المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

بورتريت لسعدي يوسف في السبعين رقة الشاعر التي لا تتحرر من الإفراط أبدا

*علي بدر

في السبعين لا يتوقف عن حنينه النهم إلى المطلق، الحنين إلى الملموس، التوق إلى الحدود التي لا يغيب عنها النور، هذا الباحث عن أراضي الكلمات المجهولة، مكتشف المدينة في النهار حيث السابلة يهيمون في الأسواق، وحيث العمال يبحثون عن الخانات، والعاشقات يبحثن عن شقق نصف مفروشة، والرجال يبحثون عن العيون والثياب والشذا والنبيذ، أو عن خمس اسطوانات جاز لتمضية الوقت في الظهيرة، أو عن غصون الشجر التي تلامس النافذة، ومكتشف المدينة في الليل، حيث المسافرون يتيهون في المحطات البعيدة، ويقفون أمام رجال الجوازات أو أمام رجال الكمارك، أو يصلون إلى الفنادق القديمة في الضواحي التي تنأى، أو إلى المراكز التي تقترب، وهم لا يجدون قطاراتها التي غادرت، أو أرصفتها التي ابتعدت، أو محطاتها حيث يقف الحراس وبأيديهم الفوانيس، أو يجلسون في قاعات الانتظار، خلف الزجاج، أمام النساء الجالسات في غرف دافئة تنبعث منها رائحة الخشب الرطب والشاي، أو يهيم في الليل بحثا عن شقة في الضواحي، أو عن ملهى صغير بأعلى العمارة، أو عن مكتب في ساحة السوق.

*

سعدي يوسف شاعر المدن بلياليها ونهاراتها، ببردها وحرها، بضواحيها ومراكزها، بعماراتها وبيوتها، شاعر الشمال الأفريقي الذي أدخل إلى الشعر العربي نكهة المغرب الكبير بضربة إحساس واحدة، أدخل إلى فضاءات إحساسنا ومشاعرنا وذائقتنا إكزوتيك المدينة المغربية المختلطة من بربر وعرب وفرنسيين، الشاعر الذي صور جياع المغرب العربي في عتمة الحانات، أو على ساحل المتوسط حيث المشارب والمطاعم والمقاهي والملاهي والمباغي، وحيث تسمع الأغاني العربية والفرنسية معا، الشاعر الذي صور الجزائر العاصمة وسيدي بلعباس والرباط والدار البيضاء بريشة من وبر الخيل، سعدي يوسف هو رسام عصر الاستقلال في الشمال الأفريقي الذي شغف به: المدن المشيدة على الطراز الكولنيالي، ثورات التحرير، الصحف الأجنبية في الأكشاك والعاشقات تحت المطر، هناك حيث تاه في مدن الشمال في سيدي بلعباس، في الرباط، في وجدة، في درنة، في بنغازي، في تيباز التي أحبها كامو، حيث اصفرار القمح في الحقول المطلة على البحر، أو حينما تاه وهو يبحث عن قطار الليل في برشلونة، أو وهو جالس في إحد مقاهي مالقا، أو حين ضاع وهو يبحث عن حانات توريه مولينوس، شاعر مدن المنافي التي تنأى بعيدا عن سمائه الأولى، مثلما هو شاعر البصرة التي ولد فيها في العام 1934، البصرة الميناء الجنوبي الكبير وهي تختلط بسيدي بلعباس في الجزائر التي نفي إليها في العام 1964، البصرة التي تقابل محيط البحر من جهة الخليج، تتشكل في شعره من خلال صوت البواخر الكبيرة على أرصفة التحميل، من خلال قوارب صيد السمك التي تعوم من جهة جزيرة السندباد، أو من خلال الفلاحين العرب في أبي الخصيب وهم يحملون سلال التمور، أو من خلال الزنوج الذين يبيعون الجبنة والبيض على الأرض، وفي مركز المدينة الحضري تبرز مقاهي الكورنيش، وسوق الهنود، وبارات الرصيف، وعلى المدى الممتد يهيم البحارة الأوربيون والباعة الهنود والآشوريون والزنوج في النهارات أو في الليالي المعتمة، البصرة في شعر سعدي يوسف هي الذاكرة البعيدة التي تنفتح مثل صندوق العجائب في ألف ليلة وليلة، لكن هذا الصندوق المغلق يفتح في سيدي بلعباس فيخرج مرة واحدة الشرطة والمعتقلات وأرصفة التحميل، وسوق الصاغة والأفاويه والبهارات والروائح الآسيوية والألوان الصاخبة وصدأ البواخر عند الضفة، مثلما ينفتح هذا الصندوق في بغداد فتخرج منه سيدي بلعباس حيث الفرنسيون يغادرون المدينة في السفن الأجنبية وهي تحملهم بعيدا إلى ما وراء الأفق، تنفتح عن النساء اللواتي يرتدين المعاطف المطرية ويدخلن إلى الحانات، تنفتح عن الجزائرية المفرنسة، مأدبة سالامبو، وهذا المزيج المختلط من أوربيين وعرب وبربر ومولدين ومستوطنين وسكان محليين. السجناء في المعقل وفي السلمان هم الثوار القادمون من البيوت الحجرية والذين يشربون النبيذ الأبيض في حانة الغرباء في وهران المطلة على الساحل، بغداد البعيدة هي الرباط القريبة المظللة بالأكشاك والأشجار، والرجل الذي يرتدي معطفا مطريا ويجلس بين الرصيف والرصافة هو ذاته الذي يرتدي قفاز القتل ويجلس في مشرب للمغاربة اللاجئين.

*

سعدي يوسف هو الشاعر الذي يبحث عن تفاصيل المدن وملامح المدن وحياة المدن وهمومها وانشغالاتها وأشكالها وعمرانها: شوارعها المعبدة وأرصفتها المظللة بالشجر، شقق عماراتها المطلة على البحر، مقاهيها المتقابلة والمطلة على الساحة، موقف السيارات، دكاكين الأسواق، حجر الواجهات، النوافذ، الشرفات، الزجاج، بوابات المحطات، أكشاك المطارات حيث يجلس ضباط الجوازات، خشب المصطبات في الحدائق، هو الشاعر الذي أثرى الشعر العربي بصورة المدينة العربية الحديثة المشيدة على الطراز الأوربي الحديث، أثرى الشعر العربي بمناخ جديد لم يألفه من قبل، أثراه بفضاءات مدنية جديدة أزاحت بشكل كامل معجم الشعر العربي ذي النبرة التجريدية والرمزية والعقلية، فقد استخدم سعدي يوسف في شعره جميع المفردات المعاصرة والمستخدمة في الحياة اليومية ليمنح القصيدة نكهة واقعية، ليمنحها صورة تسجيلية، أو لقطة حسية، وليجعل هذه الكلمات ذات طبيعة مادية وتصويرية.

 سعدي يوسف شاعر مادي، يصدر شعره عن نظرية مادية جدلية، العلاقات بين الأفكار تهيئها وتبرزها العلاقات بين الأشياء، الأحلام والمشاعر والانفعالات تتشكل عبر الوجود المادي للروائح والألوان والحاجات، صراع الطبقات، الثورات، التمايزات، العلاقات الجديدة في المدن يبرزها ويشكلها معجم كامل من المفردات التي تشير إلى حاجات مادية هي من خصائص الحياة الجديدة، أو من أثاث الحياة المعاصرة للمدينة العربية المشيدة وفق طراز كولنيالي: من الغرامفون الذي يصدح في الغرفة،  من الملابس الموضوعة في الخزانة، من الرسائل في البريد، من الباصات في الساحة، من الصحف على الرصيف، من المصارف التي تفتح أبوابها في الصباح، من القطارات التي تهدر تحت الغيوم الخفيضة، من الحانة في المنعطف المنكفئة تحت رذاذ المطر، من العشاء المتكون من السمك والبطاطا.

*

سعدي يوسف هو الشاعر الذي يلتقط كل شيء بعينيه الجريئتين والباحثتين عن الصورة الغريبة غير المألوفة والتي تحيط بنا على الدوام، كما أنه أول من وصف صورة المهمشين والمبعدين والمقصيين في شعره: الجنود في المحطات، البغايا في البارات، العمال في المقاهي، الفقراء في الضواحي، باعة المفرق في السوق، عمال المطابع في المقاهي، الجيكولو العجوز على الملاءات الصوف، اللصوص في الموقف، باعة أوراق اليانصيب والدانتيل اليدوي، أرامل الحرب الأهلية في الطابور، وفي كل دواوينه تقريبا: القرصان 1952، أغنيات ليست للآخرين 1955، 51 قصيدة 1959، النجم والرماد 1960، قصائد مرئية 1965، بعيدا عن السماء الأولى 1970، نهايات الشمال الأفريقي 1972، الأخضر بن يوسف ومشاغله 1972، تحت جدارية فائق حسن 1974، الليالي كلها 1976، الساعة الأخيرة 1977، كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة 1977، قصائد أقل صمتا 1979، من يعرف الوردة 1981، يوميات الجنوب يوميات الجنون 1981، مريم تأتي 1983، الينبوع 1983، خذ وردة الثلج خذ القيروانية 1987، محاولات 1990، قصائد باريس شجر إيثاكا 1992، جنة المنسيات 1993، الوحيد يستيقظ 1993، إيروتيكا 1994، كل حانات العالم 1995، حانة القرد المفكر 1997، قصائد العاصمة القديمة 2001، حياة صريحة 2001، نشم رائحة اليوكالبتوس، والرطوبة المالحة، والخبز الساخن، والعرق المغشوش، ورائحة الأرض بعد المطر، ورائحة الملابس العتيقة، البخار المتصاعد من فنجان القهوة بالهيل، وشذا الشاي والنعناع، ودخان التبغ الذي يتصاعد من الغلايين.

*

سعدي يوسف مثل الرسام الانطباعي حيث المعنى لا يتحدد في اللون إنما وراء اللون، لا يكتمل بالخط إنما بما وراء الخط، الصورة مرسومة ودقيقة لكنها إيحائية أكثر مما هي تصريحية، تضمينية أكثر مما هي تعيينية، المعنى يكتمل في إيحاء المعنى، وفي ظلاله، والصورة تتسع أكثر من حجم الكلمات التي ترسمها أو تصفها أو تعينها، الصورة تجعلنا نتخيل ونحلم ونتصور دون أن يذكر ذلك، قلة من الكلمات تخلق الفضاء وتصور الحالة. تقشف مرهق في الكلمات يصنع طوفانا سخيا من المشاعر والأحاسيس والخيالات، نحن نتصور ونتخيل أشياء بعيدة وغير مذكورة تماما، نحن ندخل في فضاءات ومناخات عديدة ومتنوعة لا أثر لها في الكلمات لكنها موجودة وراء الكلمات، نحن نرى دون أن نقرأ، ونتخيل دون وجود ما يدل على الموجود، ولكن هنالك ما يوحي به ويدل عليه.

 حين تنهي قصيدة سعدي يوسف تتخيل أشياء غير موجودة في قصيدته، أنت تتخيلها وتحلمها، بل أنت تلمسها وتشمها وتراها وهي من وحي شعره، أو بالأحرى من بارا-شعره، من رؤية تتسع كثيرا بالرغم من ضيق العبارة.

*

سعدي يوسف هو الشاعر الذي أدخل السرد المتقطع إلى الشعر، كما أنه الشاعر الذي شعرن السرد، هو الباحث عن الحكاية الصغيرة في الحياة اليومية، هو العارض لتفاصيل الحياة وسط الرؤية الرمزية والتعبيرية، فالحبكات الصغيرة تدور على نفسها، تتحرك تتصاعد تتوهج حتى تختفي وتتلاشى، سعدي يوسف يقذف بالحكاية الصغيرة عند اختفاء الصوت، ويخفي الحكاية عند ارتفاع الصوت وعلوه، حيث تتحول العلاقات بين الجمل فجأة من علاقات نوعية إلى علاقات سببية، ويتم التركيز فيها حول التشاكل الصوتي، حول الترميزات الصوتية، أو القيمة التعبيرية للصوت، واستخدام التكرار الصوتي والدلالي، والترديد المنفصل والمتصل في الصوت وفي المعنى، والكلمات المتطابقة والمتقاربة في الأصوات، وتأخذ الحكاية وقتا دوريا متثاقلا، تتسارع وتتباطأ، تتحول من شكل إلى شكل آخر، وسعدي يوسف يقتحم السلم مع أوكتافيا يراقبها وهي تثب السلم حتى باب الشقة، يراقبها وهي تقذف نحو الكرسي حقيبتها، سعدي يوسف يعرض تأريخها فأوكتافيا لها ماض أيضا، فهي تملك مقهى بلجيكيا فنعرف لماذا يتقدم منها صديقها الذي له تبعات، وبعد أن تأتي راقصة عبر البحر تأكل صاحب الصوت متلذذة، وتنام عميقا ثم تتركه في ثاني أيام الأسبوع...

حكايات وأساطير وقصص من باريس إلى لندن، من عدن إلى الدار البيضاء، من سيدي بلعباس إلى البصرة، من بغداد إلى دمشق..نساء ورجال، شرطة ومعتقلون، سياسيون وفقراء، صحفيون وضباط، عمال ورأسماليون، بغايا وندل، رياضيون ولصوص، طلاب وغرباء، مهاجرون وحراس، موظفون ومسافرون..عالم ينبض ويتحرك على الورق، عالم يتحرك يبتعد في التاريخ ويندفع نحو المستقبل، عالم يتكون ويتشكل أمام أعيننا ثم يتهاوى ويتهدم.

*

هذا هو سعدي يوسف...محترف الشعر العظيم، مالك المخططات الكبير، هذا الباحث عن سعادة النهار وسط صخب العالم وفوضاه، راسم العالم بخطوط سود عميقة، هذا الملهم العظيم للشعر العربي المعاصر، الرومانطيقي ذو الحنين المتوسطي والذائقة الأفريقية، سعدي يوسف شاعر الملموس بكلام مفخم، هذا الشغوف العنيد في كتابته والمرتاب في معانيه، لاصق الإعلانات الشهير، الهجاء والساخر الذي له وجه آخر، هذا الشاعر العاصف المدافع ببطولة يائسة عن عالم طاهر، هذا الكاشف عن الدنس والأقذار الفاحشة والعنف في العالم، الشاعر الضائع بأبخرة الخيال وضبابه الذي لا ينتهي، صاحب الصرخة المقلقة على الدوام، صاحب الحساسية الوحشية المدهشة، كبرياؤه لا يتفتح إلا في الانفجارات المجنونة، ورقته لا تتحرر من الإفراط أبدا.


جلال الماشطة لهذه الاسباب استقلت من (العراقية)!

كنت وحيداً في صراع مع الجبابرة .. وخسرت المعركة.

الدكتور جلال الماشطة مدير قناة العراقية واحد من الشخصيات الاعلامية التي اسهمت ومنذ سقوط النظام السابق في السعي الى بناء اعلام عراقي مستقل وفاعل في الحياة العراقية. تسلم ادارة الفتاة العراقية قبل اشهر. وقد اثار موضوع استقالته من عمله مديراً للعراقية ردود افعال كثيرة.

في هذا الحوار تسلط (المدى) الضوء على هذه الاستقالة وعدد من الموضوعات الخاصة بالاعلام:

* من المؤكد انه كانت لديك فكرة كاملة عن طبيعة العقد المبرم مع شركة هاريس لادارة قناة العراقية قبل ان تتولى ادارتها. ما هي الهيكلية الادارية للقناة؟

- بعد ان صدر القرار الذي اتخذ بحل وزارة الاعلام ، وبعد الخراب الذي حل في الجانب الفكري في زمن الدكتاتورية ورثنا اعلاما بائسا ومخربا .  بدأت فكرة اعادة تأهيل الاعلام برصد 120 مليون دولار باشراف sic  التي تسلمت هذا المبلغ ، ليختفي فيما بعد. وعليه فتح تحقيق في الكونغرس الامريكي لكشف ملابسات اختفاء هذا المبلغ الذي رصد لاعادة تأهيل الاعلام العراقي . ووقع عقد جديد مع شركة هاريس هذه المرة بمبلغ 196 مليون دولار في شباط 2004 . قبل ان اتسلم مهام ادارة القناة العراقية الذي تم في منتصف مايس. العقد كان يقضي باعادة تأهيل الاعلام العراقي على ثلاث مراحل : 1 ـ التلفزيون . ويشمل قناة العراقية . و27 محطة تقوية في المحافظات 2 ـ اذاعة الجمهورية العراقية 3 ـ جريدة الصباح .

لكن المشكلة الاساسية كما عرفت فيما بعد ان هذا العقد موقع على نحو يمنح الجهة المشرفة ان توقف العمل حال نفاد المال المخصص بغض النظر عن اكمال مفردات العقد. وكل ذلك يتم بدون اشراف عراقي. وليس لي الحق كمدير للقناة في الاعتراض او التدخل في انفاق المال او معرفة كيفية صرفه . فعلى سبيل المثال : حينما تم بناء استوديو اضيفت نسبة 10 % لشركة هاريس من دون وجه حق . لذلك اعتقد ان هذا العقد جائر وطلبت حال تسلمي مهمة ادارة القناة الغاءه او في الاقل ان يكون للجهة العراقية اشراف عليه، لان الجانب العراقي في كل خطوات التخطيط او الانفاق مغيب تماما . لكن طلبي هذا رفض. واستعنت بكل الاطراف التي من الممكن ان تدعم قفي لكنني الى الان لم اتلق اي دعم او مساندة من احد. لقد كنت وحيدا في صراعي مع الجبابرة، وأشعر الان انني خسرت المعركة. وهناك نية لتمديد عقد شركة هاريس وقناة LBC وقد بدأت فعلا التعيينات الجديدة من أطراف غير عراقية. بعد ان عقدت سلسلة اجتماعات من دون ان يدعى مدير الشبكة العراقية بينما حضرت جميع الاطراف غير العراقية.

* ما كانت تصوراتك عن الدور الذي يمكنك القيام به لجعل القناة عراقية الهوية ؟

-كنت الاحظ منذ البدء ان القناة ليست عراقية ( ربما  مصرية او لبنانية ) لكنها بالتأكيد ليست عراقية، فالمحتوى العراقي فيها لا يتجاوز 20 % فكان المطلوب ان نصنع ، نشتري ، ننتج برامج عراقية بروح عراقية لكننا واجهنا عقبة عدم وجود صلاحيات للانفاق لأن اللبنانيين هم الذين ينفقون ويحددون الاسعار.

كانوا بعطوننا كل ما هو كاسد من برامج وغيرها بأسعار غالية جدا وتفتقد الجودة،  وقبل ذلك كله كانت بعيدة عن الهم العراقي ، المزاج العراقي، النفس العراقي. تمردنا على هذه الحالة ورفضناها.

وتم تخصص مبلغ 8 ملايين دولار لشراء برامج ، الطرف اللبناني حاول ان يتحكم بعملية الشراء هذه، وغاب الرأي العراقي، وسيطر اللبنانيون على طبيعة العرض وفرضوا مزاجهم وذائقتهم على المشاهد العراقي .

على سبيل المثال كان مجموع اجمالي 90 ساعة عرض تلفزيونية تكلف القناة ثلاثة ملايين دولار وهي كلفة غالية ومبالغ بها اذا ما علمنا ان معدل السعر العالمي للساعة التلفزيونية لا يزيد عن اربعة الاف دولار .وللقارئ ان يقدر مدى المبالغة في طرح اسعار على القناة بدون ان يكون هناك اي حق لمدير القناة في الاعتراض عليه. ولدي مثال اخر من الممكن ان يقدم صورة دقيقة عن تبذير المال العراقي . فمن المعروف ان لدينا قدرة طباعية كبيرة في العراق، لكن شبكة LBC تلجأ الى طباعة ماتحتاجه القناة في لبنان وتنقله بالطائرة الى العراق بكلفة باهظة .

وهناك امثلة عديدة فثملا برنامج الله بالخير ياعراق، هذا البرنامج ليس عراقيا وانما غريب على المشاهد العراقي. فما معنى تقديم فقرات تمارين رياضية، او ما معنى تقديم فقرات عن طريقة طبخ السباكيتي للمواطن العراقي في هذا الظرف . وحين اطلب ميزانية البرنامج لا يعطونني اياها ولست اعرف الى الآن ميزانية هذا البرنامج الذي لا اشك في انه كلف مبالغ خيالية. وهناك (خبراء) يتقاضون مئة ضعف ما يتقاضاه العراقيون العاملون في القناة.

ـ وسط مشهد تبذير وسرقة المال العراقي الذي يجب ان يصرف لاعادة بناء مرافق الاعلام العراق، ما هو الحل الواقعي بنظركم ؟

: الغاء العقد المبرم مع شركة هاريس و LBC  اولا، او ايجاد آلية جديدة للانفاق تحت اشراف الجانب العراقي . لأن المال عراقي والقناة قناة عراقية فلماذا يتم كل شيء باشراف جهات غير عراقية. وايجاد كادر عراقي يدير العملية الاعلامية، والاهم من هذا كله، لابد من اقامة قاعدة مؤسساتية، بمعنى بناء مؤسسة اعلامية على وفق ستراتيجية تقوم على الفهم المؤسساتي للعمل. فكرة المؤسسة او القانون في العمل، هي فكرة مركزية. ونحن كبلد يمر بمرحلة اعادة البناء  اذا لم نسع لاقامة  قوانين تحترم وتنفذ سننزلق الى ما كنا عليه ايام الوضع السابق. المفروض ان يكون هناك مدير عام ومجلس امناء. لكن الذي حدث ان مجلس الامناء عيّن والغي من دون ان نطلع على القرار الرسمي بذلك . وشكلت لجنة جديدة ، بأسماء جديدة. فأنا تلقيت ايعازات صدرت لي من الهيئة العليا للاعلام دون ان اعرف صلاحياتها او صلاحياتي. وعليه فان الحل الامثل هو ان يكون للقناة اشراف اداري وفني مباشر وكامل على التخطيط وعمل القناة.

* الا تعتقدون في هذه الحالة انكم تأخرتم كثيرا في اعلان استقالتكم ؟

- هذه عملية صراع كانت موجودة قبل تسلمي القناة وانا قبلت المنصب اصلا بعد تردد شهرين لانني اعرف تعقيدات هذا المنصب ولانني مؤمن بأن الذي يتولى الاشراف على جهة اعلانية يجب ان يكون مستقلا ولذلك جمدت عضويتي في تجمع الديمقراطيين . واعتقد ان تأخير قراري هذا كان بسبب انني دخلت منذ البدء في عملية صراعية . حاولت واستنفدت كل الاساليب واستنجدت بالحكومة لكنني بقيت وحدي طرفا في هذا الصراع ووجدت انني لا بد من ان انسحب. فانسحبت.

* هل تعتقد ان الكادر العراقي في مجالات العمل الفني والتقني والاداري مؤهل لتسلم ادارة القناة دون الحاجة الى الاشراف من جهة اعلامية غير عراقية ، وخاصة انكم خضتم تجربة في شهر رمضان باستبعاد البرامج والمسلسلات غير العراقية وبدا انكم نجحتم الى حد ما في هذا ؟

- بالتأكيد..  ان سنوات العهد الدكتاتوري ابعدت شرائح مهمة من الكوادر العراقية عن الاتصال بالعالم المتطور من حيث التقنية والاداء،  وحصرت الكادر العامل في اطارات ضيقة. وسنوات الحصارات احدثت قطيعة بين الاعلام العراقي والعالمي بحيث غدا متخلفا عنه كثيرا بعدم وجود كومبيوتر وانترنت وهواتف نقالة وتقنيات التصوير وغيرها ، فضلا عن ان ثقافة الحوار والقبول بالرأي الاخر كانت غائبة تماما . نحن الان بحاجة الى اسس اعلام عراقي جديد ، وبالتالي الاستعانة بالخبرات الخارجية وليس الاجنبية حصرا، فهناك اعداد هائلة من العراقيين في قنوات فضائية غير عراقية. واعتقد ان الاستعانة بأي خبرة اجنبية يجب ان تكون محكومة بضابط اساسي هو ان تعمل بصفة استشارية للجانب العراقي ويبقى القول الفصل للعراقيين .

واعتقد انه في حالة ابرام أي عقد بلا هذا الضابط فستكون هناك ادارة اجنبية وبالتالي ادارة مالية اجنبية وهذا البلاء الاشد.

كان واحد من تصوراتي الاساسية اننا بامكاننا ادارة القناة بكادر عراقي ولقد نجحنا في تجربة رمضان ولكننا نحتاج الى صلاحيات في الانفاق والتخطيط بعيد الامد ، نحتاج الى خطط دورية وسنوية ، لكننا لا نستطيع ذلك.

* تلقى المشاهد العراقي ببرود شديد برنامج ( المميزون ) الذي عرض منذ اشهر على شاشة العراقية ، وذكرتم في بيان استقالتكم ان هذا البرنامج كلف القناة مبالغ هائلة. الم يكن بامكانكم كمدير للقناة عدم الموافقة على شرائه وعرضه ؟ ما هي صلاحياتكم اذن ؟

- انا فعلا اوقفت الشراء ، لان شراءه في الاساس كان فضيحة . ما معنى ان تكون لجنة التحكيم في البرنامج لبنانية ؟ وما معنى ان ينتج البرنامج في لبنان، ويؤخذ المتسابقون الى هناك؟ هذه فضيحة بكل المقاييس... اكثر من ذلك ان برنامج ( حالة الطقس ) مثلا يصور في لبنان وحينما طلبت تصويره في بغداد ادعوا ان الجهاز غير متوفر. وحينما طلبت منهم شراء الجهاز لكي يصور البرنامج في ستوديو القناة لم يستجيبوا للطلب . الشباب العراقيون العاملون في القناة اكدوا ان بامكانهم انجازه هنا ببساطة.

* يبدو ان السبب المباشر لاستقالتكم هو تمديد عقد شركة هاريس وقناة LBC، كيف يمكن اتخاذ مثل هذا القرار من دون الرجوع الى ادارة القناة او حتى اعلامها بذلك ؟

- نعم كان التمديد هو القشة التي حسمت امر الاستقالة. عقدت سلسلة اجتماعات لمناقشة هذه المواضيع وهيكلة الاعلام العراقي وانا لم ادع اليها بينما دعيت الاطراف الاجنبية كلها .. هذا هو واقع الحال .

* هل تشعر ان كادر العراقية متضامن معك ؟

- انا اشعر ان الكادر العراقي يريد ادارة عراقية تفهم الحساسية العراقية، وبالضرورة ارى انهم متضامنون معي .

* شبكة الاعلام العراقي ، تمول من قبل الدولة . كيف بمكن للاعلام ان يحقق استقلاليته عن الدولة على الرغم من  انها هي التي تموله ؟

- خلط المشكلة الاساسية هي وجود خلط بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة او الحكومة.

الدولة تشمل المعارضة ايضا ، فضلا عن احزاب الحكم ، والاعلام الممول من قبل الدولة يفترض ان يقبل الرأي والرأي الاخر . ولكنه يبقى في النهاية محكوما بمحددات ، فنحن الان مثلا تحت طائلة حكم طوارئ هذا يقتضي منا ان نمتثل لبعض شروطه الملزمة.

* كيف يمكن الاستفادة في هذا السياق من تجارب اخرى في دول اخرى. ونتذكر هنا بريطانيا وعلاقتها بمحطة  البي بي سي ؟

- الحقيقة ان الفكرة والاسس التي قامت عليها شبكة الاعلام العراقي كانت مستوحاة اصلا من تجربة البي بي سي ، وقد قمنا بزيارة الى هذه المؤسسة ، لكن هذه الزيارة بالنتيجة لم تكن ذات فائدة عميمة لكل الاطراف. حتى البي بي سي لم تكن محايدة في اثناء الحرب. كانت تتبع تصورات بريطانيا عن الحرب ، ومصالحها في تلك الحرب ، وعليه فان العراق الان يخوض معركة ضد الارهاب ولارساء اسس الديمقراطية، يتوجب على اعلام الدولة الان ان  يكون مع هذا التوجه ومع اسس الدولة وليس مع اسس السلطة .

* التيارات الليبرالية والديمقراطية وضعت يرامج من اجل استقلالية الاعلام. هلا تحدثت لنا عن هذه البرامج بوصفك منسجما مع هذه التيارات ؟

- أقول ، ليس بوصفي منتميا لاي تبار سياسي بل بوصفي عراقيا ، ان ثمة ضوابط واسسا ومرجعيات ثابتة يقوم عليها الاعلام، تتمثل في  ان يكون الولاء للوطن فوق الولاء للطائفة والقومية والحزب ، اذا كرسنا هذا المفهوم في اذهان الناس نكون قد قطعنا شوطا مهما من النجاح وهذا يتطلب سماع الراي الاخر وليس حضوره فقط.

يجب ان نثبت في اعلامنا ان الفساد لا يقل خطرا عن الارهاب، والحرب على الفساد الاداري يجب ان تكون جزءا من عملنا ، يجب ان نرعى لدى المواطن العراقي فكرة المصالحة القائمة على الانصاف ، فبعد هذه السنوات نحن بحاجة الى المصارحة ومن ثم المصالحة، نحن بحاجة الى قراءة منصفة لتاريخنا والتصدي لثقافة العنف الدخيلة على مجتمعنا .

* ما هي تصوراتك عن المرحلة المقبلة لهذه القناة اذا ما تم تمديد العقد ؟

- آمل ان تتم مراجعة قرار التمديد ان كان قد اتخذ ، لان اعادة تكليف طرف اجنبي بمهمة الاشراف على القناة يعني الغاء كل المكاسب التي تحققت في مجال (تعريق) القناة .. وتأخير عملية نمو وتطور الاعلام العراقي ، لسنة اخرى ان لم يكن اكثر ، وشل قدرات عراقية كبيرة ، واعاقة نشوء كادر عراقي صرف ، وكما قلت سابقا ان تمديد العقد يعني التنازل عن جزء من السيادة الاعلامية.

 

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة