللعبة في حقيقة امرها، لعبة الـ(ان نكون او لانكون) لعبة الشطرنج، فهاهي الرقعة تمتد على ارض العراق بمربعاتها العديدة، هاهي البيادق... بيادق الطيف العراقي على ارض الرقعة الواسعة، متقافزة، مرتبكة، مستفزة وموشكة على الاحتراب، بيادق العراق اليوم هاربة نحو الفشل، مكتظة بالهزيمة، غارقة بالضياع، فقط لانها فشلت في اكتشاف سر الترابط بين وجودها ووجود الملك وهي لذلك باتت عاجزة عن ان تلتف حوله، غير قادرة على وعي ارتباط مصيرها بمصيره، بيادق شطرنج العراق تعتقد لجهلها ان لها حياتها المنفصلة عن حياة الملك، وان لها خياراتها المنفكة عن خياراته، وان لها بالتالي وجودها غير المرتبط بوجوده، لقد نسيت هذه البيادق ان لاقيمة لها مع انهزام الملك، بل لاوجود، فحيث يفنى هو تموت اللعبة ولايعود لوجودها جدوى تذكر.

بيادق العراق نسيت ان العراق هو الوطن، وهو الهوية، وهو الذات، هو الوجود.. ونسيت ايضا ان العراق هو الملك، واذا كان العراق كذلك فكل ماعداه بيادق عليها ان تنحر نفسها على مذبحه، فقط لانها تستمد من وجوده  وجودها، ومن بقائه استمرارها، الدين بالنسبة للعراق بيدق، العراق ايضا بيدق، كذلك الايديولوجيا، نعم قد يكون الدين بالنسبة لمعتنقيه هو الملك، العرق بالنسبة للمؤمنين بجدواه هو الملك، لكن هذا يصح بحدود النسبة الخاصة نسبة الدين لمن يعتنقه، وعندما تخرج هذه النسبة من الخصوص الى العموم، وعندما تشترك نسبية الاخرين في تحديد النسبية العامة، فلا بد للجميع من ان يندرجوا بقانون اخر، قانون (ان العراق هو الملك وجميع ماعداه بيادق) ومن مزايا هذا القانون انه حتمي، اذ من المؤكد ان الدين اي دين من اديان العراق- اذا مات ستنثلم من العراق ثلمة، قد تكون كبيرة وكبيرة جداً، وربما غير قابلة للتعويض، ولكنها ستظل ثلمة، ونفس الامر يقال عن القومية، وعن غيرها، ولكن ماذا سيبقى من العراق اذا مات العراق.. الملك؟

ان المخيف في الامر ان العراق يتعدى حدود التشبيه بينه وبين الملك في رقعة الشطرنج، فالعراق هو الرقعة ذاتها، وهو كذلك كل البيادق، وفوق ذلك هو الملك، فهل يصبح من المعقول ان نتخيل لعباً صحيحاً خارج مداه، وبقطع النظر عنه، هل يكون لاعباً شريفاً ذلك الذي ينحر العراق بكل بيادقه على مذبح بيدق واحد يؤمن به هو وحده؟ وهل يمكن لنا في حال حرصنا على دوام العراق ان لانرفع شعار (تموت البيادق ويحيا العراق).

 

 

 

 


 

من ينام على سرير بروكست؟قراءة في مرجعية العنف

شمخي جبر

(سرير بروكست) اسطورة يونانية تقول ان العابرين كانوا يوضعون على هذا السرير فمن كان اطول تقطع اطرافه ومن كان اقصر منه كانت تمدد اطرافه ليصبح على مقاس السرير، ويستخدم هذا المجاز لتصوير العقائديين الذين يطوعون الواقع بأية صورة لينطبق على المفهوم قد يتساءل البعض ماعلاقة العنف بسرير بروكست، فنقول ان العنف هو احد منتجات سدنة (سرير بروكست) بل هو اهم منتجاتهم ان لم يكن المنتج الوحيد، اذا كان لابد من تعريف للعنف فانه الاستخدام الفعلي للقوة المادية او التهديد باستخدامها وبعرف العنف السياسي كاحد اصناف العنف هو استخدام القوة والتهديد باستخدامها لتحقيق اهداف سياسية، ويكون مصدر العنف اما من الدولة الى المجتمع او من المجتمع باتجاه الدولة حين لاتوجد قنوات اتصال او لغة مشتركة للحوار ومن ثمة الوصول الى حد القطيعة ان تزايد القطيعة بين المجتمع والدولة وانعدام الثقة بين الحكام والمحكومين يقود الى تنامي اللجوء الى العنف حتى تصبح اعمال العنف السياسي المتبادل الالية الرئيسة بل الوحيدة لادارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الدولة والمجتمع.

وفق هذه الالية بنيت العلاقة بين طرفي المعادلة منذ ولادة اول كيان سياسي في منطقتنا التي اصبحت تملك تراثا (مجيدا) من اعمال العنف التي يتباهى بها حكام المنطقة ويظهرون مواهبهم في هذا الفن حيث كانوا يتفننون في ممارسته اثناء عمليات قمع معارضيهم، فبعضهم من يعلق معارضيه على بوابات المدن حتى (تعشش) بل تبيض في هياكلهم العظمية الطيور، او يطاف برؤوس المعارضين والخارجين عن طاعة اولى الامر في اصقاع الدولة ومدنها، بل ان احدهم كانت لديه خزانة يحفظ بها الرؤوس، لانه يعتبرها ارثا لمن يلية في الحكم وتذكير له (ان السيف اساس الملك) وهكذا كان تاريخنا (زاهرا) باعمال العنف، بل اشد الوانه الا وهو القتل، فقد يكون العنف سجنا او ابعادا او مصادرة اموال او حرمانا قسرياً من ابداء الراي، ان العنف السياسي هو احد مخرجات ثقافة الخضوع (حسب تقسيم ماكس فيبر للثقافة) التي انتجتها حضارتنا والتي توجب ان ينظر الفرد من خلالها (باعتبارها اطاره المرجعي) الى النظام السياسي على انه ابوي يتعهد الافراد ويتولاهم بل ينوب عنهم في كل شيء وثقافة الخضوع هذه هي نتاج تاريخي سياسي يمتد الى عهود بعيدة.

عملت السلطات المتتالية على تنميتها بشكل او باخر من اجل تدجين المجتمع (الرعية) ولكي يصبح السلطان. (الراعي) مالك التفويض للتعبير عن راي الكل (اذ قال صدام قال العراق) فيصبح فكر الحاكم ايديولوجيا للجميع. الذين عليهم ان يناموا بهدوء على (سرير بروكست) فاجبر المواطن في حدود هذه الثقافة على وحدانية الفكر والسلوك، والامتثال والاستتباع، واصبحت الثقافة والايدلوجيا خاضعة للاجهزة التقليدية لاعادة انتاج القمع الفكري والعاطفي والنفسي وسيطر الفكر البطريكي في اطار المؤسسات التعليمية والدينية، حيث سادت قيم الطاعة والامتثال التي لاتسمح ببروز فكر نقدي وابداعي، ولاتسمح بخلق وعي بضرورة التميز في الاراء والمواقف، فاعتبر العنف السياسي الدواء الناجع لتوحيد رؤية المجتمع وتوجهاته، الا انه لم يكن كذلك كما يقول اودونيس العكرة (اذا نجح العنف السياسي احيانا في حل المشاكل الاجتماعية والسياسية المطروحة وذلك بالنظر الى فعاليته الفورية فهذا لايعني انه نجح بشكل نهائي اذ لايمكنه بالنتيجة الا ان يزيد في حدة الظروف السياسية والاوضاع الاجتماعية  العامة ولايلبث مفعوله الذي يعتبر غالبا وبشكل خاطئ كنجاح سياسي قد تحقق، يسقط قناعه ويكشف عن وجهه الحقيقي، وجه مخدر سريع الزوال يحتوي بذور تفجر النظام السياسي والاجتماعي في اقرب فرصة ممكنة.. فالعنف يدعو العنف المضاد (الارهاب السياسي ص12) ان العنف السياسي هو الالية الوحيدة التي تجيد استخدامها النظم الاستبدادية والشمولية، بل قد تمارس بعض الحركات السياسية وخصوصا الدينية منها هذه الالية ضد من لايتفق معها في برنامجها السياسي لانها تعتقد ان منهجها هو الصحيح وماعداة باطل وزائف، مما يشكل خطرا كبيرا على الحياة السياسية للمجتمع (لان الانسان الذي يعتقد ان انة يمتلك الحقيقة المطلقة هو انسان شديد الخطر لانة يرفض الحوار مع الاخرين ولاياخذ بعين الاعتبار حقائقهم وعقائدهم وبالتالي حرياتهم على ضوء الشك بحقيقة هو) وهنا علينا ان نقسم العنف السياسي الى عنف تستخدمه الدولة ضد المجتمع او يستخدمه المجتمع كرد فعل على عنف الدولة او كآلية لتحقيق مطالب معينة حين تفتقد قنوات الحوار مع الدولة وهنا نتناول النوع الثاني من العنف السياسي الذي يمارسه المجتمع ممثلا بحركاته السياسية ومنظماته الاجتماعية ضد الدولة وحدودنا في التناول هو العراق بعد 9/نيسان 2003.

واسباب هذا العنف يمكن ارجاعها الى مايلي:

-الانهيار السريع للدولة في (9/نيسان 2003) ادى الى ماسماه (د.احمد شكر الصبيحي) قلب التربة بعد بوار طويل والذي يؤدي الى اعادة تنشيط التوترات والقيم والنماذج الكبرى الساكنة التي كان يستندا اليها المجتمع المدني التاريخي (مستقبل المجتمع المدني ص176) حيث خرجت جميع العفاريت والثعابين التي كان يخنقها قمقم الاستبداد وقمع السلطة واجهزتها، فكانت جميع اشكال العنف السياسي والاجتماعي وفقدان الامن، لان السلطة والقوة كانت بيد الدولة فحين انهار معها كل شيء فلم تكن هناك مثلا مؤسسات مجتمع مدني يمكن ان تقوم مقام الدولة حال سقوطها، وهكذا اصبح المجتمع في مهب الريح تتقاذفه امواج العنف والقمع والاستبداد من قبل مؤسسات اجتماعية ولدت بسرعة كما يولد الاطفال الخدج لاتدري ماتريد وماذا تفعل تتحرك وفق مصالح ضيقة، نصبت (سرير بروكست) في كل شارع.

-شيوع ثقافة الاستبداد والعنف ووحدانية الفكر والراي التي زرعها ونماها النظام السابق كالحزب الواحد، والقائد الملهم. (بالروح بالدم..) وعسكرة المجتمع التي اتبعها لجعل المجتمع وقوداً لادامة حروبه ومغامراته.

-سياسة العنف الواسعة التي مارسها النظام السابق كالحروب والاعتقالات والاعدامات والتي كشفت بعد سقوطه على شكل مقابر جماعية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً مما اثر في بنية المجتمع حيث افرز الاف الارامل والايتام الذين حرموا من ابائهم فلم ينشأ تنشئة اجتماعية سوية، حيث مورس ضدهم نوع من الفرز الاجتماعي فاصبحوا عبئا على المجتمع فكانت ممارستهم للعنف وخصوصا السياسي محاولة منهم لتحقيق الاندماج الاجتماعي.

-كان الكثير من اعمال العنف رد فعل او عنف مضاد لما كان يمارس من عنف من قبل قوات الاحتلال والتي فشلت في تحقيق الكثير من وعودها اضافة الى ضبابية وعدم وضوح صورة العلاقة السياسية والاقتصادية بينها وبين الحكومة.

-انتشار البطالة التي شكلت اكثر من (40%) من السكان القادرين على العمل ويشكل الشباب منهم النسبة الكبيرة وخصوصا المتعلمين من خريجي الكليات والمعاهد، اضافة الى توقف الكثير من الاعمال التي تعتمد على التيار الكهربائي الذي بقى غائبا مما عطل الكثير من المشاريع الكبيرة والصغيرة ومن ثمة بطالة الكثير من الايدي العاملة.

-حل الجيش والامن والمخابرات والامن الخاص اضافة الى طرد اكثر من (30الف) بعثي من وضائفهم مما زاد من مشكلة البطالة حيث يصل عدد هؤلاء الى اكثر من مليون شخص هؤلاء كلهم تضرروا من سقوط النظام لابد لهم من ان يمارسوا العنف للدفاع عن حقوقهم وامتيازاتهم التي فقدوها.

-التخلف الكبير في ميداني التربية والتعليم كما وكيفا، ففي الجانب الكمي تسرب الكثير من تلاميذ المدارس الابتدائية بل بعضهم لم يسجلوا في الاول الابتدائي اصلا لتردي الظروف الاقتصادية وعدم قدرة عوائلهم على الصرف عليهم او حاجتها اليهم في متطلبات الحياة الصعبة واحياناً انعدام معيل للعائلة فيصبح هذا الطفل هو معيلها الوحيد بعد فقدان والدهم في الحرب او اعدامه من قبل النظام مما حرم الكثير من الاطفال من المدارس فاصبحوا الان شباب يشكلون عبئا على المجتمع ويقعون فرائس لدعاة العنف، اضافة الى تخلف مناهج التعليم في الجانب الكيفي، لان النظام التعليمي الجيد يسعى الى تكوين المواطن ذي التفكير النقدي الذي لاينقاد بسهولة للديماغوجية والخطب البليغة التي تخاطب القلب قبل ان تخاطب العقل ويتسم مثل هذا المواطن بميلة نحو الحوار واحترام الراي الاخر والابتعاد عن العنف.

-غالباً ماتتجه الحركات المنتجة للعنف نحو الشباب لان خصائص السلوك السياسي لدى الشباب يتاثر بالخصائص السيكولوجية والفيسيولوجية لمرحلة الشباب باعتبارها مرحلة تحول بيولوجي واجتماعي ونفسي وفكري تترك اثارها في تصوراته وموافقة السياسية، فيتسم في الغالب بالخيالية والمثالية ورفض الواقع والسعي الى التجديد ومن ثم يصبح اكثر اندفاع واستعداد لممارسة العنف وبخاصة عندما لاتكون هناك مسؤولية اجتماعية تشكل قيوداً او ضوابط على حركة التمرد وعادة مايمثل الشباب العمود الفقري للحركات التي تمارس العنف لان هذة الفترة تتمثل فيها روح القلق والتوتر وبحث عن الهوية وسعى لتاكيد الذات.

-انتشار وسائل الاعلام الحديثة (الستلايت والانترنيت) التي دخلت الحياة العراقية بعد سقوط النظام سهل للمواطن الاتصال بالعالم الخارجي والاطلاع على التطورات التي حدثت فيه والمستوى المعيشي للناس هناك، ومايعرض من بضائع وخدمات. ساهمت وبشكل كبير في زيادة تطلعه وطموحه وخلق لديه مطالب وحاجات يريد اشباعها مما ادى الى ازدياد احساسه بالحرمان وعجز الحكومة الحالية ومؤسساتها للاستجابة لتطلعاته واشباع حاجاته مع تردي الوضع الاقتصادي، جعل المواطن يستدرج الى عمليات احتجاج سلميه مالبثت ان تحولت الى اعمال عنف تحت تاثير (السوك الجمعي) للافراد.

-عدم وجوت قنوات ومؤسسات للحوار بين الدولة والمجتمع وانعدام المؤسسات التي تتوسط بينهما والمتمثلة بمنظمات المجتمع المدني وان وجدت فان فعاليتها لاتكاد تذكر لعدم توفر مناخ امني سليم لهكذا نشاطات.

-الافتقار للشفافية في الحياة السياسية والاقتصاديه واصدار القرارات مما جعل المواطن نهبا لوسائل الاعلام المعادية للعراق وتوجهاته الديمقراطية. وانتشار المحسوبية والمنسوبية في التعيين او اعادة التعين وسيطرة بعض الاحزاب والحركات السياسية على الوزارات والمؤسسات وجعلها حكرا لمنتسبيها مما جعل المواطن يشعر انه مهمل ومستبعد مما اعاد الى مخيلته حزبيه النظام السابق وممارساته اضافة الى الفساد الاداري الذي عم الكثير من مؤسسات الدوله.

-انتشار السلاح بشكل واسع بين المواطنين نتيجة توزيعه من قبل الدولة قبل سقوطها او مما تركه الجيش في معسكراته بعد حله من قبل قوات الاحتلال ودور بعض القوى الاقليميه التي ترسل المال والسلاح والمتطوعين الى داخل العراق لخشيتها من التجربة الديمقراطية في العراق لما لها من تاثير في حال امتدادها خارج حدوده وهكذا قال احد الحكام العرب (اذا حلقت لحية اخاك بلل لحيتك).

-فشل الحركات السياسية والديمقراطية منها وخصوصا المشاركة في الحكومة في التفاعل مع المجتمع وتعبئته باتجاه الحياة الديمقراطية فعاشت عزلة قاتلة عن الوسط الشعبي اضافة الى نظرة المواطن الى (مفهوم) الحزب نظرة خوف وريبه لانه يقترن لدية بحزب النظام السابق وممارساته التي لم تغادر ذاكرته بعد.

عدم جديه البرامج السياسية والاقتصادية للدولة في مواجه التعبئة الاجتماعية السريعة التي حدثت داخل المجتمع بعد سقوط النظام ادت الى زيادة اعمال العنف او كما يقول (هنتغتون) ان عمليات التعبئة الاجتماعية السريعة تؤدي الى زيادة اعمال العنف وعدم الاستقرار بالارتباط بمتغيرات وسيطة تحكم طبيعة هذه العلاقة وهي التنمية الاقتصادية والمؤسسيه فاذا كان معدل التعبئة الاجتماعية اسرع من معدل التنمية الاقتصادية والمؤسسيه فان ذلك يؤدي الى زيادة اعمال العنف السياسي ذلك انه تترتب على عمليه التعبئة زيادة مطالب المواطنين من حيث الكم والكيف ونظرا الى قصور التنمية الاقتصادية في الاستجابة لهذه المطالب واشباعها وتوفير فرص افضل للحراك الاجتماعي من جانب فضلا عن عجز المؤسسات السياسية في استيعاب المطالب بالمشاركة السياسية وتمكين المواطنين من توصيل مطالبهم من جانب ثان فان شعورهم بالاحباط الاجتماعي يتزايد مع احتمالات انخراطهم في اعمال العنف المضاد للنظام باعتباره المسؤول عن احباطهم (حسنين توفيق – ظاهرة العنف السياسي ص257).

-واجهت الحكومة مشكله مايسمى لدى الباحثين في التخطيط الاجتماعي (ثورة الآمال المتصاعدة) اي ان هناك طموحاً للبناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الا انه يصطدم بنقص الامكانات المتوفرة للدولة لمواجهة هكذا مشكلة.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة