المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الوجدان

- 17 -

فائق بطي

لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن (المدى) بدمشق قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما رافقه من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.

(المدى الثقافي)

2 آب - اغسطس 1990

رجال المعارضة العراقية يواصلون اجتماعاتهم في دمشق.

المثقفون العراقيون يعودون الى منافيهم بعد انتهاء مؤتمرهم الثاني في برلين.

وفجأة ..

تزأر السماء، وتتلاطم امواج شط العرب، تزمجر المجنزرات، كتل الحديد الزاحفة على رمال الصحراء اللاهبة تتسلل، قرقعة السلاح الاسود تصك الاذان، تقذف حممها على ( العدو )...

اننا قادمون..

هكذا قالوا..

انه الغزو .. و(العدو) دويلة عربية على حدود الجنوب.

سنتان فقط، هما عمرالعراق الدامي  ..من غزو الى غزو.

كانت ايران البداية، والكويت، الضحية، فمتى النهاية؟

كان فرحا لنتائج المؤتمر الثالث لرابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين المنعقد للفترة 24 - 31 تموز، حين صرخ صدام: عاد الجزء الى الاصل!

صرخ بدوره .. يا للعودة !

الزعيم عبد الكريم قاسم قائد ثورة 14 تموز الوطنية عام 1958 طالب، مجرد مطالبة، بحق العراق في ضم القضاء السليب الى الوطن الأم، ولم ينفذ طلبه. كان باستطاعة لواء واحد في الجيش العراقي، ان ينفذ الأمر دون ضجة، لكنه آثر ان يترك الأمر للشعبين العراقي والكويتي.

يومان فقط، بين مؤتمر المثقفين في برلين، وغزو الكويت.

عاد السؤال التقليدي، يطرق رأسه من جديد: الى اين يسير العراق؟

في ايلول 1980، اعلن صدام حسين حربه على ايران.

وفي آب 1990، غزا الكويت.

تساءل المثقفون في دول المنفى: ما الذي نفعله؟ وكيف سنترجم قرارات مؤتمر الرابطة في برلين قبل يومين، الذي انعقد تحت شعار: " ديمقراطية، ابداع " في وسط مهرجان ثقافي حضره عدد كبير من مبدعي العراق؟

في تقرير الهيئة العامة للرابطة المقدم الى المؤتمرين، جاءت ارادة وتصميم المثقفين العراقيين على:

" اردنا لهذا المؤتمر، ان يكون مؤتمرا للثقافة، وللحوار والبحث، واذا ما تحقق شيء في حدود هذا واكثر منه، فانه سيكون تجاوزا للطموح الذي انطلقنا منه . ""

" كان الوضع الثقافي داخل الوطن يتميز بنمو اتجاهين، الاول سلطوي، مدائحي يندرج في اطار المساعي الاعلامية لتبرير ما هو قائم، واستخدام الثقافة سلاحا سياسيا اعلاميا. والثاني اتجاه مقاوم، اما من موقع ايمان عميق بالديمقراطية، او من موقع نزعة انسانية تتنامى وتحتدم كلما احتكمت الى العقل. وفي المنفى ظل الهاجس الديمقراطي، برغم التباينات العميقة ازاء هذه القضية او تلك، ظل القاسم المشترك للمثقفين العراقيين في المنفى، سواء في اطار الرابطة ام في اطار تجمعات ثقافية اخرى. "

" ففي تلك السنوات العشر، ومن خلال استعراض الوضع في داخل الوطن، كان الفعل الثقافي سلطوياً مدائحياً دعائياً تبريرياً لجرائم حرب، ثقافة تمجيد وعبادة فرد؛ تسابق في ابراز وجهها الكالح، نفر من المثقفين البعثيين وعدد محدود من الشباب الطامح الى الشهرة والجاه والمال. وكانت اعمالهم تصب في عمليات تصوير طاحونة الموت وهي تسحق مئات الالاف من ابناء الشعبين العراقي والايراني بشكل غير انساني، فظهرت قصص وروايات تقطر من عناوينها وفي ثناياها من ابطال واحداث، دماء الابرياء، ودونت اشعار في مجموعات شعرية تتغزل بآلة الحرب وتبارك الاعدامات لرافضي تلك الحرب، وعرضت لوحات في معارض خصصت لتمجيد " بطل القادسية "، وتسابق كتاب في الصحافة لاضفاء هالات التسبيح لعبقرية زائفة اطلقوا عليه لقب ( القائد الضرورة ) وما شابه ! "

هكذا اراد المثقفون العراقيون في مؤتمر برلين ان يكون المؤتمر، فكان انطلاقة الفكر في مقاومة الحرب والارهاب.

وصيحة في وجه أمية المثقفين السلطويين..

ان ثقافة السلطة لا تمت للثقافة العامة بأية صلة - لغة واسلوبا وقيمة ادبية.

فكيف الأمر، ان كانت ثقافة موت وعدوان ودماء وتمجيد طاغية؟

لم تكن ثقافة ..

فشل المثقفون السلطويون في خلق ثقافة حقيقية.

كانت ثقافتهم فاشلة.

ثقافة " الايام الطويلة " لعبد الامير معلة .

ثقافة " لولاك لما طلع القمر.. " لشفيق الكمالي

ثقافة بطلها الاوحد، صدام حسين.

ضحاياها مثقفون كانوا الى وقت قريب يصطفون في (طابور) الثقافة الوطنية.

وبالمقابل،

ما الذي قدمه كتاب نظام احتكر الكلمة قبل ان يبدأ بتبعيث المجتمع؟

وماذا قدمت رابطتهم في مجال الابداع ومن اجل حرية الكلمة؟

قدموا الكثير..

قدموا الكلمة الصادقة النابعة من وجدان شعبهم.

وقدموا شهداء ابرام ظلت صرخاتهم الجريئة تدوي في سوح الوطن، في زنزانات، وشهداء حركة الانصار في ربوع كردستان العراق.

نشروا ابداعاتهم في المنافي، ووزعت سرا داخل الوطن في عمليات الاستنساخ الشهيرة.

وساهموا في النشاطات السياسية والاعلامية والتضامنية مع قضايا شعبهم ووطنهم.

رفعوا اصواتهم عاليا في نداءات وبيانات:

- بيان لمقاطعة مهرجان المربد الدعائي لسلطة الموت والارهاب.

- نداء حول العفو عن المنفيين العراقيين يفضح زيف العفو الصادر على لسان صدام حسين في المربد.

- نداء الى المثقفين العرب حول اعدام 700 مواطن عراقي.

- حملة تواقيع عربية وعالمية حول جريمة حلبجة باللغات العربية والانكليزية والفرنسية.

- بيان حول توقف الحرب مع ايران، ترحيب بحقن الدماء وادانة لاستمرار الارهاب.

- نداء مع الكتاب العرب حول استخدام الاسلحة الكيمياوية من قبل النظام ضد المواطنين.

- نداء حول انتهاكات حقوق الانسان والثقافة في العراق.

- رسالة الى الامم المتحدة حول حلبجة.

- اصدار تأبين للشهداء: الفنان ابو آيار في الوطن، والكاتب سعيد جواد في المنفى والشاعر وهاب الداوودي.

- نداء الى اتحادات الادباء العرب حول قمع المثقفين والثقافة في العراق.

ولم ينس المثقفون العراقيون القضايا العربية ومبدعي الثقافة العرب، فاصدروا بيانات تضامنية مع انتفاضة الشعب الفلسطيني، ورسالة تضامن الى مثقفي الأرض المحتلة. وارسلوا كتابا الى الامم المتحدة احتجاجا على ابعاد صحفيين فلسطيين من الأرض المحتلة. كما اصدروا بيانا لتصعيد اعمال التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية.

واقامت الرابطة اسابيع ثقافية مميزة في دمشق، منها اقامة معرض تشكيلي للفنانين العراقيين في المنفى بمشاركة 40 فنانا، ومعرض شخصي للفنان جبر علوان، وامسية  موسيقية لفرقة بابل. كما اقامت ندوة عن الرواية العربية وامسية شعرية، وقدمت بعض العروض المسرحية.

وأول مرة ينعقد في برلين مهرجان ثقافي يتضمن قراءات  ادبية، وعروضا مسرحية، وأماسي موسيقية ومعرضا تشكيليا وفوتوغرافيا ومعرضا للكتاب، ينعقد مؤتمر للرابطة وبحضور ومشاركة عدد غير قليل من الكتاب والفنانين، ومن الذين لم يشاركوا سابقا في اعمال ونشاطات الرابطة.

انتهى مؤتمر الرابطة..

وانتهى المهرجان الثقافي.

في ختام هذا العرس الثقافي الوطني، انتخب المؤتمرون  مكتب تنسيق من خمسة اعضاء لقيادة العمل بعد ان تم تغيير أسمها، الى رابطة المثقفين الديمقراطيين العراقيين، وانتخبوه للمرة الثانية منسقا عاما لها، واعضاء المكتب هم، مفيد الجزائري، منذر حلمي، عدنان حسين، وزهير الجزائري.

                                           ***

ما تزال الاسابيع اللاحقة تترى، والاحداث تتسارع ما بين الكويت والعراق.. الرئيس الامريكي جورج بوش، يتوعد ويهدد بالحرب لطرد صدام حسين من الاراضي الكويتية. " قادة " حزب البعث، غزاة الجارة الشقيقة، يهددون بدورهم، ويتوعدون بتحويل العراق الى مقبرة للجنود " المعتدين ".

كان عليه ان يتعامل ويتفاعل مع كل تلك الاحداث من ديترويت حتى دمشق، ولقاءات في لندن، بعد ان باتت هذه العاصمة البريطانية، ساحة مهمة لنشاط المعارضة العراقية.

ممثلو المعارضة في الشام يتحاورون ويناقشون ويعيدون صقل الآراء والرؤى في كل اجتماع يعقد دون التوصل الى قناعات قد تحرك الساحة الملتهبة في الوطن المنكوب، ضد الحكم الدكتاتوري. كانت سبل تحقيق شعار اسقاط النظام، قيد التأجيل في تلك الاجتماعات.

تطول هذه الاجتماعات. يسجل معتمد اللجنة، صباح الجزائري، اسماء الحضور والغياب من ممثلي قوى المعارضة:

فخري كريم وتوما توماس عن الحزب الشيوعي العراقي - عبد العزيز عليان او موفق فتوحي، عن اتحاد الديمقراطيين - صالح دكلة، الامين العام للتجمع الديمقراطي العراقي - فائق بطي، السكرتير العام للاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة وكندا - عز الدين برواري او د. كمال خوشناو، عن الجبهة الكردستانية - ابو اسراء المالكي، ممثل حزب الدعوة في العراق - بيان جبر، او  السيد عبد العزيز الحكيم، عن المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق - رضا جواد تقي عن منظمة العمل الأسلامي - مهدي العبيدي وابراهيم الموسوي، عن حزب البعث العربي الاشتراكي (قيادة قطر العراق) - تحسين معلة، عن حركة الوفاق الوطني - سامي عزار المعجون، عن المجلس الاعلى للعشائر العراقية - مبدر الويس، امين عام الحزب الاشتراكي  في العراق - حسن النقيب، عن حركة الضباط العراقيين - سعد صالح جبر، رئيس المجلس العراقي الحر، اضافة الى عدد محدود من الشخصيات المستقلة.

تتواصل هذه الاجتماعات..

 وأخيرا ..

في 27 كانون الاول 1990، وقعت احزاب وقوى المعارضة على بيان مشترك، جاء في ديباجته:

" يا ابناء شعبنا العراقي الأبي:

ادراكا من قوى المعارضة العراقية لحراجة الاوضاع العامة في وطننا الحبيب، وخطورة المرحلة التي نعيشها جميعا حيث يسود حكم الطاغية صدام حسين الفردي واجهزته القمعية وارهابه الدموي، ويتفرد باخطر القرارات التي تمس مصير شعبنا ووطننا، دون مشاركة من اي مؤسسة دستورية او قانونية منتخبة، كأشعاله الحرب العدوانية على الجمهورية الاسلامية الايرانية.

وبناء على استمرار سياسة النظام الدكتاتوري في بغداد بتوسيع نطاق البطش والقمع والارهاب والاضطهاد والتصفيات الجسدية التي ذهب ضحيتها الالاف من خيرة ابناء شعبنا العراقي المكافح ومن جميع قواه الوطنية: الاسلامية والقومية (العربية والكردية) والديمقراطية .. عبر انتهاجه لسياسة التمييز السياسي والقومي والديني والطائفي، مما اوقع البلاد في أزمة خانقة سياسية واجتماعية واقتصادية ..

وهي اذ تدين وترفض الاحتلال والضم القسري للكويت، تشجب وتستنكر حشد الجيوش والاساطيل الاجنبية، وتؤكد الخيار السلمي لحل الأزمة في الخليج ودرء كارثة الحرب المحتملة ونزع فتيلها وذلك بتشديد الضغط على النظام لاجباره على الانسحاب من الكويت بدون قيد او شرط، وتعبئة كل القوى من اجل سحب القوات الاجنبية من المنطقة وحل الخلافات بين دولها سلميا ..

ان قوى المعارضة العراقية مجتمعة لتهيب بابناء شعبنا العراقي وجيشه الباسل في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ بلادنا الذي سيتعين من خلالها بلا شك مستقبله ومصير ابنائه، ان يكون رابط الجأش متهيئا لانزال الضربة الحاسمة التي ستقطع الطريق على اي احتمال قد يؤدي الى تعريض استقلال العراق وسيادته الى اخطار جسيمة وكارثة مهلكة وندعوه للعمل على تحقيق الأهداف التالية:

ذهب البيان الى تعداد 12 هدفا تحدد حاضر ومستقبل العراق، من ابرزها:

- اسقاط الدكتاتورية بارادة الشعب العراقي.

- اسقاط جميع خطط التآمر الاستعماري الهادفة الى تمزيق العراق وتفتيت وحدته.

- تأليف حكومة ائتلافية انتقالية تعقب النظام الحالي تشمل جميع فئات الشعب العراقي بكل قواه السياسية المناهضة للحكم الفاسد تتولى انجاز المهمات التالية:

- الغاء سياسة التمييز الطائفي ضد الغالبية من ابناء الشعب العراقي.

- الغاء سياسة التمييز القومي.

- تحقيق الحريات العامة الديمقراطية.

- ضمان حقوق الانسان في العراق.

- الانتقال بالبلاد الى الاوضاع الدستورية.

- دعم الجهود الرامية الى تحقيق التضامن العربي.

- اسناد كفاح الشعب العربي الفلسطيني.

- انتهاج سياسة خارجية مستقلة والابتعاد عن الاحلاف الاجنبية.

- بناء تضامن عربي واسلامي حقيقي وبناء علاقات حسن الجوار.


فيليب كلوديل : فرنسا تبرع في تصدير فلاسفتها وليس ادبائها

احمد شغيان

وصف احد النقاد عمل فيليب كلوديل في روايته " الارواح الرمادية" التي ترجمت الى اكثر من عشرين لغة وحازت على جائزة رونودو في فرنسا،وأُختيرت افضل كتاب لعام 2003، بانه " فن المنمنمات القريب من النقش على الحجر،وانفعال اللغة ، والحكايات الحادة كالسكاكين." بينما وصفها آخر بانها " كتابة بالمبضع ، مؤثرة ،مثيرة وغامرة." فيليب كلوديل روائي فرنسي وكاتب سيناريو. قريب في صنيعه الروائي من التجسيد لاالتجريد. والرواية لديه احداث واقدار وشخصيات وسرد ومخيلة. اقدار لشدة اختلاقها تبدو كأنها مخلوقة على نحو قدري. فالخيال هو مايصنع ولايتصنع. وهو يقول عن نفسه " انا قريب من عالم الحساسية والاحساس ". شفافيته وبساطته توصدان ابواب التنفج والخيلاء " ماأقوم به ككاتب ليس اعلى منزلة مما يقوم به غيري في مهنة اخرى." كما يقول. ولانه يرى انه بشر كغيره، فانه يتلافي الحديث عن الشخصي، اذ المهم هو المنجز لاالاشخاص. ولذا فان وسيلته في التواصل هي ان يعرَف بعمله لابنفسه " احب ان اقرأ مقتطفات من كتبي واتحاور مع الجمهور بصددها." وهو مافعله في محاضرته او شهادته في الرواية. حازت مجموعته القصصية "ميكانيك صغير" ( دار نشرميركور دو فرانس) على جائزة الغونكور للقصة القصيرة 2003. كلوديل استاذ آداب جامعي وكاتب سيناريو ولد عام 1962. ومن مؤلفاته الاخرى ،سأترك ( بالان 2000)، موز النسيان ( بالان 2000)، بعض من حسراتي المائة ( بالان 2000)، صوت مجموعة المفاتيح، ستوك 2002 )، ثلاث قصص قصيرة عن اللعب ( دار نشر فيرجيل 2003). كان لنا معه هذا الحوار بعد شهادته عن الرواية بمناسبة عيد القراءة الذي نظمه المركز الثقافي الفرنسي في دمشق.

*اوليفييه رولان زميلك الذي سبقك في تقديم شهادته الروائية لا يفصل الكتابة الروائية عن الفكر، انت كيف تنظر الى الكتابة؟

- الكتابة بالنسبة لي شئ طبيعي كالتنفس. انا اكتب لان الكتابة امر يسعدني ولو لم يكن الامر كذلك لما كتبت،ولاخترت مهنة اخرى.  بعض الناس يسعده ان يلعب او يعمل نجاراً او مخرجاً او سياسيا، اما انا فأحب ان اكتب.  ولايعني ذلك مطلقا ان ما اقوم به اعلى قيمة ومنزلة  مما يقوم به غيري في مايحب ان يعمل او حتى يتسلى. كلا مطلقاً ولكنه امر يسعدني. وهذا كل ما في الامر. ولست من النوع المتشائم، لست حزينا من جراء الكتابة ولامتشائما. لوكنت اعاني منها لما كتبت، ولسلكت في حياتي مسلكاً آخر. الرواية يمكن ان تحمل الافكار والتاريخ وعلم الاجتماع.  ولكن بدون التفكير في ذلك. حين افكر في كتابة رواية يتلبسني شئ، وربما عبارة. وهكذا تبدأ الحكاية واحاول ان اصل بها الى منتهاها، بعض الناس قد لايبلغ المنتهى. وذلك احد الفروق بين الكاتب وغيره، ان تواصل بدون ان تعرف الام سينتهي الامر . مايهمني هو ان ابدأ شيئاً ثم لااعرف الكيفية التي  ينتهي بها، وعدم المعرفة مهم هنا. وانا قلت ان الرواية القائمة على النظرية والموضوعات الفكرية الكبرى ولم تعد تعنيني انا ملتصق بالعالم الحسي والحساسية. ولااعتقد ان الكاتب شخص ذكي جداً كلا، انه كائن ذو مخيلة. انه يتشرب شيئاً ويود ان يستفرغه ويلقيه خارجاً. وهو كائن لايقتفي خطى احد. انه لايتخذ انموذجاً ليحذو حذوه. وهو بالتالي ليس تلميذا جيدا. ثمة اناس اذكياء، ومفكرون  ولكن يروون حكاية لاتقول شيئاً ومن دون بناء. بيرنارهنري ليفي مثلا هو شخص ذكي ولديه معرفة دقيقة بالوضع الدولي ولكنه يود ان يصبح روا ئياً وان يكتب كل معرفتة في رواية ولكنه ليس كاتباً، ولا روائياً. في السابق كانت الروايةً تطبيقاً عملياً علىمقايسس مسطرة نظرية. انها رواية النظرية. قد تكون نظرية في الكتابة  كما كان الامر مع بعض نتاجات  الرواية الجديدة. او نظرية فكرية  كالرواية الملتزمة أي التي تخضع لمنحى فكري او ايدلوجي ا و سياسي. مسرح سارتر اليوم مثلا تتعذر قراءته في فرنسا وحتى كامو في عدد غير قليل من اعماله. ولكن مابقي من ادب القرن العشرين هو" رحلة الى اقاصي الليل" للكاتب سيلين. التي تتوافر فيها تلك الحركية والحيوية الدائمة، انها رواية حية تستطيع ان تقرأها الآن وتتحسس راهنيتها وحاليتها، كما لوانها كتبت اليوم،برغم انها كتبت قبل اكثرمن اثنين وسبعين عاماًعلى وجه التقريب. وكاتبها لويس فردينان سيلين كتب رواية لاليثبت شيئاً. ولا ليؤكد مقولة. ولكن روايته صمدت وظلت حية  .

* وبورخس وكافكا؟

-اذا قلت هؤلاء الثلاثة فكأنك تكاد تقول فحوى الادب برمته، تقريباً. نعم وكافكا وبورخس ظلا صامدين ومقروءين.

* وما المعيار في البقاء ؟

-المذهل هو انك لاتعرف العمل الذي يصمد امام الزمن.

-اكثر ما اثار الاستغراب لدى البعض في اثناء محاضرتك قولك ان اكثر الكتب التي غيرتك هي الكتب التي اضلتك؟

-   كنت اريد ان اقول ان اكثر الكتب التي افادتني هي اكثر الكتب التي اثارت امتعاضي وكانت مبعث ملل.تلك الكتب التي لم افهمها ولم ادرك ماتريد ان تقول، والتي اضلتني وبعثت فيِ الخروج عن الطريق. تلك الكتب التي افادتني والتي اضجرتني على نحو هائل، هي من ذلك الطراز الذي يجعلك تشعر وكأنك مصاب بالحمى،برغم علمك طبعاً انك لن تموت.  اقول لك ان اكثر الكتَاب الذين لم يعجبوني هم الذين غيروني وغيروا مساري .

* البعض يرى ان الروايةالفرنسية باتت مغرقة في فرنسيتها، حتى اصبحت محلية الى حد ما،فهي اما موغلة في الجانب اللغوي او تشيع فيها السيرة الذاتية والكتب الصحفية السريعة والا يروتيكية المفرغة من العمق، فماذا تقول؟

-  اظن ان من الظلم التعميم. وكل تعميم لابد ان يشوبه عدم الانصاف. وفي الادب علينا ان نتحدث عن روائيين ،لا عن رواية فرنسية. وبودي ان اعطيك صورة واقعية الىحد ما عن الرواية وانتاجها في فرنسا كي لانضيع في التعميمات. الكاتب في فرنسا، يطبع عادة اربعة الاف الى خمسة الاف اما عشرون الفاً فهذا يعني نجاحاً كبيراً ..قلة من الروائيين من يعيشون من كتاباتهم. وهم اضافة الى ذلك يكتبون في الصحف الى جانب كتابتهم الرواية. واذا عددنا الاشخاص الذين يعيشون من الرواية فهناك عشرة او عشرون على اكثر تقدير، وعادة ما يكون عدد النسخ خمسة الاف نسخة للرواية. ونحن نتحدث عن الارقام وليس في ذلك سر. وقد تربح من ذلك عشرة الاف يورو  وهي في فرنسا تعني انك ستعيش بطريقة محدودة جداً. فضلاً عن انك لايمكن ان تكتب رواية في كل سنة ربما تستطيع فعل ذلك كل عامين .. وعادة مالايتم الافصاح بصدد عدد النسخ المطبوعة  والمباعة ، فقد يذكر لك احدهم عدد النسخ المطبوعة. ولكن ذلك لايعني عدد النسخ المباعة ، فبعد ستة اشــهرقد تعود كمية كبيرة من الكتب مرتجعات من المكتبات. ولاابالغ اذا ما قلت ان ثمة من يكذب بصد د النسخ المباعة.  هناك كاتبان معترف بهما ومعروفان كثيراً هما باتريك مونديانو ولوكليزيو، وبانتظام يصل عدد نسخهم أي رواياتهم المباعة الى اربعين الف نسخة وهو رقم كبير جداًَ حقاً وجيد في فرنسا. انا اعد نفسي قارئاً جيداً للرواية واقرأ روايتين في الاسبوع وهذا جل مايستطيعه المرء والكاتب ، ولكن في بلد تصدر فيه الفا رواية في السنة كم رواية استطيع ان اقرأ في السنة من بين هذين الالفين!!

*ومن يحدد في فرنسا ما الرواية الجيد ة من عدمها ؟

-  سابقاً الصحافة ثم النقاد. الآن يحذر الناس الصحافة والاعلام لانها مشتراة من دورالنشر، الىحد ما، ولان الامر قابل للتلاعب.اما القارئ العادي فاصبح يثق باصحاب المكتبات، اصبحوا هم الموجهين. وهو امر قد يبدو مستغرباً لمن لايعيش في فرنسا. 

*الكتاب المقرؤون لدينا هم الكتاب الفرانكفونيون او الكتاب الذي يعيشون في فرنسا مثل كونديرا، كيف تنظر الىهذه الظاهرة ؟

- ثمة ظاهرة  في فرنسا هي الكتاب من المغرب وهي ظاهرة اصبحت راكزة وملحوظة منذ بضع سنوات، ومااقصده ان ثمة تواتراً ملحوظاً في ظهور اجيال جديدة من الكتاب الفرانكفونيين من المغاربة واللبنانيين ايضاً. ولايقتصر الامر على الجيل الاسبق من الكتاب،مثل طاهر بن جلون ،الذي حصل على جائزة الغونكور وفي وقت كانت فيه هذه الجائزة ذات اعتبار وحظوة . ولاينكر ان ثمة موازنات في  منح الجائزة. لانها في تلك المرحلة كان يجب ان تذهب الى شخص من ثقافة مغاربية، وهو على وجه التقريب امر دبلوماسي. اما بخصوص كونديرا فاقول ان الكثير من الكتاب قُرئوا في فرنسا بسبب مسارهم السياسي اولاً. كان كونديرا يمثل تشيكوسلوفاكيا والمنفى السياسي.وكان ذلك يحمل شحنة وجدانية مؤثرة انذاك. وقد قُرئ لهذاالسبب في البداية اكثرمما لطبيعة عمله ونوعيته الروائية. وبعد ذلك اقتـنع الجميع بانه كاتب عظيم. وقد اتاح الموروث الفرنسي المتمثل في استقبال ضحايا حرية الرأي والمضطهدين من البلدان كافة، اقول  اتاح لعدد غير قليل من الناس ان تكون فرنسا محط لجوئهم واسهم ذلك في بروز اسماء كانت  شرعت في الكتابة بالفرنسية.

*هل لدى الجمهور الفرنسي فكرة عن الادب العربي المكتوب باقلام كتاب عرب وليس فرانكفونيين يعيشون في فرنسا؟

- في فرنسا ما خلا بعض الاشخاص الذين يهتمون بالعالم العربي  بحكم تخصصهم او تعاطفهم، اضافة الى  بعض القراء الجيدين المهتمين بالثقافة العربية واللغةالعربية، فان الفرنسيين لديهم معرفة ضئيلة جداً  بخصوص ذلك. ماذا نعرف؟  ادونيس؟ محمود درويش ؟ وكاتباً او كاتبين من لبنان وماذا بعد، نتوقف عند هؤلاء وهذا بالنسبة للقارئ المهتم بالادب. و اضع جانباً الكتاب المغاربيين كالجزائريين والمغاربة والتونسيين،  فهؤلاء ولاسباب تاريخية ولغوية ولمعرفتهم بالفرنسية اصبحوا معروفين ومقروئين ، وكما ذكرت سابقاً ثمة في كل مرحلة  جيل جديد من الكتاب المغاربة واللبنانيين الذين يعيشون في فرنسا.

*لماذا يقول كارلوس فوينتس ان النثر الفرنسي يكتبه في فرنسا، الآن الفلاسفة وليس الادباء ؟

- اعتقد ان ذلك الكلام قد قاله فوينتس منذ سنوات وهو اليوم قد تقادم.  ولكن ربما ان الامر كذلك في الفترة التي اطلق فيها قوله هذا. وقد قلت سابقاً ان البعض كان يكتب على وفق مقاسات نظرية. .ثم ان البعض قد بالغ في الشكلية وفي هجر مقومات الرواية. اول بلد اشترى روايتي "الارواح الرمادية"  هو الولايات المتحدة التي قلما تشتري ادباً فرنسياً ومن دار نشر معروفة جداً في نيويورك. لماذا لانها رواية فيها حكاية وشخصيات وخيال ادبي . وهم لايشترون الروايات الفرنسية  لانه ليس فيها هذه المواصفات والصورة السلبية التي قلتها عن الادب الفرنسي هي السائدة . وبخصوص الفلاسفة ثمة امر يخص الوضع الثقافي الفرنسي فالمُلاحظ ان  للفلاسفة الفرنسيين تاثيراً في خارج فرنسا اكثر من تاثيرهم في داخلها. ربما لان الفرنسيين يحسنون تصدير فلاسفتهم وليس لديهم القدر نفسه من البراعة في تصدير ادبائهم. وقد يبدو في هذا الكلام شئ من المبالغة والتجني ولكن حين نتأمل حالة نموذجية مثل الفيلسوف  جاك دريدا، نلاحظ انه مشهور جدا ً خارج فرنسا وفي داخلها شهرته ضئيلة ولا يقرأ له الاقلة من الناس والحال نفسه مع بورديو او دولوز. الادباء على العكس.

*ماهي منزلة القارئ لديك، وما يدفعني الىهذا السؤال هو احساسي بان الكاتب الفرنسي وبعد ان افتقدت فرنسا منزلتها الاستعمارية، بدا كما لوان دائرة قرائه قد انحسرت الىالجمهور الفرنسي فقط؟

- الكتابة عزلة ولكنها عند القراءة تتحول الى  اتحاد بين شخصين يتعارفان، انها خلق لقاء مع آخر لا تعرفه. قد لا افكر فيه اثناء الكتابة، فالتفكير في القارئ اثناء الكتابة يبدو كأنك تكتب بناءً على طلب معين. وانا ارى ان ثمة واجبا اخلاقياً ازاء القارئ يتمثل في انك تقدم ماتشعر بانه سيحظى باحترامه وتقديره . وانك تقدم له ما يستحقه. انا شخصياً لاينتابني الاحساس بضيق دائرة القراء،خارج فرنسا، فروايتي "الارواح الرمادية" قد ترجمت الى اكثر من عشرين لغة .

(الصور: صورة فيليب كلوديل وصورة لغلاف روايته الارواح الرمادية).

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة