- 17 -
فائق بطي
لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية
عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي
أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن
(المدى) بدمشق قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم
من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك
السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما
رافقه من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف
أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.
(المدى الثقافي)
2 آب - اغسطس 1990
رجال المعارضة العراقية يواصلون اجتماعاتهم في دمشق.
المثقفون العراقيون يعودون الى منافيهم بعد انتهاء مؤتمرهم
الثاني في برلين.
وفجأة ..
تزأر السماء، وتتلاطم امواج شط العرب، تزمجر المجنزرات، كتل
الحديد الزاحفة على رمال الصحراء اللاهبة تتسلل، قرقعة
السلاح الاسود تصك الاذان، تقذف حممها على ( العدو )...
اننا قادمون..
هكذا قالوا..
انه الغزو .. و(العدو) دويلة عربية على حدود الجنوب.
سنتان فقط، هما عمرالعراق الدامي ..من غزو الى غزو.
كانت ايران البداية، والكويت، الضحية، فمتى النهاية؟
كان فرحا لنتائج المؤتمر الثالث لرابطة الكتاب والصحفيين
والفنانين الديمقراطيين العراقيين المنعقد للفترة 24 - 31
تموز، حين صرخ صدام: عاد الجزء الى الاصل!
صرخ بدوره .. يا للعودة !
الزعيم عبد الكريم قاسم قائد ثورة 14 تموز الوطنية عام 1958
طالب، مجرد مطالبة، بحق العراق في ضم القضاء السليب الى
الوطن الأم، ولم ينفذ طلبه. كان باستطاعة لواء واحد في الجيش
العراقي، ان ينفذ الأمر دون ضجة، لكنه آثر ان يترك الأمر
للشعبين العراقي والكويتي.
يومان فقط، بين مؤتمر المثقفين في برلين، وغزو الكويت.
عاد السؤال التقليدي، يطرق رأسه من جديد: الى اين يسير
العراق؟
في ايلول 1980، اعلن صدام حسين حربه على ايران.
وفي آب 1990، غزا الكويت.
تساءل المثقفون في دول المنفى: ما الذي نفعله؟ وكيف سنترجم
قرارات مؤتمر الرابطة في برلين قبل يومين، الذي انعقد تحت
شعار: " ديمقراطية، ابداع " في وسط مهرجان ثقافي حضره عدد
كبير من مبدعي العراق؟
في تقرير الهيئة العامة للرابطة المقدم الى المؤتمرين، جاءت
ارادة وتصميم المثقفين العراقيين على:
" اردنا لهذا المؤتمر، ان يكون مؤتمرا للثقافة، وللحوار
والبحث، واذا ما تحقق شيء في حدود هذا واكثر منه، فانه سيكون
تجاوزا للطموح الذي انطلقنا منه . ""
" كان الوضع الثقافي داخل الوطن يتميز بنمو اتجاهين، الاول
سلطوي، مدائحي يندرج في اطار المساعي الاعلامية لتبرير ما هو
قائم، واستخدام الثقافة سلاحا سياسيا اعلاميا. والثاني اتجاه
مقاوم، اما من موقع ايمان عميق بالديمقراطية، او من موقع
نزعة انسانية تتنامى وتحتدم كلما احتكمت الى العقل. وفي
المنفى ظل الهاجس الديمقراطي، برغم التباينات العميقة ازاء
هذه القضية او تلك، ظل القاسم المشترك للمثقفين العراقيين في
المنفى، سواء في اطار الرابطة ام في اطار تجمعات ثقافية
اخرى. "
" ففي تلك السنوات العشر، ومن خلال استعراض الوضع في داخل
الوطن، كان الفعل الثقافي سلطوياً مدائحياً دعائياً تبريرياً
لجرائم حرب، ثقافة تمجيد وعبادة فرد؛ تسابق في ابراز وجهها
الكالح، نفر من المثقفين البعثيين وعدد محدود من الشباب
الطامح الى الشهرة والجاه والمال. وكانت اعمالهم تصب في
عمليات تصوير طاحونة الموت وهي تسحق مئات الالاف من ابناء
الشعبين العراقي والايراني بشكل غير انساني، فظهرت قصص
وروايات تقطر من عناوينها وفي ثناياها من ابطال واحداث، دماء
الابرياء، ودونت اشعار في مجموعات شعرية تتغزل بآلة الحرب
وتبارك الاعدامات لرافضي تلك الحرب، وعرضت لوحات في معارض
خصصت لتمجيد " بطل القادسية "، وتسابق كتاب في الصحافة
لاضفاء هالات التسبيح لعبقرية زائفة اطلقوا عليه لقب (
القائد الضرورة ) وما شابه ! "
هكذا اراد المثقفون العراقيون في مؤتمر برلين ان يكون
المؤتمر، فكان انطلاقة الفكر في مقاومة الحرب والارهاب.
وصيحة في وجه أمية المثقفين السلطويين..
ان ثقافة السلطة لا تمت للثقافة العامة بأية صلة - لغة
واسلوبا وقيمة ادبية.
فكيف الأمر، ان كانت ثقافة موت وعدوان ودماء وتمجيد طاغية؟
لم تكن ثقافة ..
فشل المثقفون السلطويون في خلق ثقافة حقيقية.
كانت ثقافتهم فاشلة.
ثقافة " الايام الطويلة " لعبد الامير معلة .
ثقافة " لولاك لما طلع القمر.. " لشفيق الكمالي
ثقافة بطلها الاوحد، صدام حسين.
ضحاياها مثقفون كانوا الى وقت قريب يصطفون في (طابور)
الثقافة الوطنية.
وبالمقابل،
ما الذي قدمه كتاب نظام احتكر الكلمة قبل ان يبدأ بتبعيث
المجتمع؟
وماذا قدمت رابطتهم في مجال الابداع ومن اجل حرية الكلمة؟
قدموا الكثير..
قدموا الكلمة الصادقة النابعة من وجدان شعبهم.
وقدموا شهداء ابرام ظلت صرخاتهم الجريئة تدوي في سوح الوطن،
في زنزانات، وشهداء حركة الانصار في ربوع كردستان العراق.
نشروا ابداعاتهم في المنافي، ووزعت سرا داخل الوطن في عمليات
الاستنساخ الشهيرة.
وساهموا في النشاطات السياسية والاعلامية والتضامنية مع
قضايا شعبهم ووطنهم.
رفعوا اصواتهم عاليا في نداءات وبيانات:
- بيان لمقاطعة مهرجان المربد الدعائي لسلطة الموت والارهاب.
- نداء حول العفو عن المنفيين العراقيين يفضح زيف العفو
الصادر على لسان صدام حسين في المربد.
- نداء الى المثقفين العرب حول اعدام 700 مواطن عراقي.
- حملة تواقيع عربية وعالمية حول جريمة حلبجة باللغات
العربية والانكليزية والفرنسية.
- بيان حول توقف الحرب مع ايران، ترحيب بحقن الدماء وادانة
لاستمرار الارهاب.
- نداء مع الكتاب العرب حول استخدام الاسلحة الكيمياوية من
قبل النظام ضد المواطنين.
- نداء حول انتهاكات حقوق الانسان والثقافة في العراق.
- رسالة الى الامم المتحدة حول حلبجة.
- اصدار تأبين للشهداء: الفنان ابو آيار في الوطن، والكاتب
سعيد جواد في المنفى والشاعر وهاب الداوودي.
- نداء الى اتحادات الادباء العرب حول قمع المثقفين والثقافة
في العراق.
ولم ينس المثقفون العراقيون القضايا العربية ومبدعي الثقافة
العرب، فاصدروا بيانات تضامنية مع انتفاضة الشعب الفلسطيني،
ورسالة تضامن الى مثقفي الأرض المحتلة. وارسلوا كتابا الى
الامم المتحدة احتجاجا على ابعاد صحفيين فلسطيين من الأرض
المحتلة. كما اصدروا بيانا لتصعيد اعمال التضامن مع
الانتفاضة الفلسطينية.
واقامت الرابطة اسابيع ثقافية مميزة في دمشق، منها اقامة
معرض تشكيلي للفنانين العراقيين في المنفى بمشاركة 40 فنانا،
ومعرض شخصي للفنان جبر علوان، وامسية موسيقية لفرقة بابل.
كما اقامت ندوة عن الرواية العربية وامسية شعرية، وقدمت بعض
العروض المسرحية.
وأول مرة ينعقد في برلين مهرجان ثقافي يتضمن قراءات ادبية،
وعروضا مسرحية، وأماسي موسيقية ومعرضا تشكيليا وفوتوغرافيا
ومعرضا للكتاب، ينعقد مؤتمر للرابطة وبحضور ومشاركة عدد غير
قليل من الكتاب والفنانين، ومن الذين لم يشاركوا سابقا في
اعمال ونشاطات الرابطة.
انتهى مؤتمر الرابطة..
وانتهى المهرجان الثقافي.
في ختام هذا العرس الثقافي الوطني، انتخب المؤتمرون مكتب
تنسيق من خمسة اعضاء لقيادة العمل بعد ان تم تغيير أسمها،
الى رابطة المثقفين الديمقراطيين العراقيين، وانتخبوه للمرة
الثانية منسقا عاما لها، واعضاء المكتب هم، مفيد الجزائري،
منذر حلمي، عدنان حسين، وزهير الجزائري.
***
ما تزال الاسابيع اللاحقة تترى، والاحداث تتسارع ما بين
الكويت والعراق.. الرئيس الامريكي جورج بوش، يتوعد ويهدد
بالحرب لطرد صدام حسين من الاراضي الكويتية. " قادة " حزب
البعث، غزاة الجارة الشقيقة، يهددون بدورهم، ويتوعدون بتحويل
العراق الى مقبرة للجنود " المعتدين ".
كان عليه ان يتعامل ويتفاعل مع كل تلك الاحداث من ديترويت
حتى دمشق، ولقاءات في لندن، بعد ان باتت هذه العاصمة
البريطانية، ساحة مهمة لنشاط المعارضة العراقية.
ممثلو المعارضة في الشام يتحاورون ويناقشون ويعيدون صقل
الآراء والرؤى في كل اجتماع يعقد دون التوصل الى قناعات قد
تحرك الساحة الملتهبة في الوطن المنكوب، ضد الحكم
الدكتاتوري. كانت سبل تحقيق شعار اسقاط النظام، قيد التأجيل
في تلك الاجتماعات.
تطول هذه الاجتماعات. يسجل معتمد اللجنة، صباح الجزائري،
اسماء الحضور والغياب من ممثلي قوى المعارضة:
فخري كريم وتوما توماس عن الحزب الشيوعي العراقي - عبد
العزيز عليان او موفق فتوحي، عن اتحاد الديمقراطيين - صالح
دكلة، الامين العام للتجمع الديمقراطي العراقي - فائق بطي،
السكرتير العام للاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات
المتحدة وكندا - عز الدين برواري او د. كمال خوشناو، عن
الجبهة الكردستانية - ابو اسراء المالكي، ممثل حزب الدعوة في
العراق - بيان جبر، او السيد عبد العزيز الحكيم، عن المجلس
الأعلى للثورة الاسلامية في العراق - رضا جواد تقي عن منظمة
العمل الأسلامي - مهدي العبيدي وابراهيم الموسوي، عن حزب
البعث العربي الاشتراكي (قيادة قطر العراق) - تحسين معلة، عن
حركة الوفاق الوطني - سامي عزار المعجون، عن المجلس الاعلى
للعشائر العراقية - مبدر الويس، امين عام الحزب الاشتراكي
في العراق - حسن النقيب، عن حركة الضباط العراقيين - سعد
صالح جبر، رئيس المجلس العراقي الحر، اضافة الى عدد محدود من
الشخصيات المستقلة.
تتواصل هذه الاجتماعات..
وأخيرا ..
في 27 كانون الاول 1990، وقعت احزاب وقوى المعارضة على بيان
مشترك، جاء في ديباجته:
" يا ابناء شعبنا العراقي الأبي:
ادراكا من قوى المعارضة العراقية لحراجة الاوضاع العامة في
وطننا الحبيب، وخطورة المرحلة التي نعيشها جميعا حيث يسود
حكم الطاغية صدام حسين الفردي واجهزته القمعية وارهابه
الدموي، ويتفرد باخطر القرارات التي تمس مصير شعبنا ووطننا،
دون مشاركة من اي مؤسسة دستورية او قانونية منتخبة، كأشعاله
الحرب العدوانية على الجمهورية الاسلامية الايرانية.
وبناء على استمرار سياسة النظام الدكتاتوري في بغداد بتوسيع
نطاق البطش والقمع والارهاب والاضطهاد والتصفيات الجسدية
التي ذهب ضحيتها الالاف من خيرة ابناء شعبنا العراقي المكافح
ومن جميع قواه الوطنية: الاسلامية والقومية (العربية
والكردية) والديمقراطية .. عبر انتهاجه لسياسة التمييز
السياسي والقومي والديني والطائفي، مما اوقع البلاد في أزمة
خانقة سياسية واجتماعية واقتصادية ..
وهي اذ تدين وترفض الاحتلال والضم القسري للكويت، تشجب
وتستنكر حشد الجيوش والاساطيل الاجنبية، وتؤكد الخيار السلمي
لحل الأزمة في الخليج ودرء كارثة الحرب المحتملة ونزع فتيلها
وذلك بتشديد الضغط على النظام لاجباره على الانسحاب من
الكويت بدون قيد او شرط، وتعبئة كل القوى من اجل سحب القوات
الاجنبية من المنطقة وحل الخلافات بين دولها سلميا ..
ان قوى المعارضة العراقية مجتمعة لتهيب بابناء شعبنا العراقي
وجيشه الباسل في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ بلادنا الذي
سيتعين من خلالها بلا شك مستقبله ومصير ابنائه، ان يكون رابط
الجأش متهيئا لانزال الضربة الحاسمة التي ستقطع الطريق على
اي احتمال قد يؤدي الى تعريض استقلال العراق وسيادته الى
اخطار جسيمة وكارثة مهلكة وندعوه للعمل على تحقيق الأهداف
التالية:
ذهب البيان الى تعداد 12 هدفا تحدد حاضر ومستقبل العراق، من
ابرزها:
- اسقاط الدكتاتورية بارادة الشعب العراقي.
- اسقاط جميع خطط التآمر الاستعماري الهادفة الى تمزيق
العراق وتفتيت وحدته.
- تأليف حكومة ائتلافية انتقالية تعقب النظام الحالي تشمل
جميع فئات الشعب العراقي بكل قواه السياسية المناهضة للحكم
الفاسد تتولى انجاز المهمات التالية:
- الغاء سياسة التمييز الطائفي ضد الغالبية من ابناء الشعب
العراقي.
- الغاء سياسة التمييز القومي.
- تحقيق الحريات العامة الديمقراطية.
- ضمان حقوق الانسان في العراق.
- الانتقال بالبلاد الى الاوضاع الدستورية.
- دعم الجهود الرامية الى تحقيق التضامن العربي.
- اسناد كفاح الشعب العربي الفلسطيني.
- انتهاج سياسة خارجية مستقلة والابتعاد عن الاحلاف
الاجنبية.
- بناء تضامن عربي واسلامي حقيقي وبناء علاقات حسن الجوار.
|