اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

لا بد من تغيير السياسات الامريكية نحو استراتيجية بناء الديمقراطية في العراق

د. ثائر كريم

لا شك في فرحة القسم الاعظم من سكان العراق في تدحرج رأس صدام حسين الى مزبلة التاريخ. تجلت هذه الفرحة، مثلا، في العديد من الاستطلاعات المتكررة التي اجريت منذ سقوط نظام الشمولية الطائفية. فقدعبّر اكثر الناس عن شكرهم الصادق للقوات المتعددة الجنسيات التي اسقطت الصنم ونظامه الدموي. ووجه عدد كبير من العراقيين تحية خاصة للولايات المتحدة على هذا الانجاز. وانفتحت امام البلاد اخيرا فرصة اقامة دولة قانون عادلة تحترم حقوق الانسان.

ولكن، فيما عدا امثلة ايجابية صغيرة متناثرة  فليس ثمة الكثير مما يمكن للامريكيين الاعتداد به. على العكس تماما، يزداد اكثر فاكثر حنق الناس على تخبطات السياسات الامريكية. وتتسع حدود الاستياء باستمرار. بدءا من طريقة وتوقيت حل الجيش العراقي وشرطة الحدود. مرورا بكيفية اقامة مجلس الحكم ومحدوديته. وانعدام السعي الجاد بل رفض اشراك الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي في انجاح العملية السياسية لعصر ما بعد صدام حسين. والشلل في ترتيب امن البيت العراقي. والاخفاق في اعادة الخدمات الاساسية بصورة كاملة. وعدم تحقيق تنمية قوية في المناطق الآمنة. وانتهاء بالدمار البشري والمادي الناتج عن الحرب واستمرارها.

هناك ما يدعو للقول ان سياسات البيت البيض بادارة بوش قد أنهت بنجاح مهمة اسقاط حكم الاستبداد الطائفي في العراق. لكنها لم تستطع لا هي ولا القوى العراقية صاحبة المصلحة تغيير النظام واجهزته تغييراً كليا. وان النظام السابق لم يمت بعد. بل ان اجهزته التي لم تتضرر كثيرا بفعل الإسقاط أخذت تستقوي بشبكات الإرهاب الإسلامية المدعومة معنويا او ماديا من بعض الدول المجاورة للعراق. باختصار، ان هناك ما يدعو، ايضا، للقول ان استمرار السياسات الأمريكية نفسها وبذات الطاقم سيلقي مزيدا من السلبيات على إمكانيات الاستقرار السياسي وبناء الديمقراطية في العراق اكثر مما سيفتح امامهما فرصا ايجابية.

هناك بعدان اساسيان في التعامل مع سياسات الادارة الامريكية في العراق.

البعد الاول شعبي حيث يقف جل العراقيين على اعتاب مرحلة جديدة من الحنق. فهم يقارنون بين ايجابية اسقاط نظام الطغيان، من جهة، وتكاليفه المتزايدة، بشريا وماديا، وكذلك آفاقه الفعلية، من جهة اخرى. اقول ان اغلبية الناس يقفون علىاعتاب الحنق الشامل ولم يصلوا بعد (والحمد لله) الى هذه المرحلة. اذ لا يزال جل العراقيين كرماء في شكرهم لانجاز الاسقاط. صبورين على انعدام الامن والاستقرار. متفهمين (ولكن بيقظة وأمل) لغياب دولة القانون التي لا محالة من ان تقوم بسرعة لتواجه بحزم كما فادحا من المظالم الواسعة والفساد المستشري. مثلٌ العراقيين كمثل سكان زقاق في مدينة الثورة يصبرون على خراب الدار وعلى ركام الطابوق والاوحال وعنجهيات عصابات قادمة من اماكن أخرى لانهم يرون ولو بضبابية شديدة بعض ملامح المحلة الجديدة التي ستأويهم.

البعد الثاني بعد سياسي استراتيجي. فالادارة الامريكية الحالية تخطط، كما تدعي، لبناء الديمقراطية وتغيير وجه المنطقة كليا لصالح حكم القانون والتعددية وحقوق الانسان. وهي مخططات جذرية تقابلها احلام كبرى لقوى سياسية واجتماعية في العراق، احلام عريضة واقعية الى هذا القدر او ذاك.

ولكن الادارة الامريكية كأنها تسير عمليا في مخططها هذا عبر نظرية هجومية واسعة النطاق. كأنها نظرية تفجير متعدد الابعاد في مختلف المناطق. حرب في افغانستان. واخرى في العراق. وحروب يجري الحديث عنها في سوريا وايران فضلا على كوريا الشمالية. دولة بعد دولة او سوية في آن واحد. هناك، اذن، تغيير درامتيكي من سياسة التأثير المتدرج الى سياسة التثوير الحربي.

هل يمكن ان ينجح تنفيذ الحلم الامريكي في اقامة انظمة ديمقراطية بهذه الطريقة الحربية؟ لنكن ايجابيين (او بلهاء، ماشئت) ونقترض وجود هذه الامكانية. هذا يعني ان على الامريكان الاستعداد لمجابهة مقاومات داخلية وحروب جانبية وحملات ارهابية متنوعة على جبهات كثيرة. في الشرق والغرب. سوف تفضي هذا الفوضى الاقليمية الناشئة إلى خلق توترات دولية واسعة. وسوف تؤثر حالة اللأامن العالمي الناشىء عن مواقف كل الدول الكبرى التي لها- مثل الولايات المتحدة بالضبط- مصالحها الخاصة. منها دول لها شعوبها التي تحاسبها على ما ينشأ من انعدام في الامن او تدهور سريع في الحياة الاقتصادية. وستعمل دول مثل فرسنا وروسيا والمانيا على عمل كل شىء لعرقلة خطط الامريكان وانفرادهم في السياسات الدولية. وستصيب الجميع فوضى هائلة لا يعرف احد حدودها وبلواها. ليس هناك أية ضمانة ابدا في ان ينتفي استخدام اسلحة ذرية او نووية او بيولوجية او جرثومية. وعلى الامريكان توقع معارك عسكرية وعنف واسع النطاق خصوصا في مناطق منابع النفط واحتياطاته الاستراتيجية الكبرى. في السعودية وبلاد الخليج الاخرى وفي عبادان وغيرها من المناطق الايرانية وفي بلدان اسيوية مختلفة. ويجب توقع ازدياد اسعار النفط ليس فقط الى 60 دولارا للبرميل الواحد بل اكثر من 100 دولار. وفي هذا تهديد قاتل لاوضاع الطاقة عالميا. تهديد لا يمكن ان تحتمل عواقبه كل الدول الكبيرة مثل الصين واليابان ودول اوربا وامريكا اللاتينية. وستترنح بسببه كل الدول الصغيرة. باختصار ان الآثار المدمرة لسيناريو التفجير الديمقراطي اكبر من ان ندرك نتائجها هكذا بغمضة عين. ان هذا السيناريو هو في الحقيقة ليس سيناريو حرب عالمية ثالثة فحسب بل ربما حلم نهاية العالم. من الشرق الاوسط بدأت الحكاية واليه تنتهي.

اذا كان هذا المخطط فاشلا اصلا فلعلنا نقول ان الولايات المتحدة تطلق العنان لتسريب اخبار التهديد والحرب لمجرد ألتخويف وكسب الوقت لترتيب الاوضاع في العراق وافغانستان. وان الادراة الامريكية ستركز حصرا على العراق وافغانستان. فهل يمكن، حقا، تحويل المنطقة ديمقراطيا بطريقة حربية جذرية، كما تفعل ادارة بوش الان انطلاقا من هذين البلدين؟ وربما بمساعدة اسرائيل على اساس انها "دولة الديمقراطية" تريد الخير للاخرين؟

لنكن متفائلين، مرة اخرى، ونبصم بالعشرة على ذلك. ولكن هذا التفاؤل، اذا كان واقعيا وليس فلما خياليا يجب ان يتمتع ببعض المنطلقات الواقعية. يجب توقع تقبل القسم الاعظم من سكان المنطقة للاحتلال الامريكي، او في الاقل اكتفائهم بعدم مجابهته بعنف. يجب ان نفترض ان القوى السعودية السلفية ستتخذ موقف المتفرج، مثلا. ونفترض ان الايرانيين المهددين بمصالحهم سيمتنعون عن التدخل. وان السوريين المحاصرين سيعملون بفاعلية على منع التسلل وصد قوى الثورة المضادة المنطلقة من حدودها. وان القوى الاسلامية الاصولية في البلدان العربية، في الاردن ولبنان ومصر والمغرب وباقي الدول الاسلامية ستتوقف عن الارهاب والعنف.

ولكن أليس هذا بالضبط ما ينفيه الواقع في كل يوم وساعة؟ أليس حق الشعوب في تقرير مصائرها بنفسها هو ما تنادي به القوى المعارضة؟ أليس حق المسلمين في صد المعتدين هو ما تتبجح به القوى السلفية والارهابية؟ ألا تتطابق هذه الحجج بطريقة او باخرى مع مبادىء الامم المتحدة؟ ألا تتواءم هذه الطروحات مع المبدأ اللبرالي الاول القائل بعدم امكانية نمو الديمقراطية في ظل عدم استقلالية الانسان والمجموعات البشرية؟

ان القوى المضادة للتحويل الديمقراطي في المنطقة اكثر شعبية واتساعا مما يريد المتفائلون تصوره. تتكالب كل هذه القوى يوميا ضد عملية التحويل الديمقراطي. كما ستنشأ ايضا قوى اخرى غيرها لتستخدم كل ما بترسانتها من اسلحة العنف الاعمى والارهاب المتنوع للوقوف ضدها.

هناك اربعة اسباب اساسية، في الاقل، لعدم نجاح نظرية تحويل المنطقة ديمقراطيا بالحرب المستمرة او بالتزامن المتلازم. هذه النظرية التي ربما تذّكر بنظرية تروتسكي في الثورة الدائمة الموجهّة (وهنا سخرية جميلة) ضد الراسمالية وانظمتها السياسية.

السبب الاول ان النجاح مستحيل في كل المنطقة بوقت واحد. هناك اعداء ومواجهات وعراقيل اكثر مما تستطيع تحملها الولايات المتحدة وبريطانيا. هذا اذا سمح االشعب الامريكي واحتمل حربا اخرى. واذا سمح الشعب البريطاني بمشاركة البلاد مرة ثانية في حرب اخرى بالتحالف مع الولايات المتحدة.

السببب الثاني ان نجاح البناء الديمقراطي مستحيل في العراق بدون ضمان حسن سلوك وصدق نية ايران وسوريا والسعودية. وطالما بقيت هذه الانظمة مهددة في صميمها بالسقوط فانها لن تألوا جهدا في قلب الطاولة على العراقيين والامريكان. ولكنها ستحترم مبدأ عدم التدخل لو تركت وشأنها واعطيت شعوبها حق تنضيج التحويل الديمقراطي داخليا.

السببب الثالث ان الادارة الامريكية تتصرف في مخططاتها للتحويل الديمقراطي وكأنها هي صاحبة التغيير وليس شعوب المنطقة واولهم الشعب العراقي. من المستبعد على العراقيين او أي شعب آخر ان يعمل بصدق واخلاص لبناء بلادهم اذا ما رأوا ان جدول اعمال البناء تحدده قوى خارجة عنهم وليس ممثلوهم السياسيين.

السبب الرابع ان عملية التحويل الديمقراطي هي عملية مركبة وطويلة الامد. عملية تتعدى مجرد اجراء الانتخابات واقامة نظام برلماني (على تعقيد هذه المهام). وتحتاد هذه العملية الى وقت طويل لانتشارها افقيا وتعمقها عموديا.

ما البديل، اذن؟

لا محيد على الامريكان ابدا من تغيير كل وجهة سياساتهم وطبيعتها قلبا وقالبا. على الادارة الامريكية اولا وقبل كل شىء التخلي الكامل عن الادعاء بملكية عملية التغيير السياسي في العراق والمنطقة لصالح شعوبها وقواها الحية. اذا تمادت الادارة الامريكية بالذهاب ابعد من العراق وافغانستان فانها ستكتب على الديمقراطية السلام في كل المنطقة. على الامريكان، بدلا من ذلك، التهيؤ لمغادرة العراق بالتراضي مع الحكومة العراقية وقوى البلاد الحية. فهذه القوى قد اختارت بصواب وبروح حضارية عالية الطريق السلمي اسلوبا لانهاء الاحتلال كليا.

وعلى الامريكان ان يكفوا عن اتخاذ موقف متحيز على طول الخط لصالح اسرائيل. عليهم ان يعدلوا في مواقفهم وينطلقوا بصدق بالتعاون مع الاتحاد الاوروبي، مثلا، في تحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية يضمن قيام دولة مستقلة هناك. لن تكون اسرائيل مقبولة في يوم من الايام ما لم تتخلى عن سياساتها العنصرية التي تشبه في كثير سياسات نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا سابقا. لابد لا سرائيل ان تسمح للفلسطينيين بان يعيشوا كبشر ويؤسسوا دولتهم المستقلة قبل ان تنطلق للتعايش مع الدول الاخرى. والكثير من الناس يقبل بها على الرحب والسعة اذا ما فعلت ذلك.

وعلى الادارة الامريكية ان تكف تماما عن التدخل السافر في اوضاع بلدان المنطقة والاعلان بصراحة عن انتفاء النية في شن الحروب ضدها. يمكن للامريكان الاكتفاء بتقديم المساعدة للقوى المناصرة  للسلم والديمقراطية عن طريق مختلف منظمات المجتمع المدني الامريكية والاوربية واجهزة الامم المتحدة. ويمكن للادراة الامريكية ممارسة الضغط الدبلوماسي على حكومات المنطقة لجعلها تحترم شعوبها وتقيم دول قانون ضمن حدودها.

وعلى الادارة الامريكية، ايضا، العمل ضمن سياقات الامم المتحدة لتفعيل دورها ومؤسساتها لتلعب دورا تحويليا ينطلق من الاعلان العالمي لحقوق الانسان وتلزم كل الدول لاحترامه.

تلك هي بعض ثوابت التحويل الديمقراطي للعراق والمنطقة. ان طريقة الامريكان في بناء الديمقراطية لحد الان فوقية بحتة. هي تفجير من فوق، بالقنابل والطائرات اكثر مما هي تفجير من تحت، بالمساعدة على التنضيج السياسي والاجتماعي.

يجب على القوى الحية في العراق مقابل ذلك ان  توحد عناصر سياساتها الرئيسية للتغيير السياسي وان تسعى اولا وقبل كل شىء لاقامة دولة القانون. ولابد لدولة القانون ان تكبح الارهاب والعنف بالشدة المطلوبة. ولكن هذه الشدة نفسها يجب ان تعلن عن حدودها وقواعد استخدامها. فلا يمكن للارهاب ان يواجه بارهاب آخر بل بقوة تستند على الحق والقانون الشرعي. وان القضاء على الارهاب المجرم في الفلوجة والرمادي وسامراء أو في أي مكان آخر في العراق يجب ان ينطلق من ان اهالي الفلوجة والرمادي وسامراء سيبقون جزءا لا يتجزأ من سكان العراق. ان من يريد ان يحرق منطقة في العراق على اهلها هو ابن شرعي لصدام حسين ليس إلا.

على الحكومة العراقية والقوى السياسية الملتفة حولها ان تمسك بثبات بخطوط عملية التغيير السياسي في العراق حتى وان بدا ان طريق القوة هو المطلوب. فان قدرة العراقيين على قيادة بلدهم بانفسهم باتت وشيكة بلا شك. فعلى العراقيين ان يمتلكوا عملية خلق اسس مجتمع ما بعد الشمولية الطائفية ويطووا صفحة الاحتلال والارهاب معا.

ولكن حتى تكتمل فرحة العراقيين او تستعاد، اصلا، وحتى تصل البلاد الى ساحل الاستقرار سياسي لابد ان تنخرط كل مكونات البلاد الاجتماعية وفعالياته السياسية في عملية خلق دولة قانون تفرض احترامها على الجميع.

دولة قانون هي الخطوة الحتمية في الطريق نحو الديمقراطية.


بشائر مؤتمر شرم الشيخ

شاكر النابلسي

-1-

حقق العراق الحر الديمقراطي بقرارات مؤتمر شرم الشيخ قفزة كبيرة إلى الأمام نحو استكمال واستتباب كيانه الدستوري المستقبلي وتعزيز وتأكيد قرار مجلس الأمن 1546 الصادر في 8/6/2004، القاضي بتشكيل مؤتمر وطني، وقيام مجلس وطني مؤقت، واجراء الانتخابات وتحقيق البناء الدستوري، وذلك بفضل الاتحاد الأوروبي وأمريكا، وليس بفضل العرب والمسلمين من الجيران الأعداء المتلبسين بلباس الأخوة والأصدقاء للعراق . وهم في واقع الأمر ما هم إلا أعداء ألداء لحرية العراق ولديمقراطيته، ليس كرها بالعراق والعراقيين ولكن لأن هذه الديمقراطية سوف تفقس غداً ديمقراطيات أخرى في العالم العربي.

فلا فضل لعربي على عراقي إلا بالارهاب.

-2-

لم يكن للعرب أي فضل أو دور أو كلمة في مؤتمر شرم الشيخ ونتائج هذا المؤتمر العظيمة.

كان العرب (كِمالة) عدد ليس إلا، أو كشراريب الخُرج كما يقول أهل الشام.

لم يكن لهم فضل غير فضل تضييفه والتحلّق حوله، وهم الذين استفادوا من انعقاده أكثر مما استفاد العراق.

فمصر المضيفة برزت للعالم، وكأنها أم العرب الحنون التي يجتمع ابناؤها من العرب في أحضانها الدافئة كلما ألم َّ بهم الخطب، وعصفت بهم العواصف.

فمصر منذ نصف قرن ويزيد وهي تلعب دور المطبطباتي العربي والمطيباتي العربي والحضن الدافئ والحنون. وهي الكاسبة دائماً كما كانت هي الكاسبة فقط من هذا المؤتمر من بين العرب الآخرين الخاسرين.

بقية العرب الذين حضروا المؤتمر منهم من جاء لصبِّ القهوة، ومنهم من جاء لحمل المناشف، ومنهم من جاء لعل وعسى ينال نظرة رضا من كولن باول الوزير الرقيق، علَّ هذه النظرة الحنونة، تريحهم، فينامون مطمئنين لرضا القوي العزيز، الذي سيبعث لهم غداً النَمِرة السوداء الآنسة كوندي، لكي يعرف الجميع في الشرق الأوسط أن الله حق!

-3-

أوروبا الديمقراطية العَلمانية الحرة هي التي كانت وراء نجاح مؤتمر شرم الشيخ عندما قررت قبل يومين في مؤتمر باريس إلغاء 80 بالمائة من ديون العراق، وناشدت الدول العربية أن تحذو حذوها، فجزاها الله كل الخير على ما فيها من خير، وأثابها الثواب الأعظم على إحسانها.

وأوروبا الديمقراطية العَلمانية الحرة هي التي كانت وراء نجاح مؤتمر شرم الشيخ عندما تعاملت مع الحالة العراقية بالعقلانية والواقعية السياسية الناضجة والراشدة، وليس من خلال الجروح النرجسية العربية والإسلامية والعواطف القومجية والدينية المتشنجة، عندما رفضت تعيين موعد ثابت لانسحاب قوات التحالف من العراق بالشهر واليوم والساعة والدقيقة كما تطالب الأنظمة العربية في كل يوم وفي كل مناسبة، وتركت هذا القرار للشعب العراقي ولحكومته الشرعية.

وأوروبا الديمقراطية العلمانية الحرة هي التي كانت وراء نجاح مؤتمر شرم الشيخ عندما شجعت الأمم المتحدة على الانخراط في عملية الانتخابات العراقية وتقديم كل ما يلزم من معونة فنية ومالية واستشارة وخبرة.

أمريكا كانت بحضورها القوي، وبعينها الحمراء القوية في مواجهة سوريا وايران على وجه الخصوص، وراء نجاح هذا المؤتمر.

وأما العرب فلم يكن لديهم  من شيء يعطونه، وفاقد الشيء لا يعطيه.

-4-

فمن الذي خسر من هذا المؤتمر؟

خسر الذين وقفوا إلى جانب الارهاب والمقاولة المرتزقة في العراق.

وخسر فقهاء سفك الدماء، وأصحاب فتاوى القهاوي التي تقال في النهار ونلحس في الليل.

وخسر الذين راهنوا على أن الماضي سوف ينتصر على المستقبل.

وخسر الذين راهنوا أن القِدامة سوف تنتصر على الحداثة.

وخسر الذين راهنوا على أن الأصوليين سوف ينتصرون على الليبراليين.

وخسر الذين حاولوا اعادة عقارب الساعة العراقية إلى الوراء.

وخسر الذين ما زال طعم براميل البترول المسروق من الشعب العراقي عن طريق كوبونات النفط على أطراف ألسانتهم.

وخسر الذين تلمظوا وتأملوا استعادة جرار عسل صدام التي كانت تصب في بطون جنرالات الإعلام العربي المرتزقة، التي حطمها الشعب العراقي يوم التاسع من نيسان المجيد 2003.

خسر خطباء الكهوف، وقارعو الدفوف، وحملة السيوف في وجه العصر العربي الجديد في جبال أفغانستان والفلوجة .

-5-

إن مؤتمر شرم الشيخ خطوة كبيرة وفأل خير كبير وبشرى في طريق السلام والأمن والديمقراطية في العالم العربي. ولعل أولى هذه البشائر القرارات الايجابية العراقية التي خرج بها أحرار العراق، واختيار محمود عباس كمرشح لفتح في انتخابات الرئاسة الفلسطينية (فسبحان مُغيّر الأحوال ولا يتغير) ونجاح ترتيبات الانتخابات الفلسطينية في التاسع من كانون الثاني القادم.

ويبدو أن شهر كانون الثاني القادم عام 2005 سيكون زمن الخير، بعد كل هذه الحسرات .

فالانتخابات الفلسطينية قادمة، والانتخابات العراقية قادمة، والانتخابات السعودية قادمة.

وهلّي يا بشائر الديمقراطية والحرية على العالم العربي.

فالمجد للحرية.

فهل سنكون الشهود؟


مواقف: من المستفيد من غسل الدماغ العربي؟

علاء خالد غزالة

بابل / مكتب المدى

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء، ظهر توازن جديد للقوى على الساحة الدولية، فلم يعد الاستعمار التقليدي والرغبة في السيطرة على طرق التجارة بالاضافة الى مصادر الثروات، لم تعد هذه هي اسباب الحروب، بل تحولت الى صراع ايديولوجي تدميري يدعو كل طرف الى افناء الطرف المقابل.

ونتيجة لهذا الهاجس المخيف عملت القوتان الرئيستان منذ اوائل الخمسينيات وحتى زوال احداهما -الاتحاد السوفيتي- في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، عملت هاتان القوتان على خوض سباق شامل وليس في التسلح فقط، بل امتد الى التدخل في الصراعات الإقليمية ودعم الحكومات الموالية.. بحيث اصبحت اغلب بلدان العالم إما منحازة لاحداهما، او منطقة نفوذ لها.. وتجد في كلتا الحالتين معارضة، قد تكون مسلحة، مدعومة من الطرف الاخر. ان توازن القوى هذا خلق واقعا جديدا في عموم العالم، يقوم إما على مسخ الشخصية الوطنية من اجل البقاء، او على تقديم القرابين البشرية كضحايا للحروب المستمرة من اجل تلك الشخصية والهوية الوطنية. وكلا الأمرين افرز نتائج عبثية وفوضوية في الشعوب، وعدم الثقة في المستقبل، وانهيار القيم التي ندعو لها الاطراف المتنازعة امام كثرة ضحايا الحروب ومشاهد الرعب والفزع لدى الابرياء. وفي محاولتها خوض الحروب على المستويات كافة، فقد سلكت مخابرات القوتين العظميين طرقا شائنة في للفوز بمعارك مخابراتية، تقوض سلطة واسناد احداهما على حساب الاخر. وظهرت قصص خيالية في بعض الاحيان عن القدرات العالية لتلك المخابرات سواء على الصعيد القومي، او على الصعيد الاممي. وشاعت رهبة تلك المخابرات لدى عامة الناس، بحيث اصبح هناك اعتقاد شائع على قدرتها على تغيير الانظمة.. بل ان جميع الانظمة لابد ان تكون عميلة والا فانها ستستبدل فورا. ولما كانت نظريات من هذا النوع تخدم اغراض الحرب الباردة، على الاقل من ناحية زرع الخوف في نفوس الفريق المقابل، فقد عملت دوائر مخابرات الطرفين على تغذيتها بشكل مستمر باستخدام القنوات كافة، بدءا من المستوى الشعبي ومرورا باستخدام وسائل الاعلام المختلفة وانتهاء بالمستوى القيادي للشعوب والامم. ومازلت اذكر فلما شهيرا عرض خلال مدة السبعينيات، في اوج الحرب الباردة، ضمن مجموعة من افلام التجسس التي وجدت لها ارضا خصبة واعتمادات هائلة. ذلك الفيلم هو (تلفون) بطولة النجم الشهير (تشارلز برونسن).. والذي يقوم بدور عميل مخابرات سوفييتي يعمل من اجل منع عميل اخر خائن يستغل معرفته ببعض الاسرار ليوجهها ضد اهداف حيوية في الولايات المتحدة. الفيلم يعكس مزاج التصديق في تلك المدة، لان قصته تقوم على تدريب اناس عاديين ليكونوا انتحاريين باستخدام التنويم المغناطيسي، بحيث اذا سمع احدهم من خلال التلفون بمقاطع شعرية معينة، غط في سبات عميق وذهب لتنفيذ العملية الانتحارية بدون شعور. واليوم، نعرف ان التنويم المغناطيسي وان كان يحرر العقل الباطن لدى الانسان، الا انه لا يستطيع ان يغير قناعاته الراسخة، وقيمه العليا.. والتي منها الرغبة في الحفاظ على النفس، تلك الغريزة االمتأصلة، وبالتالي لن ينجح أي تنويم مغناطيسي على حمل الانسان -على غير ارادته- على الانتحار ان افلاما كهذا الفلم وكتباً ومقالات ومنشورات، وبرامج تلفزيونية ومقابلات صحفية، وندوات ثقافية ومؤتمرات علمية، كانت تركز طيلة تلك الفترة على النشاط الاستخباراتي، وعلى قدرة التجنيد الخارقة التي يتمتع بها الفريقان، وعلى امكانية تحقيق الاهداف المنشودة من خلال تلك الحرب غير الباردة ولكن غير المنظورة ايضا. وانعكست هذه الدعاية الشاملة على مجتمعنا العربي بكل ثقلها. ففي اوائل القرن الماضي، لم تكن دولة واحدة عربية يحكمها اهلها، بل كانت مستعمرات يحكمها الانجليز والفرنسيون والايطاليون فضلا عن الاتراك. وحين انهزمت الامبراطورية العثمانية، اصبحت الدول العربية مستعمرات صريحة للدول التي ستشكل فيما يلي اقطاب الحربين الكبيرتين المدمرتين. ثم ينتصف القرن على تبدل اخر، حيث نشأت طبقات مثقفة في الدول العربية بدأت تطالب بالتحرر من الاستعمار، متأثرة الى حد كبير بالدعاية السوفيتية حول حرية الشعوب والشعارات البراقة من المساواة الى الحرية. وسرعان ما كانت الانقلابات المسلحة في تلك البلدان تأتي الى السلطة باناس اعتنقوا مذهب (الثورة لمن يصنعها) وبالتالي اصبحوا خلال نصف القرن التالي الصناع الوحيدين لقرارات الامة، واخمدوا كل معارضة بالوسائل المتاحة كافة.. ولم تصب الشعوب العربية بالصدمة اولا، لانها لم تدرك مقدار الخدعة التي تعرضت لها. ولكنها حين استفاقت ووجدت حالها بعد التحرر من الاستعمار ليس احسن، ان لم نقل اسوأ، من حالها قبله.. فبدأ السؤال يطرح بجرأة اكثر: ما الجدوى من كل ما يحدث؟ ربما لن تتم اجابة أي سؤال مثل هذا ابدا، فالجهل صفة الصق بالانسان من صفة العلم. وطالما كانت الامور تجري بشكل غير مفهوم لنا، فهي بالتأكيد ستكون مفهومة لاخرين، صناع السياسة ودهاقنتها، ووكالات الاستخبارات وعملائها، واجهزة الحكم الوطنية منها والعميلة. ان هؤلاء وغيرهم يمتلكون اجابات محددة، ولديهم تصورات كاملة وخطط شاملة لما حدث ويحدث وما قد يحدث في أي وقت في المستقبل. وبالطبع فان فكرة عامة مثل هذه الفكرة تخدم اهداف اجهزة الحكم الوطنية، والتي اقنعت الشعوب بعدم جدوى الثورة ضد الانظمة الفاسدة، المحمية جيدا بعلاقاتها الحميمة مع مصادر صنع القرار في الدول الكبرى، والتي ستعمل على حماية هذه الانظمة ضد أي عمل يستهدف ازاحتها عن السلطة. لا انكر ان اسناد الانظمة العربية من الخارج كان واقعا ملموسا، غير ان المبالغة بهذا الاسناد هو ما سبب حالة اليأس والقنوط التي تحولت اليها الشعوب العربية، بحيث انطوت الى ممارسات اكثر خصوصية، ورفضت العمومية السياسية، ولجأت الى الدين كمنفذ اخير لتحرير شخصيتها المكبوتة.. ولم يكن جهاز السلطة غائبا عن مثل هذه التحولات، فعمل على الاستفادة منها مجددا.. واستعمل قضايا اقليمية، في حملات اعلامية منسقة لتبدو قضايا مصيرية، وركز الانظار حولها.. واستجابت الشعوب المغلوبة من جديد لهذه الخدعة، وانساقت مرة اخرى تحت تأثير تنويم مغناطيسي لا يعمل على الضد من الانا الاعلى، بل يستغل هذا الانا الاعلى لتقديم دفعة جديدة تنعش الفرد في لحظات الاندماج العضوي مع المجتمع. لقد تعرض الدماغ العربي، خلال مدة النصف القرن الماضية، الى اكبر عملية غسل دماغ، بدأته قوى الاستعمار المبادة، واستأنفته بجدارة انظمة حكمه المحلية، وغذته الحرب الباردة بدون قصد. ومازالت الشعوب العربية ترزح تحت نير الجهل السياسي الذي يطبق عليها من طرفي الحكومة المعمرة، ومعارضتها المُضَللة.. وفي محاولتها للتعلم ترتكب الكثير من الاخطاء، والتي اولها التسرع في التحليل وافتقار الرؤية الواضحة، والاعتماد على فئات محددة لرسم صورة الاحداث.. لقد كانت الشعوب العربية نتيجة الضغط الاعلامي المنسق الذي تعرضت له عاجزة في اغلب الاحيان عن تصور الاحداث بدون ان يكون الفرد العربي ذاته، او المجتمع العربي مركزا له. واذا اردنا ان نخرج المواطن العربي من متاهات الافكار القبلية، ونظريات المؤامرة المستولية على العقول العربية، فعلينا ان نحمله على التفكير في سياق الأحداث كاحتماليات وارجحيات، بدلا من التفكير فيها على اساس بديهيات ومسلمات.. وهذا يعني ان هناك مجالا لحدوث امور بغير اتفاق، وليس عليه ان يعدها موجهة ضده. فليس العرب، وان كانوا احيانا اثرياء، هم مركز الكون، الذي تدور حوله الافلاك.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة